موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (66-69)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غريب الكلمات:

يُزْجِي: أي: يَسوقُ ويُسَيِّرُ، وأصلُ (زجي): يدُلُّ على تَسييرِ الشَّيءِ مِن غَيرِ حَبسٍ .
حَاصِبًا: أي: حِجارةً، أو ريحًا عاصِفًا تَرمي بالحَصْباءِ، وهي الحَصَى الصِّغارُ، وأصلُ (حصب): يدُلُّ على الرَّميِ .
قَاصِفًا: ريحًا شَديدةً، تَكسِرُ كُلَّ شَيءٍ، وتُحَطِّمُه، وأصلُ (قصف): يدُلُّ على كَسرٍ لِشَيءٍ .
تَبِيعًا: تابعًا مُطالِبًا بالثَّأرِ لكم، وأصلُ (تبع): يدلُّ على التُّلُوِّ والقَفْوِ .

المعنى الإجمالي:

بعدَ أن بيَّن الله تعالى لبنى آدمَ عداوةَ إبليسَ لهم، أتبَع ذلك ببيانِ جانبٍ مِن نِعَمِه تعالى عليهم، فقال: رَبُّكم -أيُّها النَّاسُ- هو الذي يُسَيِّرُ لكم السُّفُنَ في البَحرِ؛ لِتَطلُبوا رِزقَ اللهِ بالتِّجارةِ؛ إنَّه رَحيمٌ بعِبادِه، وإذا أصابَتْكم شِدَّةٌ في البَحرِ فخَشيتُم الغَرقَ والهَلاكَ، غاب عن عُقولِكم ما تَعبُدونَه مِن الآلهةِ، سوى اللهِ -عزَّ وجَلَّ- ودعوتُموه وَحدَه ليكشِفَ عنكم ما نزلَ بكم من سوءٍ، فلمَّا نجَّاكم إلى البَرِّ أعرَضْتُم عن شُكرِه والإخلاصِ له والتَّوحيدِ، وكان الإنسانُ جَحودًا نِعَمَ ربِّه عزَّ وجَلَّ.
ثمَّ بيَّن سبحانَه أنَّ قدرتَه لا يُعجِزُها شيءٌ، لا في البحرِ ولا في البرِّ ولا في غيرِ ذلك، فقال: أفأَمِنتُم أن تَنهارَ بكم الأرضُ في جانبِ البرِّ، أو يُرسِلَ اللهُ عليكم حِجارةً مِن السَّماءِ فتُهلِكَكم، ثمَّ لا تَجِدوا ناصرًا يُنقِذُكم مِن عَذابِه؟ أم أمِنتُم أن يُعيدَكم في البَحرِ مَرَّةً أخرى، فيُرسِلَ عليكم ريحًا شَديدةً، فيُغرِقَكم بسبَبِ كُفرِكم، ثمَّ لا تَجِدوا لكم علينا مَن يَتبَعُنا بثأرِكم؛ بسبَبِ إهلاكِنا لكم؟

تفسير الآيات:

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى وَصْفَ المُشرِكينَ في اعتِقادِهم في آلهَتِهم، وأنَّها تضُرُّ وتنفَعُ، وأتبَعَ ذلك بقِصَّةِ إبليسَ مع آدَمَ، وتَمكينِه مِن وَسْوسةِ ذُرِّيَّتِه، وتَسويلِه؛ ذكَر سبحانَه ما يدُلُّ مِن أفعالِه على وحدانيَّتِه، وأنَّه هو النَّافِعُ الضَّارُّ المتصَرِّفُ في خَلقِه بما يشاءُ، فذكَرَ إحسانَه إليهم بحرًا وبَرًّا، وأنَّه تعالى مُتمَكِّنٌ بقُدرتِه مِمَّا يُريدُه .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه الوكيلُ الذي لا كافيَ غَيرُه في حِفظِه؛ لاختِصاصِه بشُمولِ عِلمِه وتَمامِ قُدرتِه؛ أتبَعَه بعضَ أفعالِه الدَّالَّةِ على ذلك، فقال تعالى عَوْدًا إلى دلائِلِ التَّوحيدِ الذي هو المقصودُ الأعظَمُ بأحوالِ البَحرِ الذي يُخلِصونَ فيه، في أُسلوبِ الخِطابِ؛ استِعطافًا لهم إلى المتابِ :
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.
أي: ربُّكم هو وَحْدَه الذي يَسوقُ لكم السُّفُنَ في البَحرِ؛ لِتَطلُبوا برُكوبِها الرِّزقَ مِن اللهِ بالتِّجارةِ، وطَلَبِ المَعاشِ .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية: 12] .
  إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا.
أي: سهَّل اللهُ لكم سَيرَ السُّفُنِ في البِحارِ لِنَفْعِكم؛ لأنَّه رَحيمٌ بكم .
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بعد أن ألزَمَ اللهُ الكافِرينَ الحُجَّةَ على حَقِّ إلهيَّةِ اللهِ تعالى بما هو مِن خَصائِصِ صُنعِه باعتِرافِهم؛ أعقَبَه بدَليلٍ آخَرَ مِن أحوالِهم المتضَمِّنةِ إقرارَهم بانفِرادِه بالتصَرُّفِ، ثمَّ بالتَّعجيبِ مِن مُناقَضةِ أنفُسِهم عند زَوالِ اضطِرارِهم .
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ.
أي: وإذا أصابَتْكم الشِّدَّةُ في البَحرِ -كما لو أمسَكَت السَّفينةُ عن الجَريِ، أو اشتَدَّت عليكم الرِّيحُ، وهاجَت بكم الأمواجُ واضطَرَبت، وخَشِيتُم الغَرَقَ- غاب عن قُلوبِكم كلُّ مَن تَدعونَهم مِن دُونِ اللهِ، ولم تَستغيثوا إلَّا باللهِ وَحدَه؛ لعِلْمِكم بأنَّه لا يُنَجِّيكم أحدٌ سِواه .
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ.
أي: فلمَّا نجَّاكم اللهُ مِن الغَرَقِ، وأوصَلَكم إلى البَرِّ؛ أعرَضْتُم عن شُكرِه وتَوحيدِه، والإخلاصِ له سُبحانَه !
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 22- 23] .
وقال سُبحانَه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] .
وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا.
أي: وكان الإنسانُ مَطبوعًا على الجُحودِ لنِعَمِ اللهِ عليه؛ فهذه سَجِيَّتُه إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ تعالى .
كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 9، 10].
وقال سبحانه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6].
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68).
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ.
أي: أفأمِنْتُم أن يجعَلَ اللهُ الأرضَ تَنهارُ بكم في جانِبِ البَرِّ إنْ خَرَجتُم مِن البَحرِ سالِمينَ؟ فهو قادِرٌ على إهلاكِكم سواءٌ في البَحرِ أو في البَرِّ .
كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16] .
أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا.
أي: أوْ أمِنْتُم أن يُرسِلَ اللهُ عليكم حِجارةً مِن السَّماءِ فيُمطِرَكم بها، فيُهلِكَكم ؟
كما قال تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 17] .
ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا.
أي: ثمَّ لا تَجِدوا لكم ناصِرًا يَدفَعُ عنكم العَذابَ، ويُنقِذُكم منه .
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)  .
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى.
أي: أم أمِنْتُم -يا مَن أعرَضْتُم عن توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ الدِّينِ له، بَعدَما اعترَفْتُم بذلك في البَحرِ فأنقَذَكم- أن يَرجِعَكم اللهُ في البَحرِ مرَّةً أخرى ؟
فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ.
أي: فيُرسِلَ اللهُ عليكم في البَحرِ رِيحًا شَديدةً تَكسِرُ سُفُنَكم، فيُغرِقَكم بسبَبِ كُفرِكم باللهِ، وإعراضِكم عنه ؟
ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا.
أي: ثمَّ لا تَجِدوا لكم تابِعًا يثأرُ لكم، ويُطالِبُنا بما فعَلْنا بكم .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ فيه إشارةٌ إلى إمكانِ حُصولِ الخَوفِ لهم بمُجَرَّدِ حُلولِهم بالبَرِّ، بحيثُ يُخسَفُ بهم ذلك الشَّاطِئُ، أي: أنَّ البَرَّ والبَحرَ في قُدرةِ الله تعالى سِيَّان؛ فعلى العاقِلِ أن يَستَويَ خَوفُه مِن اللهِ في البَرِّ والبَحرِ .
2- في قَولِه تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا إلى قَولِه: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا دَليلٌ على أنَّ الفَزَعَ إلى اللهِ في الشِّدَّةِ -دونَ الرَّخاءِ- خُلُقٌ مِن أخلاقِ الكافِرينَ، وأنَّ المؤمِنَ مَندوبٌ إلى مُراعاةِ حقِّ اللهِ عليه، والتَّعَرُّفِ إليه في الرَّخاءِ؛ لِيُجَابَ عندَ الشِّدَّةِ، فإذا أُجيبَ ازدادَ ذِكْرًا وخَشيةً واقتِرابًا وتَفويضًا؛ ليكونَ عَبدًا مُؤتمِرًا، لا وَجِلًا خائِفًا، مُتبَرِّئًا مِن الحَولِ والقُوَّةِ، مُستَمِدًّا المَعونةَ مِن ربِّه في كلا حالَيه مِن الرَّخاءِ والشِّدَّةِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ لم يَقُلْ: (أمَسَّكم) بالإسنادِ إلى نَفسِه تعالى؛ تأديبًا لنا في مُخاطَبتِه بنِسبةِ الخَيرِ دُونَ الشَّرِّ إليه، مع اعتِقادِ أنَّ الكُلَّ فِعْلُه، وتنبيهًا على أنَّ الشَّرَّ مِمَّا ينبغي التبَرُّؤُ منه، والبُعدُ عنه .
4- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ فيه تنبيهٌ على أنَّ السَّلامةَ في البَرِّ نِعمةٌ عَظيمةٌ تَنسَونَها، فلو حدَث لكم خَسفٌ لهَلَكتُم هَلاكًا لا نجاةَ لكم منه، بخِلافِ هَولِ البَحرِ، ولكِنْ لَمَّا كانت السَّلامةُ في البَرِّ غيرَ مُدرَكٍ قَدْرُها، قَلَّ أنْ تَشعُرَ النُّفوسُ بنِعمَتِها وتَشعُرَ بخَطَرِ هَولِ البَحرِ؛ فينبغي التدَرُّبُ على تَذكُّرِ نِعمةِ السَّلامةِ مِن الضُّرِّ، ثمَّ إنَّ محَلَّ السَّلامةِ مُعرَّضٌ إلى الأخطارِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ صَريحٌ في إباحةِ رُكوبِ البَحرِ للتِّجارةِ .
2- مَن دعا اللهَ سُبحانَه مُوقِنًا أنَّه يُجيبُ دَعوةَ الدَّاعي إذا دعاه، أجابَه، وقد يكونُ مُشرِكًا وفاسقًا؛ فإنَّه سُبحانَه هو القائِلُ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] ، وهو القائِلُ سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا، وهو القائِلُ سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 40 - 41] ، ولكِنَّ هؤلاء الذين يُستجابُ لهم لإقرارِهم برُبوبيَّتِه، وأنَّه يُجيبُ دُعاءَ المُضطَرِّ، إذا لم يَكونوا مُخلِصينَ له الدِّينَ في عِبادتِه، ولا مُطيعينَ له ولِرَسولِه؛ كان ما يُعطيهم بدُعائهم مَتاعًا في الحياةِ الدُّنيا، وما لهم في الآخِرةِ مِن خَلاقٍ .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
- قولُه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فيه افتتاحُ الجُملةِ بالمُسنَدِ إليه مُعرَّفًا بالإضافةِ ومُستحضرًا بصِفَةِ الرُّبوبيَّةِ رَبُّكُمُ؛ لاستدعاءِ إقبالِ السَّامعينَ على الخبرِ المُؤذِنِ بأهميَّتِه؛ حيث افتُتِحَ بما يُتَرَقَّبُ منه خبرٌ عظيمٌ؛ لكونِه من شُؤونِ الإلهِ الحقِّ، وخالقِ الخلْقِ، ومُدبِّرِ شُؤونِهم، تَدبيرَ اللَّطيفِ الرَّحيمِ، فيُوجِبُ إقبالَ السَّامعِ بشَراشِرِه ؛ إنْ مُؤمنًا مُتذكِّرًا، أو مُشركًا ناظِرًا مُتدبِّرًا. وجِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لدَلالتِها على الدَّوامِ والثَّباتِ. وبتَعريفِ طرفيْها رَبُّكُمُ الَّذِي؛ للدَّلالةِ على الانحصارِ، أي: ربُّكم هو الَّذي يُزْجي لكم الفُلكَ لا غيرُه ممَّن تَعْبدونه باطلًا، وهو الَّذي لا يَزال يفعَلُ ذلك لكم. وجِيءَ بالصِّلةِ فعلًا مُضارعًا يُزْجِي؛ للدَّلالةِ على تَكرُّرِ ذلك وتجدُّدِه .
- وفي قولِه: يُزْجِي شَبَّهَ تَسخيرَ الفُلْكِ للسَّيرِ في الماءِ بإزجاءِ الدَّابَّةِ المُثقلَةِ بالحِمْلِ .
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا تَعليلٌ وتَنبيهٌ لموقعِ الامتنانِ؛ ليَرْفُضوا عِبادةَ غيرِه ممَّا لا أثرَ له في هذه المِنَّةِ ، وهو تَذييلٌ فيه تعليلٌ لِما سبَقَ من الإزجاءِ لابتغاءِ الفضْلِ، وصِيغَةُ (الرَّحيمِ) للدَّلالةِ على أنَّ المُرادَ بالرَّحمةِ الرَّحمةُ الدُّنيويَّةُ، والنِّعمةُ العاجلةُ المُنقسِمةُ إلى الجليلةِ والحقيرةِ .
2- قَولُه تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا
- جُملةُ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ خبرٌ مُستعمَلٌ في التَّقريرِ وإلزامِ الحُجَّةِ. وجُملةُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ خبرٌ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ والتَّوبيخِ. والعُدولُ إلى الموصوليَّةِ -مَنْ تَدْعُونَ- لِما تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن عمَلِ اللِّسانِ؛ ليتأتَّى الإيجازُ، أي: مَن يتكرَّرُ دُعاؤكم إيَّاهم، كما يدُلُّ عليه المُضارعُ، فالمعنى: غاب وانصرَفَ ذِكْرُ الَّذين عادتُكم دُعاؤهم عن ألسنتِكم فلا تَدْعونهم، وذلك بقَرينةِ ذكْرِ الدُّعاءِ هنا الَّذي مُتعلِّقُه اللِّسانُ؛ فتعيَّنَ أنَّ ضلالَهم هو ضَلالُ ذكْرِ أسمائِهم، وهذا إيجازٌ بَديعٌ .
- قولُه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا تعليلٌ لِما سبَقَ من الإعراضِ ، وجاءت صِفَةُ كَفُورًا دَلالةً على المُبالغةِ، ثمَّ لم يُخاطِبْهم بذلك، بل أسنَدَ ذلك إلى الإنسانِ؛ لُطفًا بهم، وإحالةً على الجنسِ؛ إذ كلُّ أحدٍ لا يكادُ يُؤدِّي شُكرَ نِعَمِ اللهِ ، وأيضًا هذه الجُملةُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا اعتراضٌ وتَذييلٌ؛ لزيادةِ التَّعجُّبِ منهم ومن أمثالِهم. والتَّعريفُ في الإنسانِ تعريفُ الجنسِ، وهو مُفيدٌ للاستغراقِ؛ فهذا الاستغراقُ يجوزُ أنْ يكونَ استغراقًا عُرفيًّا بحمْلِه على غالبِ نوعِ الإنسانِ، وهم أهلُ الإشراكِ، وهم أكثرُ النَّاسِ يومئذٍ، فتكونُ صِيغَةُ المُبالَغةِ من قولِه: كَفُورًا راجعةً إلى قُوَّةِ صِفَةِ الكُفرانِ أو عدَمِ الشُّكرِ؛ فإنَّ أعلاه إشراكُ غيرِ المُنعِمِ مع المُنعِمِ في نِعمةٍ لا حظَّ له فيها. ويجوزُ أنْ يكونَ الاستغراقُ حقيقيًّا، أي: كان نوعُ الإنسانِ كَفورًا، أي: غيرَ خالٍ من الكُفرانِ، فتكونُ صِيغَةُ المُبالَغةِ راجعةً إلى كثرةِ أحوالِ الكُفرانِ مع تَفاوُتِها .
- وذِكْرُ فعْلِ (كان) إشارةٌ إلى أنَّ الكُفرانَ مُستقِرٌّ في جِبلَّةِ هذا الإنسانِ؛ لأنَّ الإنسانَ قلَّما يشعُرُ بما وراء عالمِ الحسِّ؛ فإنَّ الحواسَّ تَشغَلُه بمُدركاتِها عنِ التَّفكُّرِ فيما عدا ذلك من المعاني المُستقرَّةِ في الحافظةِ، والمُستنبَطةِ بالفكرِ .
3- قَولُه تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا
- قولُه: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ... الاستفهامُ أَفَأَمِنْتُمْ إنكاريٌّ وتَوبيخٌ ، وأَفَأَمِنْتُمْ تَفريعٌ على جُملةِ أَعْرَضْتُمْ، وما بينهما اعتِراضٌ، وفُرِّعَ الاستفهامُ التَّوبيخيُّ على إعراضِهم عنِ الشُّكرِ، وعَوْدِهم إلى الكُفرِ .
4- قَولُه تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا
- قولُه: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ فيه إيثارُ كلمةِ (في) على كلمةِ (إلى) المُنبئةِ عن مُجرَّدِ الانتهاءِ؛ للدَّلالةِ على استقرارِهم فيه .
- قولُه: أَنْ يُعِيدَكُمْ فيه إسنادُ الإعادةِ إليه تعالى، مع أنَّ العودَ إليه باختيارِهم باعتبارِ خلْقِ الدَّواعي المُلجئةِ لهم إلى ذلك، وفيه إيماءٌ إلى كَمالِ شِدَّةِ هولِ ما لاقَوه في التارةِ الأُولى، بحيث لولا الإعادةُ لَمَا عادوا .
- قولُه: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ كشأنِها في عطْفِها الجُمَلَ، وهو ارتقاءٌ في التَّهديدِ بعدَمِ وُجودِ مُنقذٍ لهم، بعدَ تهديدِهم بالغرقِ؛ لأنَّ الغريقَ قد يجِدُ مُنقِذًا .
- ووصْفُ (تَبِيع) يُناسِبُ حالَ الضُّرِّ الَّذي يلحَقُهم في البحرِ؛ لأنَّ البحرَ لا يصِلُ إليه رجالُ قَبيلةِ القومِ وأولياؤهم، فلو راموا الثَّأرَ لهم لرَكِبوا البحرَ ليُتابِعوا آثارَ مَن ألحَقَ بهم ضرًّا؛ فلذلك قيل هنا: تَبِيعًا، وقيل في الَّتي قبلَها: وَكِيلًا .
- وعلى قِراءةِ نَخْسِفَ ونُرْسِلَ ونُعِيدَكُمْ وفَنُرْسِلَ وفَنُغْرِقَكُمْ خمْسَتُها بنونِ العظمةِ ؛ فيكونُ فيها التِفاتٌ من ضميرِ الغَيبةِ الَّذي في قولِه: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ إلى ضميرِ التَّكلُّمِ .