موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (41-56)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ

غَريبُ الكَلِماتِ:

سَمُومٍ: أي: رِيحٍ حارَّةٍ تدخُلُ مَسامَّ الإنسانِ، وأصلُ (سمم): يدُلُّ على مَدخَلٍ في الشَّيءِ [215] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 449)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 465)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 424)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 206). .
وَحَمِيمٍ: أي: ماءٍ حارٍّ شَديدِ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم) هنا: يدُلُّ على الحَرارةِ [216] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 254). .
يَحْمُومٍ: أي: دُخَانٍ شَديدِ السَّوادِ، وأصلُ (حمم) هنا: يدُلُّ على الاسوِدادِ [217] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 449)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 326)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 255)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 311)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 596). .
الْحِنْثِ الْعَظِيمِ: أي: الذَّنْبِ العَظيمِ، وهو الشِّركُ، وأصلُ (حنث): يدُلُّ على الإثْمِ والحَرَجِ [218] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 449)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 537)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 260)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 388)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 311)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 411). .
زَقُّومٍ: الزَّقُّومُ: ثَمَرُ شَجَرةٍ خَبيثةٍ مُرَّةٍ كَريهةِ الطَّعمِ، يُكرَهُ أهلُ النَّارِ على تَناوُلِه، فهم يتزَقَّمونَه على أشَدِّ كراهيةٍ، ومنه قَولُهم: تزقَّمَ الطَّعامَ: إذا تناوَلَه على كُرهٍ ومَشقَّةٍ شَديدةٍ [219] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/16)، ((تفسير الثعلبي)) (8/145)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 492). .
الْهِيمِ: أي: الإبِلِ العِطاشِ الَّتي أصابَها مَرَضٌ لا تَرْوَى معه مِنَ الماءِ، وأصلُ (هيم): يدُلُّ على عَطَشٍ شَديدٍ [220] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 450)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/26)، ((المفردات)) للراغب (ص: 848)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 964). .
نُزُلُهُمْ: أي: رِزْقُهم وطَعامُهم، والنُّزُلُ: ما يُعَدُّ للضَّيفِ مِنَ الزَّادِ عندَ قُدومِه [221] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 450)، ((المفردات)) للراغب (ص: 800). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا حالَ أصحابِ الشِّمالِ وما أعدَّه لهم: وأصحابُ الشِّمالِ ما أفظَعَ شَأنَهم؛ فهم في رِيحٍ حارَّةٍ، وماءٍ شَديدِ الحَرارةِ، وظِلٍّ مِن دُخَانِ شَديدِ السَّوادِ، لا باردٍ ولا حَسَنِ المَنظَرِ!
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه الأسبابَ الَّتي أدَّت بهم إلى هذا المصيرِ، فيقولُ: إنَّهم كانوا في الدُّنيا مُترَفِينَ مُقبِلينَ على شَهَواتِهم، وكانوا مُقيمينَ على الشِّركِ باللهِ تعالى، وكانوا يَقولونَ مُنكِرينَ البَعثَ يومَ القيامةِ: أَئِذا مِتْنا وصِرْنا في قُبورِنا تُرابًا وعِظامًا أَئِنَّا لَمَبعوثونَ أحياءً مِن بَعدِ ذلك، أوَيُبعَثُ آباؤُنا الأوَّلونَ كذلك؟!
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يرُدَّ عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُنكِرينَ البَعثَ: إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرينَ لَمَجموعونَ إلى وَقتٍ مُحَدَّدٍ معلومٍ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله عزَّ وجلَّ ما سيُصيبُهم مِن العذابِ في هذا اليومِ، فيقولُ: ثمَّ إنَّكم -أيُّها الضَّالُّونَ المكذِّبونَ- لَآكِلونَ مِن شَجَرٍ مِنَ الزَّقُّومِ كَريهٍ مُرٍّ خَبيثٍ، فمَالِئونَ مِنه بُطونَكم؛ لشِدَّةِ جُوعِكم، فشارِبونَ على هذا الشَّجَرِ شَرابًا مُغْلًى شديدَ الحَرارةِ، فشارِبونَ مِن هذا الحَميمِ شُربَ الإبِلِ العِطاشِ الَّتي لا تَرْوَى مِن الماءِ لمرضٍ أصابها، وهذا الطَّعامُ والشَّرابُ هو ما أُعِدَّ لأولئك الضَّالِّينَ المُكَذِّبينَ عِندَ مَقْدَمِهم يَومَ القيامةِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى حالَ أصحابِ اليمينِ؛ عطَف عليهم بذكرِ أصحابِ الشِّمالِ، وتَفصيلِ أحوالِهم الَّتي أُشيرَ عندَ التَّنويعِ إلى هَولِها وفَظاعتِها، فقال [222] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/537)، ((تفسير أبي السعود)) (8/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/304). :
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41).
أي: وأصحابُ الشِّمالِ ما أفظَعَ شَأنَهم! وما أسوَأَ حالَهم [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/334)، ((تفسير ابن عطية)) (5/240، 245)، ((تفسير القرطبي)) (17/213)، ((تفسير ابن كثير)) (7/537)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834). وقال السعدي: (المرادُ بأصحابِ الشِّمالِ: هم أصحابُ النَّارِ، والأعمالِ المَشؤومةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 834). قيل: سُمُّوا بأصحابِ الشِّمالِ؛ لأنَّهم يُؤخَذُ بهم ذاتَ الشِّمالِ مِن مَوقِفِ الحِسابِ إلى النَّارِ. وقيل: لأنَّهم على شِمالِ العَرشِ، وهنالك هي النَّارُ. وقيل: لأنَّهم يَأخُذونَ كُتُبَهم بشَمائِلِهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/334)، ((تفسير ابن عطية)) (5/240)، ((تفسير القرطبي)) (17/213). قال ابنُ القيِّم: (مَصيرُهم ومآلُهم إلى جِهةٍ واحِدةٍ، وهي جِهةُ الشِّمالِ؛ مُستَقَرِّ أهلِ النَّارِ، والنَّارُ مِن جِهةِ الشِّمالِ). ((بدائع الفوائد)) (1/120). وقال البِقاعي: ([وهي] الجهةُ الَّتي تَتشاءَمُ العربُ بها، وعُبِّر بها عن الشَّيءِ الأخَسِّ، والحظِّ الأنقَصِ). ((نظم الدرر)) (19/211). وذكر ابنُ كثيرٍ ما ظاهرُه الجمعُ بيْن هذه الأقوالِ، وهو أنَّ عامَّةَ أهلِ النَّارِ يومَ القيامةِ يَكونونَ عن يَسارِ العرشِ، وأنَّهم هم الَّذين خرَجوا مِن شقِّ آدَمَ الأيسَرِ، ويُؤْتَوْنَ كُتُبَهم بشَمائلِهم، ويُؤخَذُ بهم ذاتَ الشِّمالِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/515). !
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَمَّهم وعابَهم، ذَكَر عَذابَهم؛ لِيُعلَمَ أنَّ القِسمَ الأشَدَّ منهم في الشُّؤمِ أشَدُّ عَذابًا؛ فقال [224] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/212). :
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42).
أي: هم في رِيحٍ شَديدةِ الحَرارةِ، وشَرابٍ بَالِغِ الغايةِ في الحَرارةِ [225] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/245)، ((تفسير ابن كثير)) (7/537)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/304). قال القرطبي: (السَّمومُ: الرِّيحُ الحارَّةُ الَّتي تَدخُلُ في مَسامِّ البَدَنِ، والمرادُ هنا: حَرُّ النَّارِ ولَفْحُها). ((تفسير القرطبي)) (17/213). وقال ابنُ عاشور: (السَّمومُ: الرِّيحُ الشَّديدُ الحرارةِ الَّذي لا بَلَلَ معه، وكأنَّه مأخوذٌ مِنَ السُّمِّ، وهو ما يُهلِكُ إذا لاقى البَدَنَ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/304). !
كما قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19، 20].
وقال سُبحانَه: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15].
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43).
أي: وفي ظِلٍّ مِن دُخَانِ شَديدِ السَّوادِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/334)، ((تفسير القرطبي)) (17/213)، ((تفسير ابن كثير)) (7/537)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/304). !
قال تعالى: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات: 29 - 31] .
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المعهودُ مِنَ الظِّلِّ البَردَ والإراحةَ؛ نفَى ذلك عنه، فقال [227] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/212). :
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44).
أي: وهو ظِلٌّ غيرُ باردٍ، وليس بحَسَنِ المَنظَرِ [228] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/213)، ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 339). !
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر -جلَّ وعلا- ما أعَدَّ لأصحابِ الشِّمالِ مِن العذابِ؛ بَيَّن بعضَ أسبابِه [229] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/521). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 834). ، فقال:
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45).
أي: إنَّ أصحابَ الشِّمالِ كانوا في الدُّنيا قبْلَ أن يُصيبَهم هذا العَذابُ في تنَعُّمٍ وإسرافٍ وإقبالٍ على الشَّهَواتِ؛ فاستحَقُّوا تلك العُقوباتِ [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/337)، ((تفسير ابن عطية)) (5/246)، ((تفسير القرطبي)) (17/213)، ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 339). .
قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] .
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46).
أي: وكانوا في الدُّنيا مُستَمِرِّينَ على الإقامةِ على الذَّنْبِ العَظيمِ، وهو الشِّركُ باللهِ تعالى [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/338، 339)، ((الوسيط)) للواحدي (4/236)، ((تفسير القرطبي)) (17/213)، ((تفسير أبي حيان)) (10/86)، ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 339). .
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47).
أي: وكانوا يَقولونَ إنكارًا للبَعثِ يومَ القيامةِ: أَئِذا مِتْنا وصِرْنا في قُبورِنا تُرابًا وعِظامًا أَئِنَّا لَمَبعوثونَ أحياءً مِن بَعدِ ذلك [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/340)، ((تفسير القرطبي)) (17/214)، ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 340). ؟!
أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48).
أي: وهل يُبعَثُ أيضًا آباؤُنا الأوَّلونَ [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/340)، ((تفسير ابن عطية)) (5/246)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 340). ؟!
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى استِفهامَهم عن البَعثِ على طَريقِ الاستِبعادِ والإنكارِ؛ أمَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُخبِرَهم ببَعثِ العالَمِ -أوَّلِهم وآخِرِهم- للحِسابِ، وبما يَصِلُ إليه المُكَذِّبونَ للبَعثِ مِنَ العَذابِ [234] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/86). .
وأيضًا لَمَّا جَرى تَعليلُ ما يُلاقِيه أصحابُ الشِّمالِ مِن العذابِ بما كانوا عليه مِن كُفْرانِ النِّعمةِ، وكان المقصودُ مِن ذلك وَعيدَ المُشرِكين، وكان إنكارُهم البعثَ أدخَلَ في استِمرارِهم على الكفْرِ -أمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُخاطِبَهم بتَحقيقِ وُقوعِ البعثِ، وشُمولِه لهم ولآبائِهم ولجَميعِ الناسِ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/307). ، فقال:
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُنكِرينَ للبَعثِ: إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرينَ مِنكم أو مِن غَيرِكم [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/340)، ((تفسير القرطبي)) (17/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834). قيل: المرادُ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ مِن آبائِكم، وَالْآَخِرِينَ منكم. وممَّن قال بهذا: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/214). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الخازن)) (4/239). وقيل: المرادُ: الأوَّلونَ والآخِرونَ مِن جَميعِ بني آدَمَ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ كثير، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/46)، ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (2/228). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (10/86)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 340). وقيل: المرادُ بالأَوَّلينَ: الأُمَمُ الماضيةُ. وبالآخِرينَ: أمَّةُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ومِمَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/221)، ((تفسير السمرقندي)) (3/395). وقال الشَّوكاني: (قُلْ لهم يا محمَّدُ: إنَّ الأوَّلينَ مِن الأمَمِ، والآخِرينَ منهم الَّذين أنتم مِن جُملَتِهم). ((تفسير الشوكاني)) (5/185). .
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50).
أي: لَمَجموعونَ بالبَعثِ والحَشرِ إلى وَقتٍ مُحَدَّدٍ عِندَ اللهِ تعالى، وهو يومُ القيامةِ [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/340)، ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 340). قال ابنُ عاشور: (معنى لَمَجْمُوعُونَ: أنَّهم يُبعَثونَ ويُحشَرونَ جميعًا، وليس البَعثُ على أفواجٍ في أزمانٍ مُختَلِفةٍ كما كان موتُ النَّاسِ، بل يُبعَثُ الأوَّلونَ والآخِرونَ في يومٍ واحِدٍ ...). ((تفسير ابن عاشور)) (27/308). .
قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] .
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51).
أي: ثمَّ إنَّكم بعْدَ بَعثِكم أيُّها الضَّالُّونَ عن طَريقِ الهُدى، المكذِّبونَ بالحَقِّ [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/341)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 340). .
لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52).
أي: لَآكِلونَ مِن شَجَرٍ كَريهِ المَنظَرِ والطَّعْمِ والرَّائِحةِ [239] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/214)، ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 340). !
كما قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الصافات: 62 - 66] .
فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53).
أي: فمَالِئونَ مِن شَّجَرِ الزقُّومِ بُطونَكم؛ لشِدَّةِ جُوعِكم، واضطِرارِكم للأكْلِ [240] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/341)، ((تفسير القرطبي)) (17/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 341). .
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ أكْلَهم؛ أتْبَعَه مَشْرَبَهم [241] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/191). .
وأيضًا لَمَّا كان مَن يأكُلُ كَثيرًا يَعطَشُ عَطشًا شَديدًا، فيَشرَبُ ما قَدَر عليه؛ رَجاءَ تَبريدِ ما به مِن حَرارةِ العَطَشِ- سَبَّبَ عنه قَولَه تعالى [242] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/217). :
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54).
أي: فشارِبونَ على هذا الزَّقُّومِ الَّذي مَلأْتُم به بُطونَكم شَرابًا مُغْلًى قد بَلَغ النِّهايةَ في الحَرارةِ [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/342)، ((تفسير القرطبي)) (17/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 341). قال القرطبي: (قَولُه تعالى: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ أي: على الزَّقُّومِ، أو على الأكْلِ، أو على الشَّجَرِ؛ لأنَّه يُذكَّرُ ويُؤَنَّثُ). ((تفسير القرطبي)) (17/214). وقال ابن جرير: (قوله: فَمَالِئُونَ مِنْهَا مرادٌ به مِن الشَّجرِ، أنَّث للمعنَى، وقال: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا للَفظِ الشَّجرِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/342). !
كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 67، 68].
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان شُربُهم لأدنى قَطرةٍ مِن ذلك في غايةِ العَجَبِ؛ أتْبَعَه ما هو أعجَبُ منه، وهو شِدَّةُ تمَلُّئِهم منه؛ فقال مُسَبِّبًا عَمَّا مضى [244] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/217). :
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55).
أي: فشارِبونَ مِن هذا الحَميمِ شُربَ الإبِلِ العِطاشِ الَّتي أصابَها مَرَضٌ لا تَرْوَى معه مِن الماءِ [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/342، 343)، ((تفسير ابن كثير)) (7/538)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/217، 218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/310). !
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان كأنَّه قيل: هذا عَذابُهم كُلُّه؟! قيل تهكُّمًا بهم، ونِكايةً لهم [246] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/218). :
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56).
أي: هذا الطَّعامُ والشَّرابُ مِن الزَّقُّومِ والحَميمِ هو ضيافةُ أولئك الضَّالِّينَ المُكَذِّبينَ، المُعَدَّةُ لهم عندَ مَقْدَمِهم، وذلك في يَومِ القيامةِ الَّذي يُحاسِبُ اللهُ فيه عِبادَه، ويُجازيهم على أعمالِهم [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/345)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 834)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/311، 312). وقال البِقاعي: (هَذَا نُزُلُهُمْ أي: ما يُعَدُّ لهم أوَّلَ قُدومِهم مكانَ ما يُعَدُّ للضَّيفِ أوَّلَ حُلولِه؛ كرامةً له... وإذا كان هذا نُزُلَهم فما ظَنُّك بما يأتي بَعْدَه؟!). ((نظم الدرر)) (19/218). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ نَفْيُ محاسِنِ الظِّلالِ عن أصحابِ الشِّمالِ؛ ففيه تذكيرٌ للسَّامِعينَ بما حُرِمَ منه أصحابُ الشِّمالِ؛ عسى أن يَحذَروا أسبابَ الوُقوعِ في الحِرْمانِ، ولإفادة هذا التَّذكيرِ عُدِلَ عن وصْفِ الظِّلِّ بالحرارةِ والمَضرَّةِ إلى وصْفِه بنَفْيِ البرْدِ ونفْيِ الكرَمِ [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/305). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ فيه ذَمُّ التَّرَفِ والتَّنَعُّمِ في الدُّنيا، والتَّرَفُ طريقٌ إلى البَطالةِ، وتَرْكِ التَّفَكُّرِ في العاقِبةِ [249] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/85). .
3- الإسرافُ في المباحاتِ منهيٌّ عنه، كما قال تعالى عن أصحابِ النَّارِ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [250] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/133). وذكر ابنُ تيميَّةَ أنَّ الإسرافَ في المباحاتِ هو مُجاوَزةُ الحدِّ، وهو مِن العُدوانِ المحَرَّمِ، وكذلك فإنَّ الامتِناعَ مِن فِعلِ المُباحاتِ مُطلَقًا، كالَّذي يمتنِعُ مِن أكلِ اللَّحمِ أو لبسِ الكَتَّانِ والقُطنِ، ولا يَلبَسُ إلَّا الصُّوفَ، ويمتنِعُ مِن نكاحِ النِّساءِ، ويظُنُّ أنَّ هذا مِن الزُّهدِ المُستحَبِّ؛ فهذا جاهلٌ ضالٌّ، مِن جنسِ زُهَّادِ النَّصارى. أمَّا تَركُ فُضولِ المُباحاتِ -وهو ما لا يحتاجُ إليه لمصلحةِ دينِه- فهو مِن الزُّهدِ المُباحِ، ويُثابُ على تركِ فُضولِها. يُنظر: ((المصدر السابق)) (22/134). ويُنظر أيضًا: ((الموافقات)) للشاطبي (1/191). [الفرقان: 67] .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- لَمَّا كانتِ اليمينُ جهةَ الخَيرِ والفَلاحِ -وأهلُها هم النَّاجون- أُفْرِدَتْ؛ لأنَّ طريقَ الحقِّ واحدٌ؛ إذ مرَدُّه إلى الله الملكِ الحقِّ، ولَمَّا كانتِ الشِّمالُ جهةَ أهلِ الباطلِ -وهم أصحابُ الشِّمالِ- جُمِعَتْ في قَولِه: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [النحل: 48] ؛ لأنَّ طرقَ الباطلِ متشعِّبةٌ متعدِّدةٌ؛ فإنْ قيلَ: فهَلَّا كذلك في قَولِه: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ؟ وما بالُها جاءتْ مُفرَدةً؟
الجوابُ: جاءتْ مُفرَدةً؛ لأنَّ المرادَ أهلُ هذه الجهةِ، ومصيرُهم، ومآلُهم إلى جهةٍ واحدةٍ؛ وهي جهةُ الشِّمالِ؛ مُسْتَقَرُّ أهلِ النَّارِ، والنَّارُ مِن جهةِ الشِّمالِ؛ فلا يَحْسُنُ مجيئُها مجموعةً؛ لأنَّ الطُّرُقَ الباطلةَ -وإنْ تَعَدَّدَتْ- فغايتُها المَرَدُّ إلى طريقِ الجحيمِ، وهي جهةُ الشِّمالِ [251] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/120). .
2- في قَولِه تعالى: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ هذه الآياتُ تَضمَّنَتْ ذِكْرَ ما يُتبَرَّدُ به في الدُّنيا مِن الكَرْبِ والحَرِّ، وهو ثلاثةٌ: الماءُ، والهواءُ، والظِّلُّ؛ فهواءُ جَهنَّمَ: السَّمُومُ، وهو الرِّيحُ الحارَّةُ الشَّديدةُ الحَرِّ، وماؤُها: الحميمُ الَّذي قد اشتَدَّ حَرُّهُ، وظِلُّها: اليَحْمومُ، وهو قِطَعُ دُخَانِها [252] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/206). ، كأنَّه قيل: أبرَدُ الأشياءِ في الدُّنيا حارٌّ عِندَهم، فكيف أحَرُّها [253] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/406). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/409). ؟!
3- لم يقُلِ الله سبحانَه في حقِّ أصحابِ اليمينِ: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] كما قاله عزَّ وجلَّ في حقِّ السَّابقينَ؛ رمزًا إلى أنَّ الفضلَ في حَقِّهم مُتمَحِّضٌ، كأنَّ عمَلَهم -لقُصورِه عن عملِ السَّابقينَ- لم يُعتبَرِ اعتِبارَه [254] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/143). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/410). .
4- النَّارُ محلُّ ذوي الشَّهواتِ الَّذين ليس لهم همٌّ إلَّا اتِّباعُ شهواتِهم، ولذلك أكثرُ مَن يَدخُلُ النَّارَ المُترَفونَ؛ فالتَّرَفُ سبَبٌ للتَّلَفِ، كما قال تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 221)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن عثيمين (8/381). .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ سُؤالٌ: أنَّ إصرارَهم على الحِنْثِ وإنكارَهم البَعثَ لا يَخفى تَسَبُّبُه في العَذابِ؛ لأنَّ اللهَ توَعَّدَهم عليه فلم يُقلِعوا عنه، وإنَّما يَبقى النَّظَرُ في قَولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ؛ فإنَّ التَّرَفَ في العَيشِ ليس جريمةً في ذاتِه، وكم مِن مُؤمِنٍ عاش في تَرَفٍ؟! وليس كُلُّ كافِرٍ مُترَفًا في عَيشِه، فلا يكونُ التَّرَفُ سَبَبًا مُستَقِلًّا في تسَبُّبِ الجزاءِ الَّذي عُومِلوا به، فما وجْهُ ذلك؟
الجَوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الإترافَ سَبَبٌ باعتِبارِ ضَميمةِ ما ذُكِرَ بَعْدَه إليه، بأنْ كان إصرارُهم على الحِنْثِ وتكذيبُهم بالبَعثِ جَريمتَينِ عَظيمتَينِ؛ لأنَّهما مَحفوفتانِ بكُفرِ نِعمةِ التَّرَفِ الَّتي خَوَّلَهم اللهُ إيَّاها، على نَحوِ قَولِه تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] ، فيكونُ الإترافُ جُزءَ سَبَبٍ، وليس سَبَبًا مُستَقِلًّا، وفي هذا مِن معنى قَولِه تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] .
الثَّاني: أنَّ التَّرَفَ في العَيشِ عَلَّقَ قُلوبَهم بالدُّنيا، واطمأَنُّوا بها؛ فكان ذلك مُمْليًا على خَواطِرِهم إنكارَ الحياةِ الآخِرةِ، فيَكونُ المرادُ التَّرَفَ الَّذي هذا الإنكارُ عارِضٌ له وشَديدُ المُلازَمةِ له، فوِزانُه وِزانُ قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] .
 فجُعِلَ أهلُ الشِّمالِ مُترَفِينَ؛ لأنَّهم لا يخلو واحِدٌ منهم عن تَرَفٍ -ولو في بَعضِ أحوالِه وأزمانِه- مِن نِعَمِ الأكْلِ والشُّرْبِ، والنِّساءِ، وكُلُّ ذلك جديرٌ بالشُّكرِ لواهِبِه، وهم قد لابَسوا ذلك بالإشراكِ في جميعِ أحوالِهم، أو لأنَّهم لَمَّا قَصَروا أنظارَهم على التَّفكيرِ في العِيشةِ العاجِلةِ صَرَفَهم ذلك عن النَّظَرِ والاستِدلالِ على صِحَّةِ ما يدعوهم إليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهذا وجْهُ جَعْلِ التَّرَفِ في الدُّنيا من أسبابِ جَزائِهم الجَزاءَ المذكورَ [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/305، 306). .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَطيفةٌ: وهي أنَّه أشار في الآياتِ الثَّلاثِ إلى الأُصولِ الثَّلاثةِ؛ فقَولُه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ -مِن حيثُ الاستِعمالُ- يدُلُ على ذَمِّهم بإنكارِ الرُّسُلِ؛ إذ المُترَفُ مُتكَبِّرٌ بسَبَبِ الغِنى، فيُنكِرُ الرِّسالةَ. والمُترَفونَ كانوا يَقولونَ: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ [القمر: 24]. وقَولُه: يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ إشارةٌ إلى الشِّركِ ومخالفةِ التَّوحيدِ. وقَولُه تعالى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا إشارةٌ إلى إنكارِ الحَشرِ والنَّشْرِ [257] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/411). .
7- أنَّ الجَدَّ يُسمَّى أبًا؛ لأنَّهم قالوا: أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، وآباؤُهم الأَوَّلونَ أجدادٌ سابِقونَ، فالجَدُّ يُسمَّى أبًا، ويَتفرَّعُ على ذلك مَسألةٌ فَرَضيَّةٌ، وهي: أنَّ الجَدَّ يُسقِطُ الإِخْوةَ، أشقَّاءَ كانوا، أمْ لأبٍ، أمْ لأمٍّ [258] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصَّافَّات)) (ص: 47). وهذا المذكورُ -أي: حَجْبُ الجدِّ للإخوةِ- هو قولُ أبي حنيفةَ، وهو خلافُ قولِ مالكٍ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ. يُنظر: ((اختلاف الأئمة العلماء)) لابن هبيرة (2/91)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (3/33). .
8- قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ، والنُّزُلُ: هو ما يُعَدُّ للضَّيفِ عندَ قُدومِه، فدَلَّت هذه الآياتُ على أنَّ أهلَ النَّارِ يُتحَفونَ عندَ دُخولِها بالأكْلِ مِن شَجَرةِ الزَّقُّومِ، والشُّربِ مِن الحَميمِ، وهم إنَّما يُساقُونَ إلى جَهنَّمَ عِطاشًا [259] يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 198). !

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ
- في هذا الاستِفهامِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ تَعظيمُ مُصابِهم [260] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/85). .
- وأُتْبِعَ الإبهامُ الَّذي في قولِه: مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ بما يُبيِّنُ بَعضَه [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/304). .
- قولُه: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ وصْفُ الظِّلِّ بأنَّه مِن يَحمومٍ؛ للإشعارِ بأنَّه ظِلُّ دُخَانِ لهَبِ جهنَّمَ، والدُّخَانُ الكثيفُ له ظِلٌّ؛ لأنَّه بكَثافتِه يَحجُبُ ضَوءَ الشَّمسِ، وإنَّما ذُكِرَ مِن الدُّخَانِ ظِلُّه لمُقابَلتِه بالظِّلِّ الممدودِ المُعَدِّ لأصحابِ اليمينِ في قولِه: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: 30] ، أي: لا ظِلَّ لأصحابِ الشِّمالِ سِوى ظِلِّ اليَحْمومِ، وهذا مِن قَبيلِ التَّهكُّمِ، ولتَحقيقِ معْنى التَّهكُّمِ وُصِفَ هذا الظِّلُّ بما يُفيدُ نفْيَ البرْدِ عنه ونفْيَ الكرَمِ، فبرْدُ الظِّلِّ ما يَحصُلُ في مَكانِه مِن دفْعِ حَرارةِ الشمْسِ، وكرَمُ الظِّلِّ ما فيه مِن الصِّفاتِ الحَسَنةِ في الظِّلالِ؛ مِثل سَلامتِه مِن هبُوبِ السَّمومِ عليه، وسَلامةِ الموضعِ الَّذي يُظِلُّه مِن الحشراتِ والأوساخِ، وسَلامةِ أرْضِه مِن الحجارةِ ونحْوِ ذلك؛ إذ الكريمُ مِن كلِّ نوعٍ هو الجامعُ لأكثرِ مَحاسِنِ نَوعِه، فوُصِفَ ظِلُّ اليَحمومِ بوصْفٍ خاصٍّ، وهو انتفاءُ البُرودةِ عنه، وأُتبِعَ بوصْفٍ عامٍّ، وهو انتفاءُ كَرامةِ الظِّلالِ عنه [262] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/463)، ((تفسير أبي حيان)) (10/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/304، 305)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/436). .
أو هذا تَتْميمٌ [263] التَّتميمُ: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. والاحتِراسُ: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفَعُ ذلك الاحتِمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعضُ: التَّكميلَ. والفَرقُ بيْنَ الاحتِراسِ والتَّتميمِ: أنَّ الاحتِراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التَّتميمُ فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنَهما إذَنْ هي التَّبايُنُ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و (2/ 333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49-51، 240 - 241). لنفْيِ كَرامةِ مَن يَستروِحُ إليه، والمرادُ همْ، أي: يَستظِلُّون إليه وهم مُهانون، وقد يُحتمَلُ المجلسُ الرَّديءُ لنَيلِ الكرامةِ. وقد يجوزُ أنْ يكونَ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ صِفةً لـ يَحْمُومٍ، وَيلزَمُ منه أنْ يكونَ الظِّلُّ مَوصوفًا بذلك [264] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/85). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الألوسي)) (14/144). .
- وفي قولِه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّعريضِ [265] التَّعريضُ في اصطلاحِ البَلاغيِّينَ: هو الدَّلالةُ على المعنى مِن طريقِ المفهومِ، أي: تضمينُ الكلامِ ما يَصلُحُ للدَّلالةِ على مقصودِ المتكلِّمِ، ويصلُحُ للدَّلالةِ على غيرِ مقصودِه؛ إلَّا أنَّ إشعارَه بجانبِ المقصودِ أتمُّ وأرجَحُ. وقد يُسمَّى تلويحًا؛ لأنَّه يَلوحُ منه ما يُريدُ. والفرقُ بيْن الكِنايةِ والتَّعريضِ: أنَّ الكِنايةَ ذِكرُ الشَّيءِ بذِكرِ لَوازِمِه، كقولِك: فُلانٌ طويلُ النِّجادِ، كثيرُ الرَّمادِ... والتَّعريضَ: ذِكرُ كلامٍ يحتملُ مقصودَ المتكلِّمِ ويحتملُ غيرَ مقصودِه، إلَّا أنَّ قرائنَ الأحوالِ تؤكِّدُ حمْلَه على مقصودِه. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (6/469)، ((المثل السائر)) لابن الأثير (2/186)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/311)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/407)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (2/127). ، وهو أنَّ الَّذين يَستأْهِلون الظِّلَّ الَّذي فيه بَرْدٌ وإكرامٌ غيرُ هؤلاء، فيَكونُ أشْجَى لحُلوقِهم، وأدْعَى لتَحسُّرِهم [266] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/437). .
- وفي قولِه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ مُقابَلةٌ خَفيَّةٌ كامِنةٌ فيما بيْن سُطورِ هذا الكلامِ العجيبِ؛ فهؤلاء الَّذين أمْسَوا بهذه المَثابةِ كانوا في الدُّنيا يَعيشون غارِقين في التَّرَفِ، مُتقلِّبين في أعطافِه، فإذا بهم وقد لَفَّهم السَّمومُ واليَحْمومُ، يَتذكَّرون ما كانوا فيه، ويُقابِلون بيْنه وبيْن حالتِهم الرَّاهنةِ، والتَّجسيدُ والتَّخييلُ حاضرانِ مُهيَّآنِ أمامَهم [267] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/437). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ تَعليلٌ لِما يَلقاهُ أصحابُ الشِّمالِ مِن العذابِ، فيَتعيَّنُ أنَّ ما تَضمَّنَه هذا التَّعليلُ كان مِن أحوالِ كُفْرِهم، وأنَّه ممَّا له أثرٌ في إلحاقِ العذابِ بهم؛ بقَرينةِ عطْفِ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ... وَكَانُوا يَقُولُونَ إلخ عليه [268] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/305). .
- وصِيغةُ المُضارِعِ في يُصِرُّونَ ويَقُولُونَ تُفِيدُ تَكرُّرَ الإصرارِ والقولِ مِنْهم [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/307). .
- وذِكرُ فِعلِ (كَانُوا)؛ لإفادةِ أنَّ ذلك دَيدنُهم [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/307). .
3- قولُه تعالَى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ الاستِفهامُ في قولِهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا استفهامٌ إنكاريٌّ؛ كِنايةً عن الإحالةِ والاستبعادِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/307). .
- وتَقديمُ التُّرابِ؛ لعَراقتِه في الاستِبعادِ، وانْقلابِه مِن الأجْزاءِ الباديةِ [272] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/195). .
- وأُعيدَ الاستِفهامُ في قولِه: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؛ تَوكيدًا للاستبعادِ والإنكارِ، وللدَّلالةِ على إنكارِ البعثِ مُطلقًا [273] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/180)، ((تفسير أبي حيان)) (10/86)، ((تفسير أبي السعود)) (8/195). .
- وتَحليةُ الجُملةِ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بـ (إنَّ) لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التَّأكيدِ؛ كما عسَى يُتوَهَّمُ مِن ظاهِرِ النَّظمِ؛ فإنَّ تَقديمَ الهَمزةِ لاقتِضائِها الصَّدارةَ -كما في مِثلِ قولِه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، ومعناه: تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التَّعقيبِ، ومَرجِعُه إلى إنكارِ البَعثِ بعدَ تِلك الحالةِ، وفيه مِن الدَّلالةِ على غُلوِّهم في الكُفْرِ وتَماديهم في الضَّلالِ ما لا مَزيدَ عليه [274] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/195). .
- وتَكريرُ الهَمزةِ في قولِه تعالَى: أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ؛ لتأْكيدِ النَّكيرِ والاستبعادِ، والواوُ للعطْفِ على المُستكِنِّ في لَمَبْعُوثُونَ، وحسُنَ العطْفُ على المُضمَرِ في لَمَبْعُوثُونَ مِن غيرِ تأكيدٍ بـ (نحن)؛ لوُجودِ الفاصلِ الَّذي هو الهمزةُ [275] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/463)، ((تفسير البيضاوي)) (5/180)، ((تفسير أبي السعود)) (8/195)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/307). . وهذه الهَمزةُ على قِراءةِ بَعضِ القُرَّاءِ أَوْ بسُكونِ الواوِ [276] قرأ بها أبو جعفرٍ وابنُ عامرٍ وقالونُ، وقرأ الباقونَ بفتحِ الواوِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/357). ؛ فمعْنى الآيةِ: استِبعادُ أنْ يُبعَثوا همْ وآباؤهم على حدٍّ واحدٍ مِن الاستبعادِ. وعلى قِراءةِ الجُمهورِ: أَوَآَبَاؤُنَا بتَحريكِ الواوِ، على أنَّها واوُ العطْفِ دخَلَ عليها ألِفُ الاستِفهامِ، ومعْناها: شِدَّةُ الاستبعادِ في الآباءِ، كأنَّهم استَبْعَدوا أنْ يُبعَثوا، ثمَّ أتَوا بذِكرِ مَنِ البعثُ فيهم أبعَدُ، وهذا بيِّنٌ لأهلِ العلمِ بلِسانِ العربِ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/246). .
4- قولُه تعالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
- قولُه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ افتُتِحَ الكلامُ بالأمْرِ بالقولِ؛ للاهتِمامِ به، كما افتُتِحَ به نَظائرُه في آياتٍ كثيرةٍ؛ لِيَكونَ ذلك تَبليغًا عن اللهِ تعالى، فيكون قولُه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ إلخ استئنافًا ابتدائيًّا لِمُناسَبةِ حِكايةِ قَولِهم: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا [الواقعة: 47] الآيةَ [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/308). .
- وفي تَقديمِ الأوَّلِينَ مُبالَغةٌ في الرَّدِّ؛ حيثُ كان إنكارُهم لبَعثِ آبائِهم أشدَّ مِن إنكارِهم لبَعْثِهم، مع مُراعاةِ التَّرتيبِ الوُجوديِّ [279] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/195). .
- قولُه: لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ معْناهُ أنَّهم يُبعَثون ويُحشَرون جميعًا، وهذا إبطالٌ لِما اقتضاهُ عطْفُ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ في كَلامِهم مِنِ اسْتِنتاجِ استِبعادِ البَعثِ؛ لأنَّهم عَدُّوا سبْقَ مَن سبَقَ مَوتُهم أدَلَّ على تَعذُّرِ بَعثِهم بعْدَ أنْ مَضَت عليهم القرونُ ولم يُبعَثْ فريقٌ منهم إلى يومِ هذا القيلِ [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/308). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لرَدِّ إنكارِهم مَضمونَه [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/308). .
- وقد ضُمِّنَ لَمَجْمُوعُونَ معْنى (مَسوقون)؛ فتَعلَّقَ به مَجرورُه بحرْفِ (إلى) للانتهاءِ، وإلَّا فإنَّ ظاهرَ (مَجمُوعون) أنْ يُعدَّى بحرْفِ (في). وأفاد تَعليقُ مَجرورِ لَمَجْمُوعُونَ به بواسطةِ (إلى) أنَّه مُسيَّرٌ إليه حتَّى يَنْتهيَ إليه؛ فدلَّ على مَكانٍ، وهذا مِن الإيجازِ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/308، 309). .
- وإضافةُ مِيقَاتِ إلى يَوْمٍ مَعْلُومٍ؛ لأنَّ التَّجمُّعَ واقعٌ في ذلك اليَومِ، وإذ كان التَّجمُّعُ الواقعُ في اليومِ واقعًا في ذلك المِيقاتِ، كانت بيْنَ المِيقاتِ واليومِ مُلابَسةٌ صحَّحت إضافةَ المِيقاتِ إليه لأدْنى مُلابَسةٍ، وهذا أدقُّ مِن جَعْلِ الإضافةِ بَيانيَّةً، وهذا تَعريضٌ بالوعيدِ بما يَلْقَونه في ذلك اليومِ الَّذي جَحَدوه [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/309). .
5- قولُه تعالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ
- قولُه: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ، هذا مِن جُملةِ ما أُمِرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَقولَه لهم، و(ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ فإنَّ في التَّصريحِ بتَفصيلِ جَزائِهم في ذلك اليومِ ما هو أعظَمُ وقْعًا في النُّفوسِ مِن التَّعريضِ الإجماليِّ بالوعيدِ الَّذي استُفِيدَ مِن قولِه: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ [الواقعة: 49، 50]، وهذا التَّراخي الرُّتبيُّ بمَنزلةِ الاعتِراضِ بيْن جُملةِ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ [الواقعة: 49] وجُملةِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/309). [الواقعة: 57] .
- قولُه: أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، نِداؤُهم بهذَين الوصْفينِ إيماءٌ إلى أنَّهما سبَبُ ما لَحِقَهم مِن الجزاءِ السَّيِّئِ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/309). .
- والمقصودُ مِن قولِه: فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ تَفظيعُ حالِهم في جَزائِهم على ما كانوا عليه مِن التَّرَفِ في الدُّنيا بمَلْءِ بُطونِهم بالطَّعامِ والشَّرابِ مَلْئًا أنْساهم إقبالَهم عليه، ومنَعهم مِن التَّفكُّرِ في مَصيرِهم. وقد زِيدَ تَفظيعًا بالتَّشبيهِ في قولِه: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/310). .
- يَجوزُ أنْ يكونَ (علَى) في قولِه: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ للاستِعلاءِ، أي: شارِبون فوقَه الحميمَ، ويَجوزُ مع ذلك استِفادةُ معْنى (مع) مِن حرْفِ (علَى) تَعجيبًا مِن فَظاعةِ حالِهم، أي: يَشرَبون هذا الماءَ المُحرِقَ مع ما طَعِموه مِن شجَرِ الزَّقُّومِ، فيُفيدُ أنَّهم يَتجرَّعونه، ولا يَستطيعونَ امتِناعًا [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/310). .
- والفاءُ في قولِه: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ عطْفٌ على لَآَكِلُونَ؛ لإفادةِ تَعقيبِ أكْلِ الزَّقُّومِ بـ شُرْبَ الْهِيمِ دونَ فَتْرةٍ ولا استراحةٍ، وإعادةُ فَشَارِبُونَ تَوكيدٌ لَفظيٌّ لنَظيرِه، وفائدةُ هذا التَّوكيدِ زيادةُ تَقريرِ ما في هذا الشُّربِ مِن الأعجوبةِ، وهي أنَّه مع كَراهتِه يَزدادونَ منه، فيَزيدُهم تَقطيعًا لأمعائِهم؛ لإفادةِ التَّعجيبِ مِن حالِهم تَعجيبًا ثانيًا بعْدَ الأوَّلِ؛ فإنَّ كَونَهم شارِبين للحَميمِ على ما هو عليه مِن تَناهي الحرارةِ أمْرٌ عَجيبٌ، وشُرْبُهم له كما تَشرَبُ الإبلُ الهِيمُ في الإكثارِ أمْرٌ عَجيبٌ أيضًا؛ فكانتَا صِفَتينِ مُختلفتَينِ [288] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/464)، ((تفسير البيضاوي)) (5/181)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/205)، ((تفسير أبي حيان)) (10/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/311). .
- وجملةُ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ مَسوقةٌ مِن جِهَتِه تعالَى بطَريقِ الفذْلَكةِ [289] الفَذْلَكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، من قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحِسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). ، مُقرِّرةٌ لمَضمونِ الكَلامِ المُلقَّنِ، غَيرُ داخلةٍ تَحتَ القولِ [290] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/196). .
- والكلامُ أيضًا اعتِراضٌ بيْن جُمَلِ الخِطابِ، موجَّهٌ إلى السَّامِعينَ غيرِهم؛ فليس في ضَميرِ الغَيبةِ الْتِفاتٌ [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/311). .
- قولُه: هَذَا نُزُلُهُمْ تَشبيهٌ تَهكُّميٌّ؛ فقد سمَّى الجحيمَ وما فيه مِن صُنوفِ العذابِ وضُروبِ الأهوالِ نُزُلًا تَهكُّمًا بهم؛ لأنَّ النُّزُلَ ما يُعَدُّ للنَّازلِ تَكرمةً له، كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [292] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/464)، ((تفسير أبي حيان)) (10/87)، ((تفسير أبي السعود)) (8/196)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/311)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/437). [آل عمران: 21] .
- وجَعْلُ يومِ الدِّينِ وقْتًا لنُزُلِهم مُؤْذِنٌ بأنَّ ذلك الَّذي عُبِّر عنه بالنُّزُلِ جَزاءٌ على أعمالِهم، وهذا تَجريدٌ [293] التجريد: هو اعتقادُ أنَّ في الشَّيءِ مِن نفْسِه معنًى آخَرَ كأنَّه مباينٌ له، فيخرجُ ذلك إلى ألفاظِه بما اعتقَد ذلك؛ كقولِهم: لئنْ لَقيتَ زيدًا لَتلقيَنَّ معه الأسدَ؛ فظاهرُ هذا أنَّ فيه مِن نفْسِه أسدًا، وهو عينُه هو الأسدُ، لا أنَّ هناك شيئًا منفصلًا. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 160 - 163)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/448، 449)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 46)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 243، 244). للتَّشبيهِ التَّهكُّميِّ، وهو قَرينةٌ على التَّهكُّمِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/312). .