موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (77-83)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ

غريب الكلمات:

سِيءَ بِهِمْ: أي: ساءَه مَجيئُهم، مِن السُّوءِ: وهو كُلُّ ما يَغُمُّ الإنسانَ مِن الأمورِ الدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ [832] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/491)، ((المفردات)) للراغب (ص: 252)، (( تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 252). .  
وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا: ذَرعُ الإنسانِ: مُنتهى طاقتِه التي يحمِلُها بمشَقَّةٍ. يُقالُ: ضاق بهذا الأمرِ ذَرعًا: إذا تكلَّفَ أكثَرَ ممَّا يُطيقُ فعجَزَ، وأصلُ (ذرع): يدُلُّ على امتدادٍ، وتحَرُّكٍ إلى قُدُمٍ [833] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/350)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 164)، ((تفسير القرطبي)) (9/74)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/111). .
عَصِيبٌ: أي: شَديدٌ شَرُّه، عظيمٌ بلاؤه، كأنه قد عُصِب به الشرُّ والبلاءُ، أي: شدُّ به، مأخوذٌ مِن العصابةِ التي تُشدُّ بها الرأسُ، وأصلُ (عصب): يدلُّ على ربطِ شَيءٍ بشيءٍ [834] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 206)، ((تفسير ابن جرير)) (12/497)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 334)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/336)، ((المفردات)) للراغب (ص: 568)، ((تفسير الخازن)) (2/495)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 237)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 661). .
يُهْرَعُونَ: أي: يُسرِعونَ، وأصلُ (هرع): يدلُّ على حركةٍ واضطرابٍ [835] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 533)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 164)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 237). .
رُكْنٍ: أي: عشيرةٍ، ورُكْنُ الشَّيءِ: جانِبُه الأقوى، وأصلُ (ركن): يدلُّ على قوَّةٍ [836] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 207)، ((تفسير ابن جرير)) (12/508)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/430). .
بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ: أي: ببقيَّةٍ تبقَى مِن آخِرِه، أو بقِطعةٍ منه، وأصلُ (قطع): يدلُّ على صَرمٍ، وإبانةِ شَيءٍ مِن شَيءٍ [837] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 207)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/101)، ((المفردات)) للراغب (ص: 678)، ((تفسير القرطبي)) (9/79). .
سِجِّيلٍ: أي: طينٍ مُتحَجِّرٍ، وقيل: أصلُها فارسيٌّ (سَنكِ وكِل) أَي: الحَجَر والطِّين [838] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 207)، ((تفسير ابن جرير)) (12/526)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 280)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 237)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 520)، ((تاج العروس)) للزبيدي (29/179). .
مَنْضُودٍ: مَوضوعٍ بعضُه على بعضٍ، أو مُتَتابعٍ، وأصلُ (نضد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شيءٍ في اتِّساقٍ وجَمعٍ [839] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 208)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 319)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/439)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 165)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 96). .
مُسَوَّمَةً: أي: مُعَلَّمةً؛ من السِّيماءِ: أي: العلَامةِ [840] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 208)، ((تفسير ابن جرير)) (12/530)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 434)، ((المفردات)) للراغب (ص: 438)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 238)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 881). .

المعنى الإجمالي:

تُبَيِّنُ لنا الآياتُ حالَ لوطٍ عليه السَّلامُ لَمَّا جاءته الملائِكةُ؛ أنَّه ساءه مجيئُهم واغتمَّ لذلك؛ خوفًا عليهم مِن قَومِه، وقال: هذا يومُ بلاءٍ وشِدَّةٍ، وأنَّ قومَه جاؤوه يُسرِعونَ المشيَ إليه لطلَبِ الفاحشةِ، وكانوا مِن قبلِ مجيئِهم يأتونَ الرِّجالَ شَهوةً مِن دونِ النِّساءِ، فقال لوطٌ لهم: هؤلاء نِساءُ أمَّتي تَزَوَّجوهنَّ؛ فهنَّ أطهَرُ لكم ممَّا تُريدونَ، فاخشَوُا اللهَ واحذروا عقابَه، ولا تفضَحوني بالاعتداءِ على ضيفي، أليس منكم رجلٌ ذو رَشَدٍ ينهى من أراد ركوبَ الفاحشةِ، فيَحولُ بينهم وبين ذلك؟ فقالوا له: لقد علمتَ من قبلُ أنَّه ليس لنا في النِّساءِ مِن حاجةٍ أو رغبةٍ، وإنَّك لَتعلَمُ ما نريدُ، فقال لهم حين أبَوا إلَّا فعلَ الفاحشةِ: لو أنَّ لي بكم قوَّةً وأنصارًا معي، أو أركَنُ إلى عشيرةٍ تمنَعُني منكم!
قالت الملائكةُ: يا لوطُ إنَّا رسُلُ ربِّك أرسَلَنا لإهلاكِ قَومِك، وإنَّهم لن يصِلوا إليك، فاخرُجْ أنت وأهلُك ببقيَّةٍ من اللَّيلِ، ولا يلتَفِتْ منكم أحدٌ وراءَه إلَّا امرأتَك فلا تخرج معكم؛ لأنه سيُصيبُها ما أصاب قومَك من الهلاكِ، إنَّ مَوعِدَ هلاكِهم الصُّبحُ، وهو موعِدٌ قريبُ الحُلولِ. فلمَّا جاء أمرُنا بهلاكِ قَومِ لوطٍ جعَلْنا عاليَ قراهم- التي كانوا يعيشونَ فيها- سافِلَها، فقَلَبْناها، وأمطَرْنا عليهم حجارةً مِن طينٍ متصَلِّبٍ، قد صُفَّ بعضُه إلى بعضٍ، مُعلَّمةً عند اللهِ بعلامةٍ مَعروفةٍ لا تُشاكِلُ حِجارةَ الأرضِ، وما هذه الحِجارةُ- التي أمطَرَها اللهُ على قَومِ لوطٍ- مِن الظالمين ببعيدٍ أن يُمْطَروا بمِثلِها.

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ
إِلَّا امْرَأَتَكَ قُرِئَ امْرَأَتَكَ بالنَّصبِ والرَّفعِ؛ أمَّا النَّصبُ: فعلى أنَّه مُستثنًى متَّصِلٌ مِن (أهلك) في قَولِه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، والمعنى: لا تَسْرِ بها. وجُملةُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مُعتَرِضةٌ بين المُستثنَى والمُستثنَى منه. وأمَّا الرَّفعُ: فعلى أنَّ (امْرَأَتُكَ) بدلٌ مِن أَحَدٌ الواقِعُ في سياقِ النَّهيِ وَلَا يَلْتَفِتْ، وهو في معنى النَّفيِ. وقيل: إنَّ الاستثناءَ على كِلتا القِراءتَينِ مُنقَطِعٌ مِن جُملةِ الأمرِ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، بِدَليلِ سُقوطِ جُملةِ النَّهيِ وَلَا يلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ في قِراءةِ ابنِ مَسعودٍ، ويكونُ النَّصبُ فيها على الاستثناءِ المُنقَطِعِ، والرَّفعُ على أَنَّ (امْرَأَتُكَ) مبتدأٌ، وإِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ جملةُ الخَبَر، وجملةُ المبتدأِ وخبَرِه في محلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ المُنقَطِع، ويقوِّي كونَ الاستثناءِ مُنقَطِعًا أنَّ مثلَ هذه الآيةِ جاءت في سورةِ الحِجرِ، وليس فيها استثناءٌ البتَّةَ؛ قال تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] . وقيل غيرُ ذلك [841] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/371- 372)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/365-369)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 779-780)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/65-66)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/306). .

تفسير الآيات:

وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا انقضى أمرُ إنبائِهم ببِشارةِ الأولياءِ، وهلاكِ الأعداءِ، وعُلِمَ من ذلك أنَّهم لا يَنزِلونَ إلَّا للأمورِ الهائلةِ، والأحوالِ المُعجِبةِ؛ أخذَ يقُصُّ أمرَهم مع لوطٍ عليه السَّلامُ [842] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/337). .
وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا.
أي: ولَمَّا جاءت الملائكةُ نبيَّنا لوطًا عليه السَّلامُ- ولم يعلَمْ أنَّهم ملائِكةٌ- ساءه مجيئُهم، وضاقتْ نفسُه غَمًّا بحُضورِهم؛ خوفًا عليهم مِن قَومِه [843] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/494)، ((الوسيط)) للواحدي (2/583)، ((تفسير القرطبي)) (9/74)، ((تفسير ابن كثير)) (4/336)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/124). .
وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ.
أي: وقال لوطٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا عَلِمَ أنَّه سيحتاجُ إلى مُدافعةِ قَومِه عن أضيافِه: هذا يومٌ شديدٌ شَرُّه، عظيمُ البَلاءِ [844] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/494)، ((الهداية)) لمكي (5/3442)، ((تفسير القرطبي)) (9/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386). .
وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78).
وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ.
أي: وجاء لوطًا قومُه يُسرِعونَ إليه [845] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/499)، ((تفسير القرطبي)) (9/74)، ((تفسير ابن كثير)) (4/337)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/188). !
كما قال تعالى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ [الحجر: 67 - 69] .
وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ.
أي: ومن قبلِ مجيءِ الرُّسُلِ [846] قال ابن جرير: (من قبلِ مجيئِهم إلى لوطٍ كانوا يأتونَ الرجال في أدبارهم). ((تفسير ابن جرير)) (12/502). وقال القرطبي: (أي ومِن قبلِ مجيءِ الرُّسُلِ. وقيل: من قبلِ لوطٍ). ((تفسير القرطبي)) (9/75). إلى لوطٍ كانوا على عادتِهم يأتونَ الرِّجالَ في أدبارِهم، فجاؤوا إلى الأضيافِ لذلك [847] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/502)، ((تفسير ابن عطية)) (3/194)، ((تفسير القرطبي)) (9/75)، ((تفسير ابن كثير)) (4/337). .
قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ.
أي: قال لوطٌ مُدافِعًا عن أضيافِه: يا قومِ هؤلاء نِساءُ أُمَّتي فانكِحوهنَّ؛ فهذا أطهَرُ لكم مِن إتيانِ الذُّكورِ [848] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/502)، ((تفسير ابن كثير)) (4/337)، ((تفسير المنار)) (12/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/127). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بـقَولِه بَنَاتِي: نساءُ أمَّتِه عليه السَّلام: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثير، ومحمد رشيد رضا، وابنُ عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. قال القرطبي: (وقالت فِرقةٌ- منهم مجاهدٌ وسعيدُ بنُ جبيرٍ- أشار بقوله: بَنَاتِي إلى النِّساءِ جُملةً؛ إذ نبيُّ القومِ أبٌ لهم، ويُقَوِّي هذا أنَّ في قراءةِ ابنِ مسعودٍ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[الأحزاب: 6] «وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ»). ((تفسير القرطبي)) (9/76). قال الشنقيطي: (وبهذا القَولِ قال كثيرٌ من العلماء. وهذا القَولُ تُقَرِّبُه قرينةٌ وتُبعِدُه أخرى؛ أمَّا القرينةُ التي تقَرِّبُه فهي: أنَّ بناتِ لوطٍ لا تَسَعُ جَميعَ رِجالِ قَومِه كما هو ظاهِرٌ، فإذا زوَّجَهنَّ لرجالٍ بقَدرِ عَدَدِهنَّ بَقِيَ عامَّةُ رجالِ قَومِه لا أزواجَ لهم، فيتعَيَّن أنَّ المرادَ عمومُ نِساءِ قَومِه، ويدُلُّ للعُمومِ قَولُه: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء: 165، 166]، وقَولُه: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [النمل: 55]، ونحوُ ذلك من الآيات. وأمَّا القرينةُ التي تُبعِدُه: فهي أنَّ النبيَّ ليس أبًا للكافراتِ، بل أبُوَّةُ الأنبياءِ الدينيَّةُ للمؤمِنينَ دون الكافرينَ، كما يدُلُّ عليه قولُه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ الآية، وقد صرَّح تعالى في «الذاريات»: بأنَّ قَومَ لوطٍ ليس فيهم مُسلِمٌ إلَّا أهلَ بَيتٍ واحدٍ، وهم أهلُ بيتِ لوط، وذلك في قَولِه: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 36]). ((أضواء البيان)) (2/190). وقيل: المرادُ ببَناتِه عليه السَّلامُ هنا: بناتُه مِن صُلبِه. أي: عَرَضَ على قَومِه أن يتزوَّجوهنَّ. وممَّن قال بذلك: البغوي، وابنُ عطيةَ، وابنُ القيمِ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/459)، ((تفسير ابن عطية)) (3/194)، ((الجواب الكافي)) (ص: 172). وقال ابن الجوزي: (فإن قيل: كيف عرَضَ تزويجَ المُؤمِناتِ على الكافرين؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنَّه قد كان يجوزُ ذلك في شريعته، وكان جائزًا في صدر الإسلامِ حتى نُسِخَ. قاله الحسن. والثاني: أنَّه عَرَض ذلك عليهم بشَرطِ إسلامِهم. قاله الزجَّاج، ويؤكِّدُه أنَّ عَرْضَهنَّ عليهم موقوفٌ على عَقدِ النكاحِ، فجاز أن يَقِفَ على شرطٍ آخَرَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/390). وقال القاسمي: (ظاهِرٌ أنَّه عليه السَّلامُ كان واثِقًا بأنَّ قَومَه لا يُؤثِرونَهنَّ بوَجهٍ ما، مهما أطرى وأطنَبَ، وشَوَّق ورَغَّب، فكان إظهارُه وقايةَ ضِيفانِه وفداءَهم بهنَّ- مع وثوقِه المذكورِ وجَزْمِه- مُبالغةً في الاعتناءِ بحِمايتِهم، وقيامًا بالواجِبِ في مثلِ هذا الخَطبِ الفادِحِ الفاضِحِ، الذي يَدوم عارُه وشَنارُه، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكِنُ؛ لكيلا يُنسَبَ إلى قصورٍ، ولِيُعلَمَ أنْ لا غايةَ وراء هذا لِمَن لا رُكْنَ له مِن عَشيرةٍ أو قبيلةٍ، فذلك غايةُ الغاياتِ في حَيطتِهم ووقايتِهم. وفي قَولِه: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ مِن التَّشويقِ، على مرأًى مِن ضِيفانِه ومَسمَعٍ، ما فيه مِن زيادةِ الكَرَمِ والإكرامِ، ورعاية الذِّمام. وبالجُملةِ فهو ترغيبٌ بمُحالِ الوقوعِ باطنًا، وإعذارٌ لِنُزلائِه ظاهِرًا. والله أعلم). ((تفسير القاسمي)) (6/119). .
كما قال تعالى حاكيًا قولَ لوطٍ لِقَومِه: قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر: 71] .
فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي.
أي: فاخشَوُا اللهَ، واحذَروا عقابَه، ولا تُذِلُّوني وتُهينوني بانتهاكِ حُرمةِ ضُيوفي بفِعلِ الفاحشةِ بهم [849] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/506)، ((تفسير القرطبي)) (9/77)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/188).  .
أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ.
أي: أليسَ منكُم رجلٌ ذو رَشَدٍ وخيرٍ، فينهاكم عن طلَبِ الفاحِشةِ بضُيوفي [850] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/507)، ((تفسير ابن كثير)) (4/337)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386). ؟!
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79).
أي: قالوا له: لقد علمتَ- يا لوطُ- ما لنا في النِّساءِ مِن حاجةٍ أو رغبةٍ [851] قال ابنُ الجوزي: (قولُه تعالى: مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ فيه قولان: أحدُهما: ما لنا فيهنَّ حاجةٌ، قاله أبو صالحٍ عن ابنِ عباسٍ. والثاني: لسنَ لنا بأزواجٍ فنستحقهنَّ، قاله ابنُ إسحاقَ وابنُ قتيبةَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/390). وممَّن قال بالأوَّل من المفسِّرين: ابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/338). وممَّن قال بالثَّاني: ابنُ جريرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/507).  ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/583)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/112). وإنَّك لتعلَمُ أنَّنا نريدُ الرِّجالَ دون النِّساءِ [852] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/338)، ((تفسير الشوكاني)) (2/583)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386). .
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80).
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً.
أي: قال لوطٌ لَمَّا رأى إصرارَ قَومِه على طلَبِ الفاحشةِ مِن ضُيوفِه، وعَجَزَ عن ردِّهم: ليتَ لي أنصارًا وأعوانًا يُعينونَني على رَدِّكم [853] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/508)، ((تفسير القرطبي)) (9/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/130). وقال البغوي: (أراد قُوَّةَ البدَنِ، أو القوَّةَ بالأتباعِ). ((تفسير البغوي)) (2/459). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/391)، ((تفسير الرازي)) (18/380). .
أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ.
أي: أو ألجأُ وأنضَمُّ إلى عشيرةٍ تمنَعُني وتعصِمُني منكم، فأحولُ بينكم وبين ما تريدونَ مِن ضيوفي [854] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/508)، ((تفسير القرطبي)) (9/78)، ((تفسير البيضاوي)) (3/143)، ((تفسير الشوكاني)) (2/583، 584)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/130). .
عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَرحَمُ الله لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى رُكنٍ شَديدٍ )) [855] أخرجه البخاري (3372) ومسلم (151). .
قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81).
قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ.
أي: قالت الملائِكةُ للوطٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا اشتدَّ به الكَربُ: إنَّا ملائِكةُ رَبِّك، أرسَلَنا لإهلاكِ قَومِك؛ فلن يَصِلوا إليك بمكروهٍ، فاطمئِنَّ وهوِّنْ على نفسِك [856] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/514)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/130). .
كما قال تعالى: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 33- 34] .
وقال سُبحانه: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 37].
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ.
أي: فاخرُجْ أنت وأهلُك مِن أرضِ قَومِك بعد مُضيِّ وقتٍ مِن اللَّيلِ [857] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/514)، ((تفسير القرطبي)) (9/79، 80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/130). قال الشنقيطي: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ذكرَ تعالى في هذه الآية الكريمة: أنَّه أمر نبيَّه لوطًا أن يسريَ بأهلِه بقِطعٍ من اللَّيلِ، ولم يبيِّنْ هنا هل هو من آخرِ اللَّيلِ، أو وسَطِه أو أوَّلِه، ولكنَّه بيَّن في «القمر» أنَّ ذلك من آخِرِ اللَّيلِ وقتَ السَّحَرِ، وذلك في قولِه تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر: 34]، ولم يبيِّنْ هنا أنَّه أمَرَه أن يكونَ مِن ورائِهم وهم أمامَه، ولكنَّه بيَّن ذلك في «الحِجر» بقوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] ). ((أضواء البيان)) (2/190-191). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 61-65] .
وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: امْرَأَتَكَ قراءتانِ:
1- امْرَأَتُكَ بضمِّ التاءِ، قيل: الاستثناءُ منقطعٌ مِن جُملةِ الأمرِ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، وامْرَأَتُكَ مبتدأٌ خبرُه إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، وقيل: معنى: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ أي: لا يتخلَّفْ منكم أحدٌ إلا امرأتُك، وقيل غيرُ ذلك [858] قرأ بهذه القراءةِ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/290). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 190)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 347-348)، ((تفسير البيضاوي)) (3/143)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/365)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/65)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 558). .
2- امْرَأَتَكَ بفتحِ التاءِ، أي: فأسْرِ بأهلِك إلَّا امرأتَك، على أن لوطًا أُمِر أن يسريَ بأهلِه سوَى زوجتِه، فإنَّه نُهِي أن يسريَ بها [859] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/290). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 190)، ((تفسير ابن جرير)) (12/514-515)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 348). قال الشنقيطي بعدَ أن ذكَر أنَّه على قراءةِ الجمهورِ (بالنصب) فهو لم يَسْرِ بها، وأنَّ ظاهرَ القراءةِ الثانيةِ (بالرفع)- على أحدِ الأوجهِ-: أنَّه أسرَى بها والتفتَتْ فهلَكتْ، قال: (الظاهِرُ أنَّ وجهَ الجمعِ بين القراءتينِ المذكورتينِ أنَّ السِّرَّ في أمرِ لوطٍ بأن يسريَ بأهله هو النَّجاةُ من العذابِ الواقعِ صُبحًا بقومِ لوط، وامرأةُ لوطٍ مُصيبها ذلك العذابُ الذي أصاب قومَها لا محالة، فنتيجةُ إسراءِ لوطٍ بأهلِه لم تدخُلْ فيها امرأتُه على كلا القولينِ، وما لا فائدةَ فيه كالعدمِ، فيستوي معنى أنَّه تركها، ولم يَسْرِ بها أصلًا، وأنَّه أسرى بها وهَلَكت مع الهالكينَ. فمعنى القولينِ راجِعٌ إلى أنَّها هالكة، وليس لها نفعٌ في إسراءِ لوطٍ بأهلِه، فلا فرقَ بين كونِها بَقِيَت معهم، أو خَرَجَت وأصابَها ما أصابهم. فإذا كان الإسراءُ مع لوطٍ لم يُنجِها من العذابِ، فهي ومَن لم يسْرِ معه سواءٌ، والعلم عند الله تعالى). ((أضواء البيان)) (2/191). .
وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ.
أي: ولا ينظُرْ أحدٌ منكم وراءَه، واستَمِرُّوا ذاهبينَ، إلَّا امرأتَك، فلا تُخرِجْها معكم [860] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/514)، ((تفسير القرطبي)) (9/80)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/191). .
إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ.
أي: إنَّه مُصيبٌ امرأتَك- يا لوطُ- العذابُ الذي أصاب قومَك [861] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/515)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 529)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386). .
كما قال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] .
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
أي: إنَّ مَوعِدَ إهلاكِ قَومِك- يا لوطُ- الصُّبحُ بعد انقضاءِ هذه اللَّيلةِ، أليس وقتُ الصبحِ بقريبٍ لنُزولِ العذابِ بهم [862] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/515)، ((البسيط)) للواحدي (11/509)، ((تفسير الشوكاني)) (2/584)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/192). قال القاسمي: (أي: مَوعِدُهم بالهلاكِ الصُّبحُ، والجملةُ كالتعليلِ للأمرِ بالإسراءِ، أو جوابٌ لاستعجالِ لوطٍ واستبطائِه العذابَ، أو ذُكِرَت ليتعجَّلَ في السَّيرِ؛ فإنَّ قُربَ الصُّبحِ داعٍ إلى الإسراعِ في الإسراءِ، للتَّباعُدِ عن موقعِ العذابِ). ((تفسير القاسمي)) (6/121). ؟!
كما قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر: 66] .
وقد بيَّن الله تعالى أنَّ صبيحةَ العذابِ وقَعتْ عليهم وقتَ الإشراقِ، وهو وقتُ طلوعِ الشمسِ [863] يُنظر: ((أضواء الييان)) للشنقيطي (2/192). ، وذلك في قولِه: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر: 73] .
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82).
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا.
أي: فلمَّا جاء أمرُنا بهلاكِ قومِ لُوطٍ، جَعَلْنا عاليَ قراهم أسفَلَها [864] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/525)، ((تفسير ابن كثير)) (4/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/134). .
كما قال تعالى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] .
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ.
أي: وأرسَلْنا على قرى قَومِ لوطٍ حِجارةً مِن طينٍ، شديدِ القوةِ، قد ضُمَّ بعضُه إلى بعضٍ، فصار حجارةً [865] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/525، 528، 529)، ((البسيط)) للواحدي (11/515)، ((تفسير القرطبي)) (9/83)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/192). .
كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل: 58] .
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ.
أي: حجارةً مُعلَّمةً عند اللهِ بعلاماتٍ [866] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/530)، ((تفسير القرطبي)) (9/83)، ((تفسير ابن كثير)) (4/340). قال القرطبي: (مُسَوَّمَةً أي معلمةً، من السيما وهي العلامةُ، أي كان عليها أمثالُ الخواتيمِ. وقيل: مكتوبٌ على كلِّ حجرٍ اسمُ مَن رُمي به، وكانت لا تشاكلُ حجارةَ الأرضِ). ((تفسير القرطبي)) (9/83). .
وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
أي: وما هذه الحِجارةُ- التي أُمطِرَت على قومِ لوطٍ- ببعيدةٍ مِن الظالمين الفاعلينَ مثلَ فِعلِهم [867] وممن اختار هذا المعنى المذكور: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 386). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (4/342)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/193). وقيل: المرادُ بقولِه: الظَّالِمِينَ مُشركو قُرَيشٍ، وممن اختار هذا: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/531). وممن رُوي عنه هذا القولُ من السلفِ: مجاهدٌ، وقتادةُ، والسديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/2069)، ((تفسير ابن جرير)) (12/532)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/465). وقيل: المرادُ بقولِه: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ قومُ لوطٍ، والمعنى: أنَّ الحجارةَ لم تكنْ لتخطيءَ قومَ لوطٍ، وضعَّفه الشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/394)، ((تفسير القرطبي)) (9/83)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/192). ؛ فلْيَحذروا أن يُصيبَهم ما أصابَهم [868] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/531)، ((تفسير ابن كثير)) (4/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 386)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/193). .

الفوائد التربوية :

1- قولُه تعالى: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ تضمَّن البيانَ عمَّا يُوجبُه حالُ المؤمنِ إذا رأى مُنكَرًا لا يقدِرُ على إزالتِه؛ أنَّه يتحَسَّرُ على فَقدِ قوة أو مُعينٍ على دَفعِه؛ لحرصِه على طاعةِ ربِّه، وجَزَعِه مِن مَعصيتِه [869] يُنظر: ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (10/294) (13/227). .
2- في قولِه تعالى: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ فيه أنَّ المؤمنَ إذا رأَى منكَرًا لا يقدِرُ على إزالته أنْ عليه أن يُنكِرَ بلسانه ثم بقلبه إذا لم يُطِقِ الدفعَ [870] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/227). .
3- قَولُ الله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ التَّعبيرُ بصفةِ الظَّالِمِينَ وكون العقوبةِ آيةً مُرادةً لا مُصادفةً؛ يجعَلُ العبارةَ عِبرةً لكُلِّ الأقوامِ الظَّالِمةِ في كلِّ زمانٍ، وإن كان العذابُ يختَلِفُ باختلافِ الأحوالِ مِن أنواعِ الظُّلمِ وكَثرتِه وعُمومِه وما دونَهما [871] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/114). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ أي: حصَلَت له المَساءةُ بسببِ مجيئِهم إلى قريتِه؛ لِما يعلَمُ مِن لُؤمِ أهلِها، والتَّعبيرُ عن هذا المعنى بالمبنيِّ للمفعولِ أوقَعُ في النَّفسِ وأرشَقُ [872] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/338). .
2- في قَولِه تعالى: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ سؤالٌ: وهو أن يقالَ: إنَّ قولَه هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ من باب أفعل التَّفضيلِ، فيقتضي أن يكونَ الذي يطلبونَه من الرِّجالِ طاهرًا، ومعلومٌ أنَّه مُحرَّمٌ فاسِدٌ نَجِسٌ، لا طهارةَ فيه البتَّةَ، فكيف قال: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ؟!
والجوابُ: أنَّ صيغةَ التفضيلِ قد تُطلق في القرآنِ واللغةِ مرادًا بها الاتصافُ، لا تفضيلُ شيءٍ على شيءٍ [873] يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (1/258). ، وأيضًا فهذا جارٍ مجرى قولِه تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: 62] ، ومعلومٌ أنَّ شَجرةَ الزَّقُّومِ لا خيرَ فيها، وكقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا قيل يومَ أحُدٍ: اعلُ هُبَلُ، قال: ((اللهُ أعلى وأجَلُّ) ) [874] أخرجه البخاري (3039) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما. ؛ إذ لا مماثلةَ بين اللهِ- عزَّ وجلَّ- والصَّنمِ، وإنَّما هو كلامٌ خرجَ مَخرجَ المقابلةِ [875] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/496). .
3- قولُه: وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أي: لا تَجعَلوني مَخْزيًّا عِندَ ضَيْفي؛ إذ يَلحَقُهم أذًى في ضِيافَتي؛ لأنَّ الضِّيافةَ جِوارٌ عندَ ربِّ المنزِلِ، فإذا لَحِقَت الضَّيفَ إهانةٌ كانت عارًا على ربِّ المنزِلِ [876] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/128). .
4- قال الله تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يحتمل أن سِرَّ النَّهيِ عن الالتفاتِ- إذا كان بمعنى النَّظَرِ إلى وراءٍ- هو أن يجِدُّوا في السَّيرِ؛ فإنَّ من يلتَفِتُ إلى ورائِه لا يخلو عن أدنى وَقفةٍ، أو ألَّا يَرَوا ما ينزِلُ بقَومِهم من العذابِ فيَرِقُّوا لهم [877] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (6/306). ، ويحتملُ أنَّ سببَ النَّهيِ عن الالْتِفاتِ التَّقصِّي في تحقيقِ معنى الهجرةِ غضَبًا لحُرماتِ اللهِ، بحيث يَقطَعُ التَّعلُّقَ بالوطَنِ، ولو تَعلُّقَ الرُّؤيةِ، وكان تَعْيينُ اللَّيلِ للخُروجِ؛ كَيْلا يُلاقِيَ مُمانَعةً مِن قومِه أو مِن زَوْجِه فيَشُقَّ عليه دِفاعُهم [878] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/132). .
5- قولُ الله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ فيه أنَّ المرأةَ والأولادَ مِن الأهلِ [879] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:151). .
6- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ابتدأ الملائِكةُ خِطابَهم لوطًا عليه السَّلامُ بالتَّعريفِ بأنفُسِهم؛ لتعجيلِ الطُّمأنينةِ إلى نفسِه، لأنَّه إذا علمَ أنَّهم ملائِكةٌ علِمَ أنَّهم ما نزلوا إلَّا لإظهارِ الحَقِّ [880] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/131). .
7- صرَف اللهُ الكفَّارَ عن لُوطٍ عليه السَّلامُ، فرَجَعوا مِن حيثُ أتَوْا، ولو أزال عَن الملائكةِ التَّشكُّلَ بالأجسادِ البشَريَّةِ فأخفاهم عن عُيونِ الكُفَّارِ لحَسِبوا أنَّ لوطًا عليه السَّلامُ أخْفاهم، فكانوا يُؤْذون لوطًا عليه السَّلامُ؛ ولذلك قال له الملائكةُ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، ولم يَقولوا: لن يَنالوا؛ لأنَّ ذلك معلومٌ؛ فإنَّهم لَمَّا أعلَموا لوطًا عليه السَّلامُ بأنَّهم ملائكةٌ ما كان يَشُكُّ في أنَّ الكفَّارَ لا يَنالونَهم، ولكنَّه يَخْشى سَوْرتَهم أن يتَّهِموه بأنَّه أخْفاهم [881] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/131). .
8- في قولِه تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ... في هذه القِصَّةِ إثباتُ الملائكةِ، وأنَّهم أحياءٌ، ناطِقونَ، مُنفَصِلونَ عن الآدميِّينَ، يخاطِبونَهم ويرونَهم في صورِ الآدميِّينَ أحيانًا- الأنبياءُ وغيرُ الأنبياءِ- كما رأتْهم سارَةُ امرأةُ الخليلِ عليه السَّلامُ، وكما كان الصَّحابةُ يَرَون جبريلَ إذا جاء، لَمَّا جاء في صورةِ أعرابيٍّ [882] يُنظر ما أخرجه البخاري (4777)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وتارةً في صورةِ دِحيةَ الكَلبيِّ [883] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (1/196). ويُنظر ما أخرجه البخاري (3634)، ومسلم (2451) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. .
9- قال الله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ لعلَّ جَعْلَ الصُّبحِ ميقاتًا لهلاكِهم؛ لِكونِ النُّفوسِ فيه أسكنَ وأودعَ، والرَّاحةُ فيه أجمَعُ [884] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/191)، ((تفسير الشوكاني)) (2/584). ، فيَكونُ حُلولُ العذابِ حينَئذٍ أفظَعَ، ولأنَّه أنسَبُ بكَوْنِ ذلك عِبرةً للنَّاظِرين [885] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/230). .
10- لما قلَب قومُ لوطٍ الأوضاعَ بإتيانِ الذُّكورِ دونَ الإناثِ؛ كان جزاؤُهم مِن جنسِ عملِهم، فقلَب الله عليهم قُراهم، قال الله تعالى: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [886] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/259). .
11- قولُ الله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً استدلَّ به من قال بِرَجمِ الفاعلِ والمفعولِ به في اللُّواطِ أُحصِنا أو لا [887] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:151). قال الشنقيطي: (وحجةُ مَن قال: إنَّ قتلَه بالرجمِ هو ... روايةُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ، ومجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ: أنَّه يُرجَم، وما ذكَره البيهقيُّ، وغيرُه عن عليٍّ أنَّه رجَم لوطيًّا، ويُستأنسُ لذلك بأنَّ الله رمَى أهلَ تلك الفاحشةِ بحجارةِ السجيلِ). ((أضواء البيان)) (2/195). .
12- قولُ الله تعالى: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ عبَّرَ بالرِّبِّ إشارةً إلى كثرةِ إحسانِه إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه إنَّما أمَرَه بالإنذارِ رحمةً لأمَّتِه التي جعَلَها خيرَ الأُمَم، وسيجعَلُها أكثَرَ الأمَمِ، ولا يُهلِكُها كما أهلَكَهم [888] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/346). .
13- في قولِه: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ جُرِّد (بَعِيد) عن تاءِ التَّأنيثِ مع كونِه خبَرًا عن الحجارةِ، وهي مؤنَّثٌ لفْظًا، ومع كونِ (بَعِيد) هنا بمَعْنى (فاعِلٍ) لا بمَعْنى (مفعولٍ)؛ فالشَّأنُ أن يُطابِقَ مَوصوفَه في تأنيثِه، ولكنَّ العرَبَ قد يُجْرون (فَعيلًا) الَّذي بمَعْنى (فاعٍل) مَجْرى الَّذي بمَعْنى (مفعولٍ) إذا جَرى على مؤنَّثٍ غيرِ حقيقيِّ التَّأنيثِ زيادةً في التَّخفيفِ، كقولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، وقولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] . وقيل: إنَّ (بَعِيد) صفةٌ لِمَحذوفٍ، أي: بِمَكانٍ بعيدٍ، أو بشيءٍ بعيدٍ [889] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/416)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/134- 135). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
- قولُه: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ فيه حذْفُ ما دَلَّ عليه المقامُ إيجازًا قرآنيًّا بديعًا، والتَّقديرُ: ففارَقوا إبراهيمَ، وذهَبوا إلى لوطٍ عليهما السَّلامُ، فلمَّا جاؤوا لوطًا... إلخ [890] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/124). .
- ومِن بَديعِ تَرتيبِ هذه الجُمَلِ أنَّها جاءتْ على تَرتيبِ حُصولِها في الوجودِ؛ فإنَّ أوَّلَ ما يَسبِقُ إلى نَفْسِ الكارِهِ للأمْرِ أن يُساءَ به، ويَتَطَلَّبَ المخلَصَ من هذا الأمْرِ؛ وذلك قولُه: سِيءَ بِهِمْ، فإذا عَلِم أنَّه لا مَخلَصَ مِنه ضاق به ذَرْعًا، وذلك قولُه: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، ثمَّ يُصدِرُ- تعبيرًا عن المعاني، وترتيبًا عنه- كلامًا يُريحُ به نفْسَه، وذلك قولُه عليه السَّلامُ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [891] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/125). .
- قولُه: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا كنايةٌ عن شدَّةِ الانقِباضِ؛ للعجْزِ عن مُدافَعةِ المكروهِ والاحتيالِ فيه [892] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/142)، ((تفسير أبي السعود)) (4/228). .
- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (هودٍ): وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ، وفي سورةِ (العنكبوتِ) قال: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ [العنكبوت: 33] ، فورَدَت آيةُ (العنكبوتِ) بزيادةِ (أنْ) بعد (لَمَّا) بخِلافِ آيةِ هودٍ، ووجهُ ذلك: أنَّ (أنْ) هذه الخفيفةَ كثيرًا ما تُزادُ، وزيادتُها على ضَرْبَين؛ بقياسٍ، وغيرِ قياسٍ؛ فأمَّا الَّتي تُزادُ بقياسٍ فبعدَ (لَمَّا)، ولَمَّا ورَد في آيةِ (هودٍ) قولُه تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، ثمَّ ورَد هذا اللَّفظُ بجُملَتِه في سورةِ (العَنكَبوتِ) مُتكرِّرًا بعَينِه، ورَد أوَّلًا بغيرِ (أنْ) على الأصلِ، وورَد ثانيًا بزيادةِ (أنْ) على الثَّاني؛ لِيَحصُلَ التَّوارُدُ بينَ ما يَرفَعُ تَثاقُلَ اللَّفْظِ المذكورِ مع تَباعُدِ ما بينَ الآيتَينِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا كان اللَّفظُ هو اللَّفْظَ، وكان زيادةُ (أنْ) وعدَمُ زيادتِها هنا هيِّنًا فصيحًا جيء بالجائِزَين معًا، وتأخَّرَت الزِّيادةُ؛ إذ هي غيرُ الأصلِ إلى المتأخِّرِ مِن الآيتَينِ [893] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/261). .
2- قولُه تعالى: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ
- قولُه: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ فيه إسنادُ الفِعلِ إلى القَبيلةِ إذْ فعَله بعضُها؛ إذ التَّقديرُ: جاءه بعضُ قومِه، وإنَّما أُسنِد المجيءُ إلى القومِ؛ لأنَّ مِثلَ ذلك المجيءِ دَأبُهم وقد تَمالَؤوا على مِثلِه، فإذا جاء بعضُهم فسَيَعقُبُه مَجيءُ بعضٍ آخَرَ في وقتٍ آخَرَ [894] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/126). .
- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ جملةُ قَالَ يَا قَوْمِ... مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا ناشئًا عن جملةِ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ؛ إذ قد عَلِم السَّامعُ غرَضَهم مِن مَجيئِهم، فهو بحيث يَسأَلُ عمَّا تلَقَّاهم به [895] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/126). .
- وفي افتِتاحِ الكَلامِ بالنِّداءِ وبأنَّهم قومُه بقولِه: يَا قَوْمِ ترقيقٌ لنُفوسِهم عليه؛ لأنَّه يَعلَمُ تَصلُّبَهم في عادَتِهم الفَظيعةِ [896] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/126). .
- قولُه: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ الإشارةُ بـ هَؤُلَاءِ مُستعمَلةٌ في العرْضِ،  وهُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ تعليلٌ للعَرْضِ، وهَؤُلَاءِ إشارةٌ إلى جمعٍ؛ إذ بُيِّن بقولِه: بَنَاتِي، وإطلاقُ البناتِ هنا؛ قيل: هو مِن قَبيلِ التَّشبيهِ البليغِ- لِمَا رُوِي أنَّه لم يَكُنْ له إلَّا ابنَتان- أي: هؤلاءِ نِساؤُهنَّ كبَناتي، وأرادَ نِساءً مِن قومِه بعدَدِ القومِ الَّذين جاؤوا يُهْرَعون إليه فإنَّ قومَه الَّذين حضَروا عِندَه كثيرون، فيكونُ المعنى: هؤلاءِ النِّساءُ فتَزوَّجوهنَّ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/127). .
- واسمُ التَّفضيلِ أَطْهَرُ مسلوبُ المفاضَلةِ؛ قُصِد به قوَّةُ الطَّهارةِ [898] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/127). .
- قولُه: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ الاستفهامُ في أَلَيْسَ... للإنكارِ والتَّوبيخِ؛ لأنَّ إهانةَ الضَّيفِ مَسبَّةٌ لا يَفعَلُها إلَّا أهلُ السَّفاهةِ، وقولُه: مِنْكُمْ بمَعنى بَعْضِكم؛ أنكَر عليهم تَمالُؤَهم على الباطِلِ، وانعِدامَ رجُلٍ رَشيدٍ مِن بَينِهم، وهذا إغراءٌ لهم على التَّعقُّلِ؛ لِيَظهَرَ فيهم مَن يتَفطَّنُ إلى فَسادِ ما هم فيه فيَنْهاهم، فإنَّ ظُهورَ الرَّشيدِ في الفئةِ الضَّالَّةِ يَفتَحُ بابَ الرَّشادِ لهم، وبالعَكْسِ تَمالُؤهم على الباطلِ يَزِيدُهم ضَراوةً به [899] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/129). .
3- قولُه تعالى: قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
- جملةُ قَالُوا... فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها، ولم تُعْطَفْ علَيها؛ لِوُقوعِها موقِعَ المحاوَرةِ مع لوطٍ عليه السَّلامُ [900] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/129). .
- وجملةُ: لَقَدْ عَلِمْتَ... تأكيدٌ لكونِه يَعلَمُ؛ بتَنْزيلِه مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّه يَعلَمُ؛ لأنَّ حالَه في عرْضِه بَناتِه عليهم كحالِ مَن لا يَعلَمُ خُلقَهم، وكذلك التَّوكيدُ في وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [901] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/129). .
4- قولُه تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
- وجملةُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ مُبيِّنةٌ لإجمالِ جملةِ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ؛ فلذلك فُصِلَت فلم تُعطَفْ على الَّتي قَبْلَها؛ لأنَّها بمَنزِلَةِ عطْفِ البيانِ، وهي موضِّحةٌ للَّتي قبْلَها؛ لأنَّهم إذا كانوا رسُلَ اللهِ لم يَصِلوا إليه، ولم يَقْدِروا على ضَررِه، وجيءَ بحرْفِ تأكيدِ النَّفْيِ (لَن)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم خاطَبوه بما يُزيلُ الشَّكَّ مِن نفْسِه [902] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/415، 416)، ((تفسير أبي حيان)) (6/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/131- 132). .
- قولُه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الفاءُ لِتَرتيبِ الأمْرِ بالإسراءِ على الإخبارِ برِسالَتِهم، المؤْذِنَةِ بوُرودِ الأمرِ والنَّهْيِ مِن جَنابِه عزَّ وجلَّ إليه عليه السَّلامُ [903] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/229). ، وتَفْريعُ الأمْرِ بالسُّرَى على جُملةِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ؛ لِمَا في حرْفِ (لَن) مِن ضَمانِ سَلامتِه في المستقبَلِ؛ فلمَّا رأى ابتِداءَ سَلامتِه منهم بانصِرافِهم؛ حَسُن أن يُبيِّنَ له وجْهَ سَلامتِه في المستقبَلِ منهم باستِئْصالِهم وبِنَجاتِه، فذلك موقِعُ فاءِ التَّفريعِ [904] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/132). .
- جملةُ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ استئنافٌ بيانيٌّ ناشِئٌ عن الاستثناءِ مِن الكلامِ المقدَّرِ، وفيه استِعْمالُ فِعْلِ المضِيِّ مَا أَصَابَهُمْ في مَعْنى الحالِ، ومُقتَضى الظَّاهرِ أن يُقالَ: (ما يُصيبُهم)؛ فاستِعْمالُ فِعلِ المُضِيِّ لِتَقريبِ زمَنِ الماضي مِن الحالِ، أو في مَعْنى الاستقبالِ؛ تَنْبيهًا على تَحقُّقِ وُقوعِه، نحوُ قولِه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [905] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/133). [النحل: 1] .
- وأيضًا في جُملَةِ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ تَفْخيمُ شأنِ ما أصابَهم؛ إذِ الضَّميرُ في إِنَّهُ للشَّأنِ، وقولُه تعالى: مُصِيبُهَا خبرٌ، وقولُه: مَا أَصَابَهُمْ مُبتدَأٌ، والجملةُ خبَرٌ لـ(إِنَّ) الَّذي اسمُه ضميرُ الشَّأنِ [906] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/230). .
- وجملةُ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ، قُطِعَت عن الَّتي قبْلَها- أي: فُصِلَت ولم تُعْطَفْ عليها-؛ اهتِمامًا وتَهويلًا [907] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/131). .
- قولُه: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ جملةُ استِئْنافٍ بيانيٍّ؛ صدَر مِن الملائكةِ جَوابًا عن سُؤالٍ يَجيشُ في نفْسِه مِن استِبْطاءِ نُزولِ العذابِ، والاستفهامُ في قولِه: أَلَيْسَ تقريريٌّ؛ ولذلك يقَعُ في مِثلِه التَّقريرُ على النَّفيِ إرخاءً للعِنانِ مع المخاطَبِ المقرَّرِ؛ لِيَعرِفَ خطَأَه [908] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/133-134). .
- وأيضًا هذه الجملةُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فيها إرسالُ المثَلِ أو التَّمثيلِ، وهو فَنٌّ يُمكِنُ تَعريفُه بأن يَكونَ ما يُخرِجُه المتكلِّمُ سارِيًا مَسيرَ الأمثالِ السَّائرةِ [909] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/411). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (هودٍ): قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، وقال في سورةِ (الحِجْرِ): فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] ؛ فاستَثْنى في سورةِ (هودٍ) مِن قولِه تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قولَه: إِلَّا امْرَأَتَكَ، ولم يَستَثنِ ذلك في سورةِ (الحِجرِ)، ووجهُ هذه المناسَبةِ: أنَّ الاستِثْناءَ في سورةِ (الحِجْرِ) أغْنى مِنه قولُه تعالى فيما حَكى عن الرُّسلِ: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر: 58 - 60] ، فهذا الاستثناءُ الَّذي لم يقَعْ مِثلُه في سورةِ (هودٍ) أغنى عن الاستثناءِ في قولِه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ [910] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/770-771)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:147-148)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/262)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:269). .
- ومِن المناسبةِ أيضًا، أنَّه قال في سورةِ الحجرِ: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ [الحجر: 65] ، وترَكه هنا في سُورةِ هودٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه لَمَّا اقتَصَّ في هذه السُّورةِ بعضَ ما اقتَصَّ في الأُخرَى؛ فذَكَر أنَّ الرُّسُلَ قالوا له: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، والمعنى: لن يَصِلوا إليك وإلى المؤمِنين مِن أهلِك، قيَّد ذلك في قولِه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ بأنْ أمَروه بإخراجِ أهلِه مِن بينِ أظهُرِهم ليلًا مِن غيرِ أن يُعرِّجَ أحدٌ منهم على شيءٍ خلْفَه يَعُوقُه عن المضيِّ إلى حيث ما أُمِر به، ولَمَّا قال في سورةِ الحجرِ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ [الحجر: 59-60] إخبارًا عن الرُّسلِ أنَّهم خاطَبوا إبراهيمَ عليه السَّلامُ به، ثمَّ أخبَر عن مُخاطَبتِهم لوطًا في هذه السُّورةِ بما يُضاهي قولَهم لإبراهيمَ عليه السَّلامُ، حيث أردَفوا قولَهم له: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقولِهم: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ [الحجر: 65] ؛ لأنَّه إذا ساقَهم وكان مِن وَرائِهم، كان تحقيقًا لِخبَرِهم أنَّهم مُنجُّوهم أجمَعين، فزِيدَ: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ؛ لِتُجاوِبَ مُخاطبَتُهم له مُخاطبَتَهم لإبراهيمَ عليه السَّلامُ بسبَبِه [911] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/771-772)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 148). .
- وأيضًا قال في سورةِ (الحِجْرِ): وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] ، ولم يَذكُرْه في سورةِ (هودٍ)؛ وذلك أنَّ قولَه في سورةِ (الحِجْرِ): وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] زيادةُ إخبارٍ بما ليس في سورةِ هودٍ، وقد تأخَّرَت سورةُ الحجرِ عنها؛ فوَفَّت بما لم يُذكَرْ في سورةِ هودٍ [912] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/262). .
5- قولُه تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ
- قولُه: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا فيه الاقتِصارُ على ذِكْرِ جَعْل العالي سافِلًا، حيث جُعل عالِيها مَفعولًا أوَّلَ للجَعْلِ، وسافِلُها مَفعولًا ثانيًا له، وإنْ تَحقَّق القلبُ بالعَكْسِ أيضًا؛ لأنَّه أَدخَلُ في الإهانةِ، وأيضًا لِتَهويلِ الأمرِ، وتفظيعِ الخَطْبِ؛ لأنَّ جَعْلَ عالِيها- الَّذي هو مَقارُّهم ومَساكِنُهم- سَافِلَها أشَدُّ عليهم وأشَقُّ مِن جَعْلِ سافِلِها عالِيَها، وإن كان مُستلزِمًا له [913] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/134). .
- وفي قولِه: جَعَلْنَا ووَأَمْطَرْنَا إسنادُ الجَعْلِ والإمطارِ إلى ضَميرِه سبحانه باعتبارِ أنَّه المسبِّبُ لِتَفخيمِ الأمرِ، وتَهويلِ الخطْبِ [914] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/230). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (هودٍ): فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، وفي سورةِ (الحِجْرِ) قال: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] ؛ ففي الأُولَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهَا، والضَّميرُ للقريةِ، والمرادُ أهلُها، وفي الثَّانيةِ: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ، والضَّميرُ لِقَومِ لوطٍ، فاختَلَف الضَّميرُ مع اتِّحادِ المقصودِ، ووجهُ ذلك: أنَّ كُلًّا مِن الموضوعَين مُراعًى فيه مُناسَبةُ ما تَقدَّمَه؛ فلمَّا تقدَّم آيةَ (الحِجْرِ) قولُه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر: 58] ، فذكَر قومَ لوطٍ موصوفِين بالإجرامِ الموجِبِ لِهَلاكِهم، فرُوعِيَ هذا المتقدِّمُ، فقيل: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ [الحجر: 74] ، ونَظيرُ هذا قولُه تعالى في سورةِ (الذَّارياتِ): قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: 32- 33]، فقيل: عَلَيْهِمْ لَمَّا تَقدَّم قولُه: إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، وأمَّا آيةُ (هودٍ) فلم يتَقدَّمْ فيها مثلُ هذا، فاكتَفى بضَميرِ القَريةِ، فقيل: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا [هود: 82] ، وأغنى ذلك عن ذِكْرِ المهلَكين؛ إذ هم المقصودون بالعذابِ؛ فورَد كلٌّ على ما يُناسِبُ [915] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/262-263). .