موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (16-19)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ: أي: يُغَيِّبَكم فيها، يُقالُ: خسَفَ اللهُ به الأرضَ، أي: غيَّبَه فيها، وأصلُ (خسف): يدُلُّ على ذَهابٍ وغُؤورٍ [270] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/180)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 771). .
تَمُورُ: أي: تَدورُ وتتحَرَّكُ وتَضطَرِبُ، وأصلُ (مور): يدُلُّ على ترَدُّدٍ [271] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 475)، ((تفسير ابن جرير)) (21/571)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/284). .
حَاصِبًا: أي: حِجارةً أو ريحًا عاصِفًا تَرمي بالحَصْباءِ، وهي الحَصَى الصِّغارُ، وأصلُ (حصب): يدُلُّ على الرَّميِ [272] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 338)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/70)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 206)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 267)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 412). .
نَكِيرِ: أي: إنكاري، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المَعرِفةِ [273] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 358)، ((تفسير ابن جرير)) (16/589)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 466)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/476)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 347). .
صَافَّاتٍ: أي: باسِطاتٍ أجنِحتَها، وأصلُ (صفف): يدُلُّ على استِواءٍ في شَيءٍ [274] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 475)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 306)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/275)، ((تفسير القرطبي)) (12/287)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 419). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مهدِّدًا مَن استمرَّ في طغيانِه وكفرِه، ومحذِّرًا مِن عِقابِه: أأَمِنتُم -أيُّها الكافِرونَ- اللهَ الَّذي في العُلُوِّ فوقَ سَمواتِه؛ أن يَخسِفَ بكم الأرضَ عُقوبةً لكم على كُفرِكم به، فإذا بها تَضطَرِبُ بكم، أمْ أَمِنتُم اللهَ الَّذي في العُلُوِّ فوقَ السَّماءِ؛ أن يُرسِلَ عليكم حِجارةً يَرميكم بها؟! فستَعلَمونَ حينَها كيف يكونُ إنذاري وعاقِبةُ مَن كذَّبَ به!
 ثمَّ يُذكِّرُهم سبحانَه بما جرَى للكافِرينَ السَّابقينَ، فيقولُ: ولقد كذَّب الكُفَّارُ الَّذين مِن قَبلِكم -يا مُشرِكي قُرَيشٍ- رُسُلَهم، فكيف كان إنكاري عليهم!
 ثمَّ يَدْعوهم الله تعالى إلى التَّأمُّلِ والتَّفكُّرِ بعدَ هذا التَّهديدِ والإنذارِ، فيقولُ: أوَلَم يَرَ هؤلاء المُشرِكون المكَذِّبونَ إلى الطَّيرِ فَوقَهم ناشِراتٍ أجنِحتَهنَّ، ويَجمَعْنَها أحيانًا، ما يُمسِكُ تلك الطُّيورَ عن السُّقوطِ مِنَ السَّماءِ إلَّا الرَّحمنُ سُبحانَه؛ إنَّه بكُلِّ شَيءٍ بَصيرٌ.

تفسير الآيات:

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى بيَّن أنَّ بقاءَ الخَلْقِ مع هذه السَّلامةِ في الأرضِ إنَّما كان بفَضْلِه ورَحمتِه، وأنَّه لو شاء لقَلَب الأمرَ عليهم [275] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/591). .
وأيضًا لَمَّا لم يكُنْ بعدَ ما ذكَر الله تعالى إلَّا الإنذارُ؛ هدَّد اللهُ تعالى المكَذِّبينَ بعذابٍ دونَ عذابِ جَهنَّمَ، مُنكِرًا عليهم الأمانَ بعدَ إقامةِ الدَّليلِ على أنَّ بيَدِه المُلْكَ، وأنَّه قادِرٌ على ما يُريدُ منه بأسبابِ جُنودِه وبغيرِ سَبَبٍ، مقَرِّرًا بَعْدَ تقريرِ حاجةِ الإنسانِ وعَجْزِه أنَّه لا حِصْنَ له ولا مانِعَ له بوَجهٍ مِن عذابِ اللهِ؛ فهو دائِمُ الافتقارِ، ملازِمٌ للصَّغارِ [276] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/247). . فهو انتقالٌ مِن الاستدلالِ إلى التَّخويفِ؛ لأنَّه لَمَّا تَقرَّرَ أنَّه سُبحانَه خالقُ الأرضِ ومُذلِّلُها للنَّاسِ، وتَقرَّر أنَّهم ما رَعَوا خالِقَها حقَّ رِعايتِه؛ فقدِ استَحقُّوا غَضَبَه وتَسليطَ عِقابِه، بأنْ يَصيرَ مَشْيُهم في مَناكبِ الأرضِ إلى تَجلجُلٍ في طَبقاتِ الأرضِ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/33). .
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16).
أي: أأَمِنتُم -أيُّها الكافِرونَ- اللهَ الَّذي هو في العُلُوِّ مُستَوٍ على عَرشِه فوقَ سَمواتِه؛ أن يَخسِفَ بكم الأرضَ عُقوبةً لكم على كُفرِكم به، فإذا بها تَضطَرِبُ بكم ذَهابًا وإيابًا [278] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/391)، ((تفسير ابن جرير)) (23/129)، ((الهداية)) لمكي بن أبي طالب (12/7600)، ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (2/236)، ((تفسير القِنَّوْجي)) (14/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). قال ابنُ قُدامةَ: (اللهُ تعالى وَصَف نَفْسَه بالعلُوِّ في السَّماءِ، ووصَفَه بذلك محمَّدٌ خاتَمُ الأنبياءِ، وأجمَعَ على ذلك جميعُ العُلَماءِ مِن الصَّحابةِ الأتقياءِ، والأئمَّةِ مِن الفُقَهاءِ، وتواتَرَت الأخبارُ بذلك على وَجهٍ حَصَل به اليقينُ، وجمَعَ اللهُ تعالى عليه قلوبَ المسلمينَ، وجعَلَه مغروزًا في طِباعِ الخَلقِ أجمَعينَ). ((إثبات صفة العلو)) (ص: 63). ؟!
كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام: 65] .
وقال سُبحانَه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [النحل: 45] .
وقال عزَّ وجَلَّ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [الإسراء: 68] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألَا تَأْمَنوني وأنا أمينُ مَن في السَّماءِ؟!)) [279] رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064). .
وعن مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه لطَم جارِيةً له، وأتَى بها النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُريدُ عِتقَها، فسألَها النبيُّ: ((أينَ اللهُ؟ قالت: في السَّماءِ. قال: مَن أنا؟ قالت: أنت رَسولُ اللهِ. قال: أَعْتِقْها؛ فإنَّها مُؤمِنةٌ)) [280] رواه مسلم (537). .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الرَّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرَّحمنُ، ارحَموا مَن في الأرضِ يَرحَمْكم مَن في السَّماءِ)) [281] أخرجه أبو داودَ (4941) واللَّفظُ له، والترمذيُّ (1924)، وأحمدُ (6494) مُطوَّلًا. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وصَحَّحه ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (127)، والعراقيُّ في ((الأربعون العشارية)) (125)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4941)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((الإمتاع)) (1/62)، وقال السخاوي في ((البلدانيات)) (47): (حسَنٌ، بل صحَّحه غيرُ واحدٍ). .
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17).
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا.
أي: أمْ أَمِنتُم اللهَ الَّذي هو في العُلُوِّ فوقَ السَّماءِ؛ أن يُرسِلَ عليكم حِجارةً يَرميكم بها [282] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/392)، ((تفسير ابن جرير)) (23/129)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/14)، ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (2/236)، ((تفسير السمعاني)) (6/12)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). قيل: الحاصِبُ: حِجارةٌ مِنَ السَّماءِ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/392)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/200)، ((تفسير السمرقندي)) (3/477)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/14)، ((تفسير القرطبي)) (18/217). وقيل: الحاصِبُ هو التُّرابُ فيه الحَصباءُ الصِّغارُ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، ومكِّي، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/129، 130)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7601)، ((تفسير القاسمي)) (9/292). وقيل: المرادُ: ريحٌ ذاتُ حجارةٍ. وممن اختاره: الثعلبيُّ، والسمعاني، والبغوي، والخازن، وابن كثير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/360)، ((تفسير السمعاني)) (6/12)، ((تفسير البغوي)) (5/127)، ((تفسير الخازن)) (4/320)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((تفسير العليمي)) (7/114). ؟!
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ.
أي: فستَعلَمونَ حينَ يَحُلُّ العذابُ كيف يكونُ إنذاري، وعاقِبةُ مَن كذَّبَ به [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/130)، ((تفسير الزمخشري)) (4/581)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). !
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18).
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: ولقد كذَّب الكُفَّارُ الَّذين مِن قَبلِ مُشرِكي قُرَيشٍ رُسُلَهم؛ كقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ، وقَومِ لُوطٍ، وقَومِ شُعَيبٍ، وقَومِ فِرعَونَ، وغَيرِهم مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي أهلكَها اللهُ بعَذابِه في الدُّنيا [284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/130)، ((تفسير القرطبي)) (18/217)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). .
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ.
أي: فكيف كان إنكاري عليهم تَكذيبَهم حينَ عَذَّبْتُهم [285] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/130)، ((تفسير القرطبي)) (18/217)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). ؟!
كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 42 - 44] .
وقال الله سبحانه وتعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ص: 12 - 14] .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه انتُقِلَ مِن دَلالةِ أحوالِ البشَرِ وعالَمِهم إلى دَلالةِ أعجَبِ أحوالِ العَجْماواتِ، وهي أحوالُ الطَّيرِ في نِظامِ حَرَكاتِها في حالِ طَيَرانِها؛ إذ لا تَمْشي على الأرضِ كما هو في حَرَكاتِ غَيرِها على الأرضِ، فحالُها أقوى دَلالةً على عَجيبِ صُنْعِ اللهِ المنفرِدِ به [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/37). .
وأيضًا لَمَّا حذَّرَهم ما يُمكِنُ إحلالُه بهم مِن الخَسْفِ وإرسالِ الحاصِبِ؛ نبَّهَهم على الاعتبارِ بالطَّيرِ وما أُحكِمَ مِن خَلْقِها، وعلى عَجْزِ آلهتِهم عن شَيءٍ مِن ذلك، وناسَبَ ذلك الاعتبارُ بالطَّيرِ؛ إذ قدْ تَقدَّمَه ذِكرُ الحاصِبِ، وقد أهلَكَ اللهُ أصحابَ الفيلِ بالطَّيرِ والحاصِبِ الَّذي رمَتْهم به، ففيهِ إذكارُ قُرَيشٍ بهذه القصَّةِ، وأنَّه تعالَى لو شاءَ لَأهْلَكَهم بحاصِبٍ تَرْمي به الطَّيرُ، كما فَعَلَ بأصحابِ الفيلِ [287] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/227). .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ.
أي: أوَلَم يَرَ هؤلاء المُشرِكون المكَذِّبونَ إلى الطَّيرِ وهي تطيرُ فَوقَهم في الجَوِّ ناشِراتٍ أجنِحتَهنَّ غالِبًا، ويَجمَعْنها أحيانًا حينَ يُدنينَها مِن جُنوبِهنَّ؛ للازديادِ مِن تَحريكِ الهواءِ للاستِمرارِ في الطَّيرانِ [288] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/130)، ((تفسير الزمخشري)) (4/581)، ((تفسير القرطبي)) (18/217)، ((تفسير أبي حيان)) (10/227، 228)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/39). قال القرطبي: (صَافَّاتٍ أي: باسِطاتٍ أجنِحَتَهُنَّ في الجوِّ عندَ طَيَرانِها؛ لأنَّهنَّ إذا بَسَطْنَها صَفَفْنَ قَوادِمَها صفًّا. ووَيَقْبِضْنَ أي: يَضرِبْنَ بها جُنوبَهُنَّ... وقيل: ويَقبِضْنَ أجنِحَتَهُنَّ بعْدَ بَسْطِها إذا وَقَفْنَ مِن الطَّيَرانِ). ((تفسير القرطبي)) (18/217). وقال أيضًا: (كما ذَلَّل الأرضَ للآدميِّ، ذلَّل الهواءَ للطُّيورِ). ((تفسير القرطبي)) (18/217). ؟
كما قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ [النحل: 79] .
مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ.
أي: ما يُمسِكُ تلك الطُّيورَ عن السُّقوطِ مِنَ السَّماءِ إلَّا الرَّحمنُ سُبحانَه [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/200)، ((تفسير القرطبي)) (18/218)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). قال السعدي: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ فإنَّه الَّذي سخَّر لهنَّ الجَوَّ، وجعَلَ أجسادَهنَّ وخِلقتَهنَّ في حالةٍ مُستعِدَّةٍ للطَّيرانِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 877). وقال ابنُ عاشور: (معنى إمساكِ اللهِ إيَّاها: حِفظُها مِن السُّقوطِ على الأرضِ بما أودع في خِلقَتِها مِن الخصائصِ في خِفَّةِ عِظامِها، وقوَّةِ حركةِ الجَوانحِ، وما جعل لهنَّ مِن القَوادِمِ، وهي ريشاتٌ عَشْرٌ هي مَقاديمُ ريشِ الجَناحِ، ومِن الخَوافي، وهي ما دُونَها مِن الجَناحِ إلى منتهى ريشِه، وما خلَقَه مِن شكلِ أجسادِها المُعينِ على نُفوذِها في الهواءِ؛ فإنَّ ذلك كلَّه بخَلقِ اللهِ إيَّاها مانعًا لها مِن السُّقوطِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/39، 40). .
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ بكُلِّ شَيءٍ مِن مخلوقاتِه بَصيرٌ، وكُلُّها تحتَ تَدبيرِه بما تَقتَضيه حِكمتُه [290] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أنَّ الإنسانَ إذا عَلِم بأنَّ اللهَ تعالى فوقَ كلِّ شيءٍ، فإنَّه يَعْرِفُ مِقدارَ سُلطانِه، وسيطرتِه على خَلْقِه، وحينَئذٍ يَخافُه ويُعَظِّمُه، وإذا خاف الإنسانُ ربَّه وعَظَّمَه فإنَّه يتَّقيه، ويقومُ بالواجِبِ، ويَدَعُ المُحَرَّمَ [291] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/340). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ هذا عِتابٌ وحَثٌّ على النَّظَرِ إلى حالةِ الطَّيرِ الَّتي سَخَّرَها اللهُ، وسَخَّر لها الجَوَّ والهواءَ، تَصُفُّ فيه أجنِحتَها، وتَقبِضُها، فتظَلُّ سابِحةً في الجَوِّ، مُترَدِّدةً فيه بحَسَبِ إرادتِها وحاجتِها؛ فمَن نَظَر في حالةِ الطَّيرِ واعتبَرَ فيها، دلَّتْه على قُدرةِ الباري، وعنايتِه الرَّبَّانيَّةِ، وأنَّه الواحِدُ الأحَدُ الَّذي لا تَنبغي العِبادةُ إلَّا له [292] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 877). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى بذاتِه فوقَ خَلْقِه [293] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (1/127). .
2- في قَولِه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ كَنَّى سُبحانَه عن نفْسِه بهذا؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ إظهارِ عَظَمتِه، وأنَّه فَوقَكم، قادِرٌ عليكم، مُسيطِرٌ عليكم، مُهيمِنٌ عليكم؛ لأنَّ العاليَ له سُلطةٌ على مَن تحْتَه [294] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/396). .
3- في قَولِه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ سؤالٌ: أنَّ «في» للظَّرفيَّةِ، فإذا كان اللهُ تعالى في السَّماءِ، و«في» للظَّرفيَّةِ؛ فإنَّ الظَّرفَ مُحيطٌ بالمَظروفِ! أرأَيْتَ لو قُلتَ: «الماءُ في الكأسِ»، فالكأسُ مُحيطٌ بالماءِ، وأوسَعُ مِن الماءِ، فإذا كان اللهُ يقولُ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ فهذا ظاهرُه أنَّ السَّماءَ محيطةٌ باللهِ تعالى. وهذا الظَّاهِرُ باطِلٌ، وإذا كان الظَّاهِرُ باطِلًا فإنَّنا نَعلَمُ عِلمَ اليقينِ أنَّه غيرُ مرادٍ للهِ؛ لأنَّه لا يمكنُ أنْ يكونَ ظاهِرُ الكِتابِ والسُّنَّةِ باطِلًا.
الجوابُ: أنْ نَسْلُكَ أحدَ طريقَينِ: فإمَّا أنْ نَجعَلَ السَّماءَ بمعنى العُلُوِّ، والسَّماءُ بمعنى العُلُوِّ: وارِدٌ في اللُّغةِ، بل في القُرآنِ؛ قال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد: 17] ، والمرادُ بالسَّماءِ العُلُوُّ؛ لأنَّ الماءَ يَنزِلُ مِن السَّحابِ لا مِن السَّماءِ الَّتي هي السَّقفُ المحفوظُ، والسَّحابُ في العُلُوِّ بيْن السَّماءِ والأرضِ، كما قال اللهُ تعالى: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 164] ، فيكونَ معنى: مَنْ فِي السَّمَاءِ أي: مَن في العُلُوِّ، ولا يُوجَدُ إشكالٌ بعْدَ هذا، فهو في العُلُوِّ، ليس يُحاذيه شَيءٌ، ولا يكونُ فَوقَه سُبحانَه شَيءٌ!
الطَّريقُ الثَّاني: أنْ نَجعَلَ «في» بمعنى «على»، ونَجعَلَ السَّماءَ هي السَّقفَ المحفوظَ المرفوعَ، يعني: الأجرامَ السَّماويَّةَ، وتأتي «في» بمعنى «على» في اللُّغةِ العربيَّةِ، بل في القُرآنِ الكريمِ؛ قال فِرعَونُ لقَومِه السَّحَرةِ الَّذين آمَنوا: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] ، أي: على جُذوعِ النَّخلِ، فيكونَ معنى مَنْ فِي السَّمَاءِ أي: مَن على السَّماءِ، ولا إشكالَ بعْدَ هذا [295] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/337). قال ابنُ تيميَّةَ: (مَن توهَّم أنَّ مُقتضى هذه الآيةِ أن يكونَ اللهُ في داخِلِ السَّمَواتِ، فهو جاهِلٌ ضالٌّ بالاتِّفاقِ، وإن كنَّا إذا قُلْنا: إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ في السَّماءِ يَقتضي ذلك؛ فإنَّ حرف «في» متعلِّقٌ بما قبْلَه وما بعْدَه، فهو بحَسَبِ المضافِ والمضافِ إليه؛ ولهذا يُفرَّقُ بيْن كَونِ الشَّيءِ في المكانِ، وكَونِ الجِسمِ في الحَيِّزِ، وكونِ العَرَضِ في الجِسمِ، وكونِ الوَجهِ في المرآةِ، وكونِ الكلامِ في الورَقِ، فإنَّ لكُلِّ نَوعٍ مِن هذه الأنواعِ خاصِّيَّةً يتميَّزُ بها عن غيرِه، وإن كان حرفُ «في» مُستعمَلًا في ذلك كُلِّه؛ فلو قال قائِلٌ: العَرشُ في السَّماءِ أم في الأرضِ؟ لقيل: في السَّماءِ. ولو قيل: الجنَّةُ في السَّماءِ أم في الأرضِ؟ لقيل: الجنَّةُ في السَّماءِ، ولا يلزَمُ مِن ذلك أن يكونَ العَرشُ داخِلَ السَّمَواتِ، بل ولا الجنَّةُ). ((التدمرية)) (ص: 85، 86). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/426، 427)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/18-32). .
4- في قَولِه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ سُؤالٌ: كيف الجَمعُ بيْن هذه الآيةِ وبيْن قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] ، وقَولِه: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام: 3] ؟
الجوابُ: أمَّا الآيةُ الأُولى فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ فالظَّرفُ هنا لألوهيَّتِه، يعني: أنَّ ألوهيَّتَه ثابِتةٌ في السَّماءِ وفي الأرضِ، كما تقولُ: فلانٌ أميرٌ في المدينةِ ومكَّةَ، فهو نفْسُه في واحِدةٍ منهما، وفيهما جميعًا بإمارتِه وسُلطتِه؛ فاللهُ تعالى ألوهيَّتُه في السَّماءِ وفي الأرضِ، وأمَّا هو عزَّ وجلَّ ففي السَّماءِ.
أمَّا الآيةُ الثَّانيةُ: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ فنَقولُ فيها كما قُلْنا في الَّتي قَبْلَها: وهو اللهُ، أي: وهو الإلهُ الَّذي ألوهيَّتُه في السَّمَواتِ وفي الأرضِ، أمَّا هو نفْسُه ففي السَّماءِ، فيكونُ المعنى: هو المألوهُ في السَّمَواتِ، المألوهُ في الأرضِ، فألوهيَّتُه في السَّمَواتِ وفي الأرضِ، فتُخَرَّجُ هذه الآيةُ كتَخريجِ الَّتي قَبْلَها [296] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/338). ، وأمَّا قولُه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ فقد ذَكَر سُبحانَه السَّماءَ دونَ الأرضِ، ولم يُعَلِّقْ بذلك ألوهيَّةً أو غيرَها كما ذَكَرَ في الآيتينِ السَّابقَتَينِ [297] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/165). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ فيه سُؤالٌ: هل تدُلُّ هذه الآيةُ على أنَّ الأفعالَ الاختياريَّةَ للعَبدِ مخلوقةٌ للهِ؟
الجوابُ: نعم؛ وذلك لأنَّ استِمساكَ الطَّيرِ في الهواءِ فِعلٌ اختياريٌّ للطَّيرِ [298] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/593). .
6- في قَولِه تعالى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ حُجَّةٌ على المعتَزِلةِ في بابِ الاستِطاعةِ؛ إذ قد أخبَرَ بإمساكِهنَّ عن نَفْسِه، ولم يَقُلْ: «يَسْتَمْسِكْنَ بالَّذي جَعَلَه في استِطاعَتِهنَّ مِن سُلطانِ الطَّيرانِ بالأجنحةِ والقَبضِ والبَسْطِ بهنَّ»، كما جَعَل للنَّاس سُلطانَ الحرَكاتِ والأعمالِ بالجَوارحِ الَّتي في أدواتِ الأفعالِ، وهم لا يَستطيعونَها إلَّا به سُبحانَه [299] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/376). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ الجُملةُ مُعترِضةٌ، والاستفهامُ إنكارٌ وتَوبيخٌ وتَحذيرٌ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/33). .
- والباءُ في قولِه: بِكُمُ للمُصاحَبةِ، أي: يَخسِفَ الأرضَ مُصاحِبةً لذَواتِكم [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/34). .
- قولُه: فَإِذَا هِيَ تَمُورُ فُرِّعَ على الخسْفِ المُتوقَّعِ المهدَّدِ به أنْ تَمورَ الأرضُ تَفريعَ الأثرِ على المؤثِّرِ؛ لأنَّ الخسْفَ يُحدِثُ المَورَ، فإذا خُسِفَت الأرضُ فاجَأَها المَورُ لا مَحالةَ، لكنَّ نظْمَ الكلامِ جَرى على ما يُناسِبُ جَعْلَ التَّهديدِ بمَنزلةِ حادثٍ وقَعَ؛ فلذلك جِيءَ بعْدَه بالحرفِ الدَّالِّ على المفاجأةِ؛ لأنَّ حقَّ المفاجأةِ أنْ تكونَ حاصِلةً زمَنَ الحالِ لا الاستقبالِ، فإذا أُرِيدَ تَحقيقُ حُصولِ الفِعلِ المستقبَلِ نُزِّلَ مَنزلةَ الواقعِ في الحالِ، فكان قولُه: فَإِذَا هِيَ تَمُورُ مُؤذِنًا بتَشبيهِ حالةِ الخسْفِ المتوقَّعِ المهدَّدِ به بحالةِ خسْفٍ حصَلَ بجامعِ التَّحقُّقِ، وحُذِفَ المركَّبُ الدَّالُّ على الحالةِ المشبَّهِ بها، ورُمِزَ إليه بما هو مِن آثارِه ويَتفرَّعُ عنه [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/34، 35). .
2- قولُه تعالَى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
- (أم) لإضرابِ الانتِقالِ مِن غرَضٍ إلى غرَضٍ، وهو انتِقالٌ مِن الاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّعجيبيِّ إلى آخَرَ مِثلِه، باعتبارِ اختلافِ الأثَرَين الصَّادِرَينِ عن مَفعولِ الفعلِ المُستفهَمِ عنه اختلافًا يُوجِبُ تَفاوُتًا بيْن كُنْهَيِ الفِعلَينِ، وإنْ كانَا مُتَّحِدَينِ في الغايةِ [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/35). .
- وهو إضرابٌ عن التَّهديدِ بما ذُكِرَ، وانتقالٌ إلى التَّهديدِ بوجْهٍ آخرَ [304] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/7)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/154). .
- وتَفريعُ جُملةِ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ على الاستفهامِ الإنكاريِّ كتَفريعِ جُملةِ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16] ، أي: فحِينَ يُخسَفُ بكم أو يُرسَلُ عليكم حاصِبٌ تَعلَمون كيف نَذِيري، وحرْفُ التَّنفيسِ حقُّه الدُّخولُ على الأخبارِ الَّتي ستَقَعُ في المستقبَلِ، وإرسالُ الحاصِبِ غيرُ مُخبَرٍ بحُصولِه، وإلَّا لَما تَخلَّفَ؛ لأنَّ خبَرَ اللهِ لا يَتخلَّفُ، وإنَّما هو تَهديدٌ وتَحذيرٌ؛ فإنَّهم ربَّما آمَنوا وأقْلَعوا فسَلِموا مِن إرسالِ الحاصبِ عليهم، ولكنْ لَمَّا أُرِيدَ تَحقيقُ هذا التَّهديدِ، شُبِّهَ بالأمْرِ الَّذي وَقَعَ، فكان تَفريعُ صِيغةِ الإخبارِ على هذا مُؤذِنًا بتَشبيهِ المهدَّدِ به بالأمْرِ الواقعِ، وكَيْفَ نَذِيرِ استفهامٌ مُعلِّقٌ فِعلَ (تَعلَمون) عن العملِ، وهو استفهامٌ للتَّهديدِ والتَّهويلِ، والجُملةُ مُستأنَفةٌ [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/35). .
- قولُه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16] ليس بتَكرارٍ مع قولِه تعالَى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا؛ لأنَّ الأوَّلَ في تَخويفِهم بخسْفِ الأرضِ بهم، والثَّانيَ في تَخويفِهم بالحصْبِ مِن السَّماءِ. وقُدِّمَ الأوَّلُ؛ لأنَّه لَمَّا كانت الأرضُ الَّتي خَلَقَها اللهُ تعالَى لهم ومهَّدَها لاستِقرارِهم، يَعبُدون عليها غيرَ خالقِها، ويُعظِّمون فيها الأصنامَ الَّتي هي مِن شَجَرِها وحَجَرِها -خوَّفهم بما هو أقرَبُ إليهم مِن الأشياءِ الَّتي أهلَكَ بها مَن كان قبْلَهم. والآيةُ الثَّانيةُ تَخويفٌ بالحاصِبِ مِن السَّماءِ، وهي الَّتي لا يَصعَدُ إليها الطَّيِّبُ مِن كَلامِهم، ولا الحسَنُ مِن عَمَلِهم، إلَّا سيِّئاتِ أفعالِهم، ونَتائجَ ما كُتِبَ عليهم، وتلك حالٌ ثانيةٌ، فذُكِرَ في الثَّانيةِ [306] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1288، 1289)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/552)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 576). .
أو قُدِّمَ التَّهديدُ بالخسْفِ على التَّهديدِ بالحاصبِ؛ لأنَّ الخسْفَ مِن أحوالِ الأرضِ، والكلامُ على أحوالِها أقرَبُ هنا، فسُلِكَ شِبْهُ طَريقِ النَّشرِ المعكوسِ [307] اللَّفُّ والنَّشْرُ: هو أن يُذكَرَ شَيئانِ أو أشياءُ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكَرَ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضَ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ، مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كقولِه تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] ؛ حيث جاء اللَّفُّ بعبارةِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وجاء النَّشرُ وَفْقَ توزيعٍ مُرتَّبٍ؛ فقولُه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يتعلَّقُ باللَّيلِ، وقولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يتعلَّقُ بالنَّهارِ. وغيرُ المرتَّبِ -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوسِ»- هو: أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] ، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّبٍ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى، ومتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ، ومُتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ، ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر في تفصيلِ أقسامِه وأمثلةٍ على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403 - 406). ، ولأنَّ إرسالَ الحاصبِ عليهم جَزاءٌ على كُفْرِهم بنِعمةِ اللهِ، الَّتي منها رِزْقُهم في الأرضِ المشارُ إليه بقولِه: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك: 15] ؛ فإنَّ مَنشأَ الأرزاقِ الأرضيَّةِ مِن غُيوثِ السَّماءِ [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/36). .
وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّه لَمَّا تَقدَّمَ ما اتَّصلَ به التَّوعُّدُ مِن قولِه تعالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك: 15] ، فحضَرَ في النُّفوسِ عندَ ذلك، وتَقرَّرَ تَذكرةُ هذه النِّعمةِ، وجَليلُ الامتِنانِ بها، شاهدًا حاضرًا للمُتذكِّرِ، وعليها قَرارُه حالَ تَذكُّرِه وتَنعُّمِه بالتَّقلُّبِ فيها حِين خِطابِه، متَّصلًا غيرَ مُنفصِلٍ، ومُلتصِقًا غيرَ مُتباعِدٍ -كان أنسَبُ شَيءٍ لهذه في الموعظةِ تَذكيرَه؛ اتِّعاظًا بخَسْفِها مِن تَحتِه، حتَّى كأنَّ ذلك الأمرَ جاء منه، لا مِن خارجٍ عنه [309] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/479). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا قولُه تعالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ، ووَرَدَ في سُورةِ (الأنعامِ): قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام: 65] ؛ وذلك لأنَّ آيةَ (الأنعامِ) تَقدَّمَها قولُه تعالَى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام: 61] ، فصَرَف هذا الخِطابُ تَفكُّرَ النَّفْسِ في عَينِ الجِهةِ الَّتي ذُكِرَ منها القهْرُ، فكان أنسَبُ شَيءٍ ذِكرَ التَّخويفِ مِن تلك الجِهةِ، بخِلافِ آيةِ (الملْكِ)، فكلُّ آيةٍ مِن هاتَينِ الآيتَينِ تُبيِّنُ حالَ الأُخرى، وإنَّ التَّناسُبَ إنَّما هو فيما وَرَدَت عليه كلُّ آيةٍ منهما [310] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/479). .
- وحُذِفَت ياءُ المتكلِّمِ مِن (نَذيري)؛ تَخفيفًا، وللرَّعْيِ على الفاصِلةِ [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/36). .
3- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فيهِ مِن المبالَغةِ في تَسليةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَشديدِ التَّهديدِ لقَومِه ما لا يَخْفَى [312] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/230)، ((تفسير أبي السعود)) (9/8). .
- قولُه: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي: مِن قبْلِ كفَّارِ مكَّةَ مِن كفَّارِ الأُمَمِ السَّالفةِ، كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم، والالتفاتُ إلى الغَيبةِ لإبرازِ الإعراضِ عنهم [313] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/7، 8). .
- بعْدَ أنْ وجَّهَ اللهُ إليهم الخِطابَ تَذكيرًا واستدلالًا وامتنانًا وتَهديدًا وتَهويلًا، ابتداءً مِن قولِه: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك: 13] ؛ الْتَفَتَ عن خِطابِهم إلى الإخبارِ عنهم بحالةِ الغَيبةِ؛ تَعريضًا بالغضَبِ عليهم بما أَتَوه مِن كلِّ تَكذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكانوا جَديرين بإبعادِهم عن الحُضورِ للخِطابِ، فلذلك لم يَقُلْ: ولقد كذَّب الَّذين مِن قبْلِكم، ولم يَقطَعْ تَوجيهَ التَّذكيرِ إليهم والوعيدِ؛ لعلَّهم يَتدبَّرون في أنَّ اللهَ لم يَدَّخِرْهم نُصحًا، فالجُملةُ عطْفٌ على جُملةِ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الملك: 17] ؛ لِمُناسَبةِ أنَّ ممَّا عُوقِبَ به بعضُ الأُمَمِ المكذِّبينَ الخسْفَ، وإرسالَ حِجارةٍ مِن السماءِ. ولك أنْ تَجعَلَ الواوَ للحالِ، أي: كيف تَأْمَنون ذلك عندَما تُكذِّبون الرَّسولَ في حالِ أنَّه قدْ كذَّبَ الَّذين مِن قبْلِكم، فهل عَلِمْتم ما أصابَهم على تَكذيبِهم الرُّسلَ؟! ضَرَب اللهُ لهم مَثَلًا بأُمَمٍ مِن قبْلِهم؛ كذَّبوا الرُّسلَ، فأصابَهم مِن الاستئصالِ ما قد عَلِموا أخبارَه؛ لعلَّهم أنْ يتَّعِظوا بقِياسِ التَّمثيلِ إنْ كانت عُقولُهم لم تَبلُغْ دَرجةَ الانتفاعِ بأقيسةِ الاستنتاجِ؛ فإنَّ المشرِكين مِن العرَبِ عَرَفوا آثارَ عادٍ وثَمودَ، وتَناقَلوا أخبارَ قومِ نُوحٍ وقومِ لُوطٍ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/36). .
- وفُرِّعَ قولُه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ استِفهامًا تَقريريًّا، وهو كِنايةٌ عن تَحقيقِ وُقوعِه، وأنَّه وَقَع في حالِ فَظاعةٍ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/36). .
- وقد أُكِّدَ الخبَرُ بـ(اللَّامِ) و(قدْ)؛ لتَنزيلِ المُعرَّضِ بهم مَنزِلةَ مَن يظُنُّ أنَّ اللهَ عاقَبَ الَّذين مِن قبْلِهم لغيرِ جُرمٍ، أو لجُرمٍ غيرِ التَّكذيبِ، فهو مُفرَّعٌ على المؤكَّدِ، فالمعْنى: لقد كذَّبَ الَّذين مِن قبْلِهم، ولقد كان نَكيري عليهم بتلك الكيفيَّةِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/37). .
- ونَكِيرِ أصْلُه نَكيري، بالإضافةِ إلى ياءِ المتكلِّمِ المحذوفةِ تَخفيفًا [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/37). .
4- قولُه تعالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ عطْفٌ على جُملةِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الملك: 15] ؛ استِرسالًا في الدَّلائلِ على انفرادِ اللهِ تعالَى بالتَّصرُّفِ في الموجوداتِ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/37). .
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ ... الهمزةُ للاستِفهامِ، والواوُ للعطفِ على مُقدَّرٍ، أي: أغفَلوا ولم يَنظُروا [319] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/313). . والاستِفهامُ إنكاريٌّ، ونُزِّلوا مَنزِلةَ مَن لم يَرَ هاتِه الأحوالَ في الطَّيرِ؛ لأنَّهم لم يَعتبِروا بها، ولم يَهتَدوا إلى دَلالتِها على انفرادِ خالِقِها بالإلهيَّةِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/39)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/157). .
- واشتَمَلَ التَّذكيرُ بعَجيبِ خِلقةِ الطَّيرِ في طَيرانِها على ضَرْبٍ مِن الإطنابِ؛ لأنَّ الأوصافَ الثَّلاثةَ المُستفادةَ مِن قولِه: فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ تُصَوِّرُ صُورةَ حَرَكاتِ الطَّيَرانِ للسَّامِعينَ، فتُنبِّهُهم لدَقائقَ رُبَّما أغفَلَهم عن تَدقيقِ النَّظَرِ فيها نَشأتُهم بيْنَها مِن وَقتِ ذُهولِ الإدراكِ في زمَنِ الصِّبا، وكمْ غَفَلَ النَّاسُ عن دَقائقَ في المخلوقاتِ مِن الحيوانِ والجَمادِ ما لو تَتبَّعوه لتَجلَّى لهم منها ما يَملَأُ وَصْفُه الصُّحفَ!
وهذا الإطنابُ في هذه السُّورةِ مُخالِفٌ لِما في نَظيرِ هذه الآيةِ مِن سُورةِ (النَّحلِ) في قولِه: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ [النحل: 79] ، وذلك بحسَبِ ما اقتضاهُ اختلافُ المَقامَينِ؛ فسُورةُ (النَّحلِ) واقعةٌ قبْلَ سُورةِ (المُلْكِ)، فلمَّا أوقَظَت عُقولَهم فيها للنَّظَرِ إلى ما في خِلقةِ الطَّيرِ مِن الدَّلائلِ فلم يَتفطَّنوا، سُلِكَ في هذه السُّورةِ مَسلَكُ الإطنابِ بزِيادةِ ذِكرِ أوصافٍ ثلاثةٍ: فالوصفُ الأوَّلُ: ما أفادَهُ قولُه: فَوْقَهُمْ؛ فإنَّ جَميعَ الدَّوابِّ تَمْشي على الأرضِ، والطَّيرُ كذلك، فإذا طار الطَّائرُ انتَقَلَ إلى حالةٍ عَجيبةٍ مُخالِفةٍ لبَقيَّةِ المخلوقاتِ، وهي السَّيرُ في الجوِّ بواسطةِ تَحريكِ جَناحيْه، وذلك سِرُّ قولِه تعالَى: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ بعْدَ قولِه: وَلَا طَائِرٍ [الأنعام: 38] ؛ لقصْدِ تَصويرِ تلك الحالةِ.
والوصْفُ الثَّاني: صَافَّاتٍ، وهو وصْفٌ بوزْنِ اسمِ الفاعلِ مُشتقٌّ مِن الصَّفِّ، وهو كَونُ أشياءَ مُتعدِّدةٍ مُتقارِبةَ الأمكنةِ وباستواءٍ، وهو قاصرٌ ومُتعدٍّ، والمرادُ هنا أنَّ الطَّيرَ صافَّةٌ أجْنحتَها، فحُذِفَ المفعولُ لعِلمِه مِن الوصفِ الجاري على الطَّيرِ؛ إذ لا تَجعَلُ الطَّيرُ أشياءَ مَصفوفةً إلَّا رِيشَ أجْنحتِها عندَ الطَّيَرانِ، فالطَّائرُ إذا طار بَسَطَ جَناحَيْه -أي: مدَّهما- فصَفَّ رِيشَ الجَناحِ، فإذا تَمدَّدَ الجَناحُ ظَهَر رِيشُه مُصطفًّا، فكان ذلك الاصطفافُ مِن أثَرِ فِعلِ الطَّيرِ، فوُصِفَت به، وبَسْطُ الجَناحَينِ يُمكِّنُ الطَّائرَ مِن الطَّيَرانِ، فهو كمَدِّ اليَدينِ للسَّابحِ في الماءِ.
والوصْفُ الثَّالثُ: وَيَقْبِضْنَ، وهو عطْفٌ على صَافَّاتٍ مِن عطْفِ الفِعلِ على الاسمِ الشَّبيهِ بالفِعلِ في الاشتقاقِ، وإفادةِ الاتِّصافِ بحُدوثِ المصدَرِ في فاعِلِه، فلم يَفُتْ بعَطْفِه تَماثُلُ المعْطوفينِ في الاسميَّةِ والفِعليةِ الذي هو مِن مُحسِّناتِ الوصْلِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/37، 38). .
- والقبْضُ: ضِدُّ البَسطِ، والمرادُ به هنا ضِدُّ الصَّفِّ المذكورِ قبْلَه؛ إذ كان ذلك الصَّفُّ صادقًا على معْنى البَسطِ، ومَفعولُه المحذوفُ هنا هو عَينُ المحذوفِ في المعطْوفِ عليه، أي: قابضاتٍ أجْنِحتَهنَّ حينَ يُدْنِينَها مِن جُنوبِهنَّ للازديادِ مِن تَحريكِ الهواءِ للاستِمرارِ في الطَّيَرانِ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/39). .
- وأُوثِرَ الفعلُ المضارعُ في وَيَقْبِضْنَ؛ لاستحضارِ تلك الحالةِ العجيبةِ، وهي حالةُ عكْسِ بَسْطِ الجناحَينِ؛ إذ بذلك العكْسِ يَزدادُ الطَّيَرانُ قوَّةَ امتدادِ زَمانٍ [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/39). .
- وجِيءَ في وصْفِ الطَّيرِ بـ صَافَّاتٍ بصِيغةِ الاسمِ؛ لأنَّ الصَّفَّ هو أكثرُ أحوالِها عِندَ الطَّيَرانِ، فناسَبَه الاسمُ الدَّالُّ على الثَّباتِ، وجِيءَ في وصْفِهنَّ بالقبْضِ بصِيغةِ المضارعِ؛ لدَلالةِ الفِعلِ على التَّجدُّدِ، أي: ويُجدِّدْنَ قبْضَ أجْنِحَتِهنَّ في خِلالِ الطَّيَرانِ للاستِعانةِ بقبْضِ الأجنحةِ على زِيادةِ التَّحرُّكِ عندَما يَحْسُسْنَ بتَغلُّبِ جاذبيَّةِ الأرضِ على حَرَكاتِ الطَّيرانِ [324] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/581)، ((تفسير البيضاوي)) (5/230)، ((تفسير أبي حيان)) (10/227، 228)، ((تفسير أبي السعود)) (9/8)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/39)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/159). . فالطَّيَرانُ في الهواءِ كالسِّباحةِ في الماءِ، والأصلُ في السِّباحةِ مَدُّ الأطرافِ وبَسْطُها، وأمَّا القَبضُ فطارِئٌ على البَسطِ للاستِظهارِ به على التَّحَرُّكِ؛ فجِيءَ بما هو طارئٌ غيرُ أصليٍّ بلَفظِ الفِعلِ، على معنى: أنَّهنَّ صافَّاتٌ، ويكونُ مِنهنَّ القَبضُ تارةً بعدَ تارةٍ، كما يكونُ مِن السَّابحِ [325] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/593). .
- جُملةُ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ مُبيِّنةٌ لجُملةِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ، وما فيها مِن استفهامِ إنكارٍ، أي: كان حقُّهم أنْ يَعلَموا أنَّهنَّ ما يُمسِكُهنَّ إلَّا الرَّحمنُ؛ إذ لا مُمسِكَ لها تَرَونَه، وفي هذا إيماءٌ إلى أنَّ الَّذي أمسَكَ الطَّيرَ عن الهُوِيِّ المُفْضي إلى الهلاكِ هو الَّذي أهْلَكَ الأُمَمَ الَّذين مِن قبْلِ هؤلاء، فلو لم يُشْرِكوا به ولو استَعْصَموا بطاعتِه، لَأنْجاهم مِن الهلاكِ كما أنْجى الطَّيرَ مِن الهُويِّ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/39). . وقيل: هذه الجملةُ مستأنَفةٌ أو حالٌ من الضميرِ في (يقبضنَ) [327] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/8). .
- قولُه: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ لعلَّ إيثارَ اسمِ الرَّحمنِ هنا دونَ الاسمِ العَلَمِ (الله)؛ لأنَّ مِن جُملةِ عِنادِهم إنكارَهم اسمَ (الرَّحمن)، فلمَّا لم يَرْعَوُوا عمَّا هم عليه ذُكِرَ وصْفُ الرَّحمنِ في هذه السُّورةِ أربَعَ مرَّاتٍ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/40). .
وقيل: إِلَّا الرَّحْمَنُ حيثُ برَأَهنَّ عزَّ وجلَّ على أشكالٍ وخصائصَ، وألهمَهنَّ حركاتٍ قد تأتَّى منها الجريُ في الهواءِ [329] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/8)، ((تفسير الألوسي)) (15/19). .
- وجُملةُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ تَعليلٌ لمَضمونِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/40). .
- وتَقديمُ بِكُلِّ شَيْءٍ على مُتعلَّقِه لإفادةِ القَصرِ الإضافيِّ، وهو قصْرُ قلْبٍ [331] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ردًّا على مَن يَزعُمون أنَّه لا يَعلَمُ كلَّ شَيءٍ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/40). ! وكذلك للرِّعايةِ على الفاصلةِ.