موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (1 - 3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات :

بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ: أي: يَجعلون له عديلًا من الحِجارةِ، ويُسَوُّون الأوثانَ به، وقيل: يَعدِلون بأفعالِه عنه، ويَنسُبونها إلى غيرِه، وقيل: يَعدِلون بعبادَتِهم عنه تعالى، والعدالةُ: لفظٌ يَقتضي معنى المساواةِ، وأصل (عدل): يدلُّ على استواءٍ [7] ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/246)، ((المفردات)) للراغب (ص: 551، 553)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 993). .
قَضَى: القضاءُ: إتمامُ الشَّيءِ، أو فَصْلُ الأمْرِ؛ قولًا كان ذلِك أو فِعلًا، ويُعبَّرُ عنه بالموتِ، ويُطلَقُ على الأجَل، وعلى الفَصلِ في الخُصومةِ أيضًا، وأصل (قضي): يَدُلُّ على إحكامِ أمرٍ وإتقانِه، وإنفاذِه لجِهتِه [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/99)، ((المفردات)) للراغب (ص: 674، 675)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 705). .
أَجَلًا: الأجَلُ: غايةُ الوقتِ، سواءٌ في مَحلِّ الدَّيْن، أو انقضاءِ العِدَّة أو غيرِهما، والمدَّةُ المضروبةُ للشيءِ، ويُقال للمدَّةِ المضروبةِ لحياةِ الإنسانِ: أجلٌ: ويُعبَّرُ به عن عُمرِ الإنسانِ، فيُقال: دنا أجَلُه، وهو عبارةٌ عن دُنوِّ المَوتِ، واستيفاءُ الأجَلِ، أي: مدَّةُ الحياةِ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/64)، ((المفردات)) للراغب (ص: 65، 675)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93) (1/406)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 111)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 50). .
تَمْتَرُونَ: تَشُكُّون، أو تَختلِفون، أو تَتردَّدون، مِن المِرْيَة: وهي الشَّكُّ، وقيل: هي التردُّدُ في الأمْر، وهو أخصُّ من الشكِّ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/434)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 97). .

المعنى الإجمالي :

يُخبرُ تعالى أنَّ الحمدَ الكاملَ المُستحَقَّ هو له وحْدَه؛ فهو الذي خلَق السَّمواتِ والأرضَ، وجعَل الظُّلماتِ والنُّورَ، ومع ذلك كلِّه؛ فإنَّ الكفَّارَ عدَلوا بربِّهم سواه، وجعَلوا معه شريكًا يُساوونَه به.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه هو الذي خلَقَ جميعَ البشرِ مِن طينٍ، وذلك بخلقِ أبيهم آدَمَ منه، ثم حدَّد مُدَّةَ إقامَتهم في الدُّنيا، وحدَّد كذلك وقتًا لهذه الحياةِ الدُّنيا تزولُ فيه، لا يَعلمُه غيرُه، ثمَّ يكونُ بعدَه البعثُ والانتقالُ للآخِرةِ؛ ليجازيَ العبادَ بحسَبِ أعمالِهم، ومع هذا البيانِ فإنَّهم يشكُّون في أمْرِ البَعثِ والنُّشورِ.
ثمَّ بيَّن اللهُ تعالى أنَّه هو المعبودُ في السَّمواتِ والأرضِ، يعلَمُ ما يُسرُّه الخلقُ وما يُعْلِنونَه، ويَعلمُ كلَّ ما يَعملونَه، خيرًا كان أو شرًّا، ويُحْصيه، وسيُجازِيهم عليه.

تفسير الآيات :

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1).
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.
أي: جميعُ المحامدِ يَستحقُّها اللهُ تعالى وحْدَه، الذي أَوْجَد بتقديرِه السَّمواتِ والأرضَ. وفي ضِمْنِ ذلكَ تعليمٌ مِن الله تعالى لخَلقِه أنْ يَحمدُوهُ، ويُفْرِدُوه بالحمْدِ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/144)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 10-15). .
جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.
أي: وهو الذي جعَل الظُّلماتِ والنورَ، وذلك شامِلٌ للحِسِّي كاللَّيلِ والنَّهارِ، والمعنويِّ كظُلماتِ الجَهلِ والشِّركِ والمعصيةِ، ونورِ العِلمِ والإيمانِ والطَّاعةِ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/144-145)، ((تفسير ابن كثير)) (3/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 250)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 16). .
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ.
أي: ومع هذا كلِّه، كفَر به بعضُ عِبادِه، وعدَلوا به سِواه، بأنْ جعَلوا معه شريكًا يُساوونَه به في العبادةِ والتَّعظيمِ، فيُعظِّمون أمْرَه، ويَعبُدونَه كما يَعبُدون اللهَ سبحانه وتعالى [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/146-149)، ((تفسير ابن كثير)) (3/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 250)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 17). .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ  (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا استدلَّ تعالى بخَلْقِه السَّمواتِ، وتعاقُبِ الظُّلماتِ والنُّورِ على وجودِ الصَّانعِ الحكيمِ- أتْبَعَه الاستدلالَ بخَلْقِه الإنسانَ على إثباتِ هذا المطلوبِ [14] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/13). ، فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ.
أي: هو سُبحانَه الذي أوجدَ أصْلَكم، وأنشأَ مادَّتَكم- أيُّها النَّاسُ- من طِينٍ، وذلك بخَلْقِ أبيكم آدَم عليه السَّلامُ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/149-150)، ((تفسير ابن كثير)) (3/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 250)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 22). .
ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ.
أي: ضرَبَ لِمُدَّة إقامتِكم في هذه الدَّارِ أجلًا تُبتَلَوْن فيه، ثم يُعيدكم ترابًا كما كُنتم، وضرَب لهذه الدُّنيا وقتًا تَزولُ فيه، لا يَعلمُه إلَّا هو، فتُبعَثون أحياءً، وتنتَقِلون إلى الدَّارِ الآخِرة؛ ليجازيَكم بأعمالِكم مِن خيرٍ وشرٍّ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/154)، ((تفسير ابن كثير)) (3/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 250)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 22). قال ابنُ عُثيمين: (قوله: وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ، أي: معلومٌ عند الله، وهنا الأفضلُ أن نقِفَ على قوله: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا ولا نصِل؛ لأنَّ الوصلَ قد يُشعر بالتناقُض، وجهه: أنَّ الأولَ منصوبٌ أَجَلًا، والثاني مرفوع وَأَجَلٌ، والحُكم أيضًا مختلفٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 22). .
ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ.
أي: ثمَّ أنتُم مع هذا البيانِ التامِّ، والحُجَّة السَّاطعة- حيث عرفتُم أنَّكم خُلِقْتُم من طينٍ، وأنَّ الآجالَ تَنقضي- تشكُّون في أمْرِ البَعثِ، وقيامِ السَّاعة [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 250)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 23). !
وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ .
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا تَقدَّم ما يدلُّ على القُدرةِ التامَّةِ والاختيارِ، وذلكَ في قولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ... ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ، ذكَر ما يدلُّ على العِلم التامِّ، فكان في التنبيهِ على هذِه الأوصافِ دلالةٌ على كونِه تعالى قادرًا مختارًا، عالِمًا بالكليَّات والجُزئيَّات، وإبطالٌ لشُبَهِ مُنكِرِ المعادِ [18] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/433). ، فقال تعالى:
وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ.
أي: وهو المأْلوهُ المعبودُ في السَّمواتِ وفي الأرضِ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/155)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/311)، ((تفسير ابن كثير)) (3/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 250)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 26-27). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] .
وقال سبحانه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] .
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ.
أي: يعلمُ ما تُسرُّونه وما تُعلنونَه؛ فلا يَخفَى عليه شيءٌ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/155)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 30). .
وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ.
أي: ويَعلمُ جميعَ ما تَعملونَ مِن خيرٍ وشرٍّ، فيُحصي ذلك عليكم، ويُجازيكم به عندَ رُجوعِكم إليه؛ فاحْذَروا معصيتَه، وارْغَبوا في طاعتِه [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/155)، ((تفسير ابن كثير)) (3/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 250). .

الفوائد التربوية :

1- في قولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ...: حَمِدَ اللهُ تعالى نفْسَه أنْ خلَق السَّمواتِ والأرضَ؛ فاللهُ تعالى يَحمَدُ نفْسَه عندَ الأمورِ العظيمةِ، فحَمِد نفْسَه على خلقِه السَّمواتِ والأرضَ، الدالَّة على كمالِ قُدرته، وسَعةِ عِلمِه ورَحمتِه، وعمومِ حِكمتِه، وانفرادِه بالخلقِ والتدبير، وعلى جَعْلِه الظُّلماتِ والنورَ؛ لأنَّ هذه الأمورَ العظيمةَ تُوجِبُ للعبدِ المتأمِّل أنْ يَحمَدَ اللهَ عزَّ وجلَّ على كمالِ صِفاتِه، وعلى كمالِ إفضالِه وإنعامِه، وتدلُّ دلالةً قاطعةً أنه تعالى هو المُستحِقُّ للعِبادة، وإخلاصِ الدِّين له [22] ينظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 250). .
2- أنَّ الإيمانَ بما تضمَّنه قولُه تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ يَقتضي عدمَ مُخالفةِ أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، بتَرْك واجبٍ، أو فِعلِ معصيةٍ؛ والرغبةَ في الأعمال التي تقرِّبُ مِن الله، والحذرَ مِن كلِّ عملٍ يُبعِدُ منه سبحانه وتعالى، فإذا علِمَ العبدُ أنَّ اللهَ يَعلمُ سِرَّه وجَهرَه، استحيا منه، فلم يترُكْ ما وجَب، ولم يفعلْ ما يَحرُم، وإذا لم يُثمرِ العلمُ بذلك هذه الثمرةَ الجليلةَ، كان علمًا لا فائدةَ منه [23] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 250)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 31). .
3- قولُه تعالى: وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فيه بيانُ عِلمِ اللهِ تبارك وتعالى بما نكسِبُ؛ أي: بما نَكسِبُه من الأعمالِ، سواءٌ كان كَسبًا دُنيويًّا، أو كسبًا أُخرويًّا، فإنَّ اللهَ تعالى يَعلمُه ولا يَخفَى عليه، ويَترتَّب على هذا ألَّا نكسِب شيئًا حرَّمه اللهُ علينا [24] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 31). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ أنَّ حمْدَ الله يكونُ على أفعالِه التي يَختارُها، وعلى صِفاتِه الكاملةِ اللازِمة له؛ فهو جلَّ وعلا مستحِقٌّ أنْ يُحمَد، والحمدُ الكاملُ مختصٌّ به [25] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 11). .
2- لمَ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ ولم يقُل: (المدحُ لله)، أو (الشُّكر لله)، والجواب: إنَّما لم يقُل: (المدح لله)؛ لأنَّ المدحَ كما يَحصُلُ لله تعالى، فقدْ يَحصُل لغيرِه، ألَا ترى أنَّه كما يَحسُن مدْحُ الرَّجُل العاقلِ على أنواع فضائلِه، فكذلك قد يُمدَحُ اللؤلؤُ؛ لحُسنِ شَكلِه، ولَطافةِ خِلقتِه، فيُقال: ما أحْسنَه! أمَّا الحمدُ فإنَّه لا يحصُل إلَّا لله عزَّ وجلَّ على ما يَصدُر منه من الإنعامِ والإحسانِ. ولم يقُل: (الشُّكرُ لله)؛ لأنَّ الشُّكرَ عبارةٌ عن تعظيمِه بسببِ إنعامٍ صدَرَ منه، ووصَل إليك، وهذا مُشعِرٌ بأنَّ العبدَ إذا ذكَر تعظيمَ الله بسببِ ما وصَلَ إليه من النِّعمة، فحينئذٍ يكونُ المطلوبُ الأصليُّ به وصولَ النِّعمة إليه، فأمَّا إذا قال: (الحمدُ لله)، فهذا يدلُّ على أنَّ العبدَ حمِدَه؛ لأجْل كونِه مستحِقًّا للحمدِ، لا لخُصوصِ أنَّه تعالى أوْصَل النِّعمةَ إليه؛ لأنَّ الحمدَ عبارةٌ عن تعظيمِ اللهِ سُبحانه؛ لأجْلِ ما صدَر عنه من الإنعامِ، سواءٌ كان ذلك الإنعامُ واصلًا إليك أو إلى غيرِك، فيكون الإخلاصُ أكملَ [26] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/472). .
3- إنَّما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ولم يقل: (أحمَدُ الله)؛ لأنَّه لو قال: (أحمد الله) كان ذلك مُشعِرًا بأنَّه ذكَرَ حَمْدَ نفْسِه، ولم يذكُر حمْدَ غيرِه، أمَّا إذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فقد دخَلَ فيه حمْدُه، وحمدُ غيرِه، من أوَّل خلْق العالَم إلى آخِرِ استقرار المكلَّفين في درجات الجِنان، ودَركاتِ النِّيران، كما قال تعالى: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] ، فكان هذا الكلامُ أفضلَ وأكملَ [27] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/473، 474). .
4- خصَّ السَّمواتِ والأرضَ بالذِّكر في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ لأنَّهما أعظمُ المخلوقاتِ فيما يرَى العبادُ؛ لأنَّ السَّماءَ بغيرِ عَمَدٍ، يرونَها، فيها العِبَرُ والمنافعُ؛ والأرضُ مسكنُ الخلائِقِ، وفيها أيضًا العِبَرُ والمنافِع [28] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/409). .
5- الاقتصارُ في ذِكرِ المخلوقاتِ على هذه الأربعِ: (السَّموات، والأَرْض، والظُّلمات، والنُّور)، في قولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، فيه تعريضٌ بإبطالِ عقائدِ كفَّارِ العربِ؛ فإنَّهم بين مُشرِكين، وصابئةٍ، ومجوسٍ، ونصارى، وكلُّهم قد أثبتوا آلهةً غيرَ الله؛ فالمشركونَ أثبتوا آلهةً من الأرضِ، والصابئةُ أثبتوا آلهةً من الكواكبِ السَّماويةِ، والنصارى أثبتوا إلهيَّةَ عيسى أو عيسى ومريمَ، وهما من الموجوداتِ الأرضيَّة، والمجوسُ- وهم المانويَّة- ألَّهوا النُّورَ والظُّلمة، فالنورُ إلهُ الخيرِ، والظُّلمةُ إلهُ الشرِّ عندهم؛ فأخبرَهم اللهُ تعالى أنَّه خالقُ السمَّواتِ والأرضِ- أي: بما فيهما- وجاعِلُ الظُّلماتِ والنُّورِ [29] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/127). .
6- قال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ لماذَا اختَلفَ التعبيرُ؛ في قوله: خَلَقَ وجَعَلَ؛ فهل هو مُجرَّدُ اختلافِ لفظٍ، أو هناك فرقٌ بين الفِعْلَينِ؟
قيل: إنَّ خَلَقَ هنا وجَعَلَ معناهما واحدٌ؛ وعلى هذا فيكونُ التَّفريقُ في هذا الموضع لمجرَّدِ اختلافِ اللَّفْظ فقط. ويدلُّ لهذا قولُ الله تبارك وتعالى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] ، وقال تعالى في آيةٍ أخرى: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] .
وقيل: بَينهما فرْقٌ، فالخَلْقُ: إنشاءٌ لذاتِ المخلوقِ وأصلِه، والخَلقُ فيه معنى التَّقديرِ، فعبَّر به عن السَّمواتِ والأرض، بينما الظُّلماتُ ليستْ ذاتًا، وإنَّما هي وصفٌ للمخلوقِ، وكذلك النُّورُ، وهما ليسَا شيئًا محسوسًا، وإنَّما يَظهرانِ في غيرِهما؛ لذا عبَّر عنهما بكَلمةِ جَعَلَ ففي الجَعْلِ معنى التَّضمينِ والتَّصييرِ، كإنشاءِ شيءٍ من شيءٍ، وتَصييرِ شيءٍ شيئًا. وإنَّما حَسُن لَفظُ الجَعْلِ هاهنا في قولِه تعالى: جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ؛ لأنَّ النورَ والظُّلمةَ لَمَّا تَعاقبَا صارَ كأنَّ كلَّ واحدٍ منهما إنَّما تولَّد مِنَ الآخَر. والقولُ بأنَّ بين اللفظين (خَلَق) و(جَعَل) فرقًا، لا شكَّ أنَّه أبلغُ مِن أنْ نقولَ: إنَّه ليسَ بينهما فرْقٌ، وإنَّما اختلَفَ اللَّفظُ فقط [30] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/478)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 20). .
7- يُؤخَذُ من قولِه تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ بيانُ سَفهِ الكفَّار، وأنَّهم لا عُقولَ لهم؛ وجهُه: أنَّه بعدَ ظهورِ هذه الآياتِ العظيمةِ، عدَلوا باللهِ عزَّ وجلَّ، وجعَلوا له عَديلًا ونِدًّا، وهذا يَدلُّ على سَفهِهم، وإنْ كانوا أذكياءَ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 21). .
8- رُبوبيَّةُ اللهِ تعالى عامَّةٌ للمؤمنِ والكافِر؛ لقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ، فأخْبَر سبحانه وتعالى عن نفْسِه أنَّه ربٌّ لهؤلاء، ولا إشكالَ في ذلك؛ فهذه هي الربوبيَّة العامَّة، وهناك ربوبيَّة خاصَّة بالمؤمنين تقتضي الكِلاءَةَ والعنايةَ والحِفظَ والتَّربية، وقد اجتمَع النوعانِ في قول سَحَرةِ فرعونَ: آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121-122] ، فالأُولى عامَّة، والثَّانِيَة خاصَّة [32] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 21- 22). .
9- الجَمْعُ بين قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، وبيْن قولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق: 5- 6] : ففي الآيةِ الأُولَى أنَّ البشرَ مخلوقون مِن طينٍ، وفي الثانيةِ أنَّهم مخلوقون مِن ماءٍ دافقٍ، والجمعُ بينهما أنَّ خلْقَ البَشَر مِن الطِّين باعتبارِ الأصل، وأمَّا خلْقُهم من الماءِ الدَّافِق، فباعتبارِ الفَرْع المتولِّد مِن الأصْل [33] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 23). .
10- لا خِلافَ ولا تناقُضَ بين قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، وقولِ اللهِ تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وقولِه تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [فاطر: 11] ؛ فالجمْعُ بين هذه الآياتِ أنَّ أصلَ بني آدمَ ترابٌ صُبَّ عليه الماءُ، فصار طينًا، يَلْزقُ باليَدِ إذا مسَّه الإنسانُ، ثمَّ صَارَ حمأً مَسْنُونًا، ثم َصَارَ صَلْصالًا كالفخَّار له صوتٌ إذا قُرِع [34] ينظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/6)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 24). .
11- في قَولِه سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ نُسِبَ الخَلْقُ مِن الطِّين إلى المخاطَبِين لا إلى آدَم عليه السَّلام مع أنَّه هو المخلوقُ مِن الطِّينِ حَقيقةً- حيث لم يقُل: (هو الذي خَلَق أباكم آدَمَ مِن طين...)-؛ لأنَّ آدَم عليه السَّلامُ هو أوَّلُ البَشرِ، وهُو أبوهم؛ فكانَ كُلُّ البَشرِ راجعًا إلى الخَلقِ مِن الطِّين؛ فأخْرَجَ ذلك مَخرجَ الخِطابِ لهم؛ لأنَّهم ذُرِّيتُه [35] يُنظر: ((تفسير أبي السعود))   (3/106). .
12- ذَكَر اللهُ مادَّةَ ما منه الخَلْقُ بقوله: مِنْ طِينٍ؛ لإظهارِ فَسادِ استدلالِهم على إنكار الخَلْق الثاني؛ لأنَّهم استبعدوا أنْ يُعادَ خلْقُ الإنسانِ بعدَ أنْ صار ترابًا، وتكرَّرتْ حكايةُ ذلك عنهم في القرآنِ، فقد اعتَرَفوا بأنَّهم يَصيرون ترابًا بعدَ الموتِ، وهم يَعترِفون بأنَّهم خُلِقوا من تراب؛ لأنَّ ذلك مُقرَّرٌ بين النَّاسِ في سائرِ العُصورِ، فاستدلُّوا على إنكارِ البَعث بما هو جديرٌ بأنْ يكونَ استدلالًا على إمكانِ البَعْثِ؛ لأنَّ مصيرَهم إلى ترابٍ يُقرِّبُ إعادةَ خلْقِهم؛ إذ صاروا إلى مادَّةِ الخَلْقِ الأوَّلِ؛ فلذلك قال اللهُ هنا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، وقال في آياتِ الاعتبارِ بعجيبِ تكوينِه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] ، وأمثال ذلك [36] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/130). .
13- إعادةُ النكرةِ بعدَ نكرةٍ في قوله: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى... يُفيد أنَّ الثانيةَ غيرُ الأولى، فصار المعنى: ثمَّ قضَى لكم أجلَيْنِ: أجلًا تَعرِفون مُدَّتَه بموتِ صاحبِه، (وهو عُمرُ الإنسانِ)، وأجلًا مُعيَّنَ المدَّةِ في عِلم الله، (وهو يومُ القيامةِ) [37] ينظر: ((تفسير ابن عاشور))  (7/131). .
14- يُستفادُ من قولِه تعالى: قَضَى أَجَلًا أنَّ مَن مات مقتولًا فقدْ ماتَ بأجَلِه الذي قدَّره اللهُ له؛ لأنَّ الله قضاه، ولا يُقال: (لولا أنَّه قُتِل لم يَمُتْ)؛ لأنَّ اللهَ تعالى قضَى أن يموتَ بالقَتْل، فهو مقتولٌ بأجَلٍ [38] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 25). .
15- أنَّ الحُكمَ لله عزَّ وجلَّ وحْدَه؛ لقولِه تعالى: قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ولا أحدَ يُغيِّر في هذه الآجالِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 25). .
16- قال اللهُ تعالى: مُسَمًّى عِنْدَهُ فقيَّد (المسمَّى) بكَوْنِه عندَه، فإنَّ وقتَ السَّاعةِ لا يَعلَمُه ملَكٌ مُقرَّب ولا نبيٌّ مُرسَلٌ، كما قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، بخلاف ما إذا قال: (مُسمًّى) كقوله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة: 282] ؛ إذ لم يُقيَّدْ بأنَّه (مُسَمَّى عِنْدَهُ) فقدْ يَعرِفُه العبادُ، وأمَّا أجَلُ المَوْتِ فهذا تَعرِفُه الملائكةُ الذين يَكتُبونَ رزقَ العبدِ وأجلَه وعمَلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((...ثمَّ يُبعَثُ إليه المَلَكُ، فيُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ، فيقال: اكتُبْ رِزقَه وأجَلَه وعمَلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ )) [40] أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643). ، فهذا الأجَلُ الذي هو أجلُ الموتِ قدْ يُعْلِمُه اللهُ مَن شاءَ من عبادِه، وأمَّا أجَلُ القيامةِ المسمَّى عندَه فلا يَعْلمُه إلَّا هو [41] ينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/489). .
17- في قولِه تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ ذكَر السِّرَّ؛ لأنَّ عِلمَ السرِّ دليلُ عمومِ العِلم، وذَكَر الجهرَ لاستيعابِ نوعَيِ الأقوالِ [42] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/133). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ... كلامٌ خرَج مخرجَ الخبرِ وأُريدَ به الأمرُ- على أحد القولين-، أي: احْمَدوا الله، أي: أخْلِصوا الحَمدَ والشُّكرَ للهِ، ولا تُشرِكوا معه في ذلك أحدًا شيئًا؛ فإنَّه المستوجِبُ عليكم الحمدَ بأياديه عندكم، ونِعَمِه عليكم، لا مَن تَعبدُونه من دونِه، وتَجعلونَه له شريكًا مِن خلقِه [43] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/144)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/62). ؛ وإنَّما جاءَ على صِيغة الخبرِ؛ لفوائد: إحداها: أنَّ قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفيد تعليمَ اللَّفظ والمعنى، ولو قال: (احْمَدوا) لم يَحصُل مجموعُ هاتينِ الفائدتينِ. وثانيها: أنَّه يُفيدُ أنَّه تعالى مستحِقٌّ الحمدَ، سواءٌ حمِده حامدٌ أو لم يَحْمَده. وثالثها: أنَّ المقصودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة؛ فذِكْرُه بصيغةِ الخبرِ أَوْلى [44] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/475). .
- وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ (أَلْ) في الْحَمْدُ لتعريفِ الجِنسِ؛ فدلَّتْ على انحصارِ استحقاقِ جنسِ الحمد للهِ تعالى؛ فتُفيد استحقاقَ اللهِ تعالى الحمدَ وحْدَه دونَ غيرِه؛ لأنَّ هذه الجُملةَ تدلُّ على الحَصْرِ، فالمعنى هنا أنَّ الحمدَ كلَّه لا يستحقُّه إلَّا اللهُ، وهذا قَصرٌ إضافيٌّ؛ للردِّ على المشركينَ الذين حَمِدوا الأصنامَ على ما تَخيَّلوه من إسدائِها إليهم نِعَمًا ونَصْرًا، وتفريجَ كُرباتٍ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/125). .
- و (اللامُ) في قوله: (لله): إمَّا للاختصاصِ، وإمَّا للاستحقاقِ، ولا تَنافيَ بين المعنيينِ، وعلى هذا فتكون للاستحقاقِ والاختصاصِ؛ لأنَّ (أل) في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ للعمومِ، ولا أحَدَ يستحِقُّ الحَمْدَ على العُمومِ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 10). .
2- قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
- قدَّم السَّمواتِ على الأرضِ؛ لشَرفِها وعلوِّ مكانِها [47] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/153). ، وقيل: لأنَّ خلْقَ السَّمواتِ أعظمُ [48] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/247). .
3- قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ: تقديمُ ذِكرِ الظُّلُمَاتِ على النُّور؛ مراعاةً للترتُّب في الوجودِ؛ لأنَّ الظُّلْمةَ سابقةُ النُّورِ [49] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/479)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/127). ، وفي الحديث: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خَلَق الخَلْقَ في ظُلمةٍ، ثمَّ ألْقَى عليهم مِن نُورِه يومئذٍ... )) [50] أخرجه الترمذي (2642)، والطيالسي في ((المسند)) (2405)، وأحمد (6644). حسَّنه الترمذيُّ في ((السنن))، وابنُ العربيِّ في ((عارضة الأحوزي)) (5/316)، وصحَّح الحديث الحاكمُ في ((المستدرك)) (1/188)، والألبانيُّ في ((صحيح الترمذي)) (2642). .
- وفيه: المخالفةُ في الإفرادِ والجَمعِ، حيث جمَع الظُّلُمَاتِ وأفْرَدَ النُّورَ؛ وذلك لمناسباتٍ لطيفةٍ:
فقِيل: لظُهورِ كَثرةِ أَسبابِ الظُّلماتِ، ومَحالِّها عندَ الناسِ، ومُشاهَدتِهم لها على التَّفصيلِ [51] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/153)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/157)، ((تفسير أبي السعود)) (3/105). .
وعلى حَمْلِ الظُّلُمَاتِ على الكُفرِ والباطِل، والنُّور على الإيمانِ والحَقِّ؛ فقِيل: لَمَّا كان الحقُّ واحدًا، والباطلُ كثيرًا؛ فلمَّا كانتِ الظُّلمةُ بمنزلةِ طُرقِ الباطلِ، والنُّورُ بمنزلةِ طَريقِ الحقِّ؛ فقد أُفْرِدَ النورُ، وجُمِعتِ الظُّلمات، ونحوُ هذا ما جاءَ في قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ حيثُ وحَّدَ وليَّ الذين آمنوا، وهو اللهُ الواحدُ الأحدُ، وجمَعَ وَلِيَّ الَّذين كفروا؛ لتعدُّدِهم وكثرتِهم، وجمَع الظُّلماتِ- وهي طُرُق الضَّلالِ والغيِّ- لكَثرتِها واختلافِها، ووحَّد النورَ- وهو دِينُه الحقُّ وطريقُه المستقيمُ الذي لا طريقَ إليه سِواه [52] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/479)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/119- 120)، ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 177- 178)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 20- 21). وقال ابنُ القيِّم بعدَ أن ذكَر هذا الوجهَ: (مع أنَّ فيه سرًّا ألطفَ مِن هذا، يعرفُه مَن يعرفُ منبعَ النُّور، ومِن أين فاض، وعمَّاذا حصَل، وأنَّ أصلَه كلَّه واحدٌ، وأمَّا الظُّلماتُ فهي متعددةٌ بتعدُّدِ الحُجُبِ المقتضيةِ لها، وهي كثيرةٌ جدًّا؛ لكلِّ حجابٍ ظُلمةٌ خاصَّة، ولا ترجعُ الظُّلماتُ إلى النُّورِ الهادي جلَّ جلالُه أصلًا، ولا وصفًا، ولا ذاتًا، ولا اسمًا، ولا فعلًا، وإنما ترجعُ إلى مفعولاتِه، فهو جاعلُ الظُّلماتِ، ومفعولاتُها متعددةٌ متكثرةٌ، بخلافِ النُّور، فإنَّه يرجعُ إلى اسمِه وصفتِه، تعالى أن يكونَ كمِثلِه شيءٌ، وهو نورُ السَّموات والأرضِ). .
وقيل: جمَع الظُّلُمَاتِ وأفردَ النُّور اتِّباعًا للاستعمالِ؛ لأنَّ لفظَ الظُّلُمَاتِ بالجمعِ أخفُّ، ولفظ النُّور بالإفرادِ أخفُّ؛ ولذلك لم يَرِدْ لفظ الظُّلُمَاتِ في القرآنِ إلَّا جمعًا، ولم يرِدْ لفظ النُّور إلَّا مفردًا، وهما معًا دالَّانِ على الجنسِ، والتعريفُ الجِنسيُّ يستوي فيه المفردُ والجمعُ؛ فلم يبقَ للاختلافِ سببٌ لاتِّباعِ الاستعمالِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/127). .
وقيل: إنَّه جَمَع لفْظَ الظُّلُمَاتِ ووحَّدَ لفظ النُّورَ؛ لكونِه أشرفَ، كما قال سُبْحانَه: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [54] ((تفسير ابن كثير)) (3/239). [النحل: 48] .
- وفي إيثارِ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ بالذِّكرِ دونَ غيرِهما مِنَ الأعراضِ: إيماءٌ وتَعريضٌ بحالَيِ المُخاطَبِين بالآيةِ؛ مِن كُفرِ فريقٍ وإيمانِ فَريقٍ؛ فإنَّ الكفرَ يُشبه الظُّلمةَ؛ لأنَّه انغماسٌ في جَهالةٍ وحَيرةٍ، والإيمانَ يُشبه النورَ؛ لأنَّه استبانةُ الهدى والحقِّ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/127). .
4- قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ:
- عطَف بـ ثُمَّ؛ لاستبعادِ صُدورِ الشِّركِ منهم مع وجودِ ما يَقتضي عدمَه [56] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/105)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/63). ؛ فـثُمَّ للتَّراخي الرُّتْبي الدالِّ على أنَّ ما بعدَها يَتضمَّن معنًى من نوعِ ما قَبْلَها، وهو أهمُّ في بابِه، وذلك شأنُ (ثُمَّ) إذا وردتْ عاطفةً جملةً على أخرى؛ فإنَّ عدولَ المشركينَ عن عبادةِ الله مع عِلمهم بأنَّه خالقُ الأشياءِ أمرٌ غريبٌ فيهم، أعجبُ مِن عِلمهم بذلك [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/128). .
- وقوله: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فيه إظهارُ (الرَّبِّ) في موضعِ ضَميرِه- وهو مِن الإظهار في موضع الإضمارِ؛ حيث قال: بِرَبِّهمْ ولم يقل: (بِه)، مع أنَّ ذِكْر الله تقدَّمَ- لزيادةِ التشنيعِ والتقبيحِ عليهم، وتَفخيمًا لجلالِه، وهي سُنَّةٌ مِن سُنَنِ العَرَبِ في كلامِهم؛ يُعيدون الاسمَ ظاهرًا، وإنْ تقدَّم، دون التعبيرِ عنه بالضَّمير؛ للدَّلالةِ على كمالِ العِنايةِ [58] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/105)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/62). .
- وقوله: بِرَبِّهِمْ مُتعلِّقٌ بِقَوله: يَعْدِلُونَ، وقُدِّمَ عليه؛ لِمَزيدِ الاهتمامِ، والمسارَعَةِ إلى تحقيقِ مدارِ الإنكارِ والاستبعادِ، والمحافظةِ على الفواصِل. والباءُ في قولِه: بِرَبِّهِمْ للتَّعديةِ، ويَعْدِلونَ مِنَ العَدْلِ، وهو التَّسويةُ بين الشَّيئينِ، فيكون المفعولُ محذوفًا؛ ففيه إيجازٌ بالحَذفِ؛ حَذَف المفعولَ به؛ لظُهورِه، أي: يَعدِلون به غَيرَه [59] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/105)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/525- 526)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/63). .
5- قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ... استئنافٌ مَسُوقٌ لبيانِ بُطلانِ كُفرِهم بالبعثِ، مع مُشاهدتِهم لِمَا يُوجِبُ الإيمانَ به، إثرَ بيانِ بُطلانِ إشراكِهم به تعالى، مع مُعاينَتِهم لموجِباتِ توحيدِه [60] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/106). ، وهذا الاستئنافُ لغَرَضِ التعجُّبِ من حالِ المشركين [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/129). .
- وتَخصيصُ خَلْقِهم بالذِّكرِ مِن بين سائرِ دَلائلِ صِحَّةِ البعثِ- مع أنَّ ما ذُكِر مِن خلْق السَّمواتِ والأرضِ مِنْ أوضَحِها وأظهرِها؛ كما ورَد في قولِه تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [سورة يس: 81]- لأنَّ محلَّ النِّزاعِ بَعْثُهم؛ فدَلالةُ بَدءِ خَلْقهم على ذلك أظهرُ، وهم بشُؤونِ أنفسِهم أعرَفُ، والتعامِي عن الحُجَّةِ النَّيِّرَة أقبَحُ [62] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/106). .
- والإتيانُ بضَميرِ هُوَ في قولِه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ؛ ليحصلَ تعريفُ المسنَدِ والمسنَدِ إليه معًا؛ فتُفيد الجملةُ القصرَ في رُكْنَيِ الإسنادِ وفي مُتعلِّقها، أي: هو خالِقُكم لا غيرُه، مِن طينٍ لا مِن غيرِه، والقصرُ أفادَ نفيَ جميعِ هذه التكويناتِ عن غيرِ اللهِ مِن أصنامِهم [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/129). .
- بناءً على أن الخِطابَ في قوله: خَلَقَكُمْ مُوجَّهٌ إلى الَّذين كفروا [64] وإنَّما قيل بتوجُّهه إلى الكفَّار فقط؛ لأنَّ قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ لا يُمكِن أن يندرجَ في هذا الخِطاب مَن اصطفاه اللهُ بالنبوَّة والإيمانِ، وإنْ كان الخلقُ وقضاءُ الأجَل ليس مختصًّا بالكفَّارِ؛ إذ اشتَرَك فيه المؤمنُ والكافِرُ، لكنَّه قُصِدَ به الكافرُ؛ تنبيهًا له على أصلِ خَلقِه، وقضاءِ الله تعالى عليه وقُدرتِه. ينظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (4/433). ؛ ففيه الْتفاتٌ من ضَميرِ الغائِب- الذي هو قولُه: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- إلى الخِطاب؛ لقصدِ التَّشنيعِ والتَّوبيخِ [65] يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (4/433)، ((تفسير أبي السعود)) (3/106)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/129). .
6- قوله: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ:
- حرف ثُمَّ في قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ دالٌّ على التَّراخي الرُّتْبي، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ التعجُّبَ حَقيقٌ ممَّن يَمْتَرونَ في أَمْرِ البعثِ، مع عِلمِهم بالخَلقِ الأوَّلِ وبالموت، والمخاطَب بقولِه: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ هم المشرِكون [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/133). .
- وجِيء بالمسنَدِ إليه أَنْتُمْ ضَميرًا بارزًا؛ للتوبيخِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/133). .
7- قوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فيه ذِكرُ الجهرِ بعدَ السرِّ، مع أنَّه مفهومٌ منه بالأَوْلى؛ للمقابلةِ والتأكيد [68] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/158). .
8- قوله: وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فيه تعريضٌ بالوعدِ والوعيدِ؛ إذ إنَّ المرادَ بقولِه: تَكْسِبُونَ جميعُ الاعتقاداتِ والأعمالِ من خيرٍ وشرٍّ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/133). .