موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (9-12)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَالْمُؤْتَفِكَاتُ: أي: مَدائِنُ قَومِ لُوطٍ؛ ائتَفَكَت بهم، أي: انقَلَبَت، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهَتِه [77] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 190)، ((تفسير ابن جرير)) (11/555)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 882). .
رَابِيَةً: أي: شديدةً، زائِدةً، عاليةً، وأصلُ (ربو): يدُلُّ على عُلُوٍّ [78] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 484)، ((المفردات)) للراغب (ص: 340)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 412)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 423)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
طَغَى: أي: كثُر، وتَجاوَزَ في الارتفاعِ والعُلوِّ، وخرَج عن الحدِّ حتَّى علا كلَّ شَيءٍ، وارتفَع فوقَه، وأصلُ الطُّغْيانِ: مُجاوَزةُ الحدِّ [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/219)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 318)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((البسيط)) للواحدي (22/148)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((تفسير الشوكاني)) (5/336)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 584). .
الْجَارِيَةِ: أي: السَّفينةِ الَّتي تَجري في البَحرِ، وأصلُ (جري): يدُلُّ على انسياحِ الشَّيءِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/220)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 176)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/448)، ((المفردات)) للراغب (ص: 194)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 412)، ((تفسير القرطبي)) (18/263). .
وَتَعِيَهَا: أي: تَحفَظَها، والوعيُ: حِفظُ الحديثِ ونحوِه، وأصلُ (وعي): يدُلُّ على ضمِّ شَيءٍ [81] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/124)، (المفردات)) للراغب (ص: 877)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (4/325)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 321). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى عاقبةَ أقوامٍ آخَرينَ كفَروا وكذَّبوا، فيقولُ: وجاء فِرعَونُ ومَنْ قَبْلَه مِن الكُفَّارِ، وقَومُ لُوطٍ؛ أصحابُ القُرى الَّتي انقَلَبَت بهم؛ جاؤُوا جميعًا بالفَعْلةِ الخاطِئةِ مِنَ الكُفرِ والشِّركِ، والتَّكذيبِ والظُّلمِ، فعَصَوا رَسولَ رَبِّهم الَّذي أُرْسِل إليهم، فأهلَكهم اللهُ إهلاكًا عَظيمًا زائِدًا عن الحَدِّ.
ثمَّ يُشيرُ سُبحانَه إلى ما جرَى لقومِ نوحٍ عليه السَّلامُ، فيقولُ: إنَّا لَمَّا كَثُرَ الماءُ، وتَجاوَزَ حَدَّه المعروفَ؛ لإغراقِ قَومِ نُوحٍ، حمَلْنا آباءَكم في سَفينةِ نوحٍ؛ لِنَجعَلَها لكم -أيُّها المؤمِنونَ- تَذكيرًا ومَوعِظةً، وتَحفَظَها أُذنٌ مِن شأنِها أن تَحفَظَ وتَعقِلَ عن الله ما سمِعَتْ، وتَنتفِعَ به.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: قِبَلَهُ أي: ومَن عِندَ فِرعَونَ مِنَ الأتْباعِ مِن كُفَّارِ القِبطِ [82] قرأ بها أبو عَمرٍو، والكِسائيُّ، ويعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/389). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 351)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/86)، ((تفسير ابن كثير)) (8/209). .
2- قِراءةُ: قَبْلَهُ أي: ومَن تَقَدَّمَه مِن الكُفَّارِ [83] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/389). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 351)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/86)، ((تفسير ابن كثير)) (8/209). .
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9).
أي: وجاء فِرعَونُ مَلِكُ مِصرَ، ومَنْ كان قَبْلَه مِن الكُفَّارِ [84] قيل: المرادُ: عُمومُ الكُفَّارِ الَّذين سَبَقوا فِرعَونَ، كقَومِ عادٍ وثمودَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/216)، ((الوسيط)) للواحدي (4/344)، ((تفسير القرطبي)) (18/262). وقال ابن جُزَي: (وَمَنْ قَبْلَهُ يريدُ: مَن تقَدَّمَ قَبْلَه مِنَ الأُمَمِ الكافِرةِ، وأقرَبُهم إليه قومُ شُعَيبٍ، والظَّاهِرُ أنَّهم المرادُ؛ لأنَّ عادًا وثمودَ قد ذُكِرَا، وقومَ لُوطٍ هم المؤتَفِكاتُ، وقَومَ نُوحٍ قد أُشيرَ إليهم في قَولِه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/405). وقال ابن كثير: (أي: ومَن قَبْلَه مِنَ الأُمَمِ المُشبِهينَ له). ((تفسير ابن كثير)) (8/209). ، وقَومُ لُوطٍ؛ أصحابُ القُرى الَّتي انقَلَبَت بهم، حتَّى صار عاليها سافِلَها [85] وممَّن قال في الجملةِ بأنَّ المرادَ بالمؤتَفِكاتِ قَومُ لوطٍ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي، وابن جُزَي، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/422)، ((تفسير ابن جرير)) (23/216)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 472)، ((تفسير القرطبي)) (18/262)، ((تفسير ابن جزي)) (2/405)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/347، 348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/121). ونسَبَ ابنُ الجَوزيِّ هذا القولَ للأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/329). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/216)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/266). وقال الزَّجَّاج: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ الَّذين ائتَفَكوا بذُنوبِهم، أي: أُهْلِكوا بذُنوبِهم الَّتي أعظَمُها الإفكُ، وهو الكَذِبُ في أمرِ اللهِ، بأنَّهم كفروا وكَذَّبوا بالرُّسُلِ؛ فلذلك قيل لهم: مؤتَفِكونَ، وكذلك الَّذين ائتَفَكت بهم الأرضُ، أي: خُسِفَ بهم، إنَّما معناه: انقَلَبَت بهم كما يَقلِبُ بهم الكذَّابُ الحَقَّ إلى الباطِلِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/215). وقال ابنُ كثيرٍ: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ وهم: المكَذِّبونَ بالرُّسُلِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/209). ، كلُّ هؤلاءِ قد جاؤُوا بالفَعْلةِ الخاطِئةِ مِنَ الكُفرِ والشِّركِ، والتَّكذيبِ والظُّلمِ، وما انضَمَّ إلى ذلك مِن أنواعِ الفواحِشِ والفُسوقِ؛ فأهلَكَهم اللهُ تعالى [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/215، 216)، ((تفسير القرطبي)) (18/262)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/347، 348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). .
كما قال تعالى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات: 38 - 40].
وقال سُبحانَه: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [النجم: 53، 54].
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10).
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ.
أي: فخالَفَ كلٌّ مِن فِرعَونَ ومَن قَبْلَه وقَومُ لُوطٍ: رَسولَ رَبِّهم الَّذي أرسَلَه إليهم [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/218)، ((تفسير ابن كثير)) (8/210)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). قال ابنُ جُزَي: (إنْ عاد الضَّميرُ على فِرعَونَ وقَومِه، فالرَّسولُ مُوسى عليه السَّلامُ، وإن عاد على وَالْمُؤْتَفِكَاتِ فالرَّسولُ لوطٌ عليه السَّلامُ، وإن عاد على الجَميعِ: فالرَّسولُ اسمُ جِنسٍ أو بمعنى الرِّسالةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/405). وممَّن ذهَب إلى العمومِ: ابنُ جرير، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/218)، ((تفسير ابن كثير)) (8/210)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12 - 14].
فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً.
أي: فأهلَكْنا كُلَّ أمَّةٍ مِنهم إهلاكًا شَديدًا عَظيمًا زائِدًا عن الحَدِّ؛ لزيادةِ أعمالِهم في السُّوءِ والقُبْحِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/218)، ((تفسير القرطبي)) (18/262)، ((تفسير ابن كثير)) (8/210)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/349). قال القرطبي: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً أي: عاليةً زائدةً على الأخَذَاتِ، وعلى عذابِ الأُمَمِ). ((تفسير القرطبي)) (18/262). وقال البِقاعي: (فأغرَق فِرعونَ وجُنودَه، وأغرَق كلَّ مَن كذَّب نوحًا عليه السَّلامُ، وهم كلُّ أهلِ الأرضِ غيرَ مَن ركِب معه في السَّفينةِ، وحمَل مدائنَ لُوطٍ عليه السَّلامُ بعدَ أنْ نَتَقَها مِن الأرضِ على مَتنِ الرِّيحِ بواسِطةِ مَن أمَره بذلك مِن الملائكةِ ثمَّ قلَبَها، وأتْبَعها الحِجارةَ، وخسَف بها، وغمَرَها بالماءِ المُنتِنِ الَّذي ليس في الأرضِ ما يُشبِهُه). ((نظم الدرر)) (20/349). وقال ابن عاشور: (أَخْذَةً: واحدة مِن الأخْذِ، فيُرادُ بها أخْذُ فِرعَونَ وقَومِه بالغرَقِ، كما قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 42]. وإذا أُعيدَ ضميرُ الغائبِ إلى فِرعونَ ومَن قَبْلَه والمؤتَفِكاتِ كان إفرادُ الأخْذةِ كإفرادِ رسولِ ربِّهم، أي: أخَذْنا كلَّ أمَّةٍ منهم أَخْذةً). ((تفسير ابن عاشور)) (29/122). .
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11).
أي: إنَّا لَمَّا كَثُرَ الماءُ وارتفَعَ حتَّى تجاوَزَ حَدَّه المعروفَ؛ لإغراقِ قَومِ نُوحٍ، حمَلْنا آباءَكم في سَفينةِ نوحٍ الجاريةِ على الماءِ [89] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/219، 220)، ((تفسير ابن كثير)) (8/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 882)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/123). قال الرازي: (سائِرُ المفَسِّرينَ قالوا: طَغَى الْمَاءُ أي: تَجاوَزَ حَدَّه حتَّى علا كلَّ شَيءٍ، وارتَفَع فَوقَه). ((تفسير الرازي)) (30/623). وقال القرطبي: (مَنَّ عليهم بأنْ جعَلَهم ذُرِّيَّةَ مَن نجا مِن الغَرَقِ، بقَولِه: حَمَلْنَاكُمْ أي: حمَلْنا آباءَكم، وأنتم في أصلابِهم. فِي الْجَارِيَةِ أي: في السُّفُنِ الجاريةِ، والمحمولُ في الجاريةِ نوحٌ وأولادُه، وكُلُّ مَن على وجهِ الأرضِ: مِن نَسلِ أولئك). ((تفسير القرطبي)) (18/262). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/221)، ((تفسير الزمخشري)) (4/600). .
كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: 41] .
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12).
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً.
أي: لِنَجعَلَها لكم [90] قيل: الضَّميرُ في قَولِه تعالى: لِنَجْعَلَهَا يعودُ إلى سفينةِ نوحٍ عليه السَّلامُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، ومكِّي، وهو ظاهرُ اختيارِ القرطبيِّ، واختاره أبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/221)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7670)، ((تفسير القرطبي)) (18/263)، ((تفسير أبي حيان)) (10/256). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/221). وقيل: المرادُ: لِنَجعَلَ تلك الفَعْلةَ، وهي إنجاءُ المؤمِنينَ وإغراقُ الكافِرينَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والبغوي، والزمخشري، والبيضاوي، والنَّسَفي، والخازن. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/215)، ((الوسيط)) للواحدي (4/345)، ((تفسير البغوي)) (5/145)، ((تفسير الزمخشري)) (4/600)، ((تفسير البيضاوي)) (5/240)، ((تفسير النسفي)) (3/530)، ((تفسير الخازن)) (4/334). وممَّن جمَع بيْنَ القولَينِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (20/351). وقيل: المرادُ: جِنسُ السُّفُنِ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 883). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/405). قال الشوكاني: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً أي: لِنَجعَلَ هذه الأمورَ المذكورةَ لكم، يا أمَّةَ محمَّدٍ، عِبْرةً ومَوعظةً تَستَدِلُّونَ بها على عظيمِ قُدرةِ الله، وبديعِ صُنعِه. أو لِنَجعلَ هذه الفَعلةَ الَّتي هي عبارةٌ عن إنجاءِ المؤمنينَ وإغراقِ الكافِرينَ لكم تَذكِرةً). ((تفسير الشوكاني)) (5/336). وقال ابنُ جزي: (الضَّميرُ للفعلةِ، وهي الحملُ في السَّفينةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/405). -أيُّها المؤمِنونَ- تَذكيرًا ومَوعِظةً، فتَتَذكَّروا أنَّ اللهَ أهلَك الكافِرينَ، وأنجَى المؤمِنينَ، وتَستَدِلُّوا بذلك على كَمالِ قُدرةِ اللهِ وحِكمتِه، وقَهْرِه لأعدائِه، ورحمتِه بأوليائِه [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/221)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/27)، ((الوسيط)) للواحدي (4/345)، ((تفسير البيضاوي)) (5/240)، ((تفسير ابن جزي)) (2/405)، ((تفسير الشوكاني)) (5/336)، ((تفسير القاسمي)) (9/310)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/123). .
كما قال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً [الشعراء: 119 - 121] .
وقال سُبحانَه وتعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15] .
وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ.
أي: تَحفَظَها أُذنٌ مِن شأنِها أن تَحفَظَ وتَعقِلَ عن الله ما سمِعَتْ، وتَنتفِعَ به، ولا تُضَيِّعَه بتَرْكِ العملِ به [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/221)، ((تفسير السمعاني)) (6/36)، ((تفسير الرسعني)) (8/254)، ((تفسير ابن جزي)) (2/405)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/351)، ((تفسير الشوكاني)) (5/336). قال ابن جُزَي: (الضَّميرُ [أي: في وَتَعِيَهَا] يعودُ على ما عاد عليه ضميرُ لِنَجْعَلَهَا). ((تفسير ابن جزي)) (2/405). وقال ابنُ عطيَّة: (قَولُه تعالى: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ عبارةٌ عن الرَّجُلِ الفَهِمِ المنَوَّرِ القَلبِ، الَّذي يَسمَعُ القَولَ فيَتلَقَّاه بفَهمٍ وتدَبُّرٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/358). وقال البيضاوي: (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ مِن شأْنِها أن تحفَظَ ما يجِبُ حِفظُه؛ بتذكُّرِه، وإشاعتِه، والتَّفكُّرِ فيه، والعمَلِ بمُوجَبِه). ((تفسير البيضاوي)) (5/240). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/600). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ المقصودُ مِن قَصَصِ هذه الأُمَمِ، وذِكرِ ما حَلَّ بهم مِنَ العَذابِ: زَجرُ هذه الأُمَّةِ عن الاقتِداءِ بهم في مَعصيةِ الرَّسولِ [93] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/263)، ((تفسير الشربيني)) (4/370). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فيه تذكيرٌ بنِعمةِ اللهِ على البَشَرِ؛ إذ أبقَى نَوعَهم بالإنجاءِ مِن الطُّوفانِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/111). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ، أي: ليَعقِلَها أولو الألبابِ، ويَعرِفوا المقصودَ منها، ووَجْهَ الآيةِ بها، وهذا بخِلافِ أهلِ الإعراضِ والغَفلةِ، وأهلِ البَلادةِ وعَدَمِ الفِطنةِ؛ فإنَّهم ليس لهم انتِفاعٌ بآياتِ اللهِ؛ لعَدَمِ وَعْيِهم عن اللهِ، وفِكْرِهم بآياتِ اللهِ [95] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 882). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

جعَل الله سبحانَه مصالحَ العبادِ في معاشِهم ومعادِهم، والثوابَ والعقابَ، والحدودَ والكفَّاراتِ، والأوامرَ والنواهيَ، والحلَّ والحرمةَ؛ كلَّ ذلك مرتبطًا بالأسبابِ، قائمًا بها، بل العبدُ نفسُه وصفاتُه وأفعالُه سببٌ لما يصدُرُ عنه، بل الموجوداتُ كلُّها أسبابٌ ومُسبَّباتٌ، والشَّرعُ كلُّه أسبابٌ ومُسبَّباتٌ، والمقاديرُ أسبابٌ ومُسبَّباتٌ، والقدرُ جارٍ عليها، متصرِّفٌ فيها، فالأسبابُ محلُّ الشرعِ والقدَرِ، والقرآنُ مملوءٌ مِن إثباتِ الأسبابِ، كقولِه تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً، وقولِه: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] ، وقوله: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] ، وقولِه: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج: 10] ، وقولِه: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ، وقوله: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 26] ، وقولِه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء: 160] ، إلى غيرِ ذلك وهذا أكثرُ مِن أنْ يُستوعَبُ [96] ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 188). قال ابنُ القيِّمِ: (وقد جاء التعليلُ في الكتابِ العزيزِ بالباءِ تارةً، وباللامِ تارةً، وبـ «أنْ» تارةً، وبمجموعِهما تارةً، وبـ «كي» تارةً، ومِن أجلِ تارةً، وترتيبِ الجزاءِ على الشَّرطِ تارةً، وبالفاءِ المؤذنةِ بالسَّببيةِ تارةً، وترتيبِ الحكمِ على الوصفِ المقتضِي له تارةً، وبـ «لمَّا» تارةً، وبـ «أنَّ» المشددةِ تارةً، وبـ «لعلَّ» تارةً، وبالمفعولِ له تارةً). ((إعلام الموقعين)) (1/151). وذكَر مِن أمثلةِ الفاءِ المؤذنةِ بالسببيةِ قولَه تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً. .

بلاغةُ الآياتِ :

1- قولُه تعالَى: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ عطْفٌ على جُملةِ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة: 4] ، وقد جُمِعَ في الذِّكرِ هنا عدَّةُ أُمَمٍ تقدَّمَت قبْلَ بَعثةِ مُوسى عليه السَّلامُ إجمالًا وتَصريحًا، وخُصَّ منهم بالتَّصريحِ قومُ فِرعونَ والمؤتفكاتُ؛ لأنَّهم مِن أشهَرِ الأُمَمِ ذِكرًا عندَ أهلِ الكتابِ المختلِطينَ بالعرَبِ والنَّازِلينَ بجِوارِهم، فمِنَ العرَبِ مَن يَبلُغُه بعضُ الخبَرِ عن قِصَّتِهم [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/120). .
- وفي عطْفِ هؤلاء على ثَمودَ وعادٍ في سِياقِ ذِكرِ التَّكذيبِ بالقارعةِ إيماءٌ إلى أنَّهم تَشابَهوا في التَّكذيبِ بالقارعةِ، كما تَشابَهوا في المجيءِ بالخاطئةِ، وعِصيانِ رُسلِ ربِّهم، فحَصَل في الكلامِ احتِباكٌ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/120). والاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نَظائرُ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). .
- والمرادُ بفِرعونَ: فِرعونُ الَّذي أُرسِلَ إليه مُوسى عليه السَّلامُ، وإنَّما أُسنِدَ الخِطْءُ إليه؛ لأنَّ مُوسى أُرسِلَ إليه ليُطلِقَ بني إسرائيلَ مِن العُبوديَّةِ؛ قال تعالَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات: 17] ، فهو المؤاخَذُ بهذا العِصيانِ، وتَبِعَه القِبطُ امتِثالًا لأمْرِه، وكذَّبوا مُوسى، وأعْرَضوا عن دَعوتِه [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/120). .
- قولُه: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ قُرى لوطٍ الثَّلاثُ، وأُرِيدَ بالمؤتَفِكاتِ سُكَّانُها، وهم قومُ لُوطٍ، وخُصُّوا بالذِّكرِ؛ لشُهرةِ جَريمتِهم، ولِكَونِهم كانوا مَشهورينَ عندَ العرَبِ؛ إذ كانت قُراهم في طَريقِهم إلى الشَّامِ؛ قال تعالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138]، وقال: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا [الفرقان: 40]. ووُصِفتْ قُرى قَومِ لوطٍ بالمؤتَفِكاتِ، جمعُ مؤتَفِكةٍ، اسمُ فاعِلِ: ائْتَفَك، مُطاوِعُ أفَكَه، إذا قَلَبَه، فهي المُنقَلِباتُ، أي: قلَبَها قالِبٌ، أي: خُسِف بها؛ قال تعالى: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/121). [هود: 82] .
- والخاطئةُ: إمَّا مَصدرٌ بوزْنِ (فاعِلةٍ)، وهاؤُه هاءُ المرَّةِ الواحدةِ، فلمَّا استُعمِلَ مَصدرًا قُطِعَ النَّظَرُ عن المرَّةِ، فهو مَصدرُ (خَطِئَ)، إذا أذْنَبَ، والذَّنْبُ: الخِطْءُ. وإمَّا اسمُ فاعلِ (خَطِئَ)، وتأنيثُه بتأويلِ الفِعلةِ ذاتِ الخِطْءِ، فهاؤُه هاءُ تأْنيثٍ. والتَّعريفُ فيه تَعريفُ الجِنسِ على كِلا الوجهَينِ، فالمعْنى: جاء كلٌّ منهم بالذَّنْبِ المستحِقِّ للعِقابِ [101] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/600)، ((تفسير البيضاوي)) (5/240)، ((تفسير أبي حيان)) (10/256)، ((تفسير أبي السعود)) (9/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/121). .
2- قولُه تعالَى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً تَفريعٌ على ذنْبِهم المعبَّرِ عنه بالخاطئةِ تَفريعَ بَيانٍ على المبيَّنِ [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/121). .
- يَجوزُ أنْ يَرجِعَ ضَميرُ (عَصَوا) إلى فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ. ورَسُولَ رَبِّهِمْ هو الرَّسولُ المرسَلُ إلى كلِّ قومٍ مِن هؤلاء؛ فإفرادُ رَسُولَ مُرادٌ به التَّوزيعُ على الجماعاتِ، أي: رسول اللهِ لكلِّ جماعةٍ منهم، والقرينةُ ظاهرةٌ، وهو أجْمَلُ نظْمًا مِن أنْ يُقالَ: (فعَصَوا رُسلَ ربِّهم)؛ لِما في إفرادِ رسولٍ مِن التَّفنُّنِ في صِيَغِ الكَلِمِ مِن جمْعٍ وإفرادٍ تَفاديًا مِن تَتابُعِ ثلاثةِ جُموعٍ؛ لأنَّ صِيغَ الجمْعِ لا تَخلو مِن ثِقَلٍ؛ لقِلَّةِ استعمالِها، وعكْسُه قولُه في سُورةِ (الفرقانِ) [الآية: 37]: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ، وإنَّما كذَّبوا رسولًا واحدًا، وقولُه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وما بعْدَه في سُورةِ (الشُّعراءِ) [الآية: 105].
ويجوزُ أنْ يَرجِعَ ضَميرُ (عَصَوْا) إلى فرعونَ باعتبارِه رأسَ قومِه، فالضَّميرُ عائِدٌ إليه وإلى قَوْمِه، وعلى هذا الاعتبارِ في مَحَلِّ ضَميرِ (عَصَوْا) يكونُ المرادُ بـ رَسُولَ رَبِّهِمْ مُوسى عليه السَّلامُ، وتَعريفُه بالإضافةِ لِما في لَفظِ المضافِ إليه مِن الإشارةِ إلى تَخطئتِهم في عِبادةِ فِرعونَ، وجَعْلِهم إيَّاهُ إلهًا لهم [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/121، 122). .
- والرَّابيةُ: اسمُ فاعلٍ مِن رَبَا يَرْبو؛ إذا زاد، وعُبِّرَ بها عن الشِّدَّةِ [104] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/600)، ((تفسير البيضاوي)) (5/240)، ((تفسير أبي السعود)) (9/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/122). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ لَمَّا شَمِلَ قولُه تعالَى: وَمَنْ قَبْلَهُ [الحاقة: 9] قومَ نوحٍ عليه السَّلامُ -وهم أوَّلُ الأُمَمِ كذَّبوا الرُّسلَ-، حسَّن اقتِضابَ التَّذكيرِ بأخْذِهم؛ لِما فيه مِن إدماجِ امتِنانٍ على جَميعِ النَّاسِ الَّذين تَناسَلوا مِن الفئةِ الَّذين نَجَّاهم اللهُ مِن الغَرَقِ؛ ليُتَخلَّصَ مِن كَونِه عِظةً وعِبرةً إلى التَّذكيرِ بأنَّه نِعمةٌ، وهذا مِن قَبيلِ الإدماجِ [105] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المَسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ، وقد بُنِيَ على شُهرةِ مُهْلَكِ قومِ نوحٍ اعتِبارُه كالمذكورِ في الكلامِ، فجُعِل شَرْطًا لـ لَمَّا في قولِه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ، أي: في ذلك الوقتِ المعروفِ بطُغيانِ الطُّوفانِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/358)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/122، 123). .
- وطُغيانُ الماءِ مُعبَّرٌ به عن شِدَّتِه الخارقةِ للعادةِ، تَشبيهًا لها بطُغيانِ الطَّاغي على النَّاسِ تَشبيهَ تَقريبٍ؛ فإنَّ الطُّوفانَ أقوى شِدَّةً مِن طُغيانِ الطَّاغي [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/123)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/195). .
- قولُه: حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ، أي: حمَلْنا آباءَكُم في السَّفينةِ الجاريةِ؛ لأنَّهم إذا كانوا مِن نَسْلِ المحمولينَ النَّاجينَ، كان حمْلُ آبائِهم مِنَّةً عليهم، وكأنَّهم هم المحمولونَ؛ لأنَّ نَجاتَهم سَببُ وِلادتِهم [108] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/600). .
- والمرادُ بحمْلِهم فيها رفعُهم فوقَ الماءِ إلى انقضاءِ أيَّامِ الطُّوفانِ، لا مُجرَّدُ رَفْعِهم إلى السَّفينةِ، كما يُعرِبُ عنهُ كلمةُ (في)؛ فإنَّها ليستْ بصِلةٍ للحمْلِ، بلْ مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ هو حالٌ مِن مَفعولِه، أي: رفَعْناكُم فوقَ الماءِ، وحفِظْناكُم حالَ كونِكُم في السَّفينةِ الجاريةِ بأمْرِنَا وحِفْظِنا [109] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/23). .
- والجاريةُ: صِفةٌ لمَحذوفٍ، وهو السَّفينةُ [110] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/600)، ((تفسير البيضاوي)) (5/240)، ((تفسير أبي حيان)) (10/256)، ((تفسير أبي السعود)) (9/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/123). .
- قولُه: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فيه ذِكْرُ إحْدى الحِكَمِ والعِلَلِ لهذا الحمْلِ، وهي حِكمةُ تَذكيرِ البشَرِ به على تَعاقُبِ الأعصارِ؛ لِيَكونَ لهم باعثًا على الشُّكرِ، وعِظةً لهم مِن أسواءِ الكُفْرِ، وليُخبِرَ بها مَن عَلِمَها قَومًا لم يَعلَموها، فتَعِيَها أسماعُهم [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/123). .
- قولُه: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ هذا تَعريضٌ بالمشركين؛ إذ لم يتَّعِظوا بخبَرِ الطُّوفانِ والسَّفينةِ الَّتي نَجَا بها المؤمنونَ، فتَلقَّوه كما يَتلقَّون القصصَ الفُكاهيَّةَ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/123). .
- وقيل: أُذُنٌ وَاعِيَةٌ على التَّوحيدِ والتَّنكيرِ؛ للإيذانِ بأنَّ الوُعاةَ فيهم قِلَّةٌ، ولتَوبيخِ النَّاسِ بقِلَّةِ مَن يَعِي منهم [113] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/600)، ((تفسير البيضاوي)) (5/240)، ((تفسير أبي حيان)) (10/256)، ((تفسير أبي السعود)) (9/23). .