موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (13 - 18)

ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الصُّورِ: أي: القَرنِ الَّذي يَنفُخُ فيه إسرافيلُ .
فَدُكَّتَا: أي: فُتِّتَتَا وكُسِرَتا، وأصلُ (دكك): يدُلُّ على تَطامُنٍ وانسِطاحٍ .
وَاهِيَةٌ: أي: ضعيفةٌ، يُقالُ: وهَى البِناءُ يَهِي وَهْيًا فهو واهٍ: إذا ضَعُف جدًّا. ويُقالُ: كلامٌ واهٍ، أي: ضعيفٌ. أو المعنى: مُنشَقَّةٌ مُتصَدِّعةٌ، يُقال: وهَى الشَّيءُ: إذا انخرَق، والوَهْيُ: شقٌّ في الأديمِ والثَّوبِ ونحوِهما. أو المعنى: مُسترخيةٌ ساقطةُ القوَّةِ، وكلُّ شيءٍ استرخى رِباطُه فقد وَهِيَ .
أَرْجَائِهَا: أي جوانبِها ونواحيها، وأصلُ (رجو) هنا: يدُلُّ على ناحيةِ الشَّيءِ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مفصِّلًا أهوالَ يومِ القيامةِ: فإذا نَفَخ المَلَكُ يومَ القيامةِ في القَرْنِ الموَكَّلِ به نفخةً واحدةً، ورُفِعَت الأرضُ والجِبالُ وأُزيلَتا مِن أماكنِهما، فدُقَّتا دَقَّةً واحِدةً؛ فيَومَئذٍ تَقَعُ السَّاعةُ، وتتصَدَّعُ السَّماءُ وتَنشَقُّ، فتكونُ يومَ القيامةِ ضَعيفةً لا قُوَّةَ لها، مُتشَقِّقةً، لا تتماسَكُ، والملائِكةُ على أطرافِ السَّماءِ وحافَاتِها، ويَحمِلُ عَرْشَ رَبِّك فَوقَ رُؤوسِهم يومَئذٍ ثمانيةٌ مِنَ الملائِكةِ! يَومَئذٍ تُعرَضُونَ -أيُّها النَّاسُ- على اللهِ تعالى؛ لِمُحاسَبتِكم، ولا يَخفى عليه سُبحانَه أيُّ شَيءٍ مِن أُمورِكم!

تَفسيرُ الآياتِ:

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تَعالى ما فَعَله بالمكذِّبين لرُسلِه، وكيف جازاهُم، وعجَّلَ لهم العُقوبةَ في الدُّنيا، وأنَّ اللهَ نجَّى الرُّسلَ وأتْباعَهم؛ كان هذا مُقدِّمةً لذِكرِ الجزاءِ الأُخرويِّ، وتَوفيةِ الأعمالِ كاملةً يومَ القيامةِ، فذكَرَ أمْرَ الآخرةِ وما يَعرِضُ فيها لأهلِ السَّعادةِ وأهلِ الشَّقاوةِ، وبدَأَ بالأمورِ الهائلةِ الَّتي تَقَعُ أمامَ القيامةِ، وأوَّلُ ذلك: أنَّه يَنفُخُ إسرافيلُ في الصُّورِ .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تَعالى لَمَّا حكَى هذه القَصصَ السَّابقةَ، ونبَّهَ بها على ثُبوتِ القُدرةِ والحِكمةِ له سُبحانَه؛ فحينَئذٍ ثَبَت بثُبوتِ القُدرةِ إمكانُ القِيامةِ، وثَبَت بثُبوتِ الحِكمةِ إمكانُ وُقوعِ القيامةِ. ولَمَّا ثَبَت ذلك؛ شَرَع سُبحانَه في تَفاصيلِ أحوالِ القيامةِ، فذَكَر أوَّلًا مُقدِّماتِها .
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13).
أي: فإذا نَفَخ المَلَكُ في القَرنِ الموَكَّلِ به، نفخةً واحدةً لا يُحتاجُ لحُصولِ المُرادِ منها إلى تَكَرُّرِها؛ فأمْرُ الله لا يُخالَفُ ولا يُمانَعُ .
عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما الصُّورُ؟ قال: قَرنٌ يُنفَخُ فيه)) .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كيف أنعَمُ وقد التَقَم صاحِبُ القَرنِ القَرْنَ، وحنَى جَبهتَه، وأصغى سَمْعَه، ينتَظِرُ أن يُؤمَرَ أن يَنفُخَ، فيَنفُخُ. قال المسلِمونَ: فكيف نقولُ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: قولوا: حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، توكَّلْنا على اللهِ رَبِّنا)) .
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14).
أي: وإذا رُفِعَت الأرضُ والجِبالُ وأُزيلَتا مِن أماكنِهما، فدُقَّتا دَقَّةً واحِدةً شَديدةً حتَّى تفتَّتتا وكُسِرتا .
كما قال تعالى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الفجر: 21].
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل: 14] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105 - 107] .
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15).
أي: فيومَ يُنفَخُ في الصُّورِ، وتُدَكُّ الأرضُ والجِبالُ، تَقَعُ السَّاعةُ، وتقومُ القيامةُ حينَئذٍ .
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى تأثيرَ النَّفخةِ في العالَمِ السُّفليِّ؛ ذكَر العلويَّ، فقال :
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16).
أي: وتتصَدَّعُ السَّماءُ وتَنشَقُّ، فتكونُ يومَ القيامةِ مُتشَقِّقةً ضَعيفةً خَفيفةً لا تتماسَكُ .
كما قال تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن: 37].
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17).
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا.
أي: ويكونُ الملائِكةُ على أطرافِ السَّماءِ وحافَاتِها حينَ تَنشَقُّ، خاضِعينَ للهِ، مُستَكينينَ لعَظَمتِه .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] .
وقال سُبحانَه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ.
أي: ويَحمِلُ عَرْشَ رَبِّك فَوقَ رُؤوسِهم يومَ القيامةِ ثمانيةٌ مِنَ الملائِكةِ .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا [غافر: 7] .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُذِنَ لي أن أُحدِّثَ عن ملَكٍ مِن ملائكةِ اللهِ مِن حَمَلةِ العَرشِ، إنَّ ما بيْنَ شَحْمةِ أذُنِه إلى عاتِقِه مَسيرةَ سبعِمِئةِ عامٍ!)) .
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18).
أي: يَومَ القيامةِ الَّذي تقَعُ فيه جميعُ تلك الأمورِ تُعرَضُونَ -أيُّها النَّاسُ- على اللهِ تعالى؛ لِمُحاسَبتِكم دونَ أن يَخفى عليه أيُّ شَيءٍ مِنكم !
كما قال تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف: 47، 48].

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً سؤالٌ: أنَّه ليس في القرآنِ لفظةٌ زائدةٌ لا تُفِيدُ معنًى، ولا كلمةٌ قد فُهِمَ معناها ممَّا قَبْلَها فأُعِيدتْ لا لمعنًى، أو لمجرَّدِ التَّأكيدِ المَحْضِ دونَ فائدةٍ جديدةٍ! فما وجْهُ ذِكْرِ النَّفخةِ الواحدةِ والدَّكَّةِ الواحدةِ؟
الجوابُ: أنَّ ذلك ليس على وجهِ التَّأكيدِ المُجَرَّدِ، بلِ المرادُ: التَّقييدُ بالمَرَّةِ الواحدةِ، ولَمَّا كانتِ النَّفخةُ قد يُرادُ بها الواحدةُ مِن الجنسِ، وقد يُرادُ بها مُطْلَقَة -كما في البقلةِ، وحَبَّةِ الحِنطةِ، واللَّعْنةِ، والهِمَّةِ، ونحوِها- وكان المرادُ التَّقييدَ بالمَرَّةِ الواحدةِ مِن هذا الجنسِ؛ أتَى بالواحدةِ لِيَدُلَّ على هذا المعنى، أي: أنَّ النَّفخَ لم يكنْ نفختَينِ، ولم يَكُ دَكُّ الأرضِ والجبالِ بعْدَ حمْلِهما دكَّتَينِ، بل واحِدةً فقط؛ فِعْلَ المُقْتَدِرِ على الشَّيءِ المتمكِّنِ منه، ونظيرُه قولُه تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 53] ، ونظيرُه قولُه تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس: 29] أي: لم يُتابِعْ عليهمُ الصَّيحةَ، بل أهلكَهم مِن صَيحةٍ واحِدةٍ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا فيه سُؤالٌ: الملائِكةُ يموتونَ في الصَّعقةِ الأُولى؛ لقَولِه تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] -وذلك على القول بأنَّ المرادَ بالنَّفخةِ: الأولى-، فكيف يُقالُ: إنَّهم يَقِفونَ على أرجاءِ السَّماءِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّهم يَقِفونَ لحظةً على أرجاءِ السَّماءِ، ثمَّ يموتونَ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ الَّذين استثناهم اللهُ في قَولِه تعالى: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] .
3- في قَولِه تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ رَدٌّ على مَن يَزْعُمُ -مِن المعتزلةِ- أنَّ العَرشَ مُلْكُه، فكيف يكونُ مُلْكُه محمولًا؟! أَمْ كيف يكونُ الملائكةُ خارجينَ مِن المُلْكِ؟! فقد بان بغيرِ إشكالٍ أنَّه السَّريرُ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ
- هو شُروعٌ في بَيانِ نفْسِ الحاقَّةِ، وكَيفيَّةِ وُقوعِها، إثرَ بَيانِ عِظَمِ شأْنِها بإهلاكِ مُكذِّبيها .
- والفاءُ في فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ لتَفريعِ ما بعْدَها على التَّهويلِ الَّذي صُدِّرت به السُّورةُ مِن قولِه: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1- 3] ، فعُلِمَ أنَّه تَهويلٌ لأمْرِ العذابِ الَّذي هُدِّد به المشركون مِن أمثالِ ما نال أمْثالَهم في الدُّنيا ومِن عَذابِ الآخرةِ الَّذي يَنتظِرُهم، فلمَّا أتمَّ تَهديدَهم بعَذابِ الدُّنيا؛ فرَّعَ عليه إنْذارَهم بعَذابِ الآخرةِ الَّذي يحُلُّ عندَ القارعةِ الَّتي كذَّبوا بها كما كذَّبت بها ثَمودُ وعادٌ، فحَصَل مِن هذا بَيانٌ للقارعةِ بأنَّها ساعةُ البعثِ، وهي الواقعةُ . وهذا على القولِ بأنَّ المرادَ بالنَّفخةِ نفخةُ البعثِ والنُّشورِ.
- وإنَّما حسُنَ إسنادُ الفِعلِ نُفِخَ إلى المصدرِ نَفْخَةٌ؛ لتَقيُّدِه بالوحدةِ والمرَّةِ لا نفخًا مجرَّدًا مبهَمًا، وحسُنَ تَذكيرُه؛ للفصْلِ؛ ولأنَّ تأنيثَ النَّفخِ غيرُ حقيقيٍّ .
- قولُه: نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وصْفُ النَّفخةِ بواحدةٍ تأكيدٌ لإفادةِ الوَحدةِ مِن صِيغةِ الفَعلةِ؛ تَنْصيصًا على الوَحدةِ المفادةِ مِن التَّاءِ، والتَّنصيصُ على هذا للتَّنبيهِ على التَّعجيبِ مِن تأثُّرِ جَميعِ الأجسادِ البشريَّةِ بنَفخةٍ واحدةٍ دَونَ تَكريرٍ؛ تَعجيبًا من عَظيمِ قُدرةِ الله ونُفوذِ أمْرِه؛ لأنَّ سِياقَ الكلامِ مِن مَبدأِ السُّورةِ تَهويلُ يَومِ القيامةِ، فتَعدادُ أهوالِه مَقصودٌ، ومِن أجْلِ القصدِ إليه هنا لم يُذكَرْ وصْفُ واحدٍ في قولِه تعالَى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ في سُورةِ (الرُّومِ) [الآية: 25]، فحصَلَ مِن ذِكرِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ تأْكيدُ معْنى النَّفخِ، وتأْكيدُ معْنى الوَحدةِ، فليس المرادُ بوَصْفِها بواحدةٍ أنَّها غيرُ مُتْبَعةٍ بثانيةٍ؛ فقد جاء في آياتٍ أُخرى أنَّهما نَفختانِ، بل المرادُ أنَّها غيرُ مُحتاجٍ حُصولُ المرادِ منها إلى تَكرُّرِها؛ كِنايةً عن سُرعةِ وُقوعِ الواقعةِ، أي: يومِ الواقعةِ. وأمَّا ذِكرُ كَلمةِ نَفْخَةٌ فلِيَتأتَّى إجراءُ وصْفِ الوَحدةِ عليها، فذِكرُ نَفْخَةٌ تَبَعٌ غيرُ مَسوقٍ له الكلامُ، فتَكونُ هذه النَّفخةُ هي الأُولى -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وهي المؤْذِنةُ بانقراضِ الدُّنيا، ثمَّ تقَعُ النَّفخةُ الثَّانيةُ الَّتي تكونُ عندَ بَعثِ الأمواتِ .
- وقد أكَّد النَّفخةَ بأنَّها وَاحِدَةٌ؛ لأنَّ أمرَ الله لا يُخالَفُ ولا يُمانَعُ، ولا يحتاجُ إلى تَكرارٍ وتأكيدٍ .
2- قولُه تعالَى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً
- بُنِيَت أفعالُ نُفِخَ، وَحُمِلَتِ، وفَدُكَّتَا للمجهولِ؛ لأنَّ الغرَضَ مُتعلِّقٌ ببَيانِ المفعولِ لا الفاعلِ، أو للعِلمِ بالفاعلِ .
3- قولُه تعالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ
- قولُه: فَيَوْمَئِذٍ تأْكيدٌ لمعْنى فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ ... إلخ؛ لأنَّ تَنوينَ (يومَئذٍ) عِوَضٌ عن جُملةٍ تدُلُّ عليها جُملةُ نُفِخَ فِي الصُّورِ إلى قولِه: دَكَّةً وَاحِدَةً، أي: فيومَ إذ نُفِخَ في الصُّورِ... إلى آخِرِه، وَقَعَت الواقعةُ، وهو تأْكيدٌ لَفظيٌّ بمُرادِفِ المؤكَّدِ؛ فإنَّ المُرادَ بـ (يوم) مِن قولِه: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ مُطلَقُ الزَّمانِ، كما هو الغالبُ في وُقوعِه مُضافًا إلى (إذا) .
- قولُه: وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، أي: تَحقَّقَ ما كان مُتوقَّعًا وُقوعُه؛ لأنَّهم كانوا يُتوعَّدون بواقعةٍ عَظيمةٍ، فيومَئذٍ يَتحقَّقُ ما كانوا يُتوعَّدون به، فعُبِّرَ عنه بفِعلِ المُضيِّ؛ تَنبيهًا على تَحقيقِ حُصولِه، والمعْنى: فحينَئذٍ تقَعُ الواقعةُ .
- والواقعةُ: مُرادِفةٌ للحاقَّةِ والقارعةِ، فذِكرُها إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزِيادةِ التَّهويلِ، وإفادةِ ما تَحْتوي عليه مِن الأحوالِ الَّتي تُنبِئُ عنها مَواردُ اشتِقاقِ أوصافِ الحاقَّةِ والقارعةِ والواقعةِ .
4- قولُه تعالَى: وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ يَجوزُ أنْ يكونَ مَعطوفًا على جُملةِ نُفِخَ فِي الصُّورِ، فيكونَ مُلحَقًا بشرْطِ (إذا)، وتأْخيرُ عطْفِه مِن أجْلِ ما اتَّصَلَ بهذا الانشقاقِ مِن وصْفِ الملائكةِ المحيطينَ بها، ومِن ذِكرِ العرشِ الَّذي يُحيطُ بالسَّمواتِ، وذِكرِ حَمَلتِه .
- وتَقييدُ الوَهْيِ بـ يَوْمَئِذٍ يُفيدُ أنَّ الوَهْيَ طرَأَ عليها بعْدَ أنْ كانتْ صُلْبةً بتَماسُكِ أجْزائِها، أي: فهي يومَئذٍ مَطروقةٌ مَسلوكةٌ .
5- قولُه تعالَى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ المَلَكُ: أصْلُه الواحدُ مِن الملائكةِ، وتَعريفُه هنا تَعريفُ الجِنسِ، وهو في معْنى الجمْعِ، أي: جِنسُ المَلَكِ، أي: جَماعةٌ مِن الملائكةِ، أو جميعُ الملائكةِ إذا أُرِيدَ الاستِغراقُ، والمَلَكُ أعمُّ مِن الملائكةِ، ألَا تَرى أنَّ قولَك: ما مِن مَلَكٍ إلَّا وهو شاهدٌ، أعمُّ مِن قولِك: ما مِن ملائكةٍ، واستِغراقُ المفردِ أصرَحُ في الدَّلالةِ على الشُّمولِ . أو إنَّما جِيءَ به مُفرَدًا؛ لأنَّه أخفُّ .
- ويَتعلَّقُ فَوْقَهُمْ بقولِه: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ، وهو تأْكيدٌ لِما دلَّ عليه (يَحْمِلُ) مِن كونِ العرْشِ عاليًا .
- قولُه: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ كأنَّ الدَّاعيَ إلى ذِكرِ الحَمَلةِ إجْمالًا هو الانتِقالُ إلى الإخبارِ عن عرْشِ اللهِ؛ لئلَّا يكونَ ذِكرُه اقتِضابًا بعْدَ ذِكرِ الملائكةِ .
- إضافةُ عرْشٍ إلى اللهِ تعالَى في قولِه: عَرْشَ رَبِّكَ إضافةُ تَشريفٍ .
6- قولُه تعالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ
- جُملةُ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ مُستأنَفةٌ، أو هي بَيانٌ لجُملةِ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، أو بدَلُ اشتِمالٍ منها .
- والعرْضُ: إمرارُ الأشياءِ على مَن يُريدُ التَّأمُّلَ منها، مِثلُ عرْضِ السِّلعةِ على المشتري، وعرْضِ الجَيشِ على أميرِه، وأُطلِقَ هنا كِنايةً عن لازِمِه، وهو المحاسَبةُ، مع جَوازِ إرادةِ المعْنى الصَّريحِ .
- وتأْنيثُ خَافِيَةٌ؛ لأنَّه وصْفٌ لموصوفٍ مُؤنَّثٍ يُقدَّرُ بالفَعلةِ مِن أفعالِ العِبادِ، أو يُقدَّرُ بنفْسٍ، أي: لا تَختبِئُ مِن الحسابِ نفْسٌ، أي: أحدٌ، ولا يَلتبِسُ كافرٌ بمؤمنٍ، ولا بارٌّ بفاجرٍ .
- وتَكريرُ لَفظِ يَوْمَئِذٍ لتَهويلِ ذلك اليومِ الَّذي مَبْدؤُه النَّفخُ في الصُّورِ، ثمَّ يَعقُبُه ما بعْدَه ممَّا ذُكِر في الجُمَلِ بعْدَه، فقدْ جَرى ذِكرُ ذلك اليومِ خمْسَ مرَّاتٍ؛ لأنَّ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ تَكريرٌ لـ (إذا) مِن قولِه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ؛ إذ تَقديرُ المضافِ إليه في يَوْمَئِذٍ هو مَدلولُ جُملةِ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فقدْ ذُكِرَ زَمانُ النَّفخِ أوَّلًا، وتَكرَّرَ ذِكرُه بعْدَ ذلك أربعَ مرَّاتٍ .