موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (48-55)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ

غريب الكلمات:

يَتَفَيَّأُ: أي: يَرجِعُ ويَمِيلُ؛ مِن الفَيءِ، يقال: فاء الظِّلُّ يَفيءُ فَيئًا: إذا رجعَ وعادَ، وأصلُه يدلُّ على الرُّجوعِ [537] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 243)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/435)، ((البسيط)) للواحدي (13/73)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 195). .
دَاخِرُونَ: أي: أذِلَّاءُ صاغِرونَ، وأصلُ (دخر): يدلُّ على الذُّلِّ [538] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 387)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (7/122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/333)، ((المفردات)) للراغب (ص: 309)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 278). .
وَاصِبًا: أي: دائِمًا ثابِتًا واجِبًا، وأصلُ (وصب): يدلُّ على دوامِ شَيءٍ [539] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 369)، ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/117)، ((المفردات)) للراغب (ص: 872)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 351). .
تَجْأَرُونَ: تَرفَعونَ أصواتَكم بالدُّعاءِ وتَستَغيثونَ، وأصلُه: مِن جُؤارِ الثَّورِ: إذا رفع صوتًا شديدًا مِن جُوعٍ أو غيرِه [540] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 243)، ((تفسير ابن جرير)) (14/251)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 150)، ((المفردات)) للراغب (ص: 211)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 195). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: ألمْ يَنظُرْ هؤلاء الكُفَّارُ الذين مَكَروا السَّيِّئاتِ إلى ما خلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ له ظِلٌّ- كالجِبالِ والأشجارِ وغيرهما- تَميلُ ظِلالُها تارةً يمينًا وتارةً شِمالًا، فتَسجُدُ لله وتخضَعُ لِعَظمتِه، وهي تحتَ تسخيرِه وتَدبيرِه وقَهرِه سُبحانَه؟
 ولله وَحْدَه يَسجُدُ كُلُّ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ مِن دابَّةٍ، والملائِكةُ يَسجُدونَ لله، سجودَ ذلٍّ وخضوعٍ، وهم لا يَستَكبِرونَ عن عبادتِه، يخافُ الملائِكةُ رَبَّهم الذي هو فَوقَهم بذاتِه وقَهرِه وكَمالِ صفاتهِ، ويَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ به.
وقال اللهُ لعِبادِه: لا تَعبُدوا إلهَينِ اثنَينِ؛ إنَّما المعبودُ المُستحِقُّ للعبادةِ إلهٌ واحِدٌ، فخافوني وَحدي. ولله ملكُ كلِّ ما في السَّمَواتِ والأرضِ، وله وَحْدَه العِبادةُ والطَّاعةُ والإخلاصُ دائِمًا، أغيرَ اللهِ تخافونَ وتَعبُدونَ؟! وما بكم مِن نِعمةٍ- ظاهِرةً كانت أو باطِنةً- فمِنَ اللهِ وَحدَه، ثمَّ إذا نزل بكم السَّقَمُ والبَلاءُ والفَقرُ، فإلى اللهِ وَحْدَه تَضِجُّون بالدُّعاءِ، ثمَّ إذا كشَفَ عنكم ما أصابكم، إذا جماعةٌ منكم برَبِّهم يُشرِكونَ؛ لِيَجحَدوا نِعَمَنا عليهم- ومنها كَشفُ البَلاءِ عنهم- فاستَمتِعوا بدُنياكم قليلًا، فسوفَ تَعلَمونَ عاقبةَ كُفرِكم!

تفسير الآيات:

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا خَوَّف اللهُ تعالى المُشرِكينَ بأنواعٍ مِن العذابِ أربعةٍ، أردَفَه بذِكرِ ما يدُلُّ على كَمالِ قُدرتِه في تَدبيرِ أحوالِ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ، وتدبيرِ أحوالِ الأرواحِ والأجسامِ؛ ليُظهِرَ لهم أنَّه مع كمالِ هذه القُدرةِ القاهرةِ، والقُوَّةِ غَيرِ المُتناهيةِ، لا يَعجِزُ عن إيصالِ العَذابِ إليهم على أحدِ تلك الأقسامِ الأربعةِ [541] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/213). .
وأيضًا فإنَّه بعدَ أن نهَضَت براهينُ انفرادِه تعالى بالخَلقِ بما ذُكِرَ مِن تَعدادِ مَخلوقاتِه العظيمةِ، جاء الانتقالُ إلى دَلالةٍ مِن حالِ الأجسامِ التي على الأرضِ، كلُّها مُشعِرةٌ بخُضوعِها لله تعالى خُضوعًا مُقارِنًا لوُجودِها وتقَلُّبِها آنًا فآنًا، عَلِمَ بذلك مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه. وأنبأ عنه لسانُ الحالِ بالنِّسبةِ لِما لا عِلمَ له، وهو ما خلَقَ اللهُ عليه النِّظامَ الأرضيَّ خَلقًا ينطِقُ لِسانُ حالِه بالعبوديَّةِ لله تعالى، وذلك في أشَدِّ الأعراضِ مُلازَمةً للذَّواتِ، ومُطابَقةً لأشكالِها، وهو الظِّلُّ [542] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/168). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قُدرتَه على تعذيبِ الماكرينَ وإهلاكِهم بأنواعٍ مِن الأخْذِ؛ ذكَرَ تعالى طواعيَةَ ما خلَقَ مِن غَيرِهم وخُضوعَه، ضِدَّ حالِ الماكرينَ؛ ليُنَبِّهَهم على أنَّه ينبغي- بل يجِبُ- عليهم أن يكونوا طائعينَ مُنقادينَ لأمْرِه [543] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/535). .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48).
أي: أولَمْ يَنظُرْ هؤلاء- الذين مَكَروا السَّيِّئاتِ- إلى مخلوقاتِ اللهِ القائِمةِ التي لها ظِلٌّ، كالأشجارِ والجِبالِ وغَيرِها، تَرجِعُ ظِلالُها مِن مَوضِعٍ إلى آخَرَ، فتَميلُ ذاتَ اليَمينِ أوَّلَ النَّهارِ، وذاتَ الشِّمالِ في آخِرِه [544] قال ابنُ عاشور: (قولُه: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ، أي: عن جِهاتِ اليَمينِ وجِهاتِ الشَّمائِلِ، مقصودٌ به إيضاحُ الحالةِ العجيبةِ للظِّلِّ؛ إذ يكونُ عن يمينِ الشَّخصِ مَرَّةً، وعن شِمالِه أُخرَى، أي: إذا استقبَلَ جهةً ما ثُمَّ استدبَرَها. وليس المرادُ خُصوصَ اليَمينِ والشِّمالِ، بل كذلك الأمامُ والخَلفُ، فاختُصِرَ الكلامُ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/169). ، منقادةً لأمْرِه خاضِعةً لعَظَمتِه بمَيَلانِها ودَوَرانِها مِن جانبٍ إلى جانبٍ آخَرَ، وهم صاغِرونَ تحتَ تَسخيرِه وتَدبيرِه وقَهْرِه سُبْحانَه [545] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/239، 442)، ((الوسيط)) للواحدي (3/65)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 608)، ((تفسير ابن كثير)) (4/575، 576)، ((تفسير الشوكاني)) (3/199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/170). قال ابنُ جزي: (واختُلِف في معنى هذا السجودِ؛ فقيل: عبَّر به عن الخضوعِ والانقيادِ. وقيل: هو سجودٌ حقيقةً). ((تفسير ابن جزي)) (1/428). وقال السمعاني: (أكثَرُ السَّلَفِ أنَّ السُّجودَ هاهنا: هو الطَّاعةُ لله، وأنَّ كُلَّ الأشياءِ ساجِدةٌ لله مُطيعةٌ؛ مِن حيوانٍ وجَمادٍ). ((تفسير السمعاني)) (3/176). قال أبو حيان: (فغاير الزمخشري بينَ الحالين، جعَل سُجَّدًا حالًا مِن الظِّلال، ووَهُمْ دَاخِرُونَ حالًا مِن الضميرِ في سُجَّدًا، وأن يكونَ حالًا ثانيةً مِن الظلالِ، كما تقولُ: جاء زيدٌ راكبًا، وهو ضاحكٌ، فيجوزُ أن يكونَ وهو ضاحكٌ حالًا مِن الضميرِ في «راكبًا»، ويجوزُ أن يكونَ حالًا مِن زيدٍ، وهذا الثاني عندي أظهرُ). ((تفسير أبي حيان)) (6/539). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (2/609). وقال ابن عاشور: (وجملة وَهُمْ دَاخِرُونَ في موضعِ الحالِ مِن الضميرِ في ظِلَالُهُ؛ لأنَّه في معنى الجمعِ؛ لرجوعِه إلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/169). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرسعني)) (4/37). ؟!
كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الرعد: 15] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا [الفرقان: 45] .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابِقةِ السُّجودَ القَسْريَّ، ذكَرَ بعدَه هنا سُجودًا آخَرَ بَعضُه اختيارٌ، وفي بَعضِه شِبهُ اختيارٍ [546] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/170). .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ.
أي: ولله وحدَه يسجُدُ جميعُ ما في السَّمواتِ، وجميعُ ما في الأرضِ مِن كلِّ ما يَدِبُّ ويتحَرَّكُ سجودَ ذلٍّ وخضوعٍ، فكلُّ أحدٍ خاضعٌ لربوبيتِه، ذليلٌ لعزَّتِه، مقهورٌ تحتَ سلطانِه [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/245)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/107)، ((تفسير الشوكاني)) (3/200). وممن اختار أنَّ المرادَ بالسجودِ هنا الاستسلامُ والانقيادُ والخضوعُ: ابنُ جريرٍ، والسمرقندي، والواحدي، وابنُ القيم، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/245)، ((تفسير السمرقندي)) (2/276)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 608)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/107)، ((تفسير العليمي)) (4/29)، ((تفسير الشوكاني)) (3/200). قال الرسعني: (أمَّا مَنْ يعقِلُ فسجودُه: عبادتُه وخضوعُه لله تعالى، وأمَّا ما لا يعقِلُ فسجودُه انقيادُه لتسخيرِ الله تعالى ونفاذ أمرِه فيه، وظهورُ أثَرِ صنعتِه عليه. هذا قولُ جمهور المفسِّرين). ((تفسير الرسعني)) (4/37). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). وقال أيضًا: (والصحيحُ عندي والذي يدلُّ عليه العِلمُ: أنَّه سجودٌ على الحقيقةِ، كما قلنا في تسبيحِ ما لا يعقِلُ، ويكون منشأُ ذلك معنًى يخلُقُه الله فيه، كما أفهم السَّمواتِ والأرضَ والجبالَ خطابَه، حيث عَرَضَ عليها الأمانةَ فأبَتْ). ((تفسير الرسعني)) (4/37). وقال الخازن: (لفظةُ الدَّابَّة مُشتَقَّةٌ مِن الدَّبيبِ، وهو: عِبارةٌ عن الحَرَكةِ الجُسمانيَّة، فالدابَّةُ: اسمٌ يقعُ على كل حَيوانٍ جُسمانيٍّ يتحَرَّكُ ويَدِبُّ، فيدخُلُ فيه الإنسانُ؛ لأنَّه مِمَّا يَدِبُّ على الأرضِ). ((تفسير الخازن)) (3/80). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: 18] .
   وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
أي: والملائِكةُ يَسجُدونَ لله، وهم لا يَستَكبِرونَ عن عِبادتِه، والتَّذَلُّلِ له بطاعتِه [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/245)، ((تفسير ابن كثير)) (4/576)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .
كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19-20] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38] .
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا مدَحَ اللهُ تعالى الملائِكةَ بكَثرةِ الطَّاعةِ والخُضوعِ لله، مدَحَهم بالخَوفِ مِن اللهِ الذي هو فوقَهم بالذَّاتِ والقَهرِ، وكَمالِ الأوصافِ، فهم أذِلَّاءُ تحتَ قَهْرِه سُبْحانَه [549] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:442). .
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ.
أي: يخافُ الملائِكةُ مِن اللهِ الذي هو فَوقَهم بذاتِه وقَهرِه وكَمالِ صِفاتِه [550] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/472)، ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((تفسير ابن كثير)) (4/576)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). قال ابن الجوزي: (في قوله: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ قولان: أحدُهما: أنَّه مِن صِفةِ الملائكةِ خاصَّةً، قاله ابنُ السائب ومقاتل. والثاني: أنَّه عامٌّ في جميعِ المذكوراتِ، قاله أبو سُلَيمانَ الدِّمَشقيُّ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/564). وممَّن اختار القولَ الأول: الواحِديُّ، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ كثيرٍ، واختاره أيضًا السعديُّ، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 609)، ((تفسير ابن كثير)) (4/576)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/171)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/54). وممن اختار القول الثاني: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((تفسير ابن عطية)) (3/399). .
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
أي: ويَفعَلُ الملائِكةُ ما يأمُرُهم اللهُ بفِعلِه، ولا يَعصُونَه [551] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((تفسير ابن كثير)) (4/576)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ الأولى أنَّ كُلَّ ما سِوى اللهِ- سواءٌ كان مِن عالَمِ الأرواحِ أو مِن عالَمِ الأجسامِ- فهو مُنقادٌ خاضِعٌ لجَلالِ اللهِ تعالى وكِبريائِه؛ أتبَعَه في هذه الآيةِ بالنَّهيِ عن الشِّركِ، وبالأمرِ بأنَّ كُلَّ ما سِواه فهو مِلكُه، وأنَّه غَنيٌّ عن الكُلِّ [552] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/219). .
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ.
أي: وقال اللهُ لعِبادِه: لا تَعبُدوا مَعبُودَينِ اثنَينِ، فتَجعَلوا لي شَريكًا في العبادةِ [553] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((الوسيط)) للواحدي (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .
إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ.
أي: إنَّما المعبودُ المُستحِقُّ للعبادةِ واحِدٌ، وهو اللهُ وَحدَه؛ فلا تَعبُدوا غَيرَه [554] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((تفسير الشوكاني)) (3/202)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/382). .
فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
أي: فخافُوني وَحْدِي، وامتَثِلوا أمْري، واجتَنِبوا نَهْيِي، ولا تُشرِكوا بي شَيئًا [555] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((تفسير القرطبي)) (10/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ثَبَت بالدَّليلِ الصَّحيحِ، والبُرهانِ الواضِحِ أنَّ اللهَ تعالى هو إلهُ العالَمِ لا شَريكَ له في الإلهيَّةِ؛ وجَبَ أن يكونَ جميعُ المخلوقاتِ عَبيدَه، وفي مِلكِه وتَصَرُّفِه، وتحتَ قَهرِه [556] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/236). .
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: ولله وَحْدَه مُلْكُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ مِن خَلقِه، وكُلُّهم عبيدُه [557] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/472)، ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((تفسير البيضاوي)) (3/229)، ((تفسير الشوكاني)) (3/202). .
وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا.
أي: ولله وَحْدَه الطَّاعةُ والإخلاصُ والخُضوعُ والذُّلُّ دائِمًا في جميعِ الأوقاتِ؛ فطاعتُه واجِبةٌ وثابتةٌ على عبادِه أبدًا، لا تنقَطِعُ ولا تزولُ، بخلافِ طاعةِ غَيرِه سُبحانَه [558] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/246)، ((تفسير القرطبي)) (10/114)، ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 37)، ((تفسير ابن كثير)) (4/576)، ((تفسير الشوكاني)) (3/202)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/383). .
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ.
أي: أفغَيرَ اللهِ- أيُّها النَّاسُ- تخافونَ وتُطيعونَ، وهو المَعبودُ الحَقُّ، المتفَرِّدُ بالخَلقِ والمُلْكِ والتدبيرِ [559] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/250)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/203)، ((البسيط)) للواحدي (13/85)، ((تفسير الرازي)) (20/221)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). ؟!
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ بالآيةِ الأُولَى أنَّ الواجِبَ على العاقِلِ ألَّا يتَّقِيَ غيرَ اللهِ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه يجِبُ عليه ألَّا يَشكُرَ أحدًا إلَّا اللهَ تعالى؛ لأنَّ الشُّكرَ إنَّما يلزَمُ على النِّعمةِ، وكلُّ نِعمةٍ حَصَلت للإنسانِ فهي مِن اللهِ تعالى؛ لِقَولِه تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فثبت بهذا أنَّ العاقِلَ يجِبُ عليه ألَّا يخافَ وألَّا يتَّقِيَ أحدًا إلَّا اللهَ، وألَّا يَشكُرَ أحدًا إلَّا اللهَ تعالى [560] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/221). .
وأيضًا فإنَّها انتِقالٌ مِن الاستدلالِ بمَصنوعاتِ اللهِ الكائنةِ في ذاتِ الإنسانِ، وفيما يُحيطُ به مِن الموجوداتِ، إلى الاستدلالِ بما ساق اللهُ مِن النِّعَمِ؛ فمِنَ النَّاسِ مُعرِضونَ عن التدَبُّرِ فيها، وعن شُكرِها، وهم الكافِرونَ، فكان في الأدلَّةِ الماضيةِ القَصدُ إلى الاستدلالِ ابتِداءً مَتبوعًا بالامتِنانِ [561] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/176). .
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ.
أي: كلُّ ما لديكم- أيُّها النَّاسُ- من نِعَمٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، فهو مِن الله وَحْدَه، لا مِن غَيرِه [562] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/251)، ((تفسير القرطبي)) (10/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .
ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ.
أي: ثمَّ إذا أصابَكم مَرَضٌ أو فَقرٌ أو شِدَّةٌ وبلاءٌ، فإلى اللهِ تَصرُخونَ بالدُّعاءِ، وبه تَستَغيثونَ؛ ليَكشِفَ عنكم ما أصابَكم مِن شِدَّةٍ؛ لعِلْمِكم أنَّه وَحْدَه القادِرُ على إغاثَتِكم [563] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/251)، ((تفسير القرطبي)) (10/115)، ((تفسير ابن كثير)) (4/577)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54).
أي: ثمَّ إذا أزال اللهُ عنكم الشِّدَّةَ، ورفَع البلاءَ، إذا جماعةٌ منكم- أيُّها النَّاسُ- يَجعَلونَ لربِّهم شَريكًا في عبادتِه [564] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/252)، ((تفسير القرطبي)) (10/115)، ((تفسير الشوكاني)) (3/203). !
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 22- 23] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55).
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ.
أي: لِيَكْفُرَ [565] قال ابن عطية: (قوله: لِيَكْفُرُوا يجوزُ أن تكونَ اللامُ لامَ الصَّيرورةِ، أي: فصار أمرُهم ليَكفُروا، وهم لم يقصِدوا بأفعالِهم تلك أن يكفُروا. ويجوز أن تكونَ لامَ أمرٍ على معنى التهديدِ والوعيدِ، كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] . والكفرُ هنا يحتمِلُ أن يكون كُفرَ الجَحدِ بالله والشِّرك، ويؤيدُه قَولُه: بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، ويحتَمِلُ أن يكون كُفرَ النِّعمةِ، وهو الأظهرُ؛ لِقَولِه: بِمَا آتَيْنَاهُمْ أي: بما أنعَمْنا عليهم). ((تفسير ابن عطية)) (3/401). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/115). وممَّن قال: إنَّ اللام للعاقبة والصيرورة، أي: آل أمرُهم إلى الكفر: الألوسي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (7/406)، ((تفسير القاسمي)) (6/379). وقال الشوكاني: (اللامُ في لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ لام كي، أي: لكي يكفُروا بما آتيناهم مِن نِعمةِ كَشفِ الضُّرِّ، وحتى كأنَّ هذا الكُفرَ منهم الواقِعَ في موضعِ الشُّكرِ الواجِبِ عليهم، غَرَضٌ لهم ومَقصِدٌ مِن مقاصِدِهم، وهذا غايةٌ في العتُوِّ والعنادِ ليس وراءَها غايةٌ). ((تفسير الشوكاني)) (3/203). وممَّن جعل اللامَ هنا لامَ كي: ابنُ جرير، والواحدي، والقرطبي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/499)، ((الوسيط)) (3/66)، ((تفسير القرطبي)) (10/115)، ((تفسير الشوكاني)) (3/203)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/178). المُشرِكونَ بما آتيناهم مِن نِعمةِ كَشْفِ الضُّرِّ عنهم [566] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/252)، ((الوسيط)) للواحدي (3/66)، ((تفسير القرطبي)) (10/115)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/179). .
فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
أي: فتَمَتَّعوا في حياتِكم الدُّنيا قليلًا- أيُّها المُشرِكونَ- فسوف تَعلَمونَ عاقِبةَ كُفرِكم [567] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/252)، ((الوسيط)) للواحدي (3/66)، ((تفسير ابن كثير)) (4/577)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ دليلٌ على أنَّ مَن سجَدَ للهِ فقد بَرِئَ مِن الكِبرِ، ووطَّنَ نَفسَه على الذُّلِّ، ولم يُنازِعْ رَبَّه في كِبريائِه وعظَمتِه، ويُؤيِّدُه ما قال قَبلَ هذه الآيةِ: يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ، فكيف يجِدُ التكَبُّرُ مَساغًا فيمَن صَغَّرَه السُّجودُ، وذَلَّه لِرَبِّه جَلَّ وتعالى [568] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/57). ؟!
2- في قَولِه تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أنَّ كلَّ ما نحصُلُ عليه- مِن عِلْمٍ أو قُدرةٍ أو إرادةٍ- فمِنَ اللهِ، فالواجِبُ علينا أن نُضيفَ هذه النِّعَمَ إلى اللهِ سُبحانَه، حتى ولو حصَلَتْ هذه النِّعمَةُ للإنسانِ بعِلْمِه أو مَهارتِه؛ فالذي أعطاه هذا العِلمَ أو المهارةَ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، ثمَّ إنَّ المهارةَ أو العِلمَ قد لا يكونُ سببًا لحُصولِ الرِّزْقِ، فكم مِن إنسانٍ عالِمٍ أو ماهرٍ حاذِقٍ؛ ومع ذلك لا يُوَفَّقُ، بل يكونُ عاطلًا [569] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/283). ، فجميعُ النِّعَمِ المُكتَسَبةِ منَّا إنَّما هي مِن إيجادِه واختراعِه سُبحانَه، ففي الآيةِ إشارةٌ إلى وجوبِ الشُّكرِ على ما أسدَى مِن النِّعَمِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ [570] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/545). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ فيه سُؤالٌ: ما السَّبَبُ في ذِكْرِ (اليمين) بلَفظِ الواحِدِ، و(الشَّمائل) بصيغةِ الجَمعِ؟
أُجيب عن ذلك من عدةِ وجوهٍ:
منها: أنَّه لما كانت اليمينُ جهةَ الخيرِ والفلاحِ، وأهلُها هم الناجون أُفرِدت، ولما كانت الشمالُ جهةَ أهلِ الباطلِ، وهم أصحابُ الشمالِ جُمعت، فاليمينُ مأخوذٌ مِن اليُمنِ، وذلك راجعٌ إلى طريقِ الحقِّ، والشمالُ راجعٌ إلى طريقِ الباطلِ، بدليلِ قولِه تعالى: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة: 41] ، وطريقُ الحقِّ واحدةٌ، وطرقُ الباطلِ متعددةٌ [571]  يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/120)، ((تفسير ابن كثير)) (1/685)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/12)، ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (3/391). .
ومنها: أنَّ الشمالَ إنَّما جُمِعت في الظلالِ، وأُفرِد اليمينُ؛ لأنَّ الظلَّ حين ينشأُ أوَّلَ النهارِ يكونُ في غايةِ الطولِ، يبدو كذلك ظلًّا واحدًا مِن جهةِ اليمينِ، ثم يأخذُ في النقصانِ، وأمَّا إذا أخَذ في جهةِ الشمالِ فإنَّه يتزايدُ شيئًا فشيئًا، والثاني منه غيرُ الأوَّل، فلمَّا زاد منه شيئًا فهو غيرُ ما كان قبلَه، فصار كلُّ جزءٍ منه كأنَّه ظلٌّ، فحسُنَ جمعُ الشمائلِ في مقابلةِ تعدُّدِ الظلالِ [572] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/120)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/12)، ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (3/391). وقال ابنُ القيمِ عن هذا الوجهِ: (وهذا معنًى حسنٌ). ((بدائع الفوائد)) (1/121) . .
ومنها: أنَّ اليمينَ مقصودٌ به الجمعُ أيضًا؛ فإنَّ الألفَ واللَّامَ فيه لِلجنسِ، فقامَ العمومُ مقامَ الجمعِ [573]  ((تفسير ابن عطية)) (3/398)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/12). . وقيل غيرُ ذلك [574] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/215)، ((تفسير أبي حيان)) (6/538-539)، ((البرهان في علوم القرآن))  للزركشي (4/12)، ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (3/391)، (( تفسير الشوكاني)) (3/199). .
2- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ لَمَّا كان حَقُّ المُشرِكينَ المُبادرةَ بالتَّوبةِ، فلم يَفعَلوا؛ أعرَضَ تعالى عنهم، فقال: يَرَوْا [575] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/172). .
3- قال الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ سُجودُ المَخلوقاتِ لله تعالى قِسمانِ: سُجودُ اضطِرارٍ ودَلالةٍ على ما له مِن صِفاتِ الكَمالِ، وهذا عامٌّ لكُلِّ مَخلوقٍ؛ مِن مُؤمِنٍ وكافِرٍ، وبَرٍّ وفاجِرٍ، وحيوانٍ ناطِقٍ وغَيرِه، وسُجودُ اختيارٍ يَختَصُّ بأوليائِه وعِبادِه المُؤمِنينَ مِن الملائِكةِ وغَيرِهم مِنَ المَخلوقاتِ [576] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 442). .
4- قَولُ الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ المقصودُ مِن هذه الآيةِ شَرحُ صِفاتِ الملائكةِ، وهي دَلالةٌ قاهِرةٌ قاطِعةٌ على عِصمةِ الملائِكةِ عن جميعِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ قَولَه: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يدُلُّ على أنَّهم مُنقادونَ لصانِعِهم وخالِقِهم، وأنَّهم ما خالَفوه في أمرٍ مِن الأمورِ، وقَوله: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أيضًا يدُلُّ على أنَّهم فعلوا كلَّ ما كانوا مأمورينَ به، وذلك يدُلُّ على عِصمتِهم عن كُلِّ الذُّنوبِ [577] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/217). .
5- قَولُ الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وقال لإبليس: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص: 75] ، وقال أيضًا له: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [الأعراف: 13] ، فثبت أنَّ الملائكةَ لا يستكبِرون، وثبت أنَّ إبليسَ تكبَّرَ واستكبَرَ، فوجب أن لا يكونَ مِن الملائكةِ [578] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/217). .
6- في قَولِه تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى فوقَ خَلْقِه [579] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/13). ، وأنَّ اللهَ جلَّ جلالُه بذاتِه في السَّماءِ على العَرشِ، وليس في الأرضِ إلَّا عِلْمُه المحيطُ بكُلِّ شَيءٍ [580] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/68). .
7- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ فيه سُؤالٌ: إنَّ الإلهَينِ لا بُدَّ أنْ يكونَا اثنَينِ، فما الفائِدةُ في قَولِه: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ؟
الجوابُ مِن وجوهٍ:
منها: أنَّ الاثنينيَّةَ مُنافِيةٌ للإلهيَّةِ؛ فقَولُه: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ المقصودُ منه التَّنبيهُ على حُصولِ المُنافاةِ، والمُضادَّةِ بين الإلهيَّةِ وبَينَ الاثنينيَّةِ [581] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/219-220). .
ومنها: أن ذِكرَ الاثنينِ لِدَفعِ احتمالِ إرادةِ الجِنسِ، وإذ نُهُوا عن اتِّخاذِ إلهَينِ فقد دَلَّ بدَلالةِ الاقتضاءِ على إبطالِ اتِّخاذِ آلهةٍ كثيرةٍ. وقيل غيرُ ذلك [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/172-173). .
8- قَولُ الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ احتُجَّ به على أنَّ الإيمانَ حصَلَ بخَلقِ اللهِ تعالى؛ فالإيمانُ نِعمةٌ، وكلُّ نِعمةٍ فهي مِنَ الله تعالى [583] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/222). قال ابنُ عثيمين: (الصوابُ أن نقولَ: إيمانُنا كلُّه مخلوقٌ... فمَن قال: إيماني مخلوقٌ فقد صدَق، أمَّا ما آمَن به ففيه التفصيل؛ منه ما هو مخلوقٌ، ومنه ما هو غيرُ مخلوقٍ، رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مخلوقٌ، وأنا مؤمنٌ به، والقرآنُ غيرُ مخلوقٍ وأنا مؤمنٌ به، وكذلك الإيمانُ بالله وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخرِ؛ فالملائكةُ مخلوقونَ، والكتبُ غيرُ مخلوقةٍ، والإيمانُ بالرسلِ إيمانٌ بمخلوقٍ، واليومُ الآخرُ مخلوقٌ. فصار المؤْمَنُ به منه مخلوقٌ، ومنه غيرُ مخلوقٍ، أمَّا مجردُ إيمانِ العبدِ فإنَّه مخلوقٌ؛ لأنَّه حادثٌ، فالعبدُ لم يكن شيئًا مذكورًا، ثم كان وأحدَث الإيمانَ). ((شرح العقيدة السفارينية)) (1/416). .
9- قَولُه تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يَدخُلُ فيه نِعَمُ الدِّينِ والدُّنيا [584] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 160). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ
- قوله: وَهُمْ داخِرُونَ جُمِع بالواو؛ لأنَّ الدخورَ من أوصافِ العُقلاءِ، أو لأنَّ في جملةِ ذلك مَن يَعقِلُ فغُلِّب [585] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/609). .
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهامُ هنا معناه التَّوبيخُ. وقيل: ويجوزُ أنْ يكونَ معناه التَّعجُّبَ [586] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/536)، ((تفسير البيضاوي)) (3/228)، ((تفسير أبي السعود)) (5/118). .
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا على قِراءةِ حَمزةَ والكسائيِّ وخَلفٍ [587] يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 390)، ((شرح طيبة النشر)) لابن الجزري (ص: 261). : (أولَمْ تَرَوا) بالتَّاءِ المُثنَّاةِ الفوقيَّةِ على الخِطابِ؛ فهو على طَريقةِ الالْتفاتِ [588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/168). .
- قَولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ قولُه: مِنْ شَيْءٍ بيانٌ للإبهامِ الَّذي في (ما) الموصولةِ [589] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/168). . فإنْ قيل: كيف بيَّنَ الموصولَ (ما)- وهو مُبهَمٌ- بشَيءٍ هو مُبهَمٌ، بل أبهَمُ ممَّا قَبلَه؟
فالجوابُ: أنَّ مِنْ شَيْءٍ قد اتَّضَح وظَهَر بوَصفِه بالجُملةِ بعدَه يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ. وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ الجُملةَ بيانٌ لـ (ما) [590] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/234). .
- وخَصَّ الظِّلَّ بالذِّكرِ؛ لأنَّه سَريعُ التَّغيُّرِ، والتغَيُّرُ يقتضي مُغَيِّرًا غيَّرَه، ومُدَبِّرًا له [591] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/540). .
- ولَمَّا كان سجودُ الظلالِ في غايةِ الظهورِ بُدئ به، ثم انتقَل إلى سجودِ ما في السمواتِ والأرضِ [592] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/540). .
2- قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
- قولُه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ تَقديمُ المجرورِ وَلِلَّهِ على فِعْلِه يَسْجُدُ مُؤْذِنٌ بالحصرِ، أي: سجَدَ للهِ لا لغيرِه ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، وهو تَعريضٌ بالمُشركين؛ إذ يَسجُدونَ للأصنامِ [593] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/170). .
- قولُه: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث لم يُعَبِّرْ بـ (مَن) تغلِيبًا للعُقلاءِ مِن الدَّوابِّ على غيرِهم، وإنَّما جاء بـ مَا؛ لأنَّه لو جِيءَ بـ (مَن) لم يكُنْ فيه دَليلٌ على التَّغليبِ؛ فكان مُتناوِلًا للعُقلاءِ خاصَّةً، فجِيءَ بما هو صالحٌ للعُقلاءِ وغيرِهم؛ إرادةً للعُمومِ [594] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/610). ، فجاء بـ (ما) الموصوليَّةِ للتَّغليبِ؛ لأنَّ ما لا يعقِلُ أكثرُ ممَّن يعقِلُ في العدَدِ، والحُكمُ للأغلبِ. و(ما) الموصولةُ في أصلِ وضْعِها لِمَا لا يعقِلُ، كما أنَّ (مَن) موضوعةٌ في الأصلِ لمَن يعقِلُ، وقد تَتخالفانِ [595] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/314- 315). ، وإنَّما قال: مَا ولم يُغلِّبِ العُقلاءَ مِن الدَّوابِّ على غيرِهم، كما في قولِه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور: 45] ؛ لأنَّه أراد هنا عُمومَ كلِّ دابَّةٍ ولم يقترِنْ بتغليبٍ؛ فجاء بـ  مَا الَّتي تعُمُّ النَّوعينِ، وفي آيةِ النُّورِ- وإنْ أراد العُمومَ- لكنَّه اقترَنَ بتغليبٍ، وهو ذِكْرُ ضَميرِ العُقلاءِ مَنْ في قولِه: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي؛ فجاء بـ مَنْ تَغليبًا للعُقلاءِ [596] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/306). . فإنْ قلْتَ: سُجودُ المُكلَّفينَ ممَّا انتظَمَه هذا الكلامُ خِلافَ سُجودِ غيرِهم، فكيف عُبِّرَ عن النَّوعينِ بلفظٍ واحدٍ؟ قلْتُ: المُرادُ بسُجودِ المُكلَّفينَ: طاعتُهم وعِبادتُهم، وبسُجودِ غيرِهم: انقيادُه لإرادةِ اللهِ، وأنَّها غيرُ مُمتنِعةٍ عليها، وكِلَا السُّجودينِ يجمَعُهما معنى الانقيادِ فلم يختلِفَا؛ فلذلك جاز أنْ يُعَبَّرَ عنهما بلفظٍ واحدٍ [597] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - مع الحاشية) (2/609). .
- قولُه: مِنْ دَابَّةٍ يجوزُ أنْ يكونَ بيانًا لِمَا في السَّمواتِ وما في الأرضِ جميعًا، على أنَّ في السَّمواتِ خلقًا للهِ يَدُبُّون فيها كما يدُبُّ الأناسيُّ في الأرضِ، وأنْ يكونَ بيانًا لِمَا في الأرضِ وحدَه، ويُرادُ بـ  مَا فِي السَّمَوَاتِ: الملائكةُ، وكرَّرَ ذِكْرَهم على معنى: والملائكةُ خُصوصًا مِن بين السَّاجدينَ؛ لأنَّهم أطوَعُ الخلقِ وأعبَدُهم. ويجوزُ أنْ يُرادَ بـ مَا فِي السَّمَوَاتِ: ملائكتُهنَّ [598] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/609 - 610). . وقيل: عَطَفَ وَالْمَلَائِكَةُ على مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وهم مُندَرِجونَ في عُمومِهما؛ تَشريفًا لهم وتكريمًا. ويجوزُ أن يُرادَ بهم الحَفَظةُ التي في الأرضِ، وبـ  مَا فِي السَّمَوَاتِ مَلائِكتُهنَّ، فلم يدخُلوا في العُمومِ [599] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/540). .
3- قوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
- جُملةُ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يجوزُ أنْ تكونَ حالًا مِن الضَّميرِ في لَا يَسْتَكْبِرُونَ، أي: لا يستكبِرونَ خائفينَ، ويجوزُ أنْ يكونَ بيانًا لنَفيِ الاستكبارِ، وتأكيدًا له وتَقريرًا؛ لأنَّ مَن يخافُ اللهَ سُبحانَه لا يستكبِرُ عن عِبادتِه [600] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/610)، ((تفسير أبي السعود)) 5/119). .
- وفي قولِه: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ تَربيةٌ للمَهابةِ، وإشعارٌ بعِلَّةِ الحُكمِ [601] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/119). .
4- قوله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
- قولُه: وَقَالَ اللَّهُ فيه إظهارُ الفاعِلِ، وتخصيصُ لفظةِ الجلالةِ بالذِّكرِ؛ للإيذانِ بأنَّه متعيِّنُ الأُلوهيَّةِ، وإنَّما المنهيُّ عنه هو الإشراكُ به، لا أنَّ المنهيَّ عنه مُطلَقُ اتِّخاذِ إلَهَينِ بحيث يتَحقَّقُ الانتهاءُ عنه برَفْضِ أيِّهِما كان [602] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/119). .
- وجملةُ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ يَجوزُ أن تَكونَ بَيانًا لِجُملةِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ؛ فالجملةُ مَقولَةٌ لِفِعلِ وَقَالَ اللَّهُ؛ لأنَّ عطْفَ البيَانِ تابِعٌ للمبيَّنِ؛ فلِذلك فُصِلَت، أي: لم تُعطَفْ على الجملةِ التي قبْلَها، وبذلك أُفيدَ بالمنطوقِ ما أُفيدَ قبْلُ بدَلالةِ الاقتضاءِ. ويَجوزُ أن تَكونَ جملةُ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ مُعترِضةً، واقعةً تَعليلًا لجملةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، أي: نَهى اللهُ عن اتِّخاذِ إلهَيْنِ؛ لأنَّ اللهَ واحدٌ، أي: واللهُ هو مُسمَّى إلهٍ؛ فاتِّخاذُ إلَهَينِ اثنَينِ قَلْبٌ لِحَقيقةِ الإلهيَّةِ [603] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/173). .
- والقَصْرُ في قولِه: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ قَصْرُ موصوفٍ على صِفةٍ، أي: اللهُ مُختصٌّ بصِفَةِ توحُّدِ الإلهيَّةِ، وهو قَصْرُ قَلْبٍ؛ لإبطالِ دَعْوى تَثنيَةِ الإلهِ [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/173).
- قولُه: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فيه نقلٌ للكلامِ عن الغَيْبةِ إلى التَّكلُّمِ، وجاز لأنَّ الغالِبَ هو المتكلِّمُ، وهو مِن طريقةِ الالْتِفاتِ، وهو أبلَغُ في التَّرهيبِ مِن (وإيَّاه فارهَبوه)، ومِن أن يَجيءَ ما قَبْلَه على لَفْظِ المتكلِّمِ [605] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/610). ؛ فهذا الالتِفاتُ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ؛ لِتَربيَةِ المهابةِ وإلقاءِ الرَّهبةِ في القُلوبِ؛ ولِذَلك قَدَّم وكرَّر الفِعْلَ، أي: إنْ كُنتُم راهِبين شَيئًا فإيَّايَ ارْهَبوا لا غَيرُ؛ فإنِّي ذلك الواحِدُ الَّذي يَسجُدُ لَه ما في السَّمواتِ والأرضِ [606] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/119). .
- وأيضًا قولُه: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ تفريعٌ، يَجوزُ أن يكونَ تَفريعًا على جُملةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ؛ فيَكونَ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ مِن مَقولِ القولِ، ويَكونَ في ضَميرِ المتكلِّمِ مِن قولِه: فَارْهَبُونِ الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ. ويَجوزُ أن يَكونَ تَفريعًا على فِعْلِ وَقَالَ اللَّهُ؛ فلا يَكونَ مِن مَقولِ القولِ، وليس في الكلامِ الْتِفاتٌ على هذا الوجهِ [607] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/174). .
- وأيضًا قولُه: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ تفريعٌ بصِيغةِ القصرِ، وهو قَصرُ قلبٍ إضافيٌّ، أي: قَصْرُ الرَّهبةِ التَّامَّةِ مِنه عليه؛ فلا اعْتِدادَ بقُدرةِ غيرِه على ضُرِّ أحدٍ.
واقتِرانُ فِعْلِ فَارْهَبُونِ بالفاءِ؛ لِيَكونَ تَفريعًا على تفريعٍ؛ فيُفيدُ مَفادَ التَّأكيدِ؛ لأنَّ تَعلُّقَ فِعلِ (ارْهَبُونِ) بالمفعولِ لَفْظًا يَجعَلُ الضَّميرَ المنفصِلَ المذكورَ قبْلَه في تقديرِ مَعمولٍ لفِعلٍ آخَرَ؛ فيَكونُ التَّقديرُ: فإيَّايَ ارْهَبوا فارْهَبونِ، أي: أمَرتُكم بأن تَقْصُروا رَهبتَكم علَيَّ، فارهَبونِ امتِثالًا للأمرِ [608] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/174). .
- قولُه: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ: لَمَّا نَهى عن اتِّخاذِ الإلهَينِ، واستَلزَم النَّهيَ عن اتِّخاذِ آلهةٍ؛ أخبَر تعالى أنَّه إلهٌ واحدٌ كما قال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة: 163] ، بأَداةِ الحَصْرِ، وبالتَّأكيدِ بالوَحْدةِ، ثمَّ أمَرَهم بأن يَرهَبوه، والْتَفَت مِن الغَيبةِ إلى الحُضورِ؛ لأنَّه أبلَغُ في الرَّهبةِ [609] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/544)، ((تفسير أبي السعود)) (5/119). .
5- قوله تعالى: وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ تقريرٌ لعِلَّةِ انْقِيادِ ما فيها له سُبحانَه خاصَّةً، وتحقيقٌ لتخصيصِ الرَّهبةِ به تعالى [610] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/119). .
- قولُه: وَلَهُ مَا فِي السَّمواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا فيه تقديمُ الظَّرفِ (لَهُ) لِتَقْويةِ ما في اللَّامِ مِن مَعنى الاخْتِصاصِ، وكذا في قولِه تعالى: وَلَهُ الدِّينُ [611] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/119). ، وهو يُفيدُ الحصْرَ؛ فدخَل جميعُ ما في السَّماءِ والأرضِ في مَفادِ لامِ المِلكِ؛ فأفادَ أنْ ليس لِغَيرِه شيءٌ مِن المخلوقاتِ خيرِها وشَرِّها؛ فانتَفى أن يكونَ معَه إلهٌ آخَرُ؛ لأنَّه لو كان معَه إلهٌ آخَرُ لكان له بعضُ المخلوقاتِ؛ إذْ لا يُعقَلُ إلهٌ بدونِ مخلوقاتٍ. وأمَّا قولُه: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا فالدِّينُ يَحتمِلُ أن يَكونَ المرادُ به الطَّاعةَ؛ مِن قولِهم: دانَتِ القَبيلةُ للمَلِكِ، أي: أطاعَتْه؛ فهو مِن مُتمِّماتِ جُملةِ: وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لأنَّه لَمَّا قَصَر الموجوداتِ على الكونِ في مُلكِه، كان حَقيقًا بِقَصْرِ الطَّاعةِ عليه؛ ولذلك قدَّم المجرورَ (له) في هذه الجملةِ على فِعْلِه، كما وقَع في الَّتي قبْلَها [612] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/175). .
- قولُه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ استفهامٌ تَضمَّنَ التَّوبيخَ والتَّعجُّبَ، أي: بَعدَما عرَفْتُم وَحْدانيَّتَه، وأنَّ ما سِواه له، ومُحتاجٌ إليه؛ كيف تتَّقونَ وتَخافونَ غَيرَه، ولا نَفْعَ ولا ضُرَّ يَقدِرُ علَيه [613] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/545)، ((تفسير أبي السعود)) (5/120). ؟!
6- قوله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
- قولُه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ في إيرادِ النِّعمةِ بالجملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الدَّوامِ، والتَّعبيرِ عن مُلابَستِها للمُخاطَبين بِباءِ المُصاحَبةِ، وإيرادِ (ما) المُعرِبةِ عن العمومِ، وإيرادِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ بالجملةِ الفعليَّةِ المعْرِبةِ عن الحُدوثِ مع (ثمَّ) الدَّالَّةِ على وُقوعِه بعدَ بُرهةٍ مِن الدَّهرِ، وتَحْليَةِ الضُّرِّ بلامِ الجنسِ المفيدةِ لِمِساسِ أدْنَى ما يَنطلِقُ عليه اسمُ الجنسِ: ما لا يَخْفى مِن الجزالةِ والفَخامةِ. ولعلَّ إيرادَ إِذَا دونَ (إِنْ)؛ للتَّوسُّلِ به إلى تَحقُّقِ وُقوعِ الجوابِ [614] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/120). ؛ لأنَّ (إذا) للَّذي يقَعُ، و(إنْ) للَّذي قد يقَعُ أو لا يقَعُ.
- قولُه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ الباءُ بِكُمْ للمُلابَسةِ، أي: ما لابَسَكم واستَقرَّ عِندَكم، ومِنْ نِعْمَةٍ لِبَيانِ إبهامِ مَا الموصولةِ [615] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/177). .
- و(مِن) في قولِه: فَمِنَ اللَّهِ ابتدائيَّةٌ، أي: واصِلةٌ إليكم مِن اللهِ، أي: مِن عطاءِ اللهِ. ولَمَّا كان قولُه: ومَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ مُفيدًا للعُمومِ، كان الإخبارُ عنه بأنَّه مِن عِندِ اللهِ مُغنِيًا عن الإتيانِ بصيغةِ قَصْرٍ [616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/177). .
- و(ثُمَّ) في قولِه: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ للتَّراخي الرُّتْبيِّ، كما هو شأنُها الغالب في عَطْفِها الجُمَل؛ لأنَّ اللَّجَأَ إلى اللهِ عِندَ حُصولِ الضُّرِّ أعجَبُ إخبارًا مِن الإخبارِ بأنَّ النِّعَمَ كلَّها مِن اللهِ، ومضمونُ الجملةِ المعطوفةِ أبعَدُ في النَّظرِ مِن مضمونِ المعطوفِ عليها. والمقصودُ: تقريرُ أنَّ اللهَ تعالى هو مُدبِّرُ أسبابِ ما بهِم مِن خيرٍ وشرٍّ، وأنَّه لا إلهَ يَخلُقُ إلَّا هو، وأنَّهم لا يَلتجِئون إلَّا إليه إذا أصابَهم ضُرٌّ، وهو ضدُّ النِّعمةِ [617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/177). .
7- قوله تعالى: ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
-  ثُمَّ في قولِه: ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ كما هو شأنُها في عَطفِ الجُمَلِ؛ فليستْ ثُمَّ هنا للدَّلالةِ على تَمادي زَمانِ مِساسِ الضُّرِّ ووُقوعِ الكَشفِ بعدَ بُرهَةٍ مَديدةٍ، بل للدَّلالةِ على تَراخي رُتبةِ ما يتَرتَّبُ عليه مِن مُفاجَأةِ الإشراكِ المدلولِ عليها بقولِه سُبحانَه: إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ؛ فإنَّ ترَتُّبَها على ذلك في أبعَدِ غايةٍ مِن الضَّلالِ. وجيءَ بحرفِ (ثُمَّ)؛ لأنَّ مَضمونَ الجملةِ المعطوفةِ أبعَدُ في النَّظرِ مِن مَضمونِ المعطوفِ عليها؛ فإنَّ الإعراضَ عن المنعِمِ بكَشْفِ الضُّرِّ وإشراكَ غيرِه به في العِبادةِ أعجَبُ حالًا، وأبعَدُ حُصولًا مِن اللَّجَأِ إليه عندَ الشِّدَّةِ [618] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/120)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/178). .
- قولُه: بِرَبِّهِمْ فيه التَّعرُّضُ لوَصفِ الرُّبوبيَّةِ؛ للإيذانِ بكَمالِ قُبحِ ما ارتَكَبوه مِن الإشراكِ والكُفرِ [619] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/120). .
- قولُه: إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يجوزُ أن يَكونَ الخِطابُ في قولِه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ عامًّا، ويُريدَ بالفَريقِ: فريقَ الكفَرةِ وأن يَكونَ الخِطابُ للمُشرِكين ومِنْكُمْ للبَيانِ لا للتَّبعيضِ، كأنَّه قال: فإذا فريقٌ كافِرٌ، وهم أنتُم. ويجوزُ أن يكونَ فيهم مَن اعتَبَر، كقولِه: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] ؛ فمِن تبعيضيَّةٌ أيضًا [620] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/611)، ((تفسير أبي السعود)) (5/120). .
8- قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
- قولُه: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ لامُ التَّعليلِ في لِيَكْفُرُوا- على أحدِ القولينِ- مُتعلِّقةٌ بفِعلِ يُشْرِكُونَ الَّذي هو مِن جوابِ قولِه: إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ، والكُفرُ هنا كفرُ النِّعمةِ؛ ولِذلك عَلَّق به قولَه: بِمَا آتَيْنَاهُمْ، أي: مِن النِّعَمِ، وكُفرُ النِّعمةِ ليس هو الباعِثَ على الإشراكِ؛ فإنَّ إشراكَهم سابِقٌ على ذلك، وقد استَصْحَبوه عَقِبَ كشْفِ الضُّرِّ عنهم، ولكن شُبِّهَت مُقارَنةُ عَوْدِهم إلى الشِّركِ بعدَ كشْفِ الضُّرِّ عنهم بمُقارَنةِ العِلَّةِ الباعِثةِ على عمَلٍ لذلك العمَلِ، ووجهُ الشَّبَهِ: مُبادَرتُهم لكُفرِ النِّعمةِ دونَ تَريُّثٍ [621] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/178- 179). .
- قولُه: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أمرُ تهديدٍ، والالتفاتُ إلى الخطابِ؛ للإيذانِ بتَناهي السُّخطِ [622] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/230)، ((تفسير أبي حيان)) (6/546)، ((تفسير أبي السعود)) (5/120). .
- قولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيدٌ أكيدٌ، مُنْبِئٌ عن أخْذٍ شديدٍ، حيث لم يَذكُرِ المفعولَ؛ إشعارًا بأنَّه ممَّا لا يُوصَفُ [623] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/120). .