موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (62-74)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ

غَريبُ الكَلِماتِ:

نُزُلًا: النُّزُلُ: ما يُعَدُّ للنَّازِلِ مِن ضَيفٍ وغيرِه، ومعناه في الأصلِ: الطَّعامُ الَّذي يَصلُحُ أن يَنزِلوا معه ويُقيموا فيه، والنُّزلُ: الرِّزقُ الَّذي له سَعةٌ، وأصلُ (نزل): يدُلُّ على هُبوطٍ شَيءٍ ووُقوعِه [423] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/417)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (9/6111، 6112)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 320)، ((تفسير القرطبي)) (15/85)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 591). .
شَجَرَةُ الزَّقُّومِ: الزَّقُّومُ: قيل: هو ثَمَرُ شَجَرةٍ مُرَّةِ الطَّعمِ جِدًّا، يُكرَهُ أهلُ النَّارِ على تَناوُلِه، مِن قَولِهم: تَزقَّمَ هذا الطَّعامَ: إذا تَناوَلَه على تَكَرُّهٍ ومَشَقَّةٍ شَديدةٍ، وقيل: زَقَّومٌ: فَعُّولٌ مِنَ الزَّقْمِ، أي: اللَّقْمِ الشَّدِيدِ، والشُّربِ المُفْرِطِ، وأصلُ (زقم): يدُلُّ على جِنسٍ مِن الأكلِ [424] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/16)، ((البسيط)) للواحدي (19/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/306)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 492). .
فِتْنَةً: الفِتنةُ تُطلَقُ على العذابِ، وعلى الاختبارِ والامتحانِ، وتُطلَقُ أيضًا على الضَّلالِ والشِّرْكِ والكُفرِ، وأصْلُ (فتن): يدُلُّ على اختِبارٍ وابتِلاءٍ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لِتَظهَرَ جَودتُه مِن رداءتِه [425] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76)، ((تفسير ابن جرير)) (16/472، 473)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((البسيط)) للواحدي (15/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139 - 140)، ((تفسير الرسعني)) (5/18)، ((تفسير الشوكاني)) (3/520). .
أَصْلِ الْجَحِيمِ: أي: قَعْرِ النَّارِ، وأصلُ (أصل): يدُلُّ على أساسِ الشَّيءِ [426] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/109)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 320)، ((تفسير القرطبي)) (15/86). .
طَلْعُهَا: أي: ما يَطلُعُ منها، وهو الثَّمَرُ، وسُمِّي طَلْعُ النَّخلةِ طَلْعًا؛ لطُلوعِه كُلَّ سَنةٍ، وأصلُ (طلع): يدُلُّ على ظُهورٍ وبُروزٍ [427] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/419)، ((البسيط)) للواحدي (17/102)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 270). .
لَشَوْبًا: أي: لخَلْطًا ومِزاجًا، والشَّوبُ: الخَلطُ العامُّ في كُلِّ شَيءٍ، وكُلُّ شَيءٍ خلَطْتَه بشَيءٍ فقد شِبتَه به، وأصلُ (شوب): يدُلُّ على خَلطٍ [428] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/225)، ((البسيط)) للواحدي (19/63)، ((المفردات)) للراغب (ص: 469)، ((تفسير القرطبي)) (15/87)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 352). .
حَمِيمٍ: الحَميمُ: الماءُ الشَّديدُ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم): يدُلُّ على حَرارةٍ [429] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 254). .
أَلْفَوْا: أي: وَجَدوا، وأصل (لفا): يَدُلُّ على انكشافِ شَيءٍ وكَشْفِه [430] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((تفسير ابن جرير)) (19/557)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/258)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 352). .
آَثَارِهِمْ: أي: سُنَّتِهم وطَريقتِهم، وأثَرُ الشَّيءِ: حُصولُ ما يدُلُّ على وُجودِه، وأصلُ (أثر): يدُلُّ على رَسمِ الشَّيءِ الباقي [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/556) و(20/573)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/53)، ((المفردات)) للراغب (ص: 62). .
يُهْرَعُونَ: أي: يُسرِعونَ، وأصلُ (هرع): يدُلُّ على حَرَكةٍ واضطِرابٍ [432] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((تفسير ابن جرير)) (12/499)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 533)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 164)، ((تفسير القرطبي)) (15/88)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 237). قال ابن قتيبة: (يقال: أُهْرِعَ الرَّجُلُ: إذا أسرَعَ، على لفظِ ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، كما يُقالُ: أُرعِدَ). ((غريب القرآن)) (ص: 206). قال ابنُ الهائم: (فأوقعَ الفِعلَ بهم، وهو لهم في المعنى، كما قيل: أُولِعَ فُلانٌ بكذا، وزُهِيَ زَيدٌ، وأُرعِدَ عَمرٌو، فجُعِلوا مَفعولِينَ وهم فاعِلونَ؛ وذلك أنَّ المعنى أولَعَه طَبعُه وجِبِلَّتُه، وزهاه مالُه أو جَهلُه، وأرعَدَه غَضَبُه أو وجَعُه، وأَهرَعَه خَوفُه ورُعبُه؛ فلهذه العلَّةِ خَرَج هؤلاء الأسماءُ مخرَجَ المفعولِ بهم. ويُقالُ: لا يكونُ الإهراعُ إلَّا إسراعَ المذعورِ. وقال الكِسائيُّ والفَرَّاءُ: لا يكونُ الإهراعُ إلَّا إسراعًا مع رِعدةٍ). ((التبيان في تفسير غريب القرآن)) (ص: 191). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/387). وقال ابن عاشور: (ويُهرَعون: بفَتحِ الرَّاءِ مَبنيًّا للمَجهولِ، مُضارِعُ: أهرَعَه، إذا جعَلَه هارِعًا، أي: حمَلَه على الهَرعِ، وهو الإسراعُ المُفرِطُ في السَّيرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/127). .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى ما يدُلُّ على شدَّةِ التَّبايُنِ بيْنَ هذا النَّعيمِ الَّذي أعدَّه لعبادِه المُخلَصينَ، وبيْنَ الشَّقاءِ الدَّائمِ الَّذي أُعِدَّ للكافِرين، فيقولُ: أذَلِك النَّعيمُ في الجنَّةِ خَيرٌ ضيافةً أم شَجَرةُ الزَّقُّومِ الَّتي أُعِدَّت لأهلِ النَّارِ؟! إنَّا جعَلْنا تلك الشَّجَرةَ عذابًا للظَّالِمينَ في الآخرةِ، وابتِلاءً لهم في الدُّنيا، إنَّها شَجَرةٌ تَنشَأُ في قَعرِ النَّارِ، ثَمَرُها يُشبِهُ في قُبحِه رُؤوسَ الشَّياطينِ، وإنَّ هؤلاء المُشرِكينَ لَآكِلونَ مِن تلك الشَّجَرةِ فيَملَؤونَ منها بُطونَهم، ثمَّ إنَّ لهم إضافةً على أكْلِهم منها لَخَليطًا مِن شَرابٍ في غايةِ الحَرارةِ، ثمَّ إنَّ مَرجِعَهم -بعدَ الأكلِ مِن الزَّقُّومِ وشُربِ الحَميمِ- إلى الجَحيمِ؛ إنَّهم وجَدوا آباءَهم ضالِّينَ، فهم مُسرِعونَ في الاقتِداءِ بهم، واتِّباعِ ضَلالِهم!
ولقد ضَلَّ عن الحَقِّ قَبْلَ مشركي قُرَيشٍ أكثَرُ الأُمَمِ الماضيةِ، ولقد أرسَلْنا في تلك الأُمَمِ الماضيةِ رُسُلًا يُنذِرونَهم عذابَ اللهِ؛ فانظُرْ كيف كان عاقِبةُ أولئك المُنذَرينَ، إلَّا عبادَ اللهِ الَّذين أخلَصَهم اللهُ تعالى له؛ فإنَّهم نَجَوْا مِن العذابِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال بعدَ ذِكرِ أهلِ الجنَّةِ ووَصْفِها: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات: 61] ، أتْبَعَه بقَولِه: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فأمَرَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُورِدَ ذلك على كُفَّارِ قَومِه؛ لِيَصيرَ ذلك زاجِرًا لهم عن الكُفرِ، وكما وَصَف مِن قَبْلُ مآكِلَ أهلِ الجنَّةِ ومَشارِبَهم، وصَفَ أيضًا في هذه الآيةِ مآكِلَ أهلِ النَّارِ ومَشارِبَهم [433] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/336). .
وأيضًا لَمَّا انقَضَت قِصَّةُ المؤمِنِ وقَرينِه، وكان ذلك على سَبيلِ الاستِطرادِ مِن شَيءٍ إلى شَيءٍ؛ عاد إلى ذِكرِ الجنَّةِ والرِّزقِ الَّذي أعَدَّه اللهُ فيها لأهلِها، وعادَلَ بيْنَ ذلك الرِّزقِ وبيْن شَجَرةِ الزَّقُّومِ، فقال تعالى [434] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/106). :
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62).
أي: أذَلِك النَّعيمُ الَّذي أُعِدَّ للمُؤمِنينَ في الجنَّةِ مِن المآكِلِ والمشارِبِ والمَلاذِّ: خَيرٌ ضِيافةً وفَضلًا أم ما أُعِدَّ لأهلِ النَّارِ مِن شَجَرةِ الزَّقُّومِ [435] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/551)، ((تفسير ابن كثير)) (7/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/121). قال السمعاني: (اختلَفوا في هذه الشَّجَرةِ؛ فالأكثَرونَ أنَّها شَجَرةٌ لا يُعرَفُ لها مِثلٌ في الدُّنيا. وقال قُطْرُبٌ: هي شَجَرةٌ مُرَّةٌ خبيثةٌ تكونُ بتِهامةَ). ((تفسير السمعاني)) (4/401). وقال ابنُ عطيَّة: (في بَعضِ البلادِ الجَدْبةِ المجاورةِ للصَّحارى شَجَرةٌ مُرَّةٌ مَسمومةٌ لها لَبَنٌ إنْ مَسَّ جِسمَ أحدٍ توَرَّم، ومات منه في أغلَبِ الأمرِ؛ تُسمَّى شَجَرةَ الزَّقُّومِ؛ والتَّزَقُّمُ في كلامِ العَرَبِ: البَلعُ على شِدَّةٍ وجَهدٍ... اختَلَف النَّاسُ في معناه؛ فقالت فِرقةٌ: شُبِّه بثَمَرِ شَجرةٍ مَعروفةٍ يُقالُ لها: رؤوسُ الشَّياطينِ، وهي بناحيةِ اليَمَنِ يقالُ لها: الأَسْتَن). ((تفسير ابن عطية)) (4/475). وقال ابنُ كثير: (يحتمِلُ أن يكونَ المرادُ بذلك شَجَرةً واحدةً مُعَيَّنةً، كما قال بَعضُهم مِن أنَّها شَجَرةٌ تمتَدُّ فُروعُها إلى جميعِ محالِّ جَهنَّمَ... وقد يحتمِلُ أن يكونَ المرادُ بذلك جِنسَ شَجَرٍ يُقالُ له: الزَّقُّومُ، كقَولِه تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ [المؤمنون: 20] ، يعني: الزَّيتونةَ، ويُؤيِّدُ ذلك قَولُه تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [الواقعة: 51، 52]). ((تفسير ابن كثير)) (7/18). ؟!
كما قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43 - 46].
وقال اللهُ سُبحانَه وتعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 51 - 56] .
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63).
أي: إنَّا جعَلْنا تلك الشَّجَرةَ عذابًا في الآخرةِ للظَّالِمينَ أنفُسَهم بالشِّركِ والتَّكذيبِ، وابتلاءً لهم في الدنيا [436] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/551)، ((تفسير الرسعني)) (6/393)، ((تفسير القرطبي)) (15/86)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/163)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704). قال ابنُ كثير: (معنى الآيةِ: إنَّما أخبَرْناك -يا مُحمَّدُ- بشَجَرةِ الزَّقُّومِ؛ اختِبارًا تَختبِرُ به النَّاسَ؛ مَن يُصَدِّقُ منهم ممَّن يُكَذِّبُ، كقَولِه تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: 60] ). ((تفسير ابن كثير)) (7/20). فقيل: المرادُ بفِتنتِهم بها أنَّهم قالوا: كيف تكونُ في النَّارِ شَجَرةٌ، والنَّارُ تُحرِقُ الشَّجَرَ؟ وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الثعلبيُّ، والبغوي، والقرطبي، والبِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/145)، ((تفسير البغوي)) (4/33)، ((تفسير القرطبي)) (15/86)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/239)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 144، 145). وقيل: المرادُ بالفتنةِ هنا: العذابُ، أي: تكونُ شَجَرةُ الزَّقُّومِ عذابًا ومِحنةً ونَكالًا لهم. ومِمَّن قال بذلك في الجملةِ: القاسميُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704). ويُنظر أيضًا: ((تفسير البيضاوي)) (5/11). وممَّن جمَع بيْن القولَينِ، فقال: المعنى: مِحنةً وعذابًا لهم في الآخرةِ، وابتِلاءً لهم في الدُّنيا: الرسعنيُّ، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/393)، ((تفسير الألوسي)) (12/92). قال ابنُ القيِّم: (هذه الشَّجرةُ فِتنةٌ لهم فى الدُّنيا بتكذيبِهم بها، وفِتنةٌ لهم فى الآخرةِ بأكْلِهم منها). ((إغاثة اللهفان)) (2/163). .
كما قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: 60] .
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64).
أي: إنَّ شَجَرةَ الزَّقُّومِ شَجَرةٌ تَنشَأُ وتُوجَدُ في قَعرِ النَّارِ [437] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/551)، ((تفسير الماتريدي)) (8/566)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/163)، ((تفسير ابن كثير)) (7/20)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704). .
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65).
أي: ثَمَرُ هذه الشَّجَرةِ يُشبِهُ في القُبحِ والبَشاعةِ رُؤوسَ الشَّياطينِ [438] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/553)، ((تفسير القرطبي)) (15/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/124، 125)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 149). قال ابنُ كثير: (إنَّما شَبَّهها برُؤوسِ الشَّياطينِ وإن لم تكُنْ مَعروفةً عندَ المُخاطَبينَ؛ لأنَّه قد استقَرَّ في النُّفوسِ أنَّ الشَّياطينَ قَبيحةُ المَنظَرِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/20). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في حديثِ سِحرِ لَبيدِ بنِ الأعصَمِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مُشْطٍ ومُشاقَةٍ [439] المُشطُ: واحِدُ الأمشاطِ؛ وهو الآلةُ الَّتي يُمشَطُ بها الشَّعرُ. والمُشاقَةُ: ما يُستخرَجُ مِن الكَتَّانِ عندَ تسريحِه. وفي روايةٍ: «ومُشاطَةٍ»، وهي ما يُمشطُ مِن الشَّعرِ ويخرجُ في المُشطِ منه. وقيل: المُشاقةُ بمعنى المُشاطة. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/188)، ((شرح القسطلاني)) (5/291). ، وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ [440] هو: وِعاءُ طَلعِ النَّخلِ وغِشاؤُه إذا جَفَّ. وأراد بالذَّكَرِ فَحْلَ النَّخلِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (5/291)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3795). ، في بِئرِ ذَرْوانَ، فخرَج إليها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ رَجَع، فقالَ لعائشةَ حينَ رجَع: ((نَخْلُها كأنَّه رُؤوسُ الشَّياطينِ ))، ثمَّ دُفِنَت البِئرُ [441] رواه البخاري (3268). .
فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66).
أي: سيَأكُلُ المُشرِكونَ مُضْطَرِّينَ مُكرَهينَ مِن تلك الشَّجَرةِ رغْمَ خُبثِها وقُبحِها، فيَملؤونَ منها بُطونَهم [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/554)، ((تفسير ابن كثير)) (7/20)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/240، 241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/125)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 150، 151). .
كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة: 51 - 53] .
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ أنَّهم يَملَؤونَ بُطونَهم مِن شَجَرةِ الزَّقُّومِ؛ ذكَرَ ما يُسقَونَ لِغَلَبةِ العَطَشِ [443] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/107). ، فالكُفَّارُ إذا شَبِعوا، فحِينَئذٍ يَشتَدُّ عَطَشُهم، ويحتاجُونَ إلى الشَّرابِ؛ فعِندَ هذا وَصَفَ اللهُ شَرابَهم [444] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/337). .
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67).
أي: ثمَّ إنَّ لهم على ما يَأكُلونَ مِن شَجَرةِ الزَّقُّومِ لَخَلْطًا مِن شَرابٍ في غايةِ الحَرارةِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/554)، ((تفسير القرطبي)) (15/87)، ((تفسير ابن كثير)) (7/20، 21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/125، 126)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/315). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ أنَّ طَعامَهم مِنَ الزَّقُّومِ يُخلَطُ بالحَميمِ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ رجب، والشنقيطي. يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 145)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/315). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/555). وقيل: المرادُ به الماءُ المُجَمَّعُ مِن عُصاراتٍ شَتَّى؛ مِن قَيحٍ وصَديدٍ ونَحوِهما. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/21)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/241). وقال ابنُ عاشور: (قَولُه: عَلَيْهَا أي: بَعْدَها، أي: بعدَ أكْلِهم منها. والشَّوبُ: أصلُه مَصدرُ شابَ الشَّيءَ بالشَّيءِ: إذا خلَطَه به، ويُطلَقُ على الشَّيءِ المَشوبِ به؛ إطلاقًا للمَصدَرِ على المفعولِ، كالخَلقِ على المخلوقِ. وكِلا المعنيينِ محتملٌ هنا). ((تفسير ابن عاشور)) (23/125). والحميمُ: قيل: هو الماءُ الشَّديدُ الحرارةِ. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والقرطبي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/554)، ((تفسير القرطبي)) (15/87)، ((تفسير ابن كثير)) (7/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704). وقيل: الحميمُ: هو القَيحُ السَّائِلُ مِن الدُّمَّلِ. ومِمَّن قال بهذا القولِ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/126). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ [يونس: 4] .
وقال سُبحانَه: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15] .
وقال تبارك وتعالى: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة: 54، 55].
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68).
أي: ثمَّ إنَّ مَرجِعَ المُشرِكينَ بعدَ الأكلِ مِن الزَّقُّومِ وشُربِ الحَميمِ لَإِلَى الجَحيمِ [446] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/554)، ((تفسير ابن كثير)) (7/21)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704). ممَّن اختار المعنى المذكورَ في قولِه: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أي: بعدَ أكلِ الزَّقُّومِ، وشُربِ الحميمِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ الجوزي، وابن رجب، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/609)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/543)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 145)، ((تفسير الشوكاني)) (4/457). قيل: يَنتقِلون وَقْتَ الأكلِ وَالشُّرْبِ إلى مكانٍ غيرِ مكانِهم، فيُذهبُ بهم عن دَرَكاتِهم في النَّارِ إلى شجرةِ الزَّقُّومِ والماءِ الحميمِ فيتضَلَّعون منهما، ثمَّ يرجعونَ إلى دَرَكاتِهم في الجحيمِ. وممَّن اختار هذا المعنى: الزمخشريُّ، والرسعني، وأبو حيَّان، والنسفي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/47)، ((تفسير الرسعني)) (6/394)، ((تفسير أبي حيان)) (9/107)، ((تفسير النسفي)) (3/126). وقيل: بل يُورَدونَ الحَميمَ لِشُربِه، فهو خارِجُ الجَحيمِ، كما تُورَدُ الإبلُ إلى الماءِ، ثمَّ يُرَدُّونَ إلى الجَحيمِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، وابنُ الجوزي، والرسعني، وابن رجب، والبِقاعي، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/526، 527)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/543)، ((تفسير الرسعني)) (6/394)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 145)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/241)، ((تفسير العليمي)) (5/523)، ((تفسير الشوكاني)) (4/457). قال البقاعي: (قَولُه تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ [الرحمن: 44] يدُلُّ على أنَّ ذلك خارِجَها أو خارِجَ غَمرتِها، كما تكونُ الأحواضُ في الحِيشانِ خارِجَ الأماكِنِ المُعَدَّةِ للإبِلِ... ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي: بعدَ خُروجِهم مِن دارِ ضيافتِهم الزَّقُّوميَّةِ لَإِلَى الْجَحِيمِ). ((نظم الدرر)) (16/241). وذكر ابنُ عاشورٍ أنَّه ينبغي أن يُفسَّرَ المرجِعُ في الآيةِ بالانتِقالِ مِن حالةٍ طارئةٍ إلى حالةٍ أصليَّةٍ، لا أنَّهم يُغادِرون الجحيمَ ثمَّ يرجِعون إليه، وأنَّ المرادَ التَّنبيهُ على أنَّ عذابَ الأكلِ مِن الزَّقُّومِ والشَّرابِ مِن الحَميمِ: هو عذابٌ إضافيٌّ زيادةً على عذابِ الجَحيمِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/125، 126). وردَّ ابنُ عثيمين أيضًا القَولَ بأنَّهم يَخرُجونَ مِن الجَحيمِ؛ لأنَّ الله تعالى ذكَرَ أنَّ أهلَ النَّارِ لا يَخرُجونَ منها. وذهب إلى أنَّه يحتملُ أن يكونَ المرادُ التَّرتيبَ الذِّكريَّ، أي: أنَّ اللهَ تعالى ذكَرَ أنواعًا مِن العُقوباتِ، ثمَّ بَيَّن أنَّ مآلَهم إلى الجَحيمِ الَّذي فيه العُقوباتُ؛ وأنَّه يحتملُ أن يكونَ المعنى كما قال الله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة: 20]، فهم يُقرَّبونَ مِن أبوابِها ويُسقَونَ الحَميمَ، فيُقرَّبونَ لِتَتطَلَّعَ نُفوسُهم للخُروجِ، فإذا أمَّلوا ذلك رُدُّوا إلى أصلِ الجَحيمِ؛ فصار ذلك أشَدَّ لعَذابِهم. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 156). وقيل: الزَّقُّومُ والحميمُ نُزُلٌ يُقَدَّمُ إليهم قبْلَ دخولِهم. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/12). .
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ عن عذابِهم هذا، وكان سَبَبُه الجُمودَ مع العادةِ الجاريةِ على غيرِ الحَقِّ، والتَّقَيُّدَ بما ألِفَتْه النَّفْسُ، ومالتْ إليه الطِّباعُ ممَّا أصَّلَه مَن يَعتَقِدونَ أنَّهم أكبَرُ منهم، وأتَمُّ عَقلًا؛ عَلَّل ذلك تحذيرًا مِن مِثلِه؛ لأنَّه كان سَبَبَ هلاكِ أكثَرِ الخَلقِ [447] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/242). .
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69).
أي: إنَّهم وَجَدوا آباءَهم ضالِّينَ عن الحَقِّ [448] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/556)، ((تفسير القرطبي)) (15/88)، ((تفسير ابن كثير)) (7/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/315). .
فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70).
أي: فهم مَدفوعونَ للإسراعِ والمُبادَرةِ بقُوَّةٍ في الاقتِداءِ بهم، واتِّباعِ ضَلالِهم بغيرِ دَليلٍ ولا بُرهانٍ؛ فلذا استَحَقُّوا ذلك العَذابَ [449] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/556)، ((تفسير القرطبي)) (15/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/127)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/316). .
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ [الزخرف: 23، 24].
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن ذكَرَ سبحانه أنَّ المشركين يُهرَعون على آثارِ آبائِهم الأوَّلِينَ دونَ نظَرٍ ولا تَدَبُّرٍ؛ أرْدَفَه ما يوجِبُ التَّسليةِ لرَسولِه على كفرِهم وتكذيبِهم [450] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (23/65). .
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71).
أي: ولقد ضَلَّ عن الحَقِّ قبْلَ مُشْرِكي قُرَيشٍ أكثَرُ الأُمَمِ الماضيةِ [451] ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قَولِه تعالى: قَبْلَهُمْ يعودُ إلى كُفَّارِ قُرَيشٍ: ابنُ جرير، ومكِّي، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/558)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6117)، ((تفسير الزمخشري)) (4/47)، ((تفسير البيضاوي)) (5/12)، ((تفسير النسفي)) (3/126)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 161). ، فعَبَدوا غيرَ اللهِ [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/558)، ((تفسير القرطبي)) (15/88)، ((تفسير ابن كثير)) (7/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704). .
كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60 - 62].
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72).
أي: ولقد أرسَلْنا في الأُمَمِ الماضيةِ رُسُلًا يُنذِرونَهم عذابَ اللهِ على كُفرِهم [453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/558)، ((تفسير القرطبي)) (15/88)، ((تفسير ابن كثير)) (7/22)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/128). .
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73).
أي: فانظُرْ [454] قال ابنُ عادل: (هذا الخِطابُ وإن كان ظاهِرُه مع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَّا أنَّ المقصودَ منه خِطابُ الكُفَّارِ؛ لأنَّهم سَمِعوا بالأخبارِ ما جَرى على قَومِ نُوحٍ وعادٍ وثمودَ وغَيرِهم مِن أنواعِ العَذابِ؛ فإنْ لم يَعلَموا ذلك فلا أقَلَّ مِن ظنٍّ وخَوفٍ يحتمِلُ أن يكونَ زاجِرًا لهم عن كُفرِهم). ((تفسير ابن عادل)) (16/317). وأصله عند ((تفسير الرازي)) (26/338). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (23/128). كيف كان آخِرُ أمرِ مُشرِكي الأُمَمِ الماضيةِ الَّذين كَفَروا وكَذَّبوا برُسُلِهم، ولم ينتَفِعوا بإنذارِهم [455] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/558)، ((تفسير القرطبي)) (15/88)، ((تفسير ابن كثير)) (7/22)، ((تفسير ابن عادل)) (16/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/128، 129). قال ابنُ عاشور: (فالمعنى: فانظُرْ كيف كان عاقِبةُ الضَّالِّينَ الَّذين أنذَرْناهم فلم يَنتَذِروا، كما فَعَل هؤلاء الَّذين ألْفَوْا آباءَهم ضالِّينَ فاتَّبَعوهم؛ فقد تحقَّق اشتِراكُ هؤلاء وأولئك في الضَّلالِ؛ فلا جَرَمَ أن تكونَ عاقِبةُ هؤلاء كعاقبةِ أولئك). ((تفسير ابن عاشور)) (23/129). وقال ابن عثيمين: (قال: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، ولم يقل: «ماذا كان»، أي: انظُرْ إلى الكيفيَّةِ وإلى الغاية... لِتَستفيدَ بهذا النَّظَرِ شِدَّةَ العقوبةِ ومُلاءمتَها للذَّنبِ؛ لأنَّ الله قال: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ... [العنكبوت: 40] ، أي: إنَّ عُقوبتَه مُلائِمةٌ لذَنْبِه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 166). ؟
كما قال تعالى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس: 39] .
وقال سُبحانَه: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف: 25] .
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَّما كان المُنذَرونَ لَيسُوا كُلُّهم ضالِّينَ، بل مِنهم مَنْ آمَنَ وأخلَصَ الدِّينَ لله؛ استثناه اللهُ مِن الهلاكِ [456] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 704). .
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ الْمُخْلِصِينَ بكَسرِ اللَّامِ: اسمُ فاعِلٍ مِن (أخلَصَ)، بمعنى: أنَّهم أخلَصوا لله دينَهم وأعمالَهم مِنَ الشِّركِ والرِّياءِ؛ فصارت لله تعالى وَحْدَه دونَ ما سِواه [457] قرأ بها ابنُ كثيرٍ، وأبو عَمرٍو، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (14/68)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 194)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 358). .
2- قراءةُ الْمُخْلَصِينَ بفَتحِ اللَّامِ: اسمُ مَفعولٍ مِن (أخلَصَ)، بمعنى: أنَّ الله أخلَصَهم؛ فصاروا مُخلَصينَ [458] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (14/68)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 194)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 359). وقد ذكَر ابنُ عثيمينَ أنَّ إخلاصَهم هم، وإخلاصَ الله لهم متلازمانِ. ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 169). .
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74).
أي: إلَّا [459] قال ابن عاشور: (واستُثْنِيَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مِن الْأَوَّلِينَ استِثناءً مُتَّصِلًا؛ فإنَّ عبادَ اللهِ المُخلَصينَ كانوا مِن جملةِ المُنذَرِينَ، فصَدَّقُوا المُنذِرينَ، ولم يُشارِكوا المُنذَرينَ في عاقِبَتِهم المنظورِ فيها، وهي عاقِبةُ السُّوءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/129). عبادَ اللهِ الَّذين أخلَصَهم اللهُ تعالى له، واستَخلَصَهم مِنَ الكُفرِ، واختارَهم لرَحمتِه، فآمَنوا باللهِ ورُسُلِه، وأخلَصوا له أعمالَهم؛ فإنَّهم نَجَوا مِنَ الهلاكِ والعذابِ الَّذي حلَّ بقَومِهم المُنذَرينَ [460] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/558)، ((تفسير القرطبي)) (15/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 704)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/129). .
كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف: 64] .
وقال سُبحانَه: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود: 66] .
وقال تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 94] .
وقال جلَّ جَلالُه: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ [القمر: 33 - 35].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ الإشارةُ إلى ذَمِّ التَّقليدِ المخالِفِ للحَقِّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ هذا؛ تنديدًا بهم، وتَوبيخًا لهم أنْ يَجِدوا آباءَهم ضالِّينَ ثمَّ يَتَّبِعوهم، ويَدَعوا طريقَ الحَقِّ [461] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 159). ! وليس المرادُ: أنَّ تَقليدَ العُلَماءِ في العِلمِ كتَقليدِ هؤلاء آباءَهم مِن جميعِ جِهاتِه، ولكِنَّا نُنَبِّهُ للمُقَلِّدِينَ أنَّ مَن لَهَا عن طَلَبِ الحُجَّةِ، والفَحصِ عن الأشياءِ، وبَذْلِ الجُهْدِ في الاستِقصاءِ في أمرِ الدِّينِ، وعَوَّلَ على التَّقليدِ؛ أدَّاه إلى ما لا تُحمَدُ عاقِبتُه، ولا يُرتَضى طريقُه، كما أدَّى هؤلاء حينَ لَهَوا عن آياتِ الرُّسُلِ، وما أَتَوهم به مِن الحقِّ عن رَبِّهم؛ فظَنُّوا أنَّ آباءَهم أصْدَقُ مِن رُسُلِهم، وأعرَفُ بمواضعِ الحُجَّةِ مِن أنفُسِهم [462] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/729). ! ولو لم يُوجَدْ في القُرآنِ آيةٌ غَيرُ هذه الآيةِ في ذَمِّ التَّقليدِ لَكفَى [463] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/338). .
2- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَصَف الَّذين ضَلُّوا قَبْلَهم بأنَّهم أكثَرُ الأوَّلِينَ؛ لِئَلَّا يَغتَرَّ ضُعَفاءُ العُقولِ بكَثرةِ المُشرِكينَ، ولا يَعتَزُّوا بها؛ لِيَعلَموا أنَّ كَثرةَ العَدَدِ لا تُبَرِّرُ ضَلالَ الضَّالِّينَ، ولا خطَأَ المُخطِئينَ، وأنَّ الهدى والضَّلالَ لَيْسَا مِن آثارِ العَدَدِ كَثرةً وقِلَّةً، ولكِنَّهما حقيقتانِ ثابِتتانِ مُستقِلَّتانِ، فإذا عَرَضت لإحداهما كَثرةٌ أو قِلَّةٌ، فلا تَكونانِ فِتنةً لِقِصارِ الأنظارِ، وضُعَفاءِ التَّفكيرِ؛ قال تعالى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [464] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/128). [المائدة: 100] .
3- في قَولِه تعالى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَضيلةُ الإخلاصِ [465] فإخلاصُهم هم وإخلاصُ الله لهم مُتلازمانِ، كما ذكَر ابنُ عثيمينَ في المصدرِ الآتي. ، وحَثُّ الإنسانِ على أنْ يكونَ مِن هؤلاء العِبادِ لِيَنجوَ [466] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 169). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: 60-62] إلى قَولِه: فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 70] ، وقال أيضًا: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الفرقان: 15] ، وقال: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40] .
في هذه الآياتِ وأمثالِها في القُرآنِ إشكالٌ مَعروفٌ، وهو أن يُقالَ: لَفظةُ (خير) في الآياتِ المذكورةِ صيغةُ تَفضيلٍ، والمعروفُ في عِلمِ العَربيَّةِ أنَّ صِيغةَ التَّفضيلِ تَقتَضي المُشارَكةَ بيْنَ المَفضَّلِ والمُفضَّلِ عليه فيما فيه التَّفضيلُ، إلَّا أنَّ المفضَّلَ أكثَرُ فيه وأفضَلُ مِن المفضَّلِ عليه، ومعلومٌ أنَّ المُفضَّلَ عليه في الآياتِ المذكورةِ الَّذي هو عذابُ النَّارِ لا خيرَ فيه البتَّةَ، وإذَنْ فصيغةُ التَّفضيلِ فيها إشكالٌ.
والجوابُ عن هذا الإشكالِ مِن وَجهَينِ:
 الأوَّلُ: أنَّ صِيغةَ التَّفضيلِ قد تُطلَقُ في القُرآنِ وفي اللُّغةِ مُرادًا بها مُطلَقُ الاتِّصافِ، لا تَفضيلُ شَيءٍ على شَيءٍ.
الثَّاني: أنَّ مِن أساليبِ اللُّغةِ العَربيَّةِ أنَّهم إذا أرادوا تَخصيصَ شَيءٍ بالفَضيلةِ دونَ غَيرِه جاؤوا بصيغةِ التَّفضيلِ، يُريدونَ بها خُصوصَ ذلك الشَّيءِ بالفَضلِ.
وعلى كُلِّ حالٍ فعذابُ النَّارِ شَرٌّ مَحضٌ، لا يُخالِطُه خَيرٌ البتَّةَ كما لا يَخفى، والوَجهانِ المذكورانِ في الجوابِ مُتقارِبانِ [467] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/30). ويُنظر أيضًا: ((قواعد التفسير)) للسبت (ص: 258). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إطلاقُ الظُّلْمِ على الكُفرِ، مع أنَّ الظُّلمَ أعَمُّ مِن الكُفرِ، ولكِنَّ المرادَ به هنا الظُّلْمُ المُطلَقُ الَّذي أشار اللهُ إليه في قَولِه: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ؛ فالظُّلمُ المُطلَقُ هو ظُلمُ الكافرِ، والظُّلمُ المُقَيَّدُ هو ظُلمُ الفاسِقِ، فالمعاصي ظُلْمٌ لكِنَّها ظُلْمٌ مُقَيَّدٌ؛ فمَثلًا يُقالُ: هذا ظالمٌ نَفْسَه بأكلِ الرِّبا، هذا ظالِمٌ نفْسَه بفِعلِ الزِّنا، هذا ظالِمٌ نَفْسَه بالاعتِداءِ على الخَلْقِ... وهكذا، أمَّا الظُّلمُ المُطلَقُ فهو ظُلمُ الكافرِ؛ لأنَّ الكافِرَ -والعياذُ باللهِ- لم يأتِ بعَدْلٍ إطلاقًا حتَّى يُقالَ: إنَّ ظُلمَه ظُلمٌ مُقَيَّدٌ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 146). !
3- قَولُ الله تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فيه سؤالٌ: كيف يُعقَلُ أن تَنبُتَ الشَّجَرةُ في جَهنَّمَ، مع أنَّ النَّارَ تُحرِقُ الشَّجرةَ؟
الجوابُ: أنَّ خالِقَ النَّارِ قادِرٌ على أن يمنَعَ النَّارَ مِن إحراقِ الشَّجَرِ، ولأنَّه إذا جاز أن يكونَ في النَّارِ زبانيَةٌ، واللهُ تعالى يمنَعُ النَّارَ عن إحراقِهم، فلِمَ لا يجوزُ مِثلُه في هذه الشَّجَرةِ [469] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/336، 337). ؟
ووجهٌ آخَرُ: أنَّ الله تعالى أخبَرَ أنَّ تلك الشَّجَرةَ خَرَجت مِن أصلِ الجَحيمِ وأُنشِئَت منها، والشَّجَرةُ الَّتي أُنشِئَت من النَّارِ لا تأكُلُها النَّارُ ولا تُحرِقُها، وإنَّما تأكُلُ غَيرَها مِنَ الأشجارِ الَّتي لم تَنشَأْ منها، ومِثلُ هذا جائِزٌ: أن يكونَ الشَّيءُ الَّذي يكونُ نُشوؤُه وبَدْؤُه مِن كُلِّ شَيءٍ ألَّا يُهلِكَه كَونُه في ذلك؛ كالسَّمَكِ الَّذي يكونُ أصلُ نُشوئِه في الماءِ لا يُهلِكُه الماءُ، وكذلك جميعُ دوابِّ البَحرِ، وإن كان غيرُها مِنَ الدَّوابِّ في البَرِّيَّةِ يَهلِكُ فيه ويَتلَفُ؛ فعلى ذلك الشَّجَرةُ المُنشأَةُ منها لا تُهلِكُها النَّارُ ولا تُحرِقُها، وإن كان غيرُها مِنَ الأشجارِ تأكُلُها وتُحرِقُها. واللهُ أعلَمُ [470] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/566). .
4- في قَولِه تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ الرَّدُّ على مَن يقولُ: «إنَّ الشَّياطينَ والجِنَّ هي قُوَى الشَّرِّ، والملائِكةَ قُوَى الخيرِ، وليس هناك أجسامٌ تُحَسُّ»! ووجهُ الدَّلالةِ أنَّه أثبتَ للشَّياطينِ رُؤوسًا، ولا يُمكِنُ أن يكونَ في الأمورِ المعنويَّةِ الَّتي هي القُوى [471] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 150). !
5- قَولُ الله تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فيه سُؤالٌ: إنَّا ما رأَيْنا رُؤوسَ الشَّياطينِ، فكيف يُمكِنُ تَشبيهُ شَيءٍ بها؟
أجابوا عنه مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ النَّاسَ لَمَّا اعتَقَدوا في الملائِكةِ كَمالَ الفَضلِ في الصُّورةِ والسِّيرةِ، واعتَقَدوا في الشَّياطينِ نهايةَ القُبحِ والتَّشويهِ في الصُّورةِ والسِّيرةِ؛ فكما حَسُنَ التَّشبيهُ بالمَلَكِ عندَ إرادةِ تقريرِ الكَمالِ والفَضيلةِ في قَولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] ، فكذلك وجَبَ أن يَحسُنَ التَّشبيهُ برُؤوسِ الشَّياطينِ في القُبحِ وتَشويهِ الخِلقةِ؛ فهذا مِن بابِ التَّشبيهِ لا بالمحسوسِ، بل بالمتَخَيَّلِ، كأنَّه قيل: إنَّ أقبَحَ الأشياءِ في الوَهمِ والخيالِ هو رُؤوسُ الشَّياطينِ، فهذه الشَّجَرةُ تُشبِهُها في قُبحِ النَّظَرِ وتَشويهِ الصُّورةِ، والَّذي يؤكِّدُ هذا أنَّ العُقَلاءَ إذا رأوا شَيئًا شديدَ الاضطرابِ، مُنكَرَ الصُّورةِ، قَبيحَ الخِلقةِ؛ قالوا: إنَّه شَيطانٌ، وإذا رأوا شَيئًا حَسَنَ الصُّورةِ والسِّيرةِ، قالوا: إنَّه مَلَكٌ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المقصودَ بالشَّياطينِ: حيَّاتٌ لها رُؤوسٌ وأعرافٌ، وهي مِن أقبَحِ الحيَّاتِ، وبها يُضرَبُ المثَلُ في القُبحِ، والعرَبُ إذا رأت مَنظَرًا قَبيحًا قالت: (كأنَّه شَيطانُ الحَماطةِ)، والحَماطةُ: شجَرةٌ مُعَيَّنةٌ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ رُؤوسَ الشَّياطينِ نَبتٌ مَعروفٌ قَبيحُ الرأسِ [472] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/337). .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ إطلاقُ الآباءِ على الأجدادِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ قَولَه: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ يَشملُ الأبَ الأدنَى والأبَ الأعلَى، وإطلاقُ الأبِ على الجَدِّ -ولو كان بعيدًا- مَعروفٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ قال اللهُ تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج: 78] ؛ فسَمَّى اللهُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أبًا مع أنَّه جَدٌّ بَعيدٌ، ويَتفرَّعُ على هذه القاعدةِ: ترجيحُ القَولِ بأنَّ الجَدَّ مِن قِبَلِ الأبِ يُسقِطُ الإخوةَ مُطلَقًا -أي: سواءٌ كانوا أشقَّاءَ، أو لأبٍ، أو لأمٍّ- في بابِ الميراثِ، وهو القَولُ الرَّاجِحُ؛ لأنَّه أبٌ، وهذا القَولُ هو قولُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللهُ عنه، ورُوِيَ عن ثلاثةَ عَشَرَ صَحابيًّا، وهو مَذهَبُ أبي حنيفةَ رحمه اللهُ، واختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رحمه اللهُ [473] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 160). ويُنظر أيضًا: ((اختلاف الأئمة العلماء)) لابن هبيرة (2/91)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (31/342). .
7- في قَولِه: أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ إيماءٌ إلى أنَّ ضَلالَهم لا يخفَى على النَّاظِرِ فيه لو تُرِكوا على الفِطرةِ العَقليَّةِ، ولم يُغَشُّوها بغِشاوةِ العِنادِ [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/127). .
8- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ عنايةُ اللهِ عزَّ وجلَّ برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيث كان يَضرِبُ له مِن الأمثلةِ ما يُسَلِّيه بها؛ لأنَّ سُلُوَّ الإنسانِ بغَيرِه يُهَوِّنُ عليه الأمرَ، ويَزيدُه قُوَّةً واندِفاعًا فيما يَدعو إليه [475] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 162). .
9- أنَّ اللهَ تعالى أقامَ الحُجَّةَ على كلِّ أُمَّةٍ؛ لِقَولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ أي: في الأوَّلينَ مُنْذِرِينَ، ويؤيِّدُ ذلك قَولُه تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] ؛ فكلُّ الأُمَمِ قامتْ عليهم الحُجَّةُ [476] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 164). .
10- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنَّ مَن لم تَبلُغْه الرِّسالةُ فلا حُجَّةَ عليه؛ لأنَّه لم يَبلُغْه الإنذارُ، وهو كذلك [477] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 164). .
11- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أنَّ اللهَ لا يُعاقِبُ على الذَّنبِ إلَّا بعدَ قيامِ الحُجَّةِ؛ فهم أُنذِروا فكانتِ العاقِبةُ [478] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 167). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
- استِئْنافٌ بعدَ تَمامِ قِصَّةِ المُؤمِنِ ورِفاقِه، قُصِدَ منه التَّنْبيهُ إلى البَونِ بيْنَ حالِ المُؤمِنِ والكافِرِ، جرَى على عادةِ القُرآنِ في تَعْقيبِ القَصَصِ والأمْثالِ بالتَّنْبيهِ إلى مَغازيها ومَواعِظِها، فالمقصودُ بالخَبَرِ هو قولُه: إِنَّا جَعَلْنَاهَا أي: شَجَرةَ الزَّقُّومِ فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إلى آخِرِها. وإنَّما صِيغَ الكلامُ على هذا الأُسلوبِ؛ للتَّشويقِ إلى ما يَرِدُ فيه [479] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/121). .
- في قَولِه: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ لَمَّا اختارَ المُؤمِنونَ ما أدَّى إلى الرِّزْقِ المَعْلومِ في الجَنَّةِ، واختارَ الكافِرونَ ما أدَّى إلى شَجَرةِ الزَّقُّومِ؛ قيلَ لهم ذلك تَوبيخًا على سُوءِ اختيارِهِم [480] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/46)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/159)، ((تفسير أبي حيان)) (9/106). . والهَمْزةُ للاستِفْهامِ الإنْكاريِ التَّوْبيخيِّ [481] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/276). . وقيل: للتَّقريرِ، والمرادُ تقريرُ قريشٍ والكفَّارِ [482] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/475). .
- الاستِفْهامُ في قَولِه: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ مُكنًّى به عن التَّنْبيهِ على فَضلِ حالِ المُؤمِنِ وفَوزِه، وخَسارِ الكافِرِ، وهو خِطابٌ لكُلِّ سامِعٍ [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/121). .
- والإشارةُ بـ أَذَلِكَ إلى ما تقدَّمَ مِن حالِ المُؤمِنينَ في النَّعيمِ والخُلودِ. وجِيءَ باسمِ الإشارةِ مُفرَدًا بتَأْويلِ المَذْكورِ، بعلامةِ بُعدِ المُشارِ إليه؛ لِتَعْظيمِه بالبُعْدِ، أي: بُعْدِ المَرتَبةِ وسُمُوِّها؛ لأنَّ الشَّيءَ النَّفيسَ الشَّريفَ يُتخيَّلُ عاليًا، والعالي يُلازِمُه البُعدُ عن المكانِ المُعتادِ، وهو السُّفلُ، وأين الثُّرَيَّا من الثَّرَى [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/121). ؟!
2- قولُه تعالَى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ استِئْنافٌ لِوَصفِ شَجَرةِ الزَّقُّومِ استِئْنافًا ثانيًا مُكرَّرًا فيه كَلِمةُ إِنَّهَا؛ للتَّهْويلِ [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/123). .
3- قولُه تعالَى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
- في قوله: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ تَشْبيهٌ، ورُؤوسُ هذه الشَّياطينِ غَيرُ مَعْروفةٍ لهم، فالتَّشْبيهُ بها حَوالةٌ على ما تُصَوِّرُ لهم المُخيِّلةُ، وطَلْعُ شَجَرةِ الزَّقُّومِ غَيرُ مَعْروفٍ، فوُصِفَ للنَّاسِ فظيعًا بَشِعًا، وشُبِّهَتْ بَشاعَتُه ببَشاعةِ رُؤوسِ الشَّياطينِ؛ لأنَّ الشَّيْطانَ مَكروهٌ مُستقبَحٌ في طِباعِ النَّاسِ؛ لاعتِقادِهِم أنَّه شَرٌّ مَحضٌ لا يَخلِطُهُ خَيرٌ، وهذا التَّشْبيهُ مِن تَشْبيهِ المَعْقولِ بالمَعْقولِ، كتَشْبيهِ الإيمانِ بالحَياةِ في قَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس: 70] . والمَقْصودُ منه هُنا: تَقْريبُ حالِ المُشبَّهِ، فلا يَمتنِعُ كَونُ المُشبَّهِ به غَيرَ مَعْروفٍ، ولا كونُ المُشبَّهِ كذلك، وهذه الصِّفاتُ الَّتي وُصِفَتْ بها شَجَرةُ الزَّقُّومِ بالِغةٌ حدًّا عَظيمًا مِنَ الذَّمِّ، وهذا تَشْبيهٌ تَخْييليٌّ [486] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/46)، ((تفسير البيضاوي)) (5/12)، ((تفسير أبي حيان)) (9/107)، ((تفسير أبي السعود)) (7/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/124)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/277، 278). والمرادُ بالتَّخييلِ: أنَّه لا يمكِنُ وُجودُه في المشَبَّهِ به إلَّا على سبيلِ التَّخييلِ والتَّأويلِ، وقد يكونُ صعبَ الوُجودِ في الواقعِ أو متعَذِّرًا. يُنظر: ((أسرار البلاغة)) للجُرْجاني (ص: 267)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/43). .
4- قولُه تعالَى: فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
- قَولُه: فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ إنْذارٌ بأنَّهم آكِلونَ مِن شَجَرةِ الزَّقُّومِ إنْذارًا مُؤكَّدًا، والمعنى: أنَّهم آكِلونَ منها كَرهًا؛ وذلك من العَذابِ، وإذا كان المَأْكولُ كَريهًا يَزيدُه كَراهةً سُوءُ مَنظَرِه [487] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/125). .
- والفاءُ في قَولِه: فَمَالِئُونَ فاءُ التَّفْريعِ، وفيها مَعْنى التَّعْقيبِ، أي: لا يَلبَثون أنْ تَمتلِئَ بُطونُهم مِن سُرعةِ الالْتِقامِ، وذلك تَصويرٌ لِكَراهَتِها؛ فإنَّ الطَّعامَ الكَريهَ كالدَّواءِ إذا تَناوَلَه آكِلُه أسرَعَ ببَلْعِه، وأعظَمَ لُقَمَه؛ لِئَلَّا يَستقِرَّ طَعمُه على آلةِ الذَّوقِ [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/125). .
وقيل: لَمَّا كان الأكْلُ يَعتَقِبُه مَلْءُ البَطنِ، كان العَطفُ بالفاءِ في قَولِهِ: فَمَالِئُونَ [489] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/107). .
- ومَلْءُ البُطونِ كِنايةٌ عن كَثْرةِ ما يَأْكلونَ منها على كَراهَتِها. وإسنادُ الأكْلِ ومَلْءِ البُطونِ إليهم إسنادٌ حَقيقيٌّ، وإنْ كانوا مُكرَهينَ على ذلك الأكْلِ والمَلْءِ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/125). .
- وحَرفُ ثُمَّ في قَولِهِ: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ للتَّراخي الرُّتْبيِّ؛ لأنَّها عَطَفَتْ جُملةً، وليس للتَّراخي في الإخبارِ مَعنًى إلَّا إفادةُ أنَّ ما بعدَ حَرفِ التَّراخي أهَمُّ أو أعجَبُ ممَّا قَبْلَه، بحيث لم يكُنِ السَّامِعُ يَرقُبُه، فهو أعْلى رُتْبةً باعتبارِ أنَّه زيادةٌ في العَذابِ على الَّذي سَبَقَه، فوَقْعُه أشدُّ منه، وقد أشعَرَ بذلك قَولُه: عَلَيْهَا، أي: بَعْدَها، أي: بعدَ أكْلِهم منها [491] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/125). . وقيل: لَمَّا كان الشُّربُ يَكثُرُ تَراخيهِ عن الأكْلِ، أُتِيَ بلَفظِ ثُمَّ المُقتَضيةِ المُهْلةَ [492] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/107). . ففي العطف بـ ثُمَّ سِرٌّ لَطيفُ المَأخَذِ، دَقيقُ المَسلَكِ، قَلَّ مَن يَتَفطَّنُ إليه؛ فإنَّ في مَعنى التَّراخي وَجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّهم يَملَؤون البُطونَ مِن شَجَرِ الزَّقُّومِ، وهو حارٌّ يُحرِقُ بُطونَهم، ويَزيدُ في عَطَشِهم وغُلَّتِهم، فلا يُسقَونَ إلَّا بعدَ مَلِيٍّ [493] المَلِيُّ: الحينُ الطَّويلُ مِن الزَّمانِ. يُنظر: ((العين)) للخليل (8/345). ؛ تَعْذيبًا بذلك العَطَشِ، ثمَّ يُسقَونَ ما هو أحَرُّ مِن العَطَشِ، وهو الشَّرابُ المَشوبُ بالحَميمِ. ووَجهٌ آخَرُ في مَعْنى التَّراخي: أنَّه ذُكِرَ الطَّعامُ بتلك الكَراهةِ والبَشاعةِ، ثمَّ ذُكِرَ الشَّرابُ بما هو أوغَلُ في الكَراهةِ وأبعَدُ في البَشاعةِ، فجاء بـ (ثُمَّ)؛ للدَّلالةِ على تَراخي حالِ الشَّرابِ عن حالِ الطَّعامِ، ومُبايَنةِ صِفَتِه لِصِفَتِه في الزِّيادةِ عليه [494] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/47)، ((تفسير البيضاوي)) (5/12)، ((تفسير أبي السعود)) (7/194)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/283). .
- في قَولِه: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (على) بمَعْنى (مع)، ويَصِحُّ أنْ تكونَ للاستِعْلاءِ؛ لأنَّ الحَميمَ يَشرَبونَه بعدَ الأكْلِ، فيَنزِلُ عليه في الأمْعاءِ [495] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/126). .
5 - قولُه تعالَى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ
- مَعنى حَرفِ التَّراخي (ثُمَّ) في قَولِه: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أنَّهم يُذهَبُ بهم عن مَقارِّهِم ومَنازِلِهم في الجَحيمِ، وهي الدَّرَكاتُ الَّتي أُسْكِنوها إلى شَجَرةِ الزَّقُّومِ، فيَأكُلونَ إلى أنْ يَتَملَّؤُوا، ويُسقَونَ بعدَ ذلك، ثمَّ يَرجِعونَ إلى دَرَكاتِهم -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ فدَخَلَتْ (ثُمَّ) للدَّلالةِ على ذلك، والرُّجوعُ دَليلٌ على الانتِقالِ في وَقتِ الأكْلِ والشُّربِ إلى مَكانٍ غَيرِ مَكانِهما [496] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/47)، ((تفسير أبي حيان)) (9/107)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/283). .
- في قَولِهِ: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ المَرجِعُ: مَكانُ الرُّجوعِ، أي: المَكانُ الَّذي يعودُ إليه الخارِجُ منه بعدَ أنْ يُفارِقَه، وقد يُستعارُ للانتِقالِ من حالةٍ طارئةٍ إلى حالةٍ أصليَّةٍ؛ تَشبيهًا بمُغادَرةِ المكانِ ثمَّ العَودِ إليه؛ والمُشرِكونَ حينَ يَطعَمون مِن شَجَرةِ الزَّقُّومِ، ويَشرَبونَ الحَميمَ، لم يُفارِقوا الجَحيمَ، فأُريدَ التَّنْبيهُ على أنَّ عَذابَ الأكْلِ مِن الزَّقُّومِ، والشَّرابِ مِن الحَميمِ زيادةٌ على عَذابِ الجَحيمِ، ألَا تَرى إلى قَولِه: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، فليس ثَمَّةَ مُغادَرةٌ للجَحيمِ حتَّى يكونَ الرُّجوعُ حقيقةً [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/126). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
5- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
- تَعْليلٌ لِمَا جازاهمُ اللهُ به مِن العَذابِ، وإبْداءٌ للمُناسَبةِ بيْنَه وبيْنَ جُرمِهم، فعلَّلَ استِحْقاقَهُم للوُقوعِ في تلك الشَّدائدِ كُلِّها بتَقْليدِ الآباءِ في الدِّينِ، واتِّباعِهم إيَّاهُم على الضَّلالِ، وتَركِ اتِّباعِ الدَّليلِ، وإنَّ جُرمَهم كان تَلَقِّيًا لِمَا وَجَدوا عليه آباءَهُم مِن الشِّركِ وشُعَبِه بدُونِ نَظَرٍ ولا اختيارٍ لِما يختارُه العاقِلُ، فكان مِن جَزائِهم على ذلك أنَّهم يُطعَمونَ طَعامًا مُؤلِمًا، ويُسقَونَ شَرابًا قَذِرًا بدُونِ اختيارٍ كما تَلَقَّوْا دِينَ آبائِهم تَقْليدًا واعْتِباطًا؛ فمَوقِعُ (إنَّ) مَوقِعُ فاءِ السَّبَبيَّةِ، ومَعناها مَعنى لامِ التَّعْليلِ، وهي لذلك مُفيدةٌ رَبْطَ الجُملةِ بالَّتي قَبْلَها، كما تَربِطُها الفاءُ ولامُ التَّعْليلِ [498] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/47)، ((تفسير البيضاوي)) (5/12)، ((تفسير أبي السعود)) (7/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/126، 127). .
- قولُه: فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ فيه إشْعارٌ بأنَّهم بادَروا إلى الضَّلالِ والكُفرِ من غَيرِ تَوقُّفٍ على نَظَرٍ وبَحثٍ [499] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/47)، ((تفسير البيضاوي)) (5/12)، ((تفسير أبي السعود)) (7/194). .
- في قَولِه: فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ الفاءُ فاءُ العَطفِ للتَّفْريعِ والتَّسَبُّبِ، أي: مُتفرِّعٌ على إِلفائِهِم آباءَهم ضالِّينَ، أنِ اقْتَفَوْا آثارَهم تَقْليدًا بلا تأمُّلٍ، وهذا ذمٌّ لهم [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/127). .
6- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ
- عُقِّبَ وَصْفُ حالِ المُشرِكينَ في الآخِرةِ، وما عُلِّلَ به مِن أنَّهم أَلْفَوْا آباءَهم ضالِّينَ فاتَّبَعوا آباءَهم بتَنْظيرِهم بمَن سَلَفوا مِن الضَّالِّينَ، وتَذْكيرًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك تَسْليةً له على ما يُلاقيهِ مِن تَكْذيبِهم، واستِقْصاءً لهم في العِبْرةِ والمَوعِظةِ بما حلَّ بالأُمَمِ قَبْلَهم، فهذه الجُملةُ مَعْطوفةٌ على مَضْمونِ الجُملةِ الَّتي قَبْلَها؛ إكمالًا للتَّعْليلِ، أي: اتَّبَعوا آثارَ آبائِهِم، واقْتَدَوا بالأُمَمِ أشْياعِهم [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/127). .
- قَولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ إكمالٌ للعِلَّةِ والتَّسليةِ والعِبْرةِ، والمعنى: أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي: رُسُلًا يُنذِرونَهم، أي: يُحَذِّرونَهم ما سيَحُلُّ بهم مِثلَ ما أرْسَلْناك إلى هؤلاءِ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/127). .
- قَولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ تَكريرُ القَسَمِ؛ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مَضمونِ كُلٍّ مِن الجُملتَينِ [503] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/195)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/128). .
- وأيضًا في قَولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ خصَّ المُرسَلينَ بوَصفِ المُنذِرينَ؛ لِمُناسَبةِ حالِ المُتحدَّثِ عنهم وأمثالِهم [504] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/128). .
- وفُرِّعَ على قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ قَولُه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، وهو خِطابٌ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تَرْشيحًا لِمَا في الكَلامِ السَّابِقِ مِن جانِبِ التَّسْليةِ والتَّثْبيتِ، مع التَّعْريضِ بالكَلامِ لِتَهديدِ المُشرِكينَ بذلك. ويجوزُ أنْ يكونَ الخِطابُ لكُلِّ مَن يَسمَعُ القُرآنَ؛ فشَمِلَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [505] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/128). .
- والأمْرُ بالنَّظَرِ مُستعمَلٌ في التَّعْجيبِ والتَّهْويلِ، فإنْ أُريدَ بالعاقِبةِ عاقِبَتُهم في الدُّنيا؛ فالنَّظَرُ بَصَريٌّ، وإنْ أُريدَ عاقِبَتُهم في الآخِرةِ كما يَقتَضيهِ السِّياقُ؛ فالنَّظَرُ قَلْبيٌّ، ولا مانِعَ مِن إرادةِ الأمْرَينِ، واستِعْمالِ المُشتَرَكِ في المَعْنَيَينِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/128). .
- وفي قَولِهِ: فَانْظُرْ ما يَقتَضي إهْلاكَهم، وسُوءَ عاقِبَتِهم [507] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/107، 108). .
- قَولُه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تَعْريفُ الْمُنْذَرِينَ تَعْريفُ العَهدِ، وهُمُ المُنذَرونَ الَّذين أُرسِلَ إليهم المُنذِرونَ، أي: فهُمُ الضَّالُّون المُعبَّرُ عنهم بأنَّهم أكثَرُ الأوَّلينَ [508] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/129). .
- والاستِفْهامُ في قَولِه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تَعْجيبيٌّ؛ للتَّفْظيعِ [509] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/129). .