موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (41-56)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ

غَريبُ الكَلِماتِ:

سَمُومٍ: أي: رِيحٍ حارَّةٍ تدخُلُ مَسامَّ الإنسانِ، وأصلُ (سمم): يدُلُّ على مَدخَلٍ في الشَّيءِ .
وَحَمِيمٍ: أي: ماءٍ حارٍّ شَديدِ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم) هنا: يدُلُّ على الحَرارةِ .
يَحْمُومٍ: أي: دُخَانٍ شَديدِ السَّوادِ، وأصلُ (حمم) هنا: يدُلُّ على الاسوِدادِ .
الْحِنْثِ الْعَظِيمِ: أي: الذَّنْبِ العَظيمِ، وهو الشِّركُ، وأصلُ (حنث): يدُلُّ على الإثْمِ والحَرَجِ .
زَقُّومٍ: الزَّقُّومُ: ثَمَرُ شَجَرةٍ خَبيثةٍ مُرَّةٍ كَريهةِ الطَّعمِ، يُكرَهُ أهلُ النَّارِ على تَناوُلِه، فهم يتزَقَّمونَه على أشَدِّ كراهيةٍ، ومنه قَولُهم: تزقَّمَ الطَّعامَ: إذا تناوَلَه على كُرهٍ ومَشقَّةٍ شَديدةٍ .
الْهِيمِ: أي: الإبِلِ العِطاشِ الَّتي أصابَها مَرَضٌ لا تَرْوَى معه مِنَ الماءِ، وأصلُ (هيم): يدُلُّ على عَطَشٍ شَديدٍ .
نُزُلُهُمْ: أي: رِزْقُهم وطَعامُهم، والنُّزُلُ: ما يُعَدُّ للضَّيفِ مِنَ الزَّادِ عندَ قُدومِه .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا حالَ أصحابِ الشِّمالِ وما أعدَّه لهم: وأصحابُ الشِّمالِ ما أفظَعَ شَأنَهم؛ فهم في رِيحٍ حارَّةٍ، وماءٍ شَديدِ الحَرارةِ، وظِلٍّ مِن دُخَانِ شَديدِ السَّوادِ، لا باردٍ ولا حَسَنِ المَنظَرِ!
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه الأسبابَ الَّتي أدَّت بهم إلى هذا المصيرِ، فيقولُ: إنَّهم كانوا في الدُّنيا مُترَفِينَ مُقبِلينَ على شَهَواتِهم، وكانوا مُقيمينَ على الشِّركِ باللهِ تعالى، وكانوا يَقولونَ مُنكِرينَ البَعثَ يومَ القيامةِ: أَئِذا مِتْنا وصِرْنا في قُبورِنا تُرابًا وعِظامًا أَئِنَّا لَمَبعوثونَ أحياءً مِن بَعدِ ذلك، أوَيُبعَثُ آباؤُنا الأوَّلونَ كذلك؟!
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يرُدَّ عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُنكِرينَ البَعثَ: إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرينَ لَمَجموعونَ إلى وَقتٍ مُحَدَّدٍ معلومٍ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله عزَّ وجلَّ ما سيُصيبُهم مِن العذابِ في هذا اليومِ، فيقولُ: ثمَّ إنَّكم -أيُّها الضَّالُّونَ المكذِّبونَ- لَآكِلونَ مِن شَجَرٍ مِنَ الزَّقُّومِ كَريهٍ مُرٍّ خَبيثٍ، فمَالِئونَ مِنه بُطونَكم؛ لشِدَّةِ جُوعِكم، فشارِبونَ على هذا الشَّجَرِ شَرابًا مُغْلًى شديدَ الحَرارةِ، فشارِبونَ مِن هذا الحَميمِ شُربَ الإبِلِ العِطاشِ الَّتي لا تَرْوَى مِن الماءِ لمرضٍ أصابها، وهذا الطَّعامُ والشَّرابُ هو ما أُعِدَّ لأولئك الضَّالِّينَ المُكَذِّبينَ عِندَ مَقْدَمِهم يَومَ القيامةِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى حالَ أصحابِ اليمينِ؛ عطَف عليهم بذكرِ أصحابِ الشِّمالِ، وتَفصيلِ أحوالِهم الَّتي أُشيرَ عندَ التَّنويعِ إلى هَولِها وفَظاعتِها، فقال :
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41).
أي: وأصحابُ الشِّمالِ ما أفظَعَ شَأنَهم! وما أسوَأَ حالَهم !
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَمَّهم وعابَهم، ذَكَر عَذابَهم؛ لِيُعلَمَ أنَّ القِسمَ الأشَدَّ منهم في الشُّؤمِ أشَدُّ عَذابًا؛ فقال :
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42).
أي: هم في رِيحٍ شَديدةِ الحَرارةِ، وشَرابٍ بَالِغِ الغايةِ في الحَرارةِ !
كما قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19، 20].
وقال سُبحانَه: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15].
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43).
أي: وفي ظِلٍّ مِن دُخَانِ شَديدِ السَّوادِ !
قال تعالى: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات: 29 - 31] .
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المعهودُ مِنَ الظِّلِّ البَردَ والإراحةَ؛ نفَى ذلك عنه، فقال :
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44).
أي: وهو ظِلٌّ غيرُ باردٍ، وليس بحَسَنِ المَنظَرِ !
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر -جلَّ وعلا- ما أعَدَّ لأصحابِ الشِّمالِ مِن العذابِ؛ بَيَّن بعضَ أسبابِه ، فقال:
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45).
أي: إنَّ أصحابَ الشِّمالِ كانوا في الدُّنيا قبْلَ أن يُصيبَهم هذا العَذابُ في تنَعُّمٍ وإسرافٍ وإقبالٍ على الشَّهَواتِ؛ فاستحَقُّوا تلك العُقوباتِ .
قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] .
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46).
أي: وكانوا في الدُّنيا مُستَمِرِّينَ على الإقامةِ على الذَّنْبِ العَظيمِ، وهو الشِّركُ باللهِ تعالى .
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47).
أي: وكانوا يَقولونَ إنكارًا للبَعثِ يومَ القيامةِ: أَئِذا مِتْنا وصِرْنا في قُبورِنا تُرابًا وعِظامًا أَئِنَّا لَمَبعوثونَ أحياءً مِن بَعدِ ذلك ؟!
أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48).
أي: وهل يُبعَثُ أيضًا آباؤُنا الأوَّلونَ ؟!
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى استِفهامَهم عن البَعثِ على طَريقِ الاستِبعادِ والإنكارِ؛ أمَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخبِرَهم ببَعثِ العالَمِ -أوَّلِهم وآخِرِهم- للحِسابِ، وبما يَصِلُ إليه المُكَذِّبونَ للبَعثِ مِنَ العَذابِ .
وأيضًا لَمَّا جَرى تَعليلُ ما يُلاقِيه أصحابُ الشِّمالِ مِن العذابِ بما كانوا عليه مِن كُفْرانِ النِّعمةِ، وكان المقصودُ مِن ذلك وَعيدَ المُشرِكين، وكان إنكارُهم البعثَ أدخَلَ في استِمرارِهم على الكفْرِ -أمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُخاطِبَهم بتَحقيقِ وُقوعِ البعثِ، وشُمولِه لهم ولآبائِهم ولجَميعِ الناسِ ، فقال:
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُنكِرينَ للبَعثِ: إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرينَ مِنكم أو مِن غَيرِكم .
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50).
أي: لَمَجموعونَ بالبَعثِ والحَشرِ إلى وَقتٍ مُحَدَّدٍ عِندَ اللهِ تعالى، وهو يومُ القيامةِ .
قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] .
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51).
أي: ثمَّ إنَّكم بعْدَ بَعثِكم أيُّها الضَّالُّونَ عن طَريقِ الهُدى، المكذِّبونَ بالحَقِّ .
لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52).
أي: لَآكِلونَ مِن شَجَرٍ كَريهِ المَنظَرِ والطَّعْمِ والرَّائِحةِ !
كما قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الصافات: 62 - 66] .
فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53).
أي: فمَالِئونَ مِن شَّجَرِ الزقُّومِ بُطونَكم؛ لشِدَّةِ جُوعِكم، واضطِرارِكم للأكْلِ .
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ أكْلَهم؛ أتْبَعَه مَشْرَبَهم .
وأيضًا لَمَّا كان مَن يأكُلُ كَثيرًا يَعطَشُ عَطشًا شَديدًا، فيَشرَبُ ما قَدَر عليه؛ رَجاءَ تَبريدِ ما به مِن حَرارةِ العَطَشِ- سَبَّبَ عنه قَولَه تعالى :
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54).
أي: فشارِبونَ على هذا الزَّقُّومِ الَّذي مَلأْتُم به بُطونَكم شَرابًا مُغْلًى قد بَلَغ النِّهايةَ في الحَرارةِ !
كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 67، 68].
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان شُربُهم لأدنى قَطرةٍ مِن ذلك في غايةِ العَجَبِ؛ أتْبَعَه ما هو أعجَبُ منه، وهو شِدَّةُ تمَلُّئِهم منه؛ فقال مُسَبِّبًا عَمَّا مضى :
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55).
أي: فشارِبونَ مِن هذا الحَميمِ شُربَ الإبِلِ العِطاشِ الَّتي أصابَها مَرَضٌ لا تَرْوَى معه مِن الماءِ !
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان كأنَّه قيل: هذا عَذابُهم كُلُّه؟! قيل تهكُّمًا بهم، ونِكايةً لهم :
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56).
أي: هذا الطَّعامُ والشَّرابُ مِن الزَّقُّومِ والحَميمِ هو ضيافةُ أولئك الضَّالِّينَ المُكَذِّبينَ، المُعَدَّةُ لهم عندَ مَقْدَمِهم، وذلك في يَومِ القيامةِ الَّذي يُحاسِبُ اللهُ فيه عِبادَه، ويُجازيهم على أعمالِهم .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ نَفْيُ محاسِنِ الظِّلالِ عن أصحابِ الشِّمالِ؛ ففيه تذكيرٌ للسَّامِعينَ بما حُرِمَ منه أصحابُ الشِّمالِ؛ عسى أن يَحذَروا أسبابَ الوُقوعِ في الحِرْمانِ، ولإفادة هذا التَّذكيرِ عُدِلَ عن وصْفِ الظِّلِّ بالحرارةِ والمَضرَّةِ إلى وصْفِه بنَفْيِ البرْدِ ونفْيِ الكرَمِ .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ فيه ذَمُّ التَّرَفِ والتَّنَعُّمِ في الدُّنيا، والتَّرَفُ طريقٌ إلى البَطالةِ، وتَرْكِ التَّفَكُّرِ في العاقِبةِ .
3- الإسرافُ في المباحاتِ منهيٌّ عنه، كما قال تعالى عن أصحابِ النَّارِ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- لَمَّا كانتِ اليمينُ جهةَ الخَيرِ والفَلاحِ -وأهلُها هم النَّاجون- أُفْرِدَتْ؛ لأنَّ طريقَ الحقِّ واحدٌ؛ إذ مرَدُّه إلى الله الملكِ الحقِّ، ولَمَّا كانتِ الشِّمالُ جهةَ أهلِ الباطلِ -وهم أصحابُ الشِّمالِ- جُمِعَتْ في قَولِه: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [النحل: 48] ؛ لأنَّ طرقَ الباطلِ متشعِّبةٌ متعدِّدةٌ؛ فإنْ قيلَ: فهَلَّا كذلك في قَولِه: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ؟ وما بالُها جاءتْ مُفرَدةً؟
الجوابُ: جاءتْ مُفرَدةً؛ لأنَّ المرادَ أهلُ هذه الجهةِ، ومصيرُهم، ومآلُهم إلى جهةٍ واحدةٍ؛ وهي جهةُ الشِّمالِ؛ مُسْتَقَرُّ أهلِ النَّارِ، والنَّارُ مِن جهةِ الشِّمالِ؛ فلا يَحْسُنُ مجيئُها مجموعةً؛ لأنَّ الطُّرُقَ الباطلةَ -وإنْ تَعَدَّدَتْ- فغايتُها المَرَدُّ إلى طريقِ الجحيمِ، وهي جهةُ الشِّمالِ .
2- في قَولِه تعالى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ هذه الآياتُ تَضمَّنَتْ ذِكْرَ ما يُتبَرَّدُ به في الدُّنيا مِن الكَرْبِ والحَرِّ، وهو ثلاثةٌ: الماءُ، والهواءُ، والظِّلُّ؛ فهواءُ جَهنَّمَ: السَّمُومُ، وهو الرِّيحُ الحارَّةُ الشَّديدةُ الحَرِّ، وماؤُها: الحميمُ الَّذي قد اشتَدَّ حَرُّهُ، وظِلُّها: اليَحْمومُ، وهو قِطَعُ دُخَانِها ، كأنَّه قيل: أبرَدُ الأشياءِ في الدُّنيا حارٌّ عِندَهم، فكيف أحَرُّها ؟!
3- لم يقُلِ الله سبحانَه في حقِّ أصحابِ اليمينِ: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] كما قاله عزَّ وجلَّ في حقِّ السَّابقينَ؛ رمزًا إلى أنَّ الفضلَ في حَقِّهم مُتمَحِّضٌ، كأنَّ عمَلَهم -لقُصورِه عن عملِ السَّابقينَ- لم يُعتبَرِ اعتِبارَه .
4- النَّارُ محلُّ ذوي الشَّهواتِ الَّذين ليس لهم همٌّ إلَّا اتِّباعُ شهواتِهم، ولذلك أكثرُ مَن يَدخُلُ النَّارَ المُترَفونَ؛ فالتَّرَفُ سبَبٌ للتَّلَفِ، كما قال تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ سُؤالٌ: أنَّ إصرارَهم على الحِنْثِ وإنكارَهم البَعثَ لا يَخفى تَسَبُّبُه في العَذابِ؛ لأنَّ اللهَ توَعَّدَهم عليه فلم يُقلِعوا عنه، وإنَّما يَبقى النَّظَرُ في قَولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ؛ فإنَّ التَّرَفَ في العَيشِ ليس جريمةً في ذاتِه، وكم مِن مُؤمِنٍ عاش في تَرَفٍ؟! وليس كُلُّ كافِرٍ مُترَفًا في عَيشِه، فلا يكونُ التَّرَفُ سَبَبًا مُستَقِلًّا في تسَبُّبِ الجزاءِ الَّذي عُومِلوا به، فما وجْهُ ذلك؟
الجَوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الإترافَ سَبَبٌ باعتِبارِ ضَميمةِ ما ذُكِرَ بَعْدَه إليه، بأنْ كان إصرارُهم على الحِنْثِ وتكذيبُهم بالبَعثِ جَريمتَينِ عَظيمتَينِ؛ لأنَّهما مَحفوفتانِ بكُفرِ نِعمةِ التَّرَفِ الَّتي خَوَّلَهم اللهُ إيَّاها، على نَحوِ قَولِه تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] ، فيكونُ الإترافُ جُزءَ سَبَبٍ، وليس سَبَبًا مُستَقِلًّا، وفي هذا مِن معنى قَولِه تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] .
الثَّاني: أنَّ التَّرَفَ في العَيشِ عَلَّقَ قُلوبَهم بالدُّنيا، واطمأَنُّوا بها؛ فكان ذلك مُمْليًا على خَواطِرِهم إنكارَ الحياةِ الآخِرةِ، فيَكونُ المرادُ التَّرَفَ الَّذي هذا الإنكارُ عارِضٌ له وشَديدُ المُلازَمةِ له، فوِزانُه وِزانُ قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] .
 فجُعِلَ أهلُ الشِّمالِ مُترَفِينَ؛ لأنَّهم لا يخلو واحِدٌ منهم عن تَرَفٍ -ولو في بَعضِ أحوالِه وأزمانِه- مِن نِعَمِ الأكْلِ والشُّرْبِ، والنِّساءِ، وكُلُّ ذلك جديرٌ بالشُّكرِ لواهِبِه، وهم قد لابَسوا ذلك بالإشراكِ في جميعِ أحوالِهم، أو لأنَّهم لَمَّا قَصَروا أنظارَهم على التَّفكيرِ في العِيشةِ العاجِلةِ صَرَفَهم ذلك عن النَّظَرِ والاستِدلالِ على صِحَّةِ ما يدعوهم إليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهذا وجْهُ جَعْلِ التَّرَفِ في الدُّنيا من أسبابِ جَزائِهم الجَزاءَ المذكورَ .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَطيفةٌ: وهي أنَّه أشار في الآياتِ الثَّلاثِ إلى الأُصولِ الثَّلاثةِ؛ فقَولُه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ -مِن حيثُ الاستِعمالُ- يدُلُ على ذَمِّهم بإنكارِ الرُّسُلِ؛ إذ المُترَفُ مُتكَبِّرٌ بسَبَبِ الغِنى، فيُنكِرُ الرِّسالةَ. والمُترَفونَ كانوا يَقولونَ: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ [القمر: 24]. وقَولُه: يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ إشارةٌ إلى الشِّركِ ومخالفةِ التَّوحيدِ. وقَولُه تعالى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا إشارةٌ إلى إنكارِ الحَشرِ والنَّشْرِ .
7- أنَّ الجَدَّ يُسمَّى أبًا؛ لأنَّهم قالوا: أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، وآباؤُهم الأَوَّلونَ أجدادٌ سابِقونَ، فالجَدُّ يُسمَّى أبًا، ويَتفرَّعُ على ذلك مَسألةٌ فَرَضيَّةٌ، وهي: أنَّ الجَدَّ يُسقِطُ الإِخْوةَ، أشقَّاءَ كانوا، أمْ لأبٍ، أمْ لأمٍّ .
8- قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ، والنُّزُلُ: هو ما يُعَدُّ للضَّيفِ عندَ قُدومِه، فدَلَّت هذه الآياتُ على أنَّ أهلَ النَّارِ يُتحَفونَ عندَ دُخولِها بالأكْلِ مِن شَجَرةِ الزَّقُّومِ، والشُّربِ مِن الحَميمِ، وهم إنَّما يُساقُونَ إلى جَهنَّمَ عِطاشًا !

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ
- في هذا الاستِفهامِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ تَعظيمُ مُصابِهم .
- وأُتْبِعَ الإبهامُ الَّذي في قولِه: مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ بما يُبيِّنُ بَعضَه .
- قولُه: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ وصْفُ الظِّلِّ بأنَّه مِن يَحمومٍ؛ للإشعارِ بأنَّه ظِلُّ دُخَانِ لهَبِ جهنَّمَ، والدُّخَانُ الكثيفُ له ظِلٌّ؛ لأنَّه بكَثافتِه يَحجُبُ ضَوءَ الشَّمسِ، وإنَّما ذُكِرَ مِن الدُّخَانِ ظِلُّه لمُقابَلتِه بالظِّلِّ الممدودِ المُعَدِّ لأصحابِ اليمينِ في قولِه: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: 30] ، أي: لا ظِلَّ لأصحابِ الشِّمالِ سِوى ظِلِّ اليَحْمومِ، وهذا مِن قَبيلِ التَّهكُّمِ، ولتَحقيقِ معْنى التَّهكُّمِ وُصِفَ هذا الظِّلُّ بما يُفيدُ نفْيَ البرْدِ عنه ونفْيَ الكرَمِ، فبرْدُ الظِّلِّ ما يَحصُلُ في مَكانِه مِن دفْعِ حَرارةِ الشمْسِ، وكرَمُ الظِّلِّ ما فيه مِن الصِّفاتِ الحَسَنةِ في الظِّلالِ؛ مِثل سَلامتِه مِن هبُوبِ السَّمومِ عليه، وسَلامةِ الموضعِ الَّذي يُظِلُّه مِن الحشراتِ والأوساخِ، وسَلامةِ أرْضِه مِن الحجارةِ ونحْوِ ذلك؛ إذ الكريمُ مِن كلِّ نوعٍ هو الجامعُ لأكثرِ مَحاسِنِ نَوعِه، فوُصِفَ ظِلُّ اليَحمومِ بوصْفٍ خاصٍّ، وهو انتفاءُ البُرودةِ عنه، وأُتبِعَ بوصْفٍ عامٍّ، وهو انتفاءُ كَرامةِ الظِّلالِ عنه .
أو هذا تَتْميمٌ لنفْيِ كَرامةِ مَن يَستروِحُ إليه، والمرادُ همْ، أي: يَستظِلُّون إليه وهم مُهانون، وقد يُحتمَلُ المجلسُ الرَّديءُ لنَيلِ الكرامةِ. وقد يجوزُ أنْ يكونَ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ صِفةً لـ يَحْمُومٍ، وَيلزَمُ منه أنْ يكونَ الظِّلُّ مَوصوفًا بذلك .
- وفي قولِه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّعريضِ ، وهو أنَّ الَّذين يَستأْهِلون الظِّلَّ الَّذي فيه بَرْدٌ وإكرامٌ غيرُ هؤلاء، فيَكونُ أشْجَى لحُلوقِهم، وأدْعَى لتَحسُّرِهم .
- وفي قولِه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ مُقابَلةٌ خَفيَّةٌ كامِنةٌ فيما بيْن سُطورِ هذا الكلامِ العجيبِ؛ فهؤلاء الَّذين أمْسَوا بهذه المَثابةِ كانوا في الدُّنيا يَعيشون غارِقين في التَّرَفِ، مُتقلِّبين في أعطافِه، فإذا بهم وقد لَفَّهم السَّمومُ واليَحْمومُ، يَتذكَّرون ما كانوا فيه، ويُقابِلون بيْنه وبيْن حالتِهم الرَّاهنةِ، والتَّجسيدُ والتَّخييلُ حاضرانِ مُهيَّآنِ أمامَهم .
2- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ تَعليلٌ لِما يَلقاهُ أصحابُ الشِّمالِ مِن العذابِ، فيَتعيَّنُ أنَّ ما تَضمَّنَه هذا التَّعليلُ كان مِن أحوالِ كُفْرِهم، وأنَّه ممَّا له أثرٌ في إلحاقِ العذابِ بهم؛ بقَرينةِ عطْفِ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ... وَكَانُوا يَقُولُونَ إلخ عليه .
- وصِيغةُ المُضارِعِ في يُصِرُّونَ ويَقُولُونَ تُفِيدُ تَكرُّرَ الإصرارِ والقولِ مِنْهم .
- وذِكرُ فِعلِ (كَانُوا)؛ لإفادةِ أنَّ ذلك دَيدنُهم .
3- قولُه تعالَى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ الاستِفهامُ في قولِهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا استفهامٌ إنكاريٌّ؛ كِنايةً عن الإحالةِ والاستبعادِ .
- وتَقديمُ التُّرابِ؛ لعَراقتِه في الاستِبعادِ، وانْقلابِه مِن الأجْزاءِ الباديةِ .
- وأُعيدَ الاستِفهامُ في قولِه: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؛ تَوكيدًا للاستبعادِ والإنكارِ، وللدَّلالةِ على إنكارِ البعثِ مُطلقًا .
- وتَحليةُ الجُملةِ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بـ (إنَّ) لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التَّأكيدِ؛ كما عسَى يُتوَهَّمُ مِن ظاهِرِ النَّظمِ؛ فإنَّ تَقديمَ الهَمزةِ لاقتِضائِها الصَّدارةَ -كما في مِثلِ قولِه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، ومعناه: تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التَّعقيبِ، ومَرجِعُه إلى إنكارِ البَعثِ بعدَ تِلك الحالةِ، وفيه مِن الدَّلالةِ على غُلوِّهم في الكُفْرِ وتَماديهم في الضَّلالِ ما لا مَزيدَ عليه .
- وتَكريرُ الهَمزةِ في قولِه تعالَى: أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ؛ لتأْكيدِ النَّكيرِ والاستبعادِ، والواوُ للعطْفِ على المُستكِنِّ في لَمَبْعُوثُونَ، وحسُنَ العطْفُ على المُضمَرِ في لَمَبْعُوثُونَ مِن غيرِ تأكيدٍ بـ (نحن)؛ لوُجودِ الفاصلِ الَّذي هو الهمزةُ . وهذه الهَمزةُ على قِراءةِ بَعضِ القُرَّاءِ أَوْ بسُكونِ الواوِ ؛ فمعْنى الآيةِ: استِبعادُ أنْ يُبعَثوا همْ وآباؤهم على حدٍّ واحدٍ مِن الاستبعادِ. وعلى قِراءةِ الجُمهورِ: أَوَآَبَاؤُنَا بتَحريكِ الواوِ، على أنَّها واوُ العطْفِ دخَلَ عليها ألِفُ الاستِفهامِ، ومعْناها: شِدَّةُ الاستبعادِ في الآباءِ، كأنَّهم استَبْعَدوا أنْ يُبعَثوا، ثمَّ أتَوا بذِكرِ مَنِ البعثُ فيهم أبعَدُ، وهذا بيِّنٌ لأهلِ العلمِ بلِسانِ العربِ .
4- قولُه تعالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
- قولُه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ افتُتِحَ الكلامُ بالأمْرِ بالقولِ؛ للاهتِمامِ به، كما افتُتِحَ به نَظائرُه في آياتٍ كثيرةٍ؛ لِيَكونَ ذلك تَبليغًا عن اللهِ تعالى، فيكون قولُه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ إلخ استئنافًا ابتدائيًّا لِمُناسَبةِ حِكايةِ قَولِهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا [الواقعة: 47] الآيةَ .
- وفي تَقديمِ الأوَّلِينَ مُبالَغةٌ في الرَّدِّ؛ حيثُ كان إنكارُهم لبَعثِ آبائِهم أشدَّ مِن إنكارِهم لبَعْثِهم، مع مُراعاةِ التَّرتيبِ الوُجوديِّ .
- قولُه: لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ معْناهُ أنَّهم يُبعَثون ويُحشَرون جميعًا، وهذا إبطالٌ لِما اقتضاهُ عطْفُ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ في كَلامِهم مِنِ اسْتِنتاجِ استِبعادِ البَعثِ؛ لأنَّهم عَدُّوا سبْقَ مَن سبَقَ مَوتُهم أدَلَّ على تَعذُّرِ بَعثِهم بعْدَ أنْ مَضَت عليهم القرونُ ولم يُبعَثْ فريقٌ منهم إلى يومِ هذا القيلِ .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لرَدِّ إنكارِهم مَضمونَه .
- وقد ضُمِّنَ لَمَجْمُوعُونَ معْنى (مَسوقون)؛ فتَعلَّقَ به مَجرورُه بحرْفِ (إلى) للانتهاءِ، وإلَّا فإنَّ ظاهرَ (مَجمُوعون) أنْ يُعدَّى بحرْفِ (في). وأفاد تَعليقُ مَجرورِ لَمَجْمُوعُونَ به بواسطةِ (إلى) أنَّه مُسيَّرٌ إليه حتَّى يَنْتهيَ إليه؛ فدلَّ على مَكانٍ، وهذا مِن الإيجازِ .
- وإضافةُ مِيقَاتِ إلى يَوْمٍ مَعْلُومٍ؛ لأنَّ التَّجمُّعَ واقعٌ في ذلك اليَومِ، وإذ كان التَّجمُّعُ الواقعُ في اليومِ واقعًا في ذلك المِيقاتِ، كانت بيْنَ المِيقاتِ واليومِ مُلابَسةٌ صحَّحت إضافةَ المِيقاتِ إليه لأدْنى مُلابَسةٍ، وهذا أدقُّ مِن جَعْلِ الإضافةِ بَيانيَّةً، وهذا تَعريضٌ بالوعيدِ بما يَلْقَونه في ذلك اليومِ الَّذي جَحَدوه .
5- قولُه تعالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ
- قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ، هذا مِن جُملةِ ما أُمِرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَقولَه لهم، و(ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ فإنَّ في التَّصريحِ بتَفصيلِ جَزائِهم في ذلك اليومِ ما هو أعظَمُ وقْعًا في النُّفوسِ مِن التَّعريضِ الإجماليِّ بالوعيدِ الَّذي استُفِيدَ مِن قولِه: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ [الواقعة: 49، 50]، وهذا التَّراخي الرُّتبيُّ بمَنزلةِ الاعتِراضِ بيْن جُملةِ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ [الواقعة: 49] وجُملةِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 57] .
- قولُه: أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، نِداؤُهم بهذَين الوصْفينِ إيماءٌ إلى أنَّهما سبَبُ ما لَحِقَهم مِن الجزاءِ السَّيِّئِ .
- والمقصودُ مِن قولِه: فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ تَفظيعُ حالِهم في جَزائِهم على ما كانوا عليه مِن التَّرَفِ في الدُّنيا بمَلْءِ بُطونِهم بالطَّعامِ والشَّرابِ مَلْئًا أنْساهم إقبالَهم عليه، ومنَعهم مِن التَّفكُّرِ في مَصيرِهم. وقد زِيدَ تَفظيعًا بالتَّشبيهِ في قولِه: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ .
- يَجوزُ أنْ يكونَ (علَى) في قولِه: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ للاستِعلاءِ، أي: شارِبون فوقَه الحميمَ، ويَجوزُ مع ذلك استِفادةُ معْنى (مع) مِن حرْفِ (علَى) تَعجيبًا مِن فَظاعةِ حالِهم، أي: يَشرَبون هذا الماءَ المُحرِقَ مع ما طَعِموه مِن شجَرِ الزَّقُّومِ، فيُفيدُ أنَّهم يَتجرَّعونه، ولا يَستطيعونَ امتِناعًا .
- والفاءُ في قولِه: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ عطْفٌ على لَآَكِلُونَ؛ لإفادةِ تَعقيبِ أكْلِ الزَّقُّومِ بـ شُرْبَ الْهِيمِ دونَ فَتْرةٍ ولا استراحةٍ، وإعادةُ فَشَارِبُونَ تَوكيدٌ لَفظيٌّ لنَظيرِه، وفائدةُ هذا التَّوكيدِ زيادةُ تَقريرِ ما في هذا الشُّربِ مِن الأعجوبةِ، وهي أنَّه مع كَراهتِه يَزدادونَ منه، فيَزيدُهم تَقطيعًا لأمعائِهم؛ لإفادةِ التَّعجيبِ مِن حالِهم تَعجيبًا ثانيًا بعْدَ الأوَّلِ؛ فإنَّ كَونَهم شارِبين للحَميمِ على ما هو عليه مِن تَناهي الحرارةِ أمْرٌ عَجيبٌ، وشُرْبُهم له كما تَشرَبُ الإبلُ الهِيمُ في الإكثارِ أمْرٌ عَجيبٌ أيضًا؛ فكانتَا صِفَتينِ مُختلفتَينِ .
- وجملةُ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ مَسوقةٌ مِن جِهَتِه تعالَى بطَريقِ الفذْلَكةِ ، مُقرِّرةٌ لمَضمونِ الكَلامِ المُلقَّنِ، غَيرُ داخلةٍ تَحتَ القولِ .
- والكلامُ أيضًا اعتِراضٌ بيْن جُمَلِ الخِطابِ، موجَّهٌ إلى السَّامِعينَ غيرِهم؛ فليس في ضَميرِ الغَيبةِ الْتِفاتٌ .
- قولُه: هَذَا نُزُلُهُمْ تَشبيهٌ تَهكُّميٌّ؛ فقد سمَّى الجحيمَ وما فيه مِن صُنوفِ العذابِ وضُروبِ الأهوالِ نُزُلًا تَهكُّمًا بهم؛ لأنَّ النُّزُلَ ما يُعَدُّ للنَّازلِ تَكرمةً له، كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] .
- وجَعْلُ يومِ الدِّينِ وقْتًا لنُزُلِهم مُؤْذِنٌ بأنَّ ذلك الَّذي عُبِّر عنه بالنُّزُلِ جَزاءٌ على أعمالِهم، وهذا تَجريدٌ للتَّشبيهِ التَّهكُّميِّ، وهو قَرينةٌ على التَّهكُّمِ .