موسوعة التفسير

سورةُ الإنسانِ
الآيات (1-3)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غريب الكلمات:

الدَّهْرِ: الدَّهْرُ اسمٌ للزَّمانِ الطَّويلِ ومُدَّةِ الحياةِ الدُّنيا، وهو في الأصلِ: اسمٌ لِمُدَّةِ العالَمِ مِن مَبدأِ وُجودِه إلى انقضائِه، ثمَّ يُعبَّرُ به عن كلِّ مُدَّةٍ كثيرةٍ، بخِلافِ الزَّمانِ؛ فإنَّه يقَعُ على المدَّةِ القليلةِ والكثيرةِ، وأصلُ (دهر): هو الغلَبةُ والقَهرُ، وسُمِّيَ الدَّهْرُ دَهْرًا؛ لأنَّه يأتي على كلِّ شيءٍ ويَغْلِبُه .
نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: الماءُ الصَّافي، ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .
أَمْشَاجٍ: أي: أَخلاطٍ؛ مِن مَشَجْتُ الشَّيءَ: إذا خلَطْتَه؛ لأنَّ النُّطْفةَ مِن مَنِيِّ الرَّجُلِ ومَنِيِّ المرأةِ، وأصلُ (مشج): يدُلُّ على خَلْطٍ .
نَبْتَلِيهِ: أي: نَختَبِرُه ونَمتَحِنُه، والبلاءُ يكونُ في الخَيرِ والشَّرِّ، وأصلُ (بلي) هنا: الاختِبارُ .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالإخبارِ بأنَّه قد مَرَّ على الإنسانِ قبْلَ أن يُخلَقَ زَمَنٌ طَويلٌ لم يكُنْ فيه شَيئًا مَذكورًا.
ثمَّ ذكرَ اللهُ سُبحانَه أطوارَ خَلقِ الإنسانِ، فقال: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ إنسانٍ مِن ماءٍ قَليلٍ مكوَّنٍ مِن اختِلاطِ ماءِ الرَّجُلِ بماءِ المرأةِ؛ مِن أجْلِ أن نَختَبِرَه في الدُّنيا، فجَعَلْناه سَميعًا بَصيرًا.
 ثمَّ ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه بيَّن للنَّاسِ طريقَ الحقِّ، وأنَّهم انقسَموا إلى قِسمَينِ، فقال: إنَّا هدَيْنا كُلَّ إنسانٍ، وبَيَّنَّا له طريقَ الحَقِّ الَّذي يُوصِلُه إلى رِضوانِ اللهِ وجَنَّتِه؛ فإمَّا أن يَسلُكَه فيَكونَ شاكِرًا، وإمَّا أن يَترُكَه فيَكونَ كَفُورًا لنِعَمِ اللهِ عليه.

تفسير الآيات:

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1).
أي: قد مَرَّ على الإنسانِ قبْلَ أن يُخلَقَ زَمَنٌ طَويلٌ لم يكُنْ فيه شَيئًا يُذكَرُ !
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى مُطْلَقَ خَلْقِ الإنسانِ، وأنَّه قد كان لا شيءَ، ثمَّ أنعَم الله عليه بنعمةِ الإيجادِ؛ شَرَع يَذكُرُ كيفيَّةَ خَلْقِه، فقال :
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ.
أي: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ إنسانٍ مِن ماءٍ قَليلٍ مكوَّنٍ مِن اختِلاطِ ماءِ الرَّجُلِ بماءِ المرأةِ؛ مِن أجْلِ أن نختَبِرَه في الدُّنيا .
كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
أي: فجَعَلْنا للإنسانِ سَمْعًا يَسمَعُ به الأصواتَ، وجعَلْنا له بَصَرًا يُبصِرُ به المَرئيَّاتِ .
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أخبَرَ تعالى أنَّه بعدَ أن ركَّبَ الإنسانَ، وأعطاه الحواسَّ الظَّاهِرةَ والباطِنةَ؛ بيَّنَ له سَبيلَ الهُدى والضَّلالِ .
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3).
أي: إنَّا بَيَّنَّا للإنسانِ وعرَّفْناه طريقَ الحَقِّ الَّذي يُوصِلُه إلى رِضوانِ اللهِ وجَنَّتِه؛ فإمَّا أن يَسلُكَه فيكونَ شاكِرًا لنِعَمِ اللهِ مُوَحِّدًا طائِعًا، وإمَّا أن يَترُكَه فيكونَ كَفُورًا لنِعَمِ اللهِ مُشرِكًا عاصيًا .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِ اللهِ تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا تَعريفُ الإنسانِ بحالِه، وابتِداءِ أمْرِه؛ لِيَعلَمَ أنْ لا طريقَ له للكِبْرِ، واعتِقادِ السِّيادةِ لِنَفْسِه، وألَّا يُغْلِطَه ما اكتنَفَه مِنَ الألطافِ الرَّبانيَّةِ، والاعتناءِ الإلهيِّ، والتَّكْرِمةِ، فيَعتَقِدَ أنَّه يَستَوجِبُ ذلك ويَستَحِقُّه !
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا في هذا نِداءٌ على أنَّ اللهَ تعالى أرشَدَ الإنسانَ إلى الحَقِّ، وأنَّ بعضَ النَّاسِ أدخَلوا على أنفُسِهم ضلالَ الاعتِقادِ، ومَفاسِدَ الأعمالِ، فمَن بَرَّأَ نَفْسَه مِن ذلك فهو الشَّاكِرُ، وغَيرُه الكَفورُ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- سورةُ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ سورةٌ عجيبةُ الشَّأنِ مِن سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، على اختِصارِها؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه ابتدأَها بذِكْرِ كيفيَّةِ خَلْقِ الإنسانِ مِن النُّطْفةِ ذاتِ الأمشاجِ والأخلاطِ الَّتي لَمْ يَزَلْ بقُدرتِه ولُطْفِه وحِكمتِه يُصَرِّفُه عليها أطوارًا، ويَنْقُلُه مِن حالٍ إلى حالٍ إلى أنْ تَمَّتْ خِلْقَتُه، وكَمَلَتْ صورتُه؛ فأخْرَجه إنسانًا سَوِيًّا سميعًا بصيرًا، ثُمَّ لَمَّا تكامَلَ تمييزُه وإدراكُه هَداه طريقَيِ الخَيرِ والشَّرِّ، والهُدى والضَّلالِ، وأنَّه بعدَ هذه الهدايةِ إمَّا أنْ يَشْكُرَ ربَّه وإمَّا أنْ يَكْفُرَه، ثُمَّ ذَكَرَ مآلَ أهلِ الشُّكرِ والكُفرِ وما أعَدَّ لهؤلاء وهؤلاء، وبَدَأ أوَّلًا بذِكْرِ عاقِبةِ أهلِ الكفرِ ثُمَّ عاقبةِ أهلِ الشُّكرِ، وفي آخرِ السُّورةِ ذَكَر أوَّلًا أهلَ الرَّحمةِ ثُمَّ أهلَ العذابِ، فبَدَأَ السُّورةَ بأوَّلِ أحوالِ الإنسانِ -وهي النُّطْفةُ-، وخَتَمَها بآخِرِ أحوالِه -وهي كَونُه مِن أهلِ الرَّحمةِ أو العذابِ-، ووَسَّطَها بأعمالِ الفريقَينِ، فذَكَرَ أعمالَ أهلِ العذابِ مُجْمَلةً في قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ [الإنسان: 4] ، وأعمالَ أهلِ الرَّحمةِ مُفَصَّلةً، وجزاءَهم مُفَصَّلًا .
2- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا أنَّ رُوحَ الإنسانِ مخلوقةٌ، وليست قَديمةً، فلو كانت رُوحُه قديمةً لَكان الإنسانُ لَمْ يَزَلْ شيئًا مذكورًا؛ فإنَّه إنَّما هو إنسانٌ برُوحِه، لا ببَدَنِه فقط !
3- في قَولِه تعالى: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا أنَّ الاشتراكَ في الأسماءِ والصِّفاتِ لا يَستَلزِمُ تَماثُلَ المُسَمَّياتِ والمَوصوفاتِ؛ فقد نفَى سُبحانَه أنْ يكونَ السَّميعُ كالسَّميعِ، والبصيرُ كالبَصيرِ، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، وفيه حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ شَديدةٌ خانِقةٌ، ألَا تَراه كيف وصَفَ الإنسانَ بما وَصَف به نَفْسَه مِن السَّمعِ والبَصَرِ؛ إذ يقولُ: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، فسَوَّى بيْن الصِّفَتينِ، ولم يُخالِفْ بيْن اللَّفظَينِ، فأخبَر بذلك؛ لأنَّ اللهَ سميعٌ بسَمعٍ وبصيرٌ ببَصَرٍ غيرِ مخلوقَينِ، ومَن نفى عن اللهِ جَلَّ جلالُه حقائِقَ وَصْفِه، أو حقائِقَ فِعلِه فقد عطَّلَه، وإن لم يُثبِتْ وأخَذَ بالسَّميعِ والبَصيرِ إلى معنى الإدراكِ خَوفًا مِن التَّشبيهِ، لم يسلَمْ مِن التَّشبيهِ، وكيف يَسلَمُ مِن التَّشبيهِ؟! أليس للمخلوقِ أيضًا إدراكٌ لأشياءَ، وإن لم يُدرِكْ جميعَها، كما يُدرِكُ الله جميعَها؟! وأيضًا فالإنسانُ يُسمَّى عالِمًا وعليمًا، ويُسَمَّى اللهُ عالِمًا وعليمًا، فلا يكونُ تشبيهًا؛ لأنَّ عِلمَ المخلوقِ الَّذي سُمِّيَ به عالِمًا وعليمًا مُستفادٌ مُتعَلَّمٌ، وعِلمُه سُبحانَه أزَليٌّ صِفةٌ مِن صفاتِه، غيرُ مُتعَلَّمٍ ولا مُستفادٍ، كذلك سَمْعُ المخلوقِ مَصنوعٌ فانٍ، وبَصَرُه مِثلُه، يُفنيهما اللهُ إذا شاء، ثمَّ يُعيدُهما إذا أحياه كما ابتدأهما بقدرتِه، وكذلك بَصَرُه. وسَمْعُ اللهِ وبَصَرُه كائنان أزَليَّانِ فيه، بلا إحداثِ مُحدِثٍ، ولا صُنعِ صانعٍ، حقيقيَّانِ غيرُ مَجازيَّينِ، معروفٌ عندَنا حقيقتُهما، مَسكوتٌ عن كَيفيَّتِهما، كهيئةِ ما هما عندَه سُبحانَه .
4- في قَولِه تعالى: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا أنَّ مِن أسماءِ اللهِ تعالى ما لا يَخْتَصُّ به، مِثلُ: السَّميعِ، البصيرِ، العليمِ، الرَّحيمِ، وقال تعالى عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالَى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا استِفهامٌ تَقريريٌّ تَوبيخيٌّ، وهو هنا مُوجَّهٌ إلى غيرِ مُعيَّنٍ، ومُستعمَلٌ في تَحقيقِ الأمْرِ المُقرَّرِ به على طَريقِ الكِنايةِ؛ لأنَّ الاستفهامَ طلَبُ الفَهمِ، والتَّقريرُ يَقْتضي حُصولَ العِلمِ بما قُرِّرَ به، وذلك إيماءٌ إلى استِحقاقِ اللهِ أنْ يَعترِفَ الإنسانُ له بالواحدانيَّةِ في الرُّبوبيَّةِ، إبطالًا لإشراكِ المشْرِكين، والمعْنى: هلْ يُقِرُّ كلُّ إنسانٍ مَوجودٍ أنَّه كان مَعدومًا زَمانًا طَويلًا، فلمْ يكُنْ شَيئًا يُذكَرُ؟ أي: لم يكُنْ يُسمَّى ولا يُتحدَّثُ عنه بذاتِه، وهمْ لا يَسَعُهم إلَّا الإقرارُ بذلك؛ فلذلك اكتُفِيَ بتَوجيهِ هذا التَّقريرِ إلى كلِّ سامعٍ .
- وتَقديمُ هذا الاستفهامِ؛ لِما فيه مِن تَشويقٍ إلى مَعرفةِ ما يَأْتي بعْدَه مِن الكلامِ؛ فجُملةُ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ... تَمهيدٌ وتَوطئةٌ للجُملةِ الَّتي بعْدَه، وهي إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] إلخ .
2- قوله تعالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا استِئنافٌ بَيانيٌّ لقولِه: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1] ؛ لبَيانِ كَيفيَّةِ خلْقِ الإنسانِ؛ لِما فيه مِن التَّشويقِ، والتَّقريرُ يَقْتضي الإقرارَ بذلك لا مَحالةَ؛ لأنَّه مَعلومٌ بالضَّرورةِ، فالسَّامعُ يَتشوَّفُ لِما يَرِدُ بعْدَ هذا التَّقريرِ، فقِيل له: إنَّ اللهَ خَلَقَه بعْدَ أنْ كان مَعدومًا، فأوجَدَ نُطفةً كانت مَعدومةً، ثمَّ استَخرَجَ منها إنسانًا، فثَبَتَ تَعلُّقُ الخلْقِ بالإنسانِ بعْدَ عَدَمِه .
- وتَأكيدُ الكلامِ بحرْفِ (إنَّ) لتَنزيلِ المشْرِكين مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ اللهَ خلَقَ الإنسانَ؛ لعَدَمِ جَرْيِهم على مُوجَبِ العِلمِ؛ حيث عَبَدوا أصنامًا لم يَخلُقوهم .
- وإظهارُ لَفظِ الْإِنْسَانِ لزِيادةِ التَّقريرِ .
- وأُدمِجَ في ذلك كَيفيَّةُ خلْقِ الإنسانِ مِن نُطفةِ التَّناسُلِ؛ لِما في تلك الكيفيَّةِ مِن دَقائقِ العِلمِ الإلهيِّ والقُدرةِ والحِكمةِ .
- على القولِ بأنَّ أَمْشَاجٍ جمْعٌ، فيكونُ وَصَف النُّطفةَ -مع أنَّها مُفرَدٌ- بلَفظِ أَمْشَاجٍ، وهو جمْعٌ؛ لأنَّها أُريدَ بها الجِنسُ، كقولِه: عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ [الرحمن: 76]، أو لتَنزيلِ كلِّ جُزءٍ مِن النُّطفةِ نُطفةً . أو وَصَفَ النُّطفةَ بالجمْعِ باعتِبارِ ما تَشتمِلُ عليه النُّطفةُ مِن أجزاءٍ مُختلِفةِ الخواصِّ؛ فلذلك يَصيرُ كلُّ جُزءٍ مِن النُّطفةِ عضْوًا، فوَصْفُ النُّطفةِ بجمْعِ الاسمِ للمُبالَغةِ، أي: شَديدةُ الاختلاطِ . أو وصَفَ النُّطفةَ بـ أَمْشَاجٍ وهو جمْعٌ؛ لِما أنَّ المُرادَ بها مَجموعُ الماءَينِ مِن الرَّجُلِ والأُنثى، ولكلٍّ منهُما أوصافٌ مُختلِفةٌ مِن اللَّونِ والرِّقَّةِ والغِلَظِ، وخَواصُّ مُتبايِنةٌ .
- وقد وقَعَت هذه الحالُ نَبْتَلِيهِ مُعترِضةً بيْن جُملةِ خَلَقْنَا وبيْن فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا؛ لأنَّ الابتلاءَ -أي: التَّكليفَ الَّذي يَظهَرُ به امتِثالُه أو عِصيانُه- إنَّما يكونُ بعْدَ هِدايتِه إلى سَبيلِ الخَيرِ، فكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يَقَعَ نَبْتَلِيهِ بعْدَ جُملةِ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [الإنسان: 3] ، ولكنَّه قُدِّمَ؛ للاهتِمامِ بهذا الابتلاءِ الَّذي هو سَببُ السَّعادةِ والشَّقاوةِ. وجِيءَ بجُملةِ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ بَيانًا لجُملةِ نَبْتَلِيهِ؛ تَفنُّنًا في نظْمِ الكلامِ .
- وقد نُزِّلَت الكَلِمتانِ سَمِيعًا بَصِيرًا مَنزِلةَ الكَلِمةِ الواحدةِ؛ لأنَّهما كِنايةٌ عن التَّمييزِ والفَهمِ؛ إذْ آلَتُهما سَببٌ لذلك، وهما أشرَفُ الحواسِّ، تُدرَكُ بهما أعظَمُ المُدرَكاتِ، أي: جَعَلْناه بسَببِ الابتلاءِ حينَ تَأهُّلِه له سَميعًا بَصيرًا؛ ليَتمكَّنَ مِن مُشاهَدةِ الدَّلائلِ، واستِماعِ الآياتِ؛ فالعطفُ على إرادةِ الابتلاءِ لا الابتلاءِ فيه، فلا يَرِدُ السُّؤالُ الآتي: كيف عُطِفَ على نَبْتَلِيهِ ما بعْدَه بالفاءِ مع أنَّ الابتلاءَ مُتأخِّرٌ عنه ؟
- وحَقيقةُ الابتلاءِ: الاختِبارُ لِتُعرَفَ حالُ الشَّيءِ، وهو هنا كِنايةٌ عن التَّكليفِ بأمْرٍ عَظيمٍ؛ لأنَّ الأمْرَ العظيمَ يُظهِرُ تَفاوُتَ المكلَّفينَ به في الوفاءِ بإقامتِه .
- وفُرِّعَ على خلْقِه مِن نُطفةٍ أنَّه جَعَلَه سَميعًا بَصيرًا، وذلك إشارةٌ إلى ما خَلَقَه اللهُ له مِن الحواسِّ الَّتي كانت أصلَ تَفكيرِه وتَدبيرِه؛ ولذلك جاء وصْفُه بالسَّميعِ البصيرِ بصِيغةِ المُبالَغةِ، ولم يقلْ: فجَعَلْناه سامعًا مُبصِرًا؛ لأنَّ سمْعَ الإنسانِ وبصَرَه أكثَرُ تَحصيلًا وتَمييزًا في المسموعاتِ والمُبصَراتِ مِن سمْعِ وبصَرِ الحيوانِ؛ فبِالسَّمعِ يَتلقَّى الشَّرائعَ ودَعوةَ الرُّسلِ، وبالبصَرِ يَنظُرُ في أدِلَّةِ رُبوبيَّةِ الله تعالى ووحدانيَّتِه .
- وهذا تَخلُّصٌ إلى ما ميَّزَ اللهُ به الإنسانَ مِن جَعْلِه تُجاهَ التَّكليفِ واتِّباعِ الشَّرائعِ، وتلك خَصِيصةُ الإنسانِ الَّتي بها ارتَكَزَت مَدنيَّتُه، وانتَظَمَت جامعاتُه؛ ولذلك أُعقِبَت هذه الجُملةُ بقولِه: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ الآياتِ .
3- قولُه تعالَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا استِئنافٌ بَيانيٌّ لبَيانِ ما نشَأَ عن جُملةِ نَبْتَلِيهِ [الإنسان: 2] ، ولتَفصيلِ جُملةِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2] ، وتَخلُّصٌ إلى الوعيدِ على الكفْرِ، والوعْدِ على الشُّكرِ . فقولُه: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ رُتِّب على قولِه: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2] ؛ لأنَّه جملةٌ مُستأنَفةٌ تعليليَّةٌ في معنى: لأنَّا هدَيْناه، أي: دلَلْناه على ما يُوصِلُه مِن الدَّلائلِ السَّمعيَّةِ كالآياتِ التَّنزيليَّةِ، والعَقليَّةِ كالآياتِ الآفاقيَّةِ والأنفُسيَّةِ، وهو إنَّما يكونُ بعدَ التَّكليفِ والابتلاءِ .
- وتَأكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) في إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ... للرَّدِّ على المشرِكين الَّذين يَزعُمون أنَّ ما يَدْعوهم إليه القرآنُ باطلٌ .
- ولَمَّا كان الشُّكرُ قَلَّ مَن يتَّصِفُ به، قال: شَاكِرًا، فعبَّرَ عنه باسمِ الفاعلِ؛ للدَّلالةِ على قِلَّتِه، ولَمَّا كان الكفْرُ كثيرًا مَن يَتَّصِفُ به، ويَكثُرُ وُقوعُه مِن الإنسانِ، قال: كَفُورًا؛ فعبَّرَ عنه بصِيغةِ المُبالَغةِ .
أو: أنَّه عَبَّرَ باسمِ الفاعِلِ الخالي مِن المُبالَغةِ في شَاكِرًا؛ لأنَّه لا يَقدِرُ أحدٌ أن يَشكُرَ جميعَ النِّعَمِ، فلا يُسَمَّى شَكورًا إلَّا بتفَضُّلٍ مِن رَبِّه عليه، ولَمَّا كان الإنسانُ لِما له مِن النُّقْصانِ لا يَنفَكُّ غالِبًا عن كُفْرٍ ما، أتى بصيغةِ المُبالَغةِ؛ تنبيهًا له على ذلك ، وإشعارًا بأنَّ الإنسانَ لا يَخْلو عن كُفرانٍ غالبًا، وإنَّما المُؤاخَذُ به التَّوغُّلُ فيه، أو لم يقُلْ: (كافرًا) ليُطابِقَ قَسيمَه؛ مُحافَظةً على الفواصلِ .