موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (70-72)

ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات:

فَتِيلًا: الفَتيلُ: الخيطُ الذي في بَطنِ النَّواةِ، ويُضرَبُ مَثَلًا للشَّيءِ الحَقيرِ التَّافِهِ، وأصلُ (فتل): يدُلُّ على لَيِّ شَيءٍ [925] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 259)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 360)، ((المفردات)) للراغب (ص: 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/84).   .

المعنى الإجمالي:

ذكَر الله سبحانَه تكريمَه لبنى آدمَ، وتفضيلَهم على كثيرٍ مِن المخلوقاتِ، فقال: ولقد كَرَّمْنا بني آدَمَ بما أنعَمْنا عليهم مِنَ النِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ، وسَخَّرْنا لهم ما يحمِلُهم من الدوابِّ في البَرِّ، والسُّفُنِ في البَحرِ، ورَزَقْناهم مِن طَيِّباتِ المطاعِمِ والمَشارِبِ وسَائِرِ مَا يستلِذُّونَه وينتَفِعونَ به، وفضَّلْناهم على كَثيرٍ مِن المَخلوقاتِ تَفضيلًا عَظيمًا.
ثمَّ ذكَر شيئًا مِن أحوالِهم في الآخرةِ فقال: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- يومَ القيامةِ حينَ يَدعو اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- كُلَّ جَماعةٍ مِن النَّاسِ مع إمامِهم الذي كانوا يأتمُّونَ به في الدُّنيا، فمَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بيَمينِه، فهؤلاء يَقرَؤونَ كِتابَهم فَرِحينَ مُستَبشِرينَ، ولا يُنْقَصونَ مِن ثَوابِ أعمالِهم الصَّالحةِ شَيئًا، وإن كان يسيرًا كالخَيطِ الذي يكونُ في شَقِّ النَّواةِ، ومَن كان في هذه الدُّنيا أعمى القَلبِ عن طريقِ الحَقِّ، فهو في الآخرة أشدُّ عَمًى، وأضَلُّ طَريقًا.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى ما امتَنَّ به عليهم مِن إزجاءِ الفُلكِ في البَحرِ، ومِن تَنجِيَتِهم مِن الغَرَقِ؛ تَمَّمَ ذِكرَ المِنَّةِ بذِكرِ تَكرِمتِهم ورِزقِهم وتَفضيلِهم [926] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/84).   .
وأيضًا لَمَّا هَدَّدَهم اللهُ تعالى بما هَدَّدَ مِن الخَسفِ والغَرَقِ، وأنَّهم كافِرو نِعمَتِه؛ ذكَرَ ما أنعَمَ به عليهم ليتَذَكَّروا فيَشكُروا نِعَمَه، ويُقلِعوا عمَّا كانوا فيه مِن الكُفرِ، ويُطيعوه تعالى، وفي ذِكرِ النِّعَمِ وتَعدادِها هَزٌّ لِشُكرِها [927] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/84).   .
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ.
أي: ولقد شَرَّفْنا بني آدَمَ قاطِبةً برَّهم وفاجِرَهم بأنواعِ الشَّرَفِ والمحاسِنِ الكَثيرةِ، بما أنعَمَ اللهُ تعالى عليهم مِن النِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ التي لا يُمكِنُ لهم حَصرُها؛ ومنها تَمييزُهم بالعَقلِ، وتَسخيرُ المخلوقاتِ لهم [928] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/5)، ((تفسير القرطبي)) (10/293، 294)، ((تفسير البيضاوي)) (3/262)، ((تفسير ابن كثير)) (5/97)، ((تفسير الألوسي)) (8/112)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463). قال الشوكاني: (هذه الكرامةُ يدخُلُ تحتَها خلْقُهم على هذه الهيئة الحَسَنةِ، وتخصيصُهم بما خصَّهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجهٍ لا يوجَدُ لسائر أنواع الحيوان مثلُه. وحكى ابنُ جرير عن جماعةٍ أنَّ هذا التكريمَ هو أنَّهم يأكُلون بأيديهم، وسائِرُ الحيوانات تأكُلُ بالفم، وكذا حكاه النحَّاس. وقيل: ميَّزَهم بالنُّطقِ والعقل والتمييز. وقيل: أكرمَ الرجالَ باللِّحى والنساءَ بالذوائبِ. وقال ابن جرير: أكرمهم بتسليطِهم على سائر الخَلقِ وتسخيرِ سائرِ الخلقِ لهم. وقيل: بالكلامِ والخطِّ والفهم. ولا مانِعَ من حملِ التكريم المذكورِ في الآية على جميعِ هذه الأشياء، وأعظَمُ خصال التكريمِ العَقلُ؛ فإنَّ به تسلطوا على سائر الحيوانات، ومَيَّزوا بين الحَسَن والقبيح، وتوسَّعوا في المطاعم والمشارب، وكَسَبوا الأموالَ التي تسبَّبوا بها إلى تحصيلِ أمور لا يقدِرُ عليها الحيوان، وبه قَدَروا على تحصيل الأبنية التي تمنَعُهم مما يخافون، وعلى تحصيل الأكسية التي تَقيهم الحرَّ والبردَ). ((تفسير الشوكاني)) (3/290). وقال الألوسي: (... وقيل وقيل، والكُلُّ في الحَقيقةِ على سَبيلِ التَّمثيلِ، ومَن ادَّعى الحَصرَ في واحدٍ، كابنِ عطيَّةَ، حيث قال: إنَّما التكريمُ بالعَقلِ لا غيرُ- فقد ادَّعى غَلطًا ورام شَطَطًا، وخالف صريحَ العَقلِ، وصَحيحَ النَّقلِ). ((تفسير الألوسي)) (8/112). وقال ابن عاشور: (التكريمُ: جعْلُه كريمًا، أي نفيسًا غير مبذولٍ ولا ذليلٍ في صورتِه ولا في حركةِ مَشيِه وفي بشَرتِه؛ فإنَّ جميعَ الحيوان لا يعرِفُ النظافةَ ولا اللباسَ ولا ترفيهَ المضجَعِ والمأكَلِ، ولا حُسنَ كيفية تناوُلِ الطعام والشراب، ولا الاستعدادَ لِما ينفَعُه ودفْعَ ما يضرُّه، ولا شعورَه بما في ذاتِه وعقلِه مِن المحاسِنِ فيستزيدُ منها، والقبائحِ فيستُرُها ويدفَعُها). (تفسير ابن عاشور)) (15/165). .
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
أي: وحَمَلْنا بني آدَمَ في البَرِّ على ظُهورِ الدوابِّ وغَيرِها مِن المَراكِبِ، وفي البَحرِ على ظُهورِ السُّفُنِ والقَوارِبِ [929] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/5)، ((تفسير ابن كثير)) (5/97)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/476)، ((تفسير القاسمي)) (6/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/165)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/175). وقال ابنُ عاشور: (معنى حَملِ اللهِ النَّاسَ في البَحرِ: إلهامُه إيَّاهم استعمالَ السُّفُنِ... فجعَلَ تيسيرَ ذلك كالحَملِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/165).   .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79-80] .
وقال سُبحانَه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف: 12-14] .
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
أي: ورَزَقْنا بني آدَمَ مِن سَائِرِ مَا يستلِذُّونَه وينتَفِعونَ به، كأنواعِ المآكلِ والمشارِبِ [930] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/5)، ((تفسير الرسعني)) (4/205)، ((تفسير القرطبي)) (10/295)، ((تفسير ابن كثير)) (5/97)، ((تفسير الشوكاني)) (3/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/165). وممَّن قصَرَ مِن المفَسِّرينَ الطَّيِّباتِ على المطعوماتِ والمَشروباتِ: ابنُ جرير، والرسعني، والقرطبي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/5)، ((تفسير الرسعني)) (4/205)، ((تفسير القرطبي)) (10/295)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/165). قال القرطبي: (وجعَل رِزقَ غيرهم ما لا يخفى عليكم من التِّبنِ والعظامِ وغيرها). ((تفسير القرطبي)) (10/295). وزاد ابنُ كثيرٍ على ما سبَق المَلابسَ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/97). وممَّن قال بما هو أعمُّ ممَّا سبَق: الشوكانيُّ والسعدي، فقال الشوكاني: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَيْ: لَذيذِ المطاعمِ والمشارِبِ وسائرِ ما يستلذُّونَه وينتفِعونَ به). ((تفسير الشوكاني)) (3/290). وقال السعدي: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ من المآكِلِ والمشارِبِ والملابِسِ والمناكِحِ، فما من طيِّبٍ تتعلَّقُ به حوائِجُهم إلَّا وقد أكرمهم اللهُ به ويسَّرَه لهم غايةَ التيسيرِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 463). .
كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] .
وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام: 141، 142].
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 66-69].
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.
أي: وفضَّلْنا [931] قال ابنُ عاشور: (الفَرقُ بين التَّفضيلِ والتَّكريمِ بالعُمومِ والخُصوصِ؛ فالتَّكريمُ مَنظورٌ فيه إلى تكريمِه في ذاتِه، والتَّفضيلُ مَنظورٌ فيه إلى تَشريفِه فَوقَ غَيرِه). ((تفسير ابن عاشور)) (15/166).   بني آدَمَ على كثيرٍ مِن المخلوقاتِ تَفضيلًا عَظيمًا؛ وذلك بما منَحَهم اللهُ مِن النِّعَمِ والخَصائِصِ التي لم يُعطِها لِغَيرِهم مِن مَخلوقاتِه [932] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/5)، ((تفسير ابن عطية)) (3/473)، ((تفسير القرطبي)) (10/295)، ((تفسير القاسمي)) (6/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/166).   .
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنواعَ كَراماتِ الإنسانِ في الدُّنيا؛ ذكَرَ أحوالَ دَرَجاتِه في الآخِرةِ في هذه الآيةِ [933] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/376).   .
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ.
أي: اذكُرْ يومَ القيامةِ حين نُنادي كُلَّ قَومٍ بإمامِهم في الدُّنيا [934] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/8)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/252)، ((تفسير ابن عطية)) (3/473)، ((تفسير القرطبي)) (10/296، 297)، ((تفسير ابن كثير)) (5/98، 99)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/168)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/175، 176). وفي معنى الإمامِ هاهنا خلافٌ بين المفَسِّرينَ: فقيل: المرادُ: يُنادَونَ بالإمامِ الذي يأتَمُّ النَّاسُ به ويَقتَدونَ، مِن هادٍ أو ضالٍّ. وممن قال بذلك: البقاعي، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/477)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/168)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/176). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباس في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/40). وقيل: إمامُهم: هاديهم إلى الرُّشدِ، وهم الرُّسُلُ ونوَّابُهم، فتُعرَضُ كُلُّ أمَّةٍ، ويَحضُرُها رَسولُهم الذي دعاهم. وممَّن قال بذلك: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 463). وممن قال مِن السلفِ: إنَّ المرادَ بقولِه: بِإِمَامِهِمْ أي: بنبيِّهم: أنسٌ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2339)، ((تفسير ابن جرير)) (15/6). وقيل: المرادُ: كِتابُ أعمالِهم. وممَّن اختار هذا القولَ: ابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/99). وممن قال بنحوِ هذا القولِ من السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، والحسنُ، وأبو العالية، والضحاكُ في روايةٍ عنه، وقتادةُ، ومقاتلٌ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/542)، ((تفسير ابن جرير)) (15/7)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/40). وقيل: المراد: كِتابُهم الذي أُنزِلَ عليهم، كالقُرآنِ والتَّوراةِ. وممَّن اختار هذا المعنى: الزجَّاج. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (3/253). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: مجاهدٌ في روايةٍ عنه، وابنُ زيدٍ، والضحاكُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/8)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/40). قال ابن عطية: (قولُه: بِإِمَامِهِمْ يحتَمِلُ أن يريدَ باسمِ إمامِهم، ويحتملُ أن يريدَ مع إمامِهم، فعلى التأويل الأول: يقالُ: يا أمَّةَ محمَّدٍ، ويا أتباعَ فِرعَون، ونحو هذا، وعلى التأويل الثاني: تجيءُ كُلُّ أمة معها إمامُها من هادٍ أو مضِلٍّ. واختلف المفسِّرون في «الإمام»، فقال مجاهد وقتادة: نبيُّهم، وقال ابن زيد: كتابُهم الذي نزل عليهم، وقال ابن عباس والحسن: كتابُهم الذي فيه أعمالُهم، وقالت فرقة: مُتَّبَعُهم من هادٍ أو مضِلٍّ. ولفظة «الإمام» تعمُّ هذا كُلَّه). ((تفسير ابن عطية)) (3/473). .
فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا.
أي: فمَن أُعطِيَ كتابَ أعمالِه بيَدِه اليمنى، فأولئك يَقرؤونَ كِتابَهم هذا بفَرَحٍ وسُرورٍ؛ لِما يَرَونَ فيه مِن أعمالِهم الصَّالحةِ التي عَمِلوها في الدُّنيا، ولا يَنقُصُهم اللهُ مِن جَزاءِ أعمالِهم الصَّالحةِ شَيئًا، ولو كان يَسيرًا في غايةِ القِلَّةِ والحَقارةِ، كالخَيطِ الذي في شَقِّ نَواةِ التَّمرةِ [935] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/9)، ((تفسير ابن كثير)) (5/99)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463).   .
كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ *وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19 - 26] .
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) .
أي: ومَن كان في هذه الدُّنيا أعمى القَلبِ لا يُبصِرُ الحَقَّ [936] قال النَّيسابوري: (لا خِلافَ أنَّ المرادَ بهذا العَمى: عَمى القَلبِ). ((تفسير النيسابوري)) (4/370). والإشارةُ بقولِه: هَذِهِ تعودُ إلى الدُّنيا، واختلف أصحابُ هذا القولِ فيما يعمَى عنه القلبُ: فقيل: أعمَى القلبِ عن حُجج الله وآياتِه وبيناتِه. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، والواحدي، وابنُ عطية، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/11-12)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 642)، ((تفسير ابن عطية)) (3/474)، ((تفسير ابن كثير)) (5/100). قال ابن جرير: (وأولى الأقوالِ في ذلك عندي بالصوابِ قولُ من قال: معنى ذلك: ومَن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجَجِ الله على أنَّه المنفرِدُ بخَلقِها وتدبيرِها، وتصريفِ ما فيها... وإنما قلنا: ذلك أولى تأويلاتِه بالصوابِ؛ لأنَّ الله تعالى ذِكرُه لم يَخصُصْ في قوله: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنيا أَعْمَى عمى الكافِرِ به عن بعضِ حُجَجِه عليه فيها دونَ بعضٍ؛ فيوجَّهَ ذلك إلى عماه عن نِعَمِه بما أنعَمَ به عليه من تكريمِه بني آدم، وحَمْلِه إياهم في البَرِّ والبحر، وما عدَّد في الآيةِ التي ذكر فيها نِعَمَه عليهم، بل عَمَّ بالخبر عن عماه في الدنيا، فهم كما عمَّ تعالى ذِكرُه). ((تفسير ابن جرير)) (15/11-12). وقال ابنُ كثير: (وقولُه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا قال ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، وابنُ زيدٍ: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أي: في الحياةِ الدُّنيا أَعْمَى عن حُجَجِ اللَّهِ وآياتِه وبَيِّناتِه). ((تفسير ابن كثير)) (5/100). وقيل: أعمَى القلبِ عن الهدَى، ضالٌّ عن الحقِّ، لا يبصرُ رشدَه. وممن قال بنحو ذلك: البيضاوي، وابن جزي، وابن القيم، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/262)، ((تفسير ابن جزي)) (1/451)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/35)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/170). وقيل: الإشارةُ في قوله: هَذِهِ تعودُ إلى النعمِ. وممن اختار ذلك: مقاتلُ بنُ سليمان، والفراءُ، والسمرقندي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/542)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/127)، ((تفسير السمرقندي)) (2/322). قال مقاتل: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ النعمِ أَعْمَى يعني: الكافرَ، عمِي عنها، وهو معاينُها، فلم يعرِفْ أنَّها مِن الله عزَّ وجلَّ فيشكر ربَّها، فيعرِفه فيُوحِّده تبارك وتعالى). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/542). وممن قال مِن السلفِ: إنَّ الإشارةَ تعودُ إلى النعمِ: محمدُ بنُ أبي موسى. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/9). ؛ فهو في الدَّارِ الآخرةِ [937] قال النيسابوري: (أما قوله: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى فيحتملُ أنْ يُرادَ به عمَى البصرِ، كقولِه: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا [طه: 124، 125]، وفي هذا زيادةُ العقوبةِ. ويحتملُ أن يُرادَ عمَى القلبِ). ((تفسير النيسابوري)) (4/370). وعلى أنَّ المرادَ عمَى القلبِ، قيل في معنى قوله: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى: أي: فهو في أمرِ الآخرةِ الَّتي لم يَرَها، وفيما هو كائِنٌ فيها -مِن البعثِ والحسابِ والجنةِ والنارِ- أعمَى. وممن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جرير، والواحدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/542)، ((تفسير ابن جرير)) (15/11)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 642). قال مقاتل: (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى يقول: فهو عمَّا غاب عنه مِن أمرِ الآخرةِ مِن البعثِ والحسابِ والجنةِ والنارِ أعمَى). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/542). وقيل: المرادُ: أعمَى القلبِ يومَ القيامةِ، حيرانُ يائسٌ مِن الخيرِ؛ لأنَّه قد باشَر الخيبةَ، ورأى مخايلَ العذابِ. وممن اختار نحو هذا القولِ: ابنُ عطيةَ، وابنُ جزي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/474)، ((تفسير ابن جزي)) (1/451). وقيل: المرادُ: عمى البصرِ في الآخرة. قال ابن القيم: (واختُلِف في هذا العمى في الآخرة، فقيل: هو عمى البصيرةِ؛ بدليل إخباره تعالى عن رؤية الكفَّارِ ما في القيامة ورؤيةِ الملائكةِ ورؤيةِ النار.وقيل: هو عمى البصر، ورجِّحَ هذا بأن الإطلاقَ ينصرِفُ إليه، وبقَولِه: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا وهذا عمى العينِ؛ فإن الكافِرَ لم يكن بصيرًا بحجَّتِه. وأجاب هؤلاء عن رؤية الكفَّارِ في القيامة بأنَّ الله يخرِجُهم من قبورِهم إلى موقف القيامة بُصَراءَ ويُحشَرونَ مِن الموقِفِ إلى النار عُميًا، قاله الفرَّاء وغيره). ((مفتاح دار السعادة)) (1/111-112). أعمى [938] قال الشنقيطي: (قال بعضُ أهل العلم: ليست الصيغةُ صيغةَ تفضيل، بل المعنى: فهو في الآخرةِ أعمى كذلك، لا يهتدي إلى نفعٍ؛ وبهذا جزم الزمخشري. قال مقيِّده عفا الله عنه: الذي يتبادَرُ إلى الذهن أنَّ لفظة أَعْمَى الثانية صيغةُ تفضيل؛ أي هو أشدُّ عمًى في الآخرة. ويدُلُّ عليه قوله بعده: وَأَضَلُّ سَبِيلًا؛ فإنها صيغةُ تفضيل بلا نزاعٍ). ((أضواء البيان)) (3/177). وممن رجَّح أنها صيغةُ تفضيلٍ أيضًا: الواحدي، وابن عطية. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 642)، ((تفسير ابن عطية)) (3/474).   وأضَلُّ طريقًا [939] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/474)، ((تفسير البيضاوي)) (3/262)، ((تفسير ابن جزي)) (1/451-452)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/35، 111، 112)، ((تفسير ابن كثير)) (5/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 463). قال الرسعني: (وَأَضَلُّ سَبِيلًا لأنَّه في الآخرةِ، وضلالُ الآخرةِ لا سبيلَ إلى المخلصِ منه). ((تفسير الرسعني)) (4/210). وقال القرطبي: (وَأَضَلُّ سَبِيلًا يعني أنَّه لا يَجِدُ طريقًا إلى الهدايةِ). ((تفسير القرطبي)) (10/299). .
قال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 97، 98].
وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 124- 127].

الفوائد التربوية :

في قَولِه تعالى: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا التَّأكيدُ بقَولِه: تَفْضِيلًا يدُلُّ على عِظَمِ هذا التَّفضيلِ، وأنَّه بمكانٍ مَكِينٍ؛ فعلى بني آدَمَ أن يتلَقَّوه بالشُّكرِ، ويَحذَروا مِن كُفرانِه [940] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/291).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ استدَلَّ به الشَّافعيُّ على عدَمِ نجَاسةِ الآدميِّ بالمَوتِ [941] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 168). وهو مذهبُ الجمهورِ خلافًا للحنفيةِ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (40/78)، ((ملخص فقه العبادات)) إعداد: القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (ص: 51).   .
2- لا شكَّ أنَّ ذكرَ لفظِ كَثِيرٍ في قولِه تعالى: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا مُرادٌ منه التَّقييدُ والاحترازُ والتَّعليمُ الَّذي لا غُرورَ فيه، فيُعلَمُ منه أنَّ ثَمَّ مَخلوقاتٍ غيرَ مُفضَّلٍ عليها بنو آدمَ تكونُ مُساويةً، أو أفضَلَ إجمالًا أو تفصيلًا [942] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/166).   .
3- قَولُ الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ قال بعضُ السَّلَف: (هذا أكبَرُ شَرَفٍ لأصحابِ الحَديثِ؛ لأنَّ إمامَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [943] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/99).   . وهذا المعنى على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.
4- قَولُ الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فيه دَليلٌ على أنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُدعى إلى دِينِها وكِتابِها -وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، هل عَمِلَت به أم لا؟ وأنَّهم لا يُؤاخَذونَ بشَرعِ نَبيٍّ لم يُؤمَروا باتِّباعِه، وأنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه ومُخالفَتِه لها [944] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 463).   .
5- قولُه: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فائدةُ نِدائِهم بمَتْبوعيهم -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ- التَّعجيلُ بالمَسرَّةِ لأتْباعِ الهُداةِ، وبالمَساءةِ لأتْباعِ الغُواةِ؛ لأنَّهم إذا دُعُوا بذلك رأَوا مَتبوعيهم في المقاماتِ المُناسبةِ لهم، فعَلِموا مصيرَهم [945] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/167-168).   .
6- قال تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وجْهُ كونِ ضَلالِه في الآخرةِ أشدَّ: أنَّ ضلالَه في الدُّنيا كان في مُكْنَتِه أنْ ينجُوَ منه بطلَبِ ما يُرشِدُه إلى السَّبيلِ المُوصِلِ من هَدْي الرَّسولِ والقُرآنِ، مع كونِه خليًّا عن لَحاقِ الألمِ به، وأمَّا ضَلالُه في الآخرةِ فهو ضلالٌ لا خَلاصَ منه، وهو مُقارِنٌ للعذابِ الدَّائمِ؛ فلا جرَمَ كان ضلالُه في الآخرةِ أدخَلَ في حقيقةِ الضَّلالِ وماهيَّتِه [946] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/170).   . وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.
7- إنَّ المَعادَ يعودُ على العَبدِ فيه ما كان حاصِلًا له في الدُّنيا؛ ولهذا يُسمَّى يومَ الجَزاءِ، قال تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وذلك على أحدِ القولينِ في الآيةِ، وقال سُبحانَه: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [947] يُنظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/82).   [مريم: 76] .
8- الثَّوابُ والعِقابُ يَكونانِ مِن جِنسِ العَمَلِ في قَدَرِ اللهِ وفي شَرعِه؛ فإنَّ هذا مِن العَدلِ الذي تَقومُ به السَّماءُ والأرضُ، كما في قَولِه تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [948] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/119).   ، وذلك على أحدِ القولينِ في الآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا
- قولُه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ... اعتراضٌ جاء بمُناسبةِ العِبْرةِ والمِنَّةِ على المُشركين، فاعترَضَ بذكْرِ نِعَمِه على جميعِ النَّاسِ، فأشبَهَ التَّذييلَ؛ لأنَّه ذكَرَ به ما يشمَلُ ما تقدَّمَ [949] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/164).   .
- والإتيانُ بالمفعولِ المُطلَقِ تَفْضِيلًا؛ لإفادةِ ما في التَّنكيرِ من التَّعظيمِ، أي: تَفضيلًا كبيرًا [950] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/166).   .
2- قَولُه تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هذا انتقالٌ من غرَضِ التَّهديدِ بعاجلِ العذابِ في الدُّنيا الَّذي في قولِه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى قولِه: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا، إلى ذكْرِ حالِ النَّاسِ في الآخرةِ تَبشيرًا وإنذارًا؛ فالكلامُ استئنافٌ ابتدائيٌّ [951] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/167).   .
- قولُه: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ الفاءُ في قولِه: فَمَنْ أُوتِيَ للتَّفريعِ؛ لأنَّ فعْلَ (اذْكُر) المُقدَّر يَقْتضي أمرًا عظيمًا مُجملًا، فوقَعَ تفصيلُه بذكْرِ الفاءِ وما بعدها؛ فإنَّ التَّفصيلَ يتفرَّعُ على الإجمالِ [952] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/167-168).   .
- قولُه: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ خَصَّ أصحابَ اليَمينِ بقِراءةِ كتابِهم، كأنَّ أصحابَ الشِّمالِ لا يَقرؤون كِتابَهم؛ يَحتمِلُ لأنَّ أصحابَ الشِّمالِ إذا اطَّلعوا على ما في كتابِهم، أخَذَهم ما يأخُذُ المُطالبَ بالنِّداءِ على جناياتِه، والاعترافِ بمَساويه أمامَ التَّنكيلِ به، والانتقامِ منه، من الحياءِ والخجَلِ والانخزالِ، وحبْسةِ اللِّسانِ، والتَّتعتُعِ، والعجْزِ عن إقامةِ حُروفِ الكلامِ، والذَّهابِ عن تَسويةِ القولِ؛ فغشِيَهم من الخجَلِ والحيرةِ ما يحبِسُ ألسنتَهم عن القراءةِ، فكأنَّ قِراءتَهم كَلَا قِراءةٍ. وأمَّا أصحابُ اليَمينِ فأمْرُهم على عكْسِ ذلك، لا جرَمَ أنَّهم يَقْرؤونَ كِتابَهم أحسَنَ قراءةٍ وأبينَها، ولا يَقْنعون بقِراءتِهم وحْدَهم حتَّى يقولَ القارئُ لأهلِ المحشرِ: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [953] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/682)، ((تفسير البيضاوي)) (3/262).   [الحاقة: 19] .
- قولُه: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عائدٌ إلى كلِّ النَّاسِ لا إلى أصحابِ اليمينِ خاصَّةً، وإنَّما خصَّهم بذلك؛ لأنَّهم يَعْلمون أنَّهم لا يُظْلمون، ويعتقِدون ذلك، بخلافِ أصحابِ الشِّمالِ؛ فإنَّهم يعتقِدون أو يظنُّون أنَّهم يُظْلمون [954] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 332).   .
- قولُه: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ (أولئك) بعدَ فاءِ جوابِ (أمَّا)؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم دون غيرِهم يَقْرؤون كِتابَهم؛ لأنَّ في اطِّلاعِهم على ما فيه من فعْلِ الخيرِ والجزاءِ عليه مَسرَّةً لهم ونَعيمًا، بتذكُّرِ ومعرفةِ ثَوابِه [955] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/169).   .
3- قَولُه تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا
- قولُه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا لمَّا كان وجْهُ الشَّبهِ في أحوالِ الكافرِ في الآخرةِ أقوى منه في حالِه في الدُّنيا، أُشيرَ إلى شِدَّةِ تلك الحالةِ بقولِه: وَأَضَلُّ سَبِيلًا القائمِ مقامَ صِيغَةِ التَّفضيلِ في العَمى، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ. وعدَلَ عن لفظِ (أشَدَّ) ونحوِه؛ ليتأتَّى ذكْرُ السَّبيلِ؛ لِمَا في الضَّلالِ عن السَّبيلِ من تَمثيلِ حال العَمى وإيضاحِه؛ لأنَّ ضلالَ فاقدِ البصَرِ عن الطَّريقِ في حالِ السَّيرِ أشدُّ وقْعًا في الإضرارِ منه وهو قابعٌ بمكانِه، فعدَلَ عن اللَّفظِ الوجيزِ إلى التَّركيبِ المُطنِبِ؛ لِما في الإطنابِ من تمثيلِ الحالِ وإيضاحِه وإفظاعِه، وهو إطنابٌ بديعٌ [956] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/170).   .
- قولُه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا هذا بعينِه هو الَّذي أُوتِيَ كتابَه بشِمالِه؛ بدلالةِ حالِ ما سبَقَ من الفريقِ المُقابِلِ له، ولعلَّ العُدولَ عن ذكْرِه بذلك العُنوانِ، مع أنَّه الَّذي يَسْتدعيه حُسنُ المُقابلةِ حسْبما هو الواقعُ في سُورةِ (الحاقَّةِ) وسُورةِ (الانشقاقِ)؛ للإيذانِ بالعلَّةِ المُوجبةِ له، وللرَّمزِ إلى علَّةِ حالِ الفريقِ الأوَّلِ، وقد ذكَرَ في أحدِ الجانبينِ المُسبَّبَ وفي الآخرِ السَّببَ، ودَلَّ بالمذكورِ في كلٍّ منهما على المتروكِ في الآخرِ؛ تَعويلًا على شَهادةِ العقْلِ، كما في قولِه عَزَّ وعَلا: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [957] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/187).   [يونس: 107] .