موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (19-24)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غَريبُ الكَلِماتِ:

هَاؤُمُ: أي: خُذُوا أو تعالَوا [154] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 484)، ((تفسير ابن جرير)) (23/231)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 494). .
قُطُوفُهَا: جمعُ قِطْفٍ، أي: ثَمَرُها، وأصلُ (قطف): يدُلُّ على أخذِ ثَمرةٍ مِن شَجرةٍ [155] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 484، 503)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/103)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 413)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 424). .
دَانِيَةٌ: أي: قريبَةُ المتناوَلِ، تُنالُ على كلِّ حالٍ مِن قيامٍ وقعودٍ واضطجاعٍ، ولا يَمنَعُ منها بُعْدٌ ولا شوكٌ، والدُّنوُّ: القُربُ بالذَّاتِ، أو بالحُكمِ، ويُستعمَلُ في المكانِ والزَّمانِ والمنزلةِ، وأصلُ (دنو): المُقارَبةُ [156] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/303)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 384)، ((تفسير السمعاني)) (6/40)، ((المفردات)) للراغب (ص: 318). .
هَنِيئًا: أي: لا تكديرَ عليكم، ولا تنغيصَ، والهَنيءُ: كلُّ ما لا يَلحَقُ فيه مَشَقَّةٌ، ولا يُعقِبُ وخامةً، وأصلُه في الطَّعامِ، يُقالُ: هَنِئَ الطَّعامُ فهو هَنِيءٌ، وأصلُ (هنأ): يدُلُّ على إصابةِ خَيرٍ مِن غيرِ مشَقَّةٍ [157] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/68)، ((تفسير ابن جرير)) (23/611)، ((تفسير السمعاني)) (1/397)، ((المفردات)) للراغب (ص: 846). .
أَسْلَفْتُمْ: أي: قدَّمْتُم، والسَّلَفُ: المتقدِّمُ، وأصلُ (سلف): يدُلُّ على تَقَدُّمٍ وسَبْقٍ [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/234)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 420)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .
الْخَالِيَةِ: أي: الماضيةِ في الدُّنيا، وأصلُ (خلو): يدُلُّ على تعَرِّي الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ [159] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/204)، ((البسيط)) للواحدي (22/173)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/365). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى ما أعدَّه لِمَن أُوتيَ كتابَه بيَمينِه في هذا اليَومِ، فيقولُ: فأمَّا مَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بيَمينِه فيَقولُ مُستَبشِرًا فَرِحًا: خُذُوا اقرؤُوا كتابي، وانظُروا ما فيه مِن حَسَناتي! إنِّي تيَقَّنْتُ في الدُّنيا أنِّي سأُبعَثُ وأَلْقَى حِسابي يومَ القيامةِ؛ فهو في عِيشةٍ حَسَنةٍ، في جنَّةٍ مُرتَفِعةِ، عاليةِ المباني والقُصورِ والأشجارِ، ثمارُها قَريبةٌ، يَسهُلُ تَناوُلُها، يُقالُ لهم: كُلُوا واشرَبوا مُتهَنِّئينَ بسببِ ما قدَّمْتُموه مِنَ الأعمالِ الصَّالحةِ في أيَّامِ الدُّنيا الماضيةِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أنْ ذكَر الله تعالى أنَّهم يُعرَضونَ عليه، ولا يَخفَى عليه شىءٌ مِن أعمالِهم- فصَّل أحكامَ هذا العرضِ [160] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (29/56). ، فقال:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19).
أي: فأمَّا مَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بيَدِه اليُمنى -وذلك دليلُ نَجاتِه- فإنَّه يقولُ فَرِحًا مُستَبشِرًا: خُذُوا اقرؤُوا كتابي، وانظُروا ما فيه مِن حَسَناتي [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/231)، ((الوسيط)) للواحدي (4/346)، ((تفسير القرطبي)) (18/269)، ((تفسير ابن كثير)) (8/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 883)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/130، 131). قال البِقاعي: (خُذُوا أيُّها الحاضِرونَ مِنَ الخَلائِقِ الملائِكةُ وغَيرُهم). ((نظم الدرر)) (20/360). وقال ابنُ عاشور: (الخِطابُ في قولِه: هَاؤُمُ اقْرَءُوا للصَّالحينَ مِن أهلِ المَحشَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/131). ممَّن اختار أنَّ معنى هَاؤُمُ: خُذُوا: الزمخشريُّ، والرازي، والرَّسْعَني، والبيضاوي، وابن كثير، والبِقاعي، والعُلَيمي، وجلال الدين المحلي، ونسَبَه الواحديُّ إلى أهلِ اللُّغةِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/602)، ((تفسير الرازي)) (30/627)، ((تفسير الرسعني)) (8/259)، ((تفسير البيضاوي)) (5/241)، ((تفسير ابن كثير)) (8/213)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 360)، ((تفسير العليمي)) (7/146)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 762)، ((الوسيط)) للواحدي (4/346). وقيل: معنى قَولِه: هَاؤُمُ: تعالَوا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والسمعاني، وابن عطية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/231)، ((تفسير السمرقندي)) (3/491)، ((تفسير الثعلبي)) (10/30)، ((الوسيط)) للواحدي (4/346)، ((تفسير السمعاني)) (6/39)، ((تفسير ابن عطية)) (5/360). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/231). وقال ابنُ عاشور: (هَاؤُمُ بتَصاريفِه مُعَتَبرٌ اسمَ فِعلِ أمرٍ، بمعنى: خُذْ... وبمعنى: تعالَ أيضًا). ((تفسير ابن عاشور)) (29/131). وقال السعدي: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ أي: دُونَكم كِتابي فاقرَؤُوه؛ فإنَّه يُبشِّرُ بالجنَّاتِ، وأنواعِ الكراماتِ، ومَغفرةِ الذُّنوبِ، وسَترِ العُيوبِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 883). !
كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: 7 - 9] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ اللهَ يُدْني المؤمِنَ، فيَضَعُ عليه كَنَفَه [162] كَنَفَه: سَتْرَه. يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 78)، ((شرح النووي على مسلم)) (17/87). ويَستُرُه، فيقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذا؟ أتعرِفُ ذَنبَ كَذا؟ فيقولُ: نعم، أيْ رَبِّ! حتَّى إذا قرَّرَه بذُنوبِه، ورأى في نَفْسِه أنَّه هَلَك، قال: ستَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليَومَ، فيُعطَى كِتابَ حَسَناتِه )) [163] رواه البخاري (2441) واللفظ له، ومسلم (2768). .
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20).
أي: إنِّي كُنتُ قد عَلِمتُ وأيقَنْتُ في الدُّنيا أنِّي سأُبعَثُ، وألْقَى حِسابي يومَ القيامةِ، فحرَصْتُ على القيامِ بالصَّالحاتِ؛ تأهُّبًا لذلك اليَومِ [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/232)، ((تفسير ابن عطية)) (5/360)، ((تفسير القرطبي)) (18/270)، ((تفسير ابن كثير)) (8/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 883). قال ابنُ عطية: (ظَنَنْتُ هنا واقِعةٌ موقِعَ تيقَّنْتُ، وهي في متيقَّنٍ لم يقَعْ بَعدُ ولا خرجَ إلى الحِسِّ، وهذا هو بابُ الظَّنِّ الَّذي يوقَعُ مَوقِعَ اليَقينِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/360). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/131، 132). قال القرطبي: (إِنِّي ظَنَنْتُ أي: أيقَنْتُ وعَلِمتُ، عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه. وقيل: أي: إنِّي ظننتُ إنْ يؤاخِذْني اللهُ بسَيِّئاتي عذَّبَني، فقد تفضَّل علَيَّ بعَفوِه ولم يؤاخِذْني بها). ((تفسير القرطبي)) (18/270). .
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21).
أي: فهو في عِيشةٍ حَسَنةٍ، شَديدُ الرِّضا بها، قد وَجَد فيها عظيمَ الثَّوابِ، والأمنَ والسَّلامةَ مِن العِقابِ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/233)، ((الوسيط)) للواحدي (4/346)، ((تفسير القرطبي)) (18/270)، ((تفسير ابن كثير)) (8/214)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 883)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/132، 133). ممَّن اختار أنَّ رَاضِيَةٍ بمعنى مَرْضيَّة: الفرَّاءُ، وأبو عُبَيدةَ، وابنُ جرير، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، والماوَرْدي، والبغوي، وابنُ كثير، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/16)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/268)، ((تفسير ابن جرير)) (23/ 233)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/31)، ((تفسير الثعلبي)) (10/30)، ((تفسير الماوردي)) (6/83)، ((تفسير البغوي)) (5/147)، ((تفسير ابن كثير)) (8/214)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 763)، ((تفسير العليمي)) (7/146). قال ابن جرير: (في عِيشةٍ مَرْضيَّةٍ، أو عيشةٍ فيها الرِّضا، فوُصِفَتِ العيشةُ بالرِّضا وهي مَرْضيَّةٌ؛ لأنَّ ذلك مدحٌ للعِيشةِ، والعربُ تفعلُ ذلك في المدحِ والذَّمِّ، فتقولُ: هذا لَيلٌ نائم، وسرٌّ كاتمٌ، وماءٌ دافِقٌ، فيُوَجِّهونَ الفعلَ إليه، وهو في الأصلِ مفعولٌ؛ لِما يُرادُ مِن المدحِ أو الذَّمِّ. ومَن قال ذلك لم يَجُزْ له أن يقولَ للضَّاربِ مَضروبٌ، ولا للمَضروبِ ضارِبٌ؛ لأنَّه لا مدحَ فيه ولا ذَمَّ). ((تفسير ابن جرير)) (23/233). وقال السَّمعانيُّ وأبو حيَّانَ: ذات رضا. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/40)، ((تفسير أبي حيان)) (10/261). وقال الزَّجَّاجُ في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ القارعة الآية (7): (معنى فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ: ذاتِ رِضًا، يَرضاها مَن يعيشُ فيها. وقال قومٌ: معناه: مَرْضيَّةٍ، وهو يعودُ إلى هذا المعنى في التَّفسيرِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/355). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/423). ويُنظر ما سيأتي في البلاغةِ (ص: 76). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن يَدخُلُ الجنَّةَ يَنْعَمُ لا يَبْأَسُ، لا تَبْلى ثيابُه، ولا يَفْنى شَبابُه )) [166] رواه مسلم (2836). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُنادي مُنادٍ: إنَّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقَموا أبَدًا، وإنَّ لكم أن تَحْيَوا فلا تَموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهرَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَنْعَموا فلا تَبْأَسوا أبدًا )) [167] رواه مسلم (2837). .
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22).
أي: في جنَّةٍ مُرتَفِعةِ المكانِ، عاليةِ المباني والقُصورِ والأشجارِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/233)، ((تفسير الزمخشري)) (4/603)، ((تفسير ابن عطية)) (5/360)، ((تفسير أبي حيان)) (10/261)، ((تفسير ابن كثير)) (8/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 883). قال الزمخشري: (عَالِيَةٍ مُرتفعةِ المكانِ في السَّماءِ، أو رفيعةِ الدَّرَجاتِ، أو رفيعةِ المباني والقُصورِ والأشجارِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/603). وقال السعدي: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ المنازلِ والقصورِ، عاليةِ المحلِّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 883). وقال البقاعي: (عَالِيَةٍ أي: في المكانِ والمكانةِ والأبنيةِ والدَّرَجاتِ والأشجارِ، وكُلِّ اعتبارٍ). ((نظم الدرر)) (20/363). .
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَفَها بالعُلُوِّ، وشأنُ المكانِ العالي أن تكونَ أشجارُه كذلك، فأزال ذلك بأنَّها مع عُلُوِّها فثِمارُها قريبةُ التَّناوُلِ، سَهلةُ المأخَذِ [169] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (4/281). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/364). .
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23).
أي: ثمارُ أشجارِ تلك الجنَّةِ قَريبةٌ، يَسهُلُ تَناوُلُها لِمَن يُريدُ قَطْفَها؛ فلا كُلْفةَ ولا مَشقَّةَ عليهم في أخْذِها [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/233)، ((تفسير القرطبي)) (18/270)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 174)، ((تفسير ابن كثير)) (8/214)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 883)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/133). .
كما قال تعالى: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [الإنسان: 14] .
وقال سُبحانَه: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن: 54].
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24).
أي: يُقالُ لأهلِ الجنَّةِ: كُلُوا مِن طعامِ الجنَّةِ، واشرَبوا مِن شَرابِها، مُتهَنِّئينَ في أكْلِكم وشُربِكم بالطَّيِّبِ اللَّذيذِ الَّذي لا يَصحَبُه أذًى ولا تكديرٌ ولا تنغيصٌ، وهذا الجزاءُ المقدَّمُ لكم؛ بسَبَبِ ما قدَّمْتُموه مِن الأعمالِ الصَّالحةِ في أيَّامِ الدُّنيا الماضيةِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/234)، ((تفسير ابن عطية)) (5/360)، ((تفسير القرطبي)) (18/270)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/364، 365)، ((تفسير السعدي)) (ص: 883). قال ابن عطيَّة: (قال وكيعٌ وابنُ جُبَيرٍ وعبدُ العزيزِ بنُ رُفَيْعٍ: المرادُ: بما أسْلَفْتُم مِن الصَّومِ. وعُمومُها في كلِّ الأعمالِ أَوْلى وأحسَنُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/360). .
كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 72، 73].
وقال سُبحانَه: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 19].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- يُستحَبُّ تقديمُ اليمينِ في كلِّ ما هو مِن بابِ التَّكريمِ؛ كالوُضوءِ، والغُسلِ، والتَّيمُّمِ، ولُبسِ الثَّوبِ والنَّعلِ والخُفِّ والسَّراويلِ، ودُخولِ المَسجِدِ، والسِّواكِ، والاكتِحالِ، وتقليمِ الأظفارِ، وقَصِّ الشَّارِبِ، ونَتْفِ الإبْطِ، وحَلْقِ الرَّأسِ، والسَّلامِ مِنَ الصَّلاةِ، والأكلِ والشُّربِ، والمصافَحةِ، واستِلامِ الحَجَرِ الأسوَدِ، والخُروجِ مِنَ الخَلاءِ، والأخْذِ والعَطاءِ، وغيرِ ذلك ممَّا هو في معناه؛ قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، وقال تعالى: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة: 8، 9]، وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعجِبُه التَّيَمُّنُ: في طُهورِه، وترَجُّلِه، وتنَعُّلِه، في شأنِه كُلِّه )) [172] أخرجه البخاري (168) واللَّفظُ له، ومسلم (268). . وعنها رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كانت يدُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اليُمنى لطُهورِه وطعامِه، وكانت اليُسْرى لخَلائِه وما كان مِن أذًى)) [173] يُنظر: ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 241). والحديث أخرجه أبو داودَ (34)، وأحمدُ (26283) واللَّفظُ له. صحَّحه النوويُّ في ((المجموع)) (2/108)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (34)، وحسَّنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/144)، وصحَّح إسنادَه العراقيُّ في ((طرح التثريب)) (2/71)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (34). .
2- عن الحسنِ في قولِه عزَّ وجلَّ: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ قال: (إنَّ المؤمنَ أحسَنَ الظنَّ بربِّه فأحسَنَ العملَ، وإنَّ المنافقَ أساء الظنَّ فأساء العملَ) [174] أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/144). .
وكان بعضُ أهلِ العلمِ يقولُ: (إنِّي وجدْتُ أكيسَ النَّاسِ مَن قال: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ظنَّ ظنًّا يقينًا فنفَعه الله بظنِّه) [175] يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/270). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ أي: مِنَ الأعمالِ الصَّالحةِ؛ مِن صَلاةٍ، وصِيامٍ، وصَدَقةٍ، وحَجٍّ، وإحسانٍ إلى الخَلقِ، وذِكرٍ للهِ، وإنابةٍ إليه؛ فالأعمالُ جعَلَها اللهُ تعالى سَبَبًا لدُخولِ الجنَّةِ، ومادَّةً لنَعيمِها، وأصلًا لسعادتِها [176] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 883). .
4- قَولُه تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ خرَج ابنُ عُمَرَ في بعضِ نواحي المَدينةِ ومعه أصحابٌ له، ووضَعوا سُفرةً لهم، فمَرَّ بهم راعي غَنَمٍ، فَسلَّمَ، فقال ابنُ عُمَرَ: هَلُمَّ يا راعي، هَلُمَّ فأصِبْ مِن هذه السُّفرةِ، فقال له: إنِّي صائمٌ، فقال ابنُ عُمَرَ: أتصومُ في مِثلِ هذا اليومِ الحارِّ الشَّديدِ سَمومُه، وأنت في هذه الجبالِ ترعى هذه الغنَمَ؟! فقال له: إنِّي واللهِ أبادِرُ أيَّامي الخاليةَ [177] أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (4908). !

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ دليلٌ على أنَّه لا يدعو إلى قراءةِ كِتابِه إلَّا وقد مُحِيَتْ منه سيِّئاتُه، وبَقِيَتْ حَسَناتُه؛ فقَرَّت بذلك عيْنُه، فعَرَضه على مَن يَقْرَؤُه وهو قريرُ العَينِ؛ إذ مُحالٌ أنْ يَعرِضَ عليهم قِراءةَ سيِّئاتِه [178] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/395). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ، فيه سُؤالٌ: كيف عبَّرَ بأنَّه يَظُنُّ ذلك مع أنَّه يَعلَمُه؟
الجوابُ: أنَّ الظَّنَّ يكونُ بمعنَى اليقينِ، فمعنى قولِه: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ أي: استَيقَنْتُ [179] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/75). وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/628)، ((تفسير البيضاوي)) (5/241)، ((تفسير أبي السعود)) (9/25). ، قال الضَّحَّاكُ: (كلُّ ظنٍّ في القرآنِ مِن المؤمنِ فهو يقينٌ، ومِن الكافرِ فهو شكٌّ) [180] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/83). .
وللفرقِ بينَهما في القرآنِ ضابطان:
أحدُهما: أنَّه حيثُ وُجِد الظَّنُّ محمودًا مثابًا عليه فهو اليقينُ، وحيثُ وُجِد مذمومًا متوعَّدًا بالعقابِ عليه فهو الشَّكُّ.
الثَّاني: أنَّ كلَّ ظنٍّ يتَّصِلُ بعدَه «أنْ» الخفيفةُ فهو شكٌّ، كقولِه: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 230] ، وقوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ [الفتح: 12] . وكلَّ ظنٍّ يتَّصِلُ به «أنَّ» المشدَّدةُ فالمرادُ به اليقينُ، كقولِه: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 20] وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة: 28] ، والمعنى فيه أنَّ المشددةَ للتأكيدِ فدخَلتْ على اليقينِ، وأنَّ الخفيفةَ بخلافِها فدخَلتْ في الشكِّ، مثال الأوَّلِ قولُه سبحانَه: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا [الأنفال: 66] ذُكِر بـ «أنَّ»، وقولُه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ، ومثالُ الثَّاني: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: 71] والحسبانُ الشَّكُّ.
فإنْ قِيل: يَرِدُ على هذا الضابطِ قولُه تعالى: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة: 118] .
قيل: لأنَّها اتَّصَلتْ بالاسمِ. فتمسَّكْ بهذا الضابطِ فإنَّه مِن أسرارِ القرآنِ [181] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/156، 157)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/237). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ فيه سؤالٌ: أليس أنَّ مَنازِلَ البَعضِ فَوقَ مَنازِلِ الآخَرينَ، فهؤلاء الَّذين تكونُ مَنازِلُهم أدنَى مِن غيرِهم لا يكونونَ في الجنَّةِ العاليةِ؟
الجوابُ: أنَّ كَونَ بَعضِها دونَ بَعضٍ لا يَقدَحُ في كَونِها عاليةً، وفوق السَّمَواتِ، وإن أُريدَ العُلُوُّ في الدَّرَجةِ والشَّرَفِ فالأمرُ كذلك، وإن أُريدَ به كونُ تلك الأبنيةِ عاليةً مُشرِفةً فالأمرُ أيضًا كذلك [182] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/629). .
4- قَولُه تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ هل يُنافي ما ثَبَتَ في الصَّحيحِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((لا يَدخُلُ أحدٌ منكم الجنَّةَ بعَمَلِه. قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟! قال: ولا أنا إلَّا أنْ يَتغمَّدَنِيَ اللهُ منه برَحمةٍ وفَضْلٍ)) [183] أخرجه البخاريُّ (5673)، ومسلمٌ (2816)، وأحمدُ (7479) واللَّفظُ له، مِن حديث أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. !
والجوابُ: أنَّ هذا لا يُنافيه؛ فإنَّ القرآنَ أثبَتَ «باءَ» السَّبَبِ، والرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم نفى «باءَ» المقابَلةِ والمعادَلةِ [184] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/256). ، والتَّقديرُ: لن يَستَحِقَّ أحدٌ دُخولَ الجَنَّةِ بعَمَلٍ يَعمَلُه، فأزال بذلك تَوَهُّمَ مَن يَتَوَهَّمُ أنَّ الجَنَّةَ ثَمَنُ الأعمالِ، وأنَّ صاحِبَ العَمَلِ يَستحِقُّ على اللهِ دُخولَ الجَنَّةِ كما يَستحِقُّ مَن دَفَع ثمَنَ سِلعةٍ إلى صاحبِها تسليمَ سِلْعَتِه، فنَفَى بذلك هذا التَّوَهُّمَ، وبَيَّنَ أنَّ العمَلَ وإنْ كان سببًا لدخولِ الجَنَّةِ فإنَّما هو مِن فَضْلِ اللهِ ورحمتِه، فصار الدُّخولُ مُضافًا إلى فَضْلِ اللهِ ورَحمتِه ومغفرتِه؛ لأنَّه هو المُتَفَضِّلُ بالسَّبَبِ والمسبَّبِ المرتَّبِ عليه، ولم يَبْقَ الدُّخولُ مُرَتَّبًا على العَمَلِ نَفْسِه [185] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/393). .
5- في قَولِه تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ إثباتُ الأسبابِ [186] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 188). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ الفاءُ في فَأَمَّا تَفصيلٌ لِما يَتضمَّنُه تُعْرَضُونَ [الحاقة: 18] ؛ إذ العرْضُ عرْضٌ للحسابِ والجزاءِ، فإيتاءُ الكتابِ هو إيقافُ كلِّ واحدٍ على صَحيفةِ أعمالِه [187] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/602)، ((تفسير البيضاوي)) (5/241)، ((تفسير أبي حيان)) (10/260)، ((تفسير أبي السعود)) (9/24)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/129)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/198). .
- ودلَّ قولُه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ على كَلامٍ مَحذوفٍ للإيجازِ، تَقديرُه: فيُؤتى كلُّ أحدٍ كِتابَ أعمالِه؛ فأمَّا مَن أُوتِيَ كِتابَه... إلخ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/130). .
- قولُه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ قاله بالفاءِ، وبعْدَه: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [الحاقة: 25] بالواوِ؛ لأنَّ الأوَّلَ مُتَّصلٌ بأحوالِ القيامةِ وأهْوالِها، فاقْتَضى الفاءَ للتَّعقيبِ، والثَّانيَ مُتَّصلٌ بالأوَّلِ، فأُدخِلَ الواوُ؛ لأنَّه للجمْعِ [189] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 239، 240)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/479). .
- وإيتاءُ الكتابِ باليمينِ عَلامةٌ على أنَّه إيتاءُ كَرامةٍ وتَبشيرٍ، والعرَبُ يَذْكُرون التَّناوُلَ باليمينِ كِنايةً عن الاهتِمامِ بالمأخوذِ، والاعتِزازِ به [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/130). .
- قولُه: فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ جَوابُ شرْطِ (أمَّا)، وهو مُغْنٍ عن خبَرِ المُبتدَأِ، وهذا القولُ قولُ ذي بَهجةٍ وحُبورٍ يَبعثانِ على إطْلاعِ النَّاسِ على ما في كِتابِ أعمالهِ مِن جَزاءٍ في مَقامِ الاغتِباطِ والفَخَارِ، ففيه كِنايةٌ عن كَونِه في حُبورٍ ونَعيمٍ؛ فإنَّ المعنى الكِنائيَّ هو الغرَضُ الأهمُّ مِن ذِكرِ العَرْضِ [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/130). .
- والهاءُ في كِتَابِيَهْ ونَظائرِها للسَّكتِ حينَ الوقْفِ، وحَقُّ هذه الهاءِ أنْ تَثبُتَ في الوقْفِ وتَسقُطَ في الوصْلِ، وقدْ أُثبِتَتْ في هذه الآيةِ في الحالَينِ عندَ جُمهورِ القُرَّاءِ [192] يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/142). ، وكُتِبَت في المصاحفِ، فعُلِمَ أنَّها للتَّعبيرِ عن الكلامِ المحكيِّ بلُغةِ ذلك القائلِ بما يُرادِفُه في الاستِعمالِ العربيِّ؛ لأنَّ الاستِعمالَ أنْ يَأتِيَ القائلُ بهذه الهاءِ بالوقْفِ على كِلْتا الجُملتَينِ، ولأنَّ هذه الكلماتِ وقَعَت فَواصِلَ، والفواصلُ مِثلُ الأسجاعِ تُعتبَرُ بحالةِ الوقْفِ، مِثلُ القَوافي، فلو قِيل: (اقْرؤوا كِتابِيَ؛ إنِّي ظَننَتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابيَ) سقَطَت فاصِلَتانِ، وذلك تَفريطٌ في مُحسِّنَينِ [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/131). .
2- قولُه تعالَى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ في مَوقعِ التَّعليلِ للفرَحِ والبَهجةِ الَّتي دلَّ عليهما قولُه: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، وبذلك يكونُ حرْفُ (إنَّ) لمجرَّدِ الاهتِمامِ، وإفادةِ التَّسبُّبِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/132). .
- وقولُه: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ خبَرٌ مُستعمَلٌ كِنايةً عن استِعدادِه للحسابِ بتَقديمِ الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ ممَّا كان سبَبَ سَعادتِه [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/131، 132). .
3- قولُه تعالَى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ
- مَوقعُ قولِه: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ مَوقعُ التَّفريعِ على ما تَقدَّمَ مِن إيتائِه كِتابَه بيَمينِه، وما كان لذلك مِن أثَرِ المَسرَّةِ والكرامةِ في المَحشرِ؛ فتَكونُ الفاءُ لتَفريعِ ذِكرِ هذه الجُملةِ على ذِكرِ ما قبْلَها. ولك أنْ تَجعَلَها بدَلَ اشتِمالٍ مِن جُملةِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ؛ فإنَّ ذلك القولَ اشتَمَلَ على أنَّ قائلَه في نَعيمٍ، وإعادةُ الفاءِ مع الجُملةِ مِن إعادةِ العاملِ في المبدَلِ منه مع البدَلِ للتَّأكيدِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/132). .
- قولُه: رَاضِيَةٍ فيه ثلاثةُ أقوالٍ؛ الأوَّلُ: أنَّها على النَّسبِ، أي: ذاتِ رِضًا، نحوُ (لابِنٌ وتامرٌ)؛ لصاحبِ اللَّبنِ والتَّمرِ، أي: ثابتٌ لها الرِّضا ودائمٌ لها؛ لأنَّها في غايةِ الحُسنِ والكمالِ، والعرَبُ لا تُعبِّرُ عن أكثرِ السَّعاداتِ بأكثرَ مِن العِيشةِ الرَّاضيةِ، بمعْنى أنَّ أهلَها راضُون بها، والمُعتبَرُ في كَمالِ اللَّذَّةِ الرِّضا. الثَّاني: أنَّها على إظهارِ جَعْلِ المعيشةِ راضيةً لمَحلِّها، وحُصولِها في مُستحقِّها، وأنَّه لو كان للمَعيشةِ عقْلٌ لَرَضِيَت لنفْسِها بحالتِها. الثَّالثُ: أنَّ هذا ممَّا جاء فيه فاعِلٌ بمعْنى مَفعولٍ، بمعْنى أنَّ صاحبَها يَرْضى بها ولا يَسخَطُها [197] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/603)، ((تفسير البيضاوي)) (5/241)، ((تفسير أبي السعود)) (9/25)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/132، 133)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/200). .
- والعُلوُّ: الارتفاعُ، وهو مِن مَحاسِنِ الجنَّاتِ؛ لأنَّ صاحبَها يُشرِفُ على جِهاتٍ مِن مُتَّسعِ النَّظرِ، ولأنَّه يَبدو له كثيرٌ مِن مَحاسِنِ جنَّتِه حينَ يَنظُرُ إليها مِن أعْلاها أو وَسَطِها ممَّا لا يَلوحُ لنَظَرِه لو كانت جنَّتُه في أرضٍ مُنبسِطةٍ، وذلك مِن زِيادةِ البهجةِ والمَسرَّةِ؛ لأنَّ جَمالَ المَناظرِ مِن مَسرَّاتِ النَّفْسِ ومِن النِّعَمِ. وجُوِّزَ أنْ يُرادَ أيضًا بالعُلوِّ عُلوُّ القَدْرِ، مِثلُ: فلانٌ ذو دَرجةٍ رفيعةٍ، وبذلك كان للَفْظِ عَالِيَةٍ هنا ما ليس لقولِه: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة: 265] ؛ لأنَّ المرادَ هنالك جنَّةٌ مِن الدُّنيا [198] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/133). .
4- قولُه تعالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ، وهو ومَقولُه في مَوضعِ صِفةٍ لـ جَنَّةٍ؛ إذ التَّقديرُ: يُقالُ للفريقِ الَّذين يُؤتَون كُتبَهم بأيْمانِهم حينَ يَستقِرُّون في الجنَّةِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا ... إلخ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ خبَرًا ثانيًا عن الضَّميرِ في قولِه: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/133، 134)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/201). .
- وإنَّما أُفرِدَت ضَمائرُ الفريقِ الَّذي أُوتِيَ كِتابَه بيَمينِه فيما تَقدَّمَ، ثمَّ جاء الضَّميرُ ضَميرَ جمْعٍ عندَ حِكايةِ خِطابِهم؛ لأنَّ هذه الضَّمائرَ السَّابقةَ حُكِيَت معها أفعالٌ ممَّا يَتلبَّسُ بكلِّ فرْدٍ مِن الفريقِ عندَ إتمامِ حِسابِه. وأمَّا ضَميرُ كُلُوا وَاشْرَبُوا فهو خِطابٌ لجَميعِ الفريقِ بعْدَ حُلولِهم في الجنَّةِ، كما يَدخُلُ الضُّيوفُ إلى المأْدُبةِ، فيُحيِّي كلُّ داخلٍ منهم بكلامٍ يَخُصُّه، فإذا استَقرُّوا أقبَلَ عليهم مُضيِّفُهم بعِباراتِ الإكرامِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/134). .
وأيضًا لَمَّا كان كونُ الثِّمارِ بهذه الصِّفةِ دالًّا على كَثرةِ الريِّ، وكَثرةُ الريِّ دالَّةً على المشربِ، وكانت مِن مُفرَداتِ اللَّفظِ عامَّةَ المعنى، فكان قدْ أُفرِدَ الضَّمائرُ باعتبارِ لَفْظِها تَنصيصًا على كلِّ فرْدٍ فرْدٍ، جَمَعَ باعتبارِ المعنى إعلامًا باشتراكِ جَميعِ أهْلِها في النِّعَمِ حالَ الانفرادِ والاجتماعِ، فقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا [201] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/364). .
- قولُه: هَنِيئًا يَجوزُ أنْ يكونَ فَعيلًا بمعْنى فاعلٍ؛ إذا ثَبَتَ له الهناءُ، فيكونَ مَنصوبًا على النِّيابةِ عن المفعولِ المطلَقِ؛ لأنَّه وصْفُه، وإسنادُ الهناءِ للأكْلِ والشُّربِ؛ لأنَّهما مُتلبِّسانِ بالهناءِ للآكِلِ والشَّارِبِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ مِن غيرِ الثُّلاثيِّ بوزْنِ ما للثُّلاثيِّ، والتَّقديرُ: مُهنِّئًا، أي: سَببَ هَناءٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ فَعيلًا بمعْنى مَفعولٍ، أي: مَهْنِئيًا به. وعلى الاحتِمالاتِ كلِّها فإفرادُ هَنِيئًا في حالِ أنَّه وصْفٌ لشَيئينِ بِناءٌ على أنَّ فَعيلًا بمعْنى فاعلٍ لا يُطابِقُ مَوصوفَه، أو على أنَّه إذا كان صِفةً لمصدرٍ فهو نائبٌ عن مَوصوفِه، والوصفُ بالمصدرِ لا يُثنَّى ولا يُجمَعُ ولا يُؤنَّثُ [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/134). .