موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (1-5)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ

غريب الكلمات:

تَبَارَكَ: أي: تعاظَمَ وتقَدَّسَ، وكثُر خَيرُه، وعمَّ إحسانُه، مِن البَرَكةِ: وهي الزِّيادةُ والنَّماءُ، والكثرةُ والاتِّساعُ، وأصلُ (برك): ثَباتُ الشَّيءِ .
لِيَبْلُوَكُمْ: أي: لِيَختَبِرَكم ويَمتحِنَكم، وأصلُه: يدُلُّ على الامتِحانِ والاختِبارِ .
طِبَاقًا: أي: مُتَطابِقةً بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، والمُطابَقةُ: أن تَجعَلَ الشَّيءَ فَوقَ آخَرَ بقَدْرِه، وأصلُ (طبق): يدُلُّ على وَضعِ شَيءٍ مَبسوطٍ على مِثْلِه حتَّى يُغَطِّيَه .
تَفَاوُتٍ: أي: اضْطِرابٍ واختِلافٍ أو عَيبٍ، وتفاوَتَ الشَّيئانِ: تباعَدَ ما بيْنَهما، وأصلُه مِنَ «الفَوتِ» وهو: أن يَفوتَ شَيءٌ شيئًا، فيقَعَ الخَلَلُ .
فُطُورٍ: أي: صُدوعٍ وشُقوقٍ، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه .
كَرَّتَيْنِ: أي: رَجْعتَينِ؛ مرَّةً بعدَ أُخرى، وأصلُ (كرر): يدُلُّ على تَرديدٍ .
يَنْقَلِبْ : أي: يرجِعْ، وأصْلُ (قلب) هنا: صرْفُ الشَّيءِ عن وجْهٍ إلى وجْهٍ، أو ردُّه مِن جِهةٍ إلى جهةٍ .
خَاسِئًا: أي: صاغِرًا، ذَليلًا، مُبْعَدًا، لم يَرَ ما يَهْوَى، وأصلُ (خسأ): يدُلُّ على الطَّردِ والإبعادِ .
حَسِيرٌ: أي: كَليلٌ، مُعْيٍ، مُنقَطِعٌ، لم يُدرِكْ ما طَلَب، وهو فَعيلٌ بمعنى فاعِلٍ، مِنَ الحُسورِ الَّذي هو الإعياءُ، يُقالُ: حَسَرَ بَصَرُه: إذا كَلَّ وانقَطَع، وذلك انْكِشافُ حالِه في قِلَّةِ بَصَرِه وضَعْفِه، وأصلُ (حسر): كَشْفُ الشيءِ .
رُجُومًا : أي: يُرْجَمُ بها، والرُّجومُ جمعُ رَجْمٍ، وهو مصدرٌ سُمِّيَ به ما يُرجَمُ به، وأصلُ (رجم): يدُلُّ على رَميٍ بالحِجارةِ .
السَّعِيرِ: هو اسْمٌ مِن أسماءِ جَهنَّمَ، يُقالُ: سَعرْتُ النَّارَ، إذا ألهَبْتَها، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه وارتِفاعِه .

المعنى الإجمالي:

افتتَحَ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالثَّناءِ على ذاتِه قائِلًا: تعاظَمَ الله وكثُرَ خَيرُه الَّذي بيَدِه المُلْكُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
ثمَّ ذكر الله تعالى ما يدُلُّ على حِكمتِه، وشُمولِ قُدرتِه، فقال: الَّذي خَلَق الموتَ والحياةَ؛ لِيَختَبِرَكم -أيُّها النَّاسُ- فيَنظُرَ أيُّكم خَيرٌ وأفضَلُ عَمَلًا، وهو الغالِبُ القاهِرُ، الغَفورُ لذُنوبِ عبادِه.
ثمَّ بيَّن سبحانَه مَظهَرًا آخَرَ مِن مَظاهِرِ قُدرتِه، فقال: هو الَّذي خَلَق سَبْعَ سَمَواتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، لا تَرى في خَلْقِ السَّمَواتِ الَّتي أبدَعَها الرَّحمنُ مِن اختِلافٍ أو خَلَلٍ، فأعِدْ بَصَرَك إلى السَّماءِ مُتأمِّلًا فيها، فهل ترى فيها مِن شُقوقٍ أو صُدوعٍ؟! ثمَّ كرِّرِ النَّظَرَ إلى السَّماءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخرى، يَرجِعْ إليك بَصَرُك صاغِرًا ذليلًا قد بلَغَ الغايةَ في التَّعَبِ والإعياءِ.
ثمَّ ذكَر تعالى أدِلَّةً أخرَى على وحدانيَّتِه وقُدرتِه، فقال: ولقد زَيَّنَّا السَّماءَ القَريبةَ للأرضِ بنُجومٍ مُضيئةٍ، وجعَلْنا تلك النُّجومَ رُجومًا للشَّياطينِ الَّتي تَستَرِقُ السَّمْعَ، وأعدَدْنا لهم في الآخِرةِ أشَدَّ الحَريقِ.

تفسير الآيات:

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1).
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ.
أي: تعاظَمَ وكثُرَ خَيرُ اللهِ الَّذي بيَدِه مُلْكُ العالَمِ أجمَعَ؛ فهو وَحْدَه مَن يتصَرَّفُ فيه كيفَ يَشاءُ بما يَشاءُ .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الزخرف: 85] .
وقال سُبحانَه: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 26، 27].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَدُ اللهِ مَلْأَى لا تَغِيضُها نَفَقةٌ، سَحَّاءُ اللَّيلَ والنَّهارَ، أرَأَيْتُم ما أنفَقَ مُنذُ خَلَقَ السَّماءَ والأرضَ؟! فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَدِه، وكان عَرشُه على الماءِ، وبيَدِه الميزانُ، يَخفِضُ ويَرفَ عُ)) .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ وَحْدَه ذو القُدرةِ التَّامَّةِ البالِغةِ على فِعلِ كُلِّ شَيءٍ، فلا يَمنَعُه أو يُعجِزُه شَيءٌ .
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شُروعٌ في تَفصيلِ بَعضِ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ، وبَيانِ ابتنائِهما على قَوانينِ الحِكَمِ والمَصالحِ، واستِتباعِهما لغاياتٍ جَليلةٍ .
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.
أي: هو الَّذي خلَقَ موتَ الخَلْقِ وحياتَهم .
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
أي: لِيَختَبِرَكم -أيُّها النَّاسُ- بالأوامِرِ والنَّواهي والشَّهَواتِ والمصائِبِ، فيَنظُرَ أيُّكم خَيرٌ وأفضَلُ عَمَلًا -وذلك أخْلَصُه للهِ تعالى، وأصْوَبُه بأدائِه وَفْقَ شَرْعِه-، ثمَّ يُجازيَكم على أعمالِكم .
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف: 7، 8].
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.
أي: وهو الغالِبُ الَّذي لا يُغلَبُ، المَنيعُ الجَنابِ، القاهِرُ لجَميعِ المخلوقاتِ، الغَفورُ لذُنوبِ عبادِه، فيَستُرُها عليهم، ويَقيهم عُقوبتَها .
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ كَوْنَ اللهِ عَزيزًا غَفورًا لا يَتِمُّ إلَّا بَعْدَ كَونِه قادِرًا على كُلِّ المقدوراتِ، عالِمًا بكُلِّ المعلوماتِ، أمَّا أنَّه لا بُدَّ مِن القُدرةِ التَّامَّةِ؛ فمِن أجْلِ أن يتمكَّنَ مِن إيصالِ جزاءِ كُلِّ أحدٍ بتَمامِه إليه، سواءٌ كان عِقابًا أو ثوابًا، وأمَّا أنَّه لا بُدَّ مِن العِلمِ التَّامِّ؛ فمِن أجْلِ أن يَعلَمَ أنَّ المطيعَ مَن هو، والعاصيَ مَن هو، فلا يقَعَ الخطَأُ في إيصالِ الحَقِّ إلى مُستحِقِّه، فثَبَت أنَّ كَونَه عزيزًا غَفورًا لا يمكِنُ ثُبوتُها إلَّا بعْدَ ثُبوتِ القُدرةِ التَّامَّةِ والعِلمِ التَّامِّ؛ فلهذا السَّبَبِ ذَكَر اللهُ الدَّليلَ على ثُبوتِ هاتَينِ الصِّفَتينِ في هذا المقامِ، ولَمَّا كان العِلمُ بكَونِه تعالى قادِرًا: متقَدِّمًا على العِلمِ بكَونِه عالِمًا؛ لا جَرَمَ ذَكَر أوَّلًا دلائِلَ القُدرةِ، وثانيًا دلائِلَ العِلمِ .
وأيضًا لَمَّا أثبَتَ اللهُ سُبحانَه لنَفْسِه صِفتَيِ العِزِّ والغَفْرِ على أبلَغِ ما يكونُ؛ دَلَّ على ذلك بقَولِه :
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا.
أي: هو الَّذي خَلَق سَبْعَ سَمَواتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ .
كما قال تعالى حِكايةً عن قَولِ نُوحٍ عليه السَّلامُ لِقَومِه المُشرِكينَ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [نوح: 15].
مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ.
أي: لا ترى في خَلْقِ السَّمَواتِ الَّتي أبدَعَها الرَّحمنُ مِن اختِلافٍ أو خَلَلٍ !
قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ.
أي: فأعِدْ بَصَرَك إلى السَّماءِ مُتأمِّلًا فيها، فهل ترى فيها أيَّ شُقوقٍ أو صُدوعٍ ؟!
كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4).
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ.
أي: ثمَّ كرِّرِ النَّظَرَ إلى السَّماءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخرى .
يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ.
أي: يَرجِعْ إليك بَصَرُك صاغِرًا ذليلًا؛ لعَجْزِه عن العُثورِ على أيِّ شُقوقٍ في السَّماءِ، والحالُ أنَّ بَصَرَك قد بلَغَ الغايةَ في التَّعَبِ، وانقطَع مِن الإعياءِ مِن كثرةِ تَكرارِ النَّظَرِ للبَحثِ عن أيِّ تصَدُّعاتٍ فيها !
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا هو الدَّليلُ الثَّاني على كَونِ اللهِ تعالى قادِرًا عالِمًا؛ وذلك لأنَّ هذه الكواكِبَ -نَظَرًا إلى أنَّها مُحْدَثةٌ ومختصَّةٌ بمِقدارٍ خاصٍّ، ومَوضِعٍ مُعَيَّنٍ، وسَيرٍ مُعَيَّنٍ- تدُلُّ على أنَّ صانِعَها قادِرٌ، ونظرًا إلى كَونِها مُحكَمةً مُتقَنةً مُوافِقةً لِمَصالِحِ العبادِ مِن كَونِها زينةً لأهلِ الدُّنيا، وسببًا لانتفاعِهم بها، تدُلُّ على أنَّ صانِعَها عالِمٌ .
وأيضًا لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى عن بديعِ هذا الخَلْقِ، ونَبَّه على بعضِ دقائِقِه، وأمَرَ بالإبصارِ وتكريرِه، وكان السَّامِعُ أوَّلَ ما يُصَوِّبُ نَظَرَه إلى السَّماءِ؛ لشَرَفِها، وغَريبِ صُنْعِها، وبديعِ وَضْعِها، ومَنيعِ رَفْعِها، فكان بحيثُ يُتوقَّعُ الإخبارُ عن هذه الزِّينةِ الَّتي رُصِّعَت بها- قال في جوابِ مَن توقَّعَه، مؤكِّدًا بالقَسَمِ، إعلامًا بأنَّه ينبغي أن يَبعُدَ العاقِلُ عن إنكارِ شَيءٍ ممَّا يُنسَبُ إلى صاحِبِ هذا الخَلْقِ من الكَمالِ، عاطِفًا على ما تقديرُه: لقد كفى هذا القَدْرُ في الدَّلالةِ على عَظَمةِ مُبدِعِ هذا الصُّنعِ وتمامِ قُدْرتِه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الآيةَ .
وأيضًا فقد انتقَلَ مِن دَلائلِ انتفاءِ الخَلَلِ عن خِلقةِ السَّمواتِ، إلى بَيانِ ما في إحدى السَّمواتِ مِن إتقانِ الصُّنعِ ، فلَمَّا نفى عنها في خَلْقِها النَّقصَ، بيَّن كمالَها وزينتَها، فقال :
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ.
أي: ولقد جمَّلْنا السَّماءَ القَريبةَ للأرضِ بنُجومٍ مُضيئةٍ .
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ.
أي: ورجَمْنا بتلك النُّجومِ الشَّياطينَ الَّتي تَستَرِقُ السَّمْعَ .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16 - 18] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6 - 10] .
وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ.
أي: وهيَّأْنا للشَّياطينِ في الآخِرةِ عذابَ النَّارِ، وأشَدَّ الحَريقِ .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مَن تأمَّلَ الآيةَ عَرَف أنَّ الدُّنيا مزرعةٌ، وأنَّ الآخِرةَ مَحصَدةٌ، فيَصيرُ مِن نَفْسِه على بصيرةٍ، وثارت إرادتُه لِمَا خُلِقَ له؛ تارةً بالنَّظَرِ إلى جمالِ رَبِّه مِن حُسنٍ وإحسانٍ، وأُخرى إلى جلالِه مِن قُدرةٍ وإمكانٍ، وتارةً بالنَّظَرِ لنَفْسِه بالشَّفَقةِ عليها مِن خِزْيِ الحِرْمانِ، فيَجتَهِدُ في رِضا رَبِّه، وصَلاحِ نَفْسِه؛ خوفًا مِن عاقبةِ هذه البَلوى .
2- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أنَّ تَرَقُّبَ الموتِ أكبرُ مَواعِظِ اللهِ جلَّ جلالُه، وأجدَرُ بالمعونةِ على العَمَلِ الصَّالحِ؛ إذ تَرَقُّبُه مُقَصِّرٌ للأمَلِ، ومُهَوِّنٌ مَضَضَ المصائبِ، ويُزَهِّدُ في شَهَواتِ النَّفْسِ إذا اتَّصَلَ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أخلَصُه وأصوَبُه؛ فإنَّ اللهَ خَلَق عِبادَه، وأخرَجَهم لهذه الدَّارِ، وأخبَرَهم أنَّهم سيُنقَلونَ منها، وأمَرَهم ونَهاهم، وابتلاهم بالشَّهَواتِ المعارِضةِ لأمْرِه؛ فمَنِ انقاد لأمرِ اللهِ وأحسَنَ العَمَلَ، أحسَنَ اللهُ له الجزاءَ في الدَّارَينِ، ومَن مال مع شَهَواتِ النَّفْسِ ونَبَذ أمْرَ اللهِ، فله شَرُّ الجزاءِ .
4- إنَّ جِماعَ الدِّينِ: ألَّا يَعبُدَ النَّاسُ إلَّا اللهَ، وأنْ يَعبُدوه بما شَرَع، لا يَعبُدوه بالبِدَعِ، كما قال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ في قَولِه عزَّ وجلَّ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: (أخلَصُه وأصوَبُه)، قالوا: يا أبا عَليٍّ، ما أخلَصُه، وما أصوَبُه؟ قال: (إنَّ العَمَلَ إذا كان خالِصًا ولم يكُنْ صَوابًا لم يُقبَلْ، وإذا كان صَوابًا ولم يكُنْ خالِصًا لم يُقبَلْ، حتَّى يكونَ خالِصًا صَوابًا، والخالِصُ: أنْ يكونَ للهِ، والصَّوابُ: أنْ يكونَ على السُّنَّةِ) ، فالعَمَلُ الأحسَنُ هو الأخلَصُ والأصوَبُ، وهو الموافِقُ لِمَرضاتِه تعالى ومحبَّتِه، دونَ الأكثَرِ الخالي مِن ذلك؛ فهو سُبحانَه وتعالى يحِبُّ أن يُتعَبَّدَ له بالأرضَى له وإن كان قليلًا، دونَ الأكثَرِ الَّذي لا يُرضِيه، والأكثَرِ الَّذي غيرُه أَرضَى له منه؛ ولهذا يكونُ العَمَلانِ في الصُّورةِ واحِدًا، وبيْنَهما في الفَضلِ، بل بيْنَ قليلِ أحَدِهما وكثيرِ الآخَرِ في الفَضلِ: أعظَمُ مِمَّا بيْنَ السَّماءِ والأرضِ، ولهذا قال اللهُ تبارك وتعالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ، فهو سُبحانَه وتعالى إنَّما خلَق السَّمواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ، وزيَّن الأرضَ بما عليها؛ لِيَبْلُوَ عبادَه أيُّهم أحسَنُ عملًا، لا أكثرُ عملًا ، فالعِبرةُ بالأحسَنِ لا بالأكثَرِ . ولَمَّا كان الإحسانُ هو الَّذي خُلِقْنا مِن أجْلِه، أراد جِبريلُ أن يُنَبِّهَ الصَّحابةَ على الطَّريقِ إليه، فقال: ((يا محمَّدُ، أخبِرْني عن الإحسانِ))، فبَيَّن له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ طريقَ الإحسانِ محصورةٌ في هذا الزَّاجِرِ الأكبَرِ، والواعِظِ الأعظَمِ، وهو أن يَعلَمَ العَبدُ الضَّعيفُ الذَّليلُ المِسكينُ أنَّ جَبَّارِ السَّمَواتِ والأرضِ مُطَّلِعٌ عليه، حاضِرٌ لا يَغِيبُ عن شَيءٍ مِن فِعْلِه، يَعلَمُ كُلَّ ما يَفعَلُ؛ ولذا قال: ((الإحسانُ أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه، فإنْ لم تَكُنْ تَراه فإنَّه يَراكَ )) .
5- قولُه تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه مِن التَّرغيبِ في التَّرقِّي إلى مَعارجِ العلومِ ومَدارِجِ الطَّاعاتِ، والزَّجرِ عن مُباشَرةِ نَقائِضِها؛ ما لا يَخْفى .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كلمةُ: تَبَارَكَ لاستِقلالِها بالدَّلالةِ على غايةِ الكمالِ، وإنبائِها عن نِهايةِ التَّعظيمِ، لم يَجُزِ استِعمالُها في حقِّ غَيرِه سُبحانَه .
2- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ سُؤالٌ: أنَّ صِفةَ اليَدينِ للهِ سُبحانَه جاءتْ هنا على الإفرادِ، وجاءتْ أيضًا على التَّثنيةِ، كقَولِه تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] ، وجاءتْ على الجَمعِ، كقَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس: 71] ، فما التَّوفيقُ بيْنَها؟
الجوابُ: أنَّ الوَجهَ الأوَّلَ مُفرَدٌ مُضافٌ، فيَشملُ كلَّ ما ثَبَتَ للهِ مِن يدٍ، ولا يُنافي الثِّنْتَينِ، وأمَّا الجَمْعُ فهو للتَّعظيمِ لا لحقيقةِ العَدَدِ الَّذي هو ثلاثةٌ فأكثَرُ، وحينَئذٍ لا يُنافي التَّثنيةَ.
على أنَّه قد قيل: إنَّ أقلَّ الجَمْعِ اثنانِ، فإذا حُمِلَ الجَمْعُ على أَقَلِّه فلا مُعارَضةَ بيْنَه وبيْنَ التَّثنيةِ أصلًا . ثمَّ إنَّ المرادَ باليَدِ في قَولِه: عَمِلَتْ أَيْدِينَا نفْسُ الذَّاتِ الَّتي لها يَدٌ، وقد قال اللهُ تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41] أي: بما كَسَبوا، سواءٌ كان مِن كَسْبِ اليَدِ أو الرِّجْلِ أو اللِّسانِ أو غَيرِها مِن أجزاءِ البَدَنِ، لكِنْ يُعَبَّرُ بمِثلِ هذا التَّعبيرِ عن الفاعِلِ نفْسِه؛ ولهذا نقولُ: إنَّ الأنعامَ الَّتي هي الإبِلُ لم يخلُقْها اللهُ تعالى بيَدِه، وفَرْقٌ بيْن قَولِه: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا وبيْن قَولِه: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ؛ فـ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا كأنَّه قال: مِمَّا عَمِلْنا؛ لأنَّ المرادَ باليَدِ ذاتُ اللهِ الَّتي لها يدٌ، والمرادُ بـ بِيَدَيَّ: اليدانِ دونَ الذَّاتِ .
3- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ إفرادُ اللهِ تعالى بالمُلْكِ، فالمالِكُ المُلْكَ المُطلَقَ العامَّ الشَّامِلَ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى وَحْدَه، وإنَّ نِسبةَ المُلْكِ إلى غَيرِه هي نِسبةٌ إضافيَّةٌ؛ فقد أثبَتَ اللهُ عزَّ وجلَّ لغيرِه المُلْكَ، كما في قَولِه تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ [النور: 61] ، وقولِه: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون: 6] إلى غيرِ ذلك مِن النُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّ لغيرِ اللهِ تعالى مُلْكًا، لكنَّ هذا المُلْكَ ليس كمُلْكِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فهو مُلْكٌ قاصِرٌ لا يَشْملُ؛ فالبَيتُ الَّذي لِزَيدٍ لا يَملِكُه عَمرٌو، والبَيتُ الَّذي لعمرٍو لا يَملِكُه زَيدٌ، ثُمَّ هذا المُلْكُ مُقَيَّدٌ بحيثُ لا يَتصَرَّفُ الإنسانُ فيما مَلَكَ إلَّا على الوجهِ الَّذي أَذِنَ اللهُ فيه؛ ولهذا نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن إضاعةِ المالِ ، وقال اللهُ تبارك وتعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5] ، أمَّا مُلْكُ اللهِ سُبحانَه وتعالى فهو مُلْكٌ عامٌّ شامِلٌ ومُلْكٌ مُطْلَقٌ، يَفعلُ اللهُ سُبحانَه وتعالى ما يَشاءُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] .
4- الموتُ صِفةٌ وُجوديَّةٌ، خِلافًا للفلاسِفةِ ومَن وافَقَهم؛ قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فأخبَر أنَّه خَلَق الموتَ كما خَلَق الحياةَ، والعدَمُ لا يُوصَفُ بكَونِه مَخلوقًا ، فمُفارَقةُ الرُّوحِ الجَسَدَ مَوتٌ، وليس عَدَمًا، بل مُفارَقةٌ تُفقَدُ بها الحياةُ .
5- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أنَّ شرائِعَ اللهِ وأحكامَ اللهِ القَدَرِيَّةَ كلَّها: ابتِلاءٌ، أي: اختبارٌ، وليستِ ابتلاءً مِن البَلاءِ .
6- في قَولِه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «أحسَنُ»: اسمُ تفضيلٍ، وهذا دليلٌ على أنَّ الأعمالَ تتفاضَلُ بالحُسْنِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ فيه سؤالٌ: كيف يَنقَلِبُ البَصَرُ خاسِئًا حَسيرًا برَجْعِه كرَّتَينِ اثنتَينِ؟
الجوابُ: التَّثنيةُ للتَّكرارِ بكَثرةٍ، كقَولِهم: (لبَّيك وسَعْدَيك)، يريدُ: إجاباتٍ مُتواليةً .
8- عن قَتادةَ، قال: (إنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤه إنَّما خَلَق هذه النُّجومَ لثلاثِ خِصالٍ: خلَقَها زينةً للسَّماءِ الدُّنيا، ورُجومًا للشَّياطينِ، وعلاماتٍ يُهتدَى بها، فمَن يتأوَّلْ منها غيرَ ذلك فقد قال برأيِه، وأخطأَ حَظَّه، وأضاع نَصيبَه، وتكَلَّف ما لا عِلْمَ له به) .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ فيه سؤالٌ: إذا كان الجِنُّ مِن نارٍ، كما في قَولِه تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن: 15]، فكيف تُحرِقُه النَّارُ؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ تعالى أضاف الشَّياطينَ والجنَّ إلى النَّارِ حسَبَ ما أضاف الإنسانَ إلى التُّرابِ والطِّينِ والفَخَّارِ، والمرادُ به في حقِّ الانسانِ أنَّ أصْلَه الطِّينُ، وليس الآدميُّ طينًا حقيقةً، لكنَّه كان طينًا، كذلك الجانُّ كان نارًا في الأصلِ .
الثَّاني: أنَّ النَّارَ يكونُ بَعضُها أقوى مِن بَعضٍ، فالأقوى يُؤثِّرُ على الأضعَفِ، وممَّا يَشهَدُ له قَولُه تعالى بَعْدَه: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] ، والسَّعيرُ: أشَدُّ النَّارِ. ومعلومٌ أنَّ النَّارَ طَبَقاتٌ بَعضُها أشَدُّ مِن بَعضٍ، وهذا أمرٌ مَلموسٌ؛ فقد تكونُ الآلةُ مَصنوعةً مِن حَديدٍ، وتُسَلَّطُ عليها آلةٌ مِن حديدٍ أيضًا أقوى منها فتَكسِرُها. كما قيل: (لا يَفُلُّ الحديدَ إلَّا الحديدُ)، فلا يَمنَعُ كَونُ أصْلِه مِن نارٍ ألَّا يَتعذَّبَ بالنَّارِ، كما أنَّ أصلَ الإنسانِ مِن طِينٍ مِن حَمَأٍ مَسنونٍ، ومِن صَلصالٍ كالفَخَّارِ، وبَعْدَ خَلْقِه فإنَّه لا يَحتَمِلُ التعذيبَ بالصَّلصالِ ولا بالفخَّارِ؛ فقد يُقضَى عليه بضَربةٍ مِن قِطعةٍ مِن فَخَّارٍ !
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ احتُجَّ به على أنَّ النَّارَ مَخلوقةٌ الآنَ؛ لأنَّ قَولَه: وَأَعْتَدْنَا إخبارٌ عن الماضي .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ابتُدِئَت السُّورةُ بتَعريفِ المؤمنينَ مَعانيَ مِن العِلمِ بعَظَمةِ اللهِ تعالَى، وتَفرُّدِه بالملْكِ الحقِّ، والنَّظَرِ في إتقانِ صُنعِه الدَّالِّ على تَفرُّدِه بالإلهيَّةِ، فبذلك يكونُ في تلك الآياتِ حَظٌّ لعِظَةِ المشرِكين .
- وفي افتتاحِ السُّورةِ بما افتُتِحتْ به بَراعةُ الاستهلالِ ، فقد افتُتِحَت بما يدُلُّ على مُنْتهى كَمالِ اللهِ تَعالى، افتتاحًا يُؤْذِنُ بأنَّ ما حَوَتْه يَحومُ حولَ تَنزيهِ اللهِ تعالَى عن النَّقصِ الَّذي افتراهُ المشرِكون لَمَّا نَسَبوا إليه شُركاءَ في الرُّبوبيَّةِ والتَّصرُّفِ معه، والتَّعطيلِ لبَعضِ مُرادِه .
- وهذا الكلامُ يَجوزُ أنْ يكونَ مُرادًا به مُجرَّدُ الإخبارِ عن عَظَمةِ اللهِ تعالَى وكَمالِه، ويَجوزُ أنْ يكونَ مع ذلك إنشاءُ ثَناءٍ على اللهِ أثناهُ على نفْسِه، وتَعليمًا للنَّاسِ كيف يُثْنون على اللهِ ويَحمَدونه؛ إمَّا على وَجْهِ الكِنايةِ بالجُملةِ عن إنشاءِ الثَّناءِ، وإمَّا باستعمالِ الصِّيغةِ المشتركةِ بيْن الإخبارِ والإنشاءِ في مَعنيَيها، ولو صِيغَ بغَيرِ هذا الأُسلوبِ لَما احتَمَلَ هذَينِ المعْنيَينِ .
- قولُه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ - وإسنادُ تَبَارَكَ إلى المَوصولِ؛ للاستِشهادِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ على تَحقُّقِ مَضمونِها .
وجُعِلَ المسنَدُ إليه اسمَ مَوصولٍ؛ للإيذانِ بأنَّ معْنى الصِّلةِ ممَّا اشتُهِرَ به -كما هو غالبُ أحوالِ الموصولِ-، فصارتِ الصِّلةُ مُغْنيةً عن الاسمِ العَلَمِ؛ لاستِوائِهما في الاختِصاصِ به؛ إذ يَعلَمُ كلُّ أحدٍ أنَّ الاختِصاصَ بالمُلْكِ الكاملِ المطلَقِ ليس إلَّا للهِ .
- وتَقديمُ المسنَدِ -وهو بِيَدِهِ- على المسنَدِ إليه الْمُلْكُ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ، أي: المُلْكُ بيَدِه لا بيَدِ غيرِه. وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ مَبنيٌّ على عدَمِ الاعتدادِ بمُلْكِ غيرِه، ولا بما يَتراءى مِن إعطاءِ الخلفاءِ والملوكِ الأصقاعَ للأمراءِ والسَّلاطينِ ووُلاةِ العهدِ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مُلكٌ غيرُ تامٍّ؛ لأنَّه لا يَعُمُّ المملوكاتِ كلَّها، ولأنَّه مُعرَّضٌ للزَّوالِ، ومُلكُ اللهِ هو الملكُ الحقيقيُّ؛ قال: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: 114] ، فالنَّاسُ يَتوهَّمون أمثالَ ذلك مُلْكًا، وليس كما يَتوهَّمون .
- وجُملةُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعطوفةٌ على جُملةِ بِيَدِهِ الْمُلْكُ الَّتي هي صِلةُ الموصولِ، وهي تَعميمٌ بعْدَ تَخصيصٍ؛ لتَكميلِ المقصودِ مِن الصِّلةِ؛ إذ أفادتِ الصِّلةُ عُمومَ تَصرُّفِه في الموجوداتِ، وأفادتْ هذه عُمومَ تَصرُّفِه في الموجوداتِ والمعدوماتِ؛ بالإعدامِ للموجوداتِ، والإيجادِ للمعدوماتِ، فيكونُ قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُفيدًا مَعنًى آخَرَ غيرَ ما أفادَهُ قولُه: بِيَدِهِ الْمُلْكُ، تَفاديًا مِن أنْ يكونَ معْناه تأْكيدًا لمعْنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وتكونُ هذه الجُملةُ تَتميمًا للصِّلةِ وفي معْنى صِلةٍ ثانيةٍ، ثمَّ عُطِفَت ولم يُكرَّرْ فيها اسمُ مَوصولٍ، بخِلافِ قولِه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك: 2] ، وقولِه: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [الملك: 3] .
- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ للاهتمامِ بما فيه مِن التَّعميمِ، ولإبطالِ دَعوى المشرِكين نِسبَتَهم الإلهيَّةَ لأصنامِهم مع اعتِرافِهم بأنَّها لا تَقدِرُ على خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، ولا على الإحياءِ والإماتةِ .
2- قوله تعالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
- قولُه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ صِفةٌ لقولِه تعالى: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] ، فلمَّا شَمِلَ قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] تَعلُّقَ القُدرةِ بالموجودِ والمعدومِ؛ أُتبِعَ بوَصْفِه تعالَى بالتَّصرُّفِ الَّذي منه خلْقُ المخلوقاتِ وأعراضِها؛ لأنَّ الخلْقَ أعظَمُ تَعلُّقِ القدرةِ بالمَقدورِ؛ لدَلالتِه على صِفةِ القدْرةِ وعلى صِفةِ العِلمِ .
- وأُوثِرَ بالذِّكرِ مِن المخلوقاتِ الموتُ والحياةُ؛ لأنَّهما أعظَمُ العوارضِ لجِنسِ الحيوانِ الَّذي هو أعجَبُ الموجودِ على الأرضِ، والَّذي الإنسانُ نوعٌ منه، وهو المقصودُ بالمخاطَبةِ بالشَّرائعِ والمواعظِ، فالإماتةُ تَصرُّفٌ في الموجودِ بإعدادِه للفَناءِ، والإحياءُ تَصرُّفٌ في المعدومِ بإيجادِه، ثمَّ إعطائِه الحياةَ ليَستكمِلَ وُجودَ نَوعِه، فليس ذِكرُ خلْقِ الموتِ والحياةِ تَفصيلًا لمعْنى الملْكِ، بلْ هو وصْفٌ مُستقِلٌّ. والاقتصارُ على خلْقِ الموتِ والحياةِ؛ لأنَّهما حالتانِ هما مَظهَرَا تَعلُّقِ القدرةِ بالمقدورِ في الذَّاتِ والعرَضِ؛ لأنَّ الموتَ والحياةَ عرَضانِ، والإنسانُ مَعروضٌ لهما، والعرَضُ لا يَقومُ بنفْسِه، فلمَّا ذُكِرَ خلْقُ العرَضِ عُلِمَ مِن ذِكرِه خلْقُ مَعروضِه بدَلالةِ الاقتضاءِ .
- وأُوثِرَ ذِكرُ الموتِ والحياةِ لِما يَدُلَّانِ عليه مِن العِبرةِ بتَداوُلِ العرَضينِ المُتضادَّينِ على مَعروضٍ واحدٍ، وللدَّلالةِ على كَمالِ صُنْعِ الصَّانعِ؛ فالموتُ والحياةُ عرَضانِ يَعرِضانِ للموجودِ مِن الحيوانِ، والموتُ يُعِدُّ الموجودَ للفناءِ، والحياةُ تُعِدُّ الموجودَ للعمَلِ للبقاءِ مُدَّةً .
- وفي ذِكرِ الموتِ والحياةِ تَخلُّصٌ إلى ما يَترتَّبُ عليهما مِن الآثارِ، الَّتي أعظَمُها العملُ في الحياةِ، والجزاءُ عليه بعْدَ الموتِ، وذلك ما تَضمَّنَه قولُه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؛ فإنَّ معْنى الابتلاءِ مُشعِرٌ بتَرتُّبِ أثَرٍ له، وهو الجزاءُ على العمَلِ؛ للتَّذكيرِ بحِكمةِ جَعْلِ هذَينِ النَّاموسَينِ البَديعَينِ في الحيوانِ؛ لتَظهَرَ حِكمةُ خلْقِ الإنسانِ، ويُفْضِيَا به إلى الوجودِ الخالدِ .
- وقُدِّمَ الموتُ على الحياةِ؛ لأنَّ الموتَ أقْوى الدَّواعي إلى العمَلِ، فقُدِّمَ ليَتبيَّنَ أنَّ الَّذي سِيقَ له الآيةُ البعثُ على العمَلِ، والإخلاصُ فيه، وتَحرِّي الصَّوابِ له . أو قُدِّمَ الموتُ؛ لأنَّه هو المخلوقُ أوَّلًا؛ لقولِه تعالَى: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] . أو قُدِّمَ الموتُ؛ لأنَّه أهيَبُ في النُّفوسِ . أو: قدَّم الموتَ على الحياةِ؛ لأنَّ الموتَ إلى القَهرِ أقرَبُ .
- قولُه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هذا التَّعليلُ مِن قَبيلِ الإدماجِ ، وفيه استدلالٌ على الوَحدانيَّةِ بدَلالةٍ في أنفُسِهم، قال تعالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، والمعْنى: أنَّه خلَقَ الموتَ والحياةَ؛ ليكونَ منكم أحياءٌ يَعمَلونَ الصَّالحاتِ والسَّيِّئاتِ، ثمَّ أمواتًا يَخلُصونَ إلى يومِ الجزاءِ، فيُجْزَونَ على أعمالِهم بما يُناسِبُها؛ فالتَّعريفُ في الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ تَعريفُ الجنسِ، وفي الكلامِ تَقديرٌ: هو الَّذي خلَقَ الموتَ والحياةَ لتَحْيَوا، فيَبْلُوَكم أيُّكم أحسَنُ عملًا، وتَموتوا فتُجْزَوا على حسَبِ تلك البَلْوى، ولِكَونِ هذا هو المقصودَ الأهمَّ مِن هذا الكلامِ قُدِّمَ الموتُ على الحياةِ .
- قولُه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا اللَّامُ مُتعلِّقةٌ بـ خَلَقَ، أي: خَلَق مَوتَكم وحياتَكم... على أنَّ الألِفَ واللَّامَ -في الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ- عِوَضٌ عن المضافِ إليه .
- وجُملةُ لِيَبْلُوَكُمْ إلى آخِرِها، مُعترِضةٌ بيْن الموصولَينِ، واللَّامُ في لِيَبْلُوَكُمْ لامُ التَّعليلِ، أي: في خلْقِ الموتِ والحياةِ حِكمةُ أنْ يَبْلوَكم، فقولُه تعالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا تَعليلٌ لفِعلِ خَلَقَ باعتبارِ المعطوفِ على مَفعولِه، وهو وَالْحَيَاةَ؛ لأنَّ حياةَ الإنسانِ حياةٌ خاصَّةٌ تُصحِّحُ للمَوصوفِ بمَن قامتْ به الإدراكَ الخاصَّ الَّذي يَندفِعُ به إلى العمَلِ باختيارِه، وذلك العمَلُ هو الَّذي يُوصَفُ بالحُسنِ والقبْحِ، وهو ما دلَّ عليه بالمنطوقِ والمفهومِ قولُه تعالَى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أي: وأيُّكم أقبَحُ عمَلًا، ولذلك فذِكْرُ خلْقِ الموتِ إتمامٌ للاستدلالِ على دَقيقِ الصُّنعِ الإلهيِّ، وهو المسوقُ له الكلامُ، وذِكرُ خلْقِ الحياةِ إدماجٌ للتَّذكيرِ .
- وجُملةُ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا يَجوزُ أنْ تكونَ مُستأنَفةً، فيُوقَفَ على قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ، ويكونَ الاستفهامُ مُستعمَلًا في التَّحضيضِ على حُسْنِ العمَلِ .
- قولُه: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إيرادُ صِيغةِ التَّفضيلِ معَ أنَّ الابتلاءَ شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسَنِ والأحسنِ فقطْ؛ للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذَّاتِ والمَقصدَ الأصليَّ مِن الابتلاءِ هو ظُهورُ كَمالِ إحسانِ المحسنينَ .
- وقولُه: أَحْسَنُ تَفضيلٌ، أي: أحسَنُ عمَلًا مِن غيرِه، فالأعمالُ الحَسَنةُ مُتفاوِتةٌ في الحُسنِ إلى أدْناها، فأمَّا الأعمالُ السَّيِّئةُ فإنَّها مَفهومةٌ بدَلالةِ الفحْوى ؛ لأنَّ البَلوى في أحسَنِ الأعمالِ تَقْتضي البَلْوى في السَّيِّئاتِ بالأَولى؛ لأنَّ إحْصاءَها والإحاطةَ بها أَولى في الجزاءِ؛ لِما يَترتَّبُ عليها مِن الاجتراءِ على الشَّارعِ، ومِن الفسادِ في النَّفْسِ، وفي نِظامِ العالَمِ، وذلك أَولى بالعِقابِ عليه؛ ففي قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إيجازٌ .
- وجُملةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ تَذييلٌ لجُملةِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؛ إشارةً إلى أنَّ صِفاتِه تعالَى تَقْتضي تَعلُّقًا بمُتعلَّقاتِها؛ لئلَّا تكونَ مُعطَّلةً في بعضِ الأحوالِ والأزمانِ فيُفْضيَ ذلك إلى نَقائضِها، فأمَّا العزيزُ فهو الغالبُ الَّذي لا يَعجِزُ عن شَيءٍ، وذِكرُه مُناسِبٌ للجزاءِ المستفادِ مِن قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أي: ليَجزِيَكم جَزاءَ العزيزِ، فعُلِمَ أنَّ المرادَ الجزاءُ على المُخالفاتِ والنُّكولِ عن الطَّاعةِ، وهذا حظُّ المشرِكينَ الَّذين شَمِلَهم ضَميرُ الخِطابِ في قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ، وأمَّا الغفورُ فهو الَّذي يُكرِمُ أولياءَهُ، ويَصْفَحُ عن فَلتاتِهم، فهو مُناسِبٌ للجزاءِ على الطَّاعاتِ وكِنايةٌ عنه؛ قال تعالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] ، فهو إشارةٌ إلى حظِّ أهلِ الصَّلاحِ مِن المُخاطَبينَ .
3- قوله تعالَى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ
- قولُه: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ صِفةٌ ثانيةٌ لـ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، أُعقِبَ التَّذكيرُ بتَصرُّفِ اللهِ بخلْقِ الإنسانِ وأهمِّ أعراضِه بذِكرِ خلْقِ أعظَمِ الموجوداتِ غيرِ الإنسانِ، وهي السَّمواتُ، ومُفيدةٌ وصْفًا مِن عَظيمِ صِفاتِ الأفعالِ الإلهيَّةِ، ولذلك أُعِيدَ فيها اسمُ الموصولِ؛ لتَكونَ الجُمَلُ الثَّلاثُ جاريةً على طَريقةٍ واحدةٍ .
وقيلَ: هو نعتٌ لـ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] ، أو بَيانٌ، أو بدَلٌ، أو أنَّه نُصِب أو رُفِع على المدحِ، مُتعلِّقٌ بالموصولَينِ السَّابقَينِ مَعْنًى وإنْ كانَ مُنقطِعًا عنهما إعرابًا، مُنتظِمٌ معهما في سلكِ الشَّهادةِ بتَعالِيه سُبحانَه، ومع الموصولِ الثَّاني في كَونِه مَدارًا للْبَلوى، كما نطَقَ به قولُه تعالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .
- وانتصَبَ طِبَاقًا على الوصْفِ لـ سَبْعَ؛ فإمَّا أنْ يكونَ مَصدَرَ: طابَقَ مُطابَقةً وطِباقًا، كقولِهم: طابَقَ النَّعلَ: خَصَفَها طبَقًا على طَبَقٍ، وُصِفَ به على سَبيلِ المُبالَغةِ، أو على حذْفِ مُضافٍ، أي: ذاتَ طِباقٍ، أو مَصدرُه مُؤكِّدٌ لمَحذوفٍ هو صِفتُها، أي: طُوبِقتْ طباقًا .
- قولُه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ قيل: كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَوكيدِ استقامةِ خَلْقِه تَعالى .
وقيل: هو صِفةٌ أُخرى لـ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وُضِعَ فيها خَلْقِ الرَّحْمَنِ مَوضوعَ الضَّميرِ؛ للتَّعظيمِ، والإشعارِ بعِلةِ الحُكْمِ، وبأنَّه تعالَى خلَقَها بقُدرتِه القاهرةِ رَحمةً وتَفضُّلًا، وبأنَّ في إبداعِها نِعَمًا جَليلةً .
- وجاءتْ جُملةُ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ تَقريرًا لقولِه: خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا؛ فإنَّ نفْيَ التَّفاوُتِ يُحقِّقُ معْنى التَّطابُقِ، أي: التَّماثُلِ، والمعْنى: ما تَرَى في خلْقِ اللهِ السَّمواتِ تَفاوُتًا، وأصلُ الكلامِ: ما تَرى فِيهنَّ ولا في خلْقِ الرَّحمنِ مِن تَفاوُتٍ؛ فعُبِّرَ بخلْقِ الرَّحمنِ لتَكونَ الجُملةُ تَذْييلًا لمَضمونِ جُملةِ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا؛ لأنَّ انتفاءَ التَّفاوُتِ عمَّا خَلَقه اللهُ مُتحقِّقٌ في خلْقِ السَّمواتِ وغَيرِها، أي: كانت السَّمواتُ طِباقًا؛ لأنَّها مِن خلْقِ الرَّحمنِ، وليس فيما خلَق الرَّحمنُ مِن تَفاوُتٍ، ومِن ذلك نِظامُ السَّمواتِ .
- قولُه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ الخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ -على قولٍ-، أي: لا تَرى أيُّها الرَّائي تَفاوُتًا، والمقصودُ منه التَّعريضُ بأهلِ الشِّركِ؛ إذ أضاعوا النَّظرَ والاستدلالَ بما يدُلُّ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالَى بما تُشاهِدُه أبصارُهم مِن نِظامِ الكواكبِ، وذلك مُمكنٌ لكلِّ مَن يُبصِرُ؛ قال تعالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] ، فكأنَّه قال: ما تَرَون في خلْقِ الرَّحمنِ مِن تَفاوُتٍ، فيَجوزُ أنْ يكونَ خَلْقِ الرَّحْمَنِ بمعْنى المفعولِ، ويُرادَ منه السَّمواتُ، والمعنى: ما تَرى في السَّمواتِ مِن تَفاوُتٍ؛ فيَكونَ العُدولُ عن الضَّميرِ لتَتأتَّى الإضافةُ إلى اسمِه الرَّحمنِ المُشعِرِ بأنَّ تلك المخلوقاتِ فيها رحمةٌ بالنَّاسِ. ويجوزُ أنْ يكونَ خَلْقِ مَصدرًا، فيَشملَ خلْقَ السَّمواتِ وخلْقَ غيرِها؛ فإنَّ صُنْعَ اللهِ رحمةٌ للنَّاسِ لو استَقاموا كما صَنَعَ لهم وأوصاهم، فتُفيدُ هذه الجُملةُ مُفادَ التَّذييلِ في أثناءِ الكلامِ على وجْهِ الاعتراضِ، ولا يكونُ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ .
- والتَّعبيرُ بوصْفِ الرَّحْمَنِ دونَ اسمِ الجلالةِ إيماءٌ إلى أنَّ هذا النِّظامَ ممَّا اقتَضَتْه رَحمتُه تعالى بالناسِ؛ لتَجرِيَ أُمورُهم على حالةٍ تُلائِمُ نِظامَ عَيشِهم؛ لأنَّه لو كان فيما خلَقَ اللهُ تَفاوُتٌ لَكان ذلك التَّفاوُتُ سَببًا لاختلالِ النِّظامِ، فيَتعرَّضُ النَّاسُ بذلك لأهوالٍ ومَشاقَّ؛ قال تعالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 97] ، وقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس: 5] . وأيضًا في ذلك الوصْفِ الرَّحْمَنِ تَورُّكٌ على المشرِكين؛ إذ أنْكروا اسْمَه تعالَى الرَّحمنَ؛ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان: 60] .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ تَفَاوُتٍ لتأْكيدِ النَّفيِ .
- والتَّفاوُتُ بوزْنِ التَّفاعُلِ: شدَّةُ الفَوتِ، والفَوتُ: البُعدُ، وليستْ صِيغةُ التَّفاعُلِ فيه لحُصولِ فِعلٍ مِن جانبينِ، ولكنَّها مُفيدةٌ للمُبالَغةِ .
- والتَّفاوتُ مُعبَّرٌ به عن التَّخالُفِ وانعدامِ التَّناسُقِ؛ لأنَّ عدَمَ المُناسَبةِ يُشبِهُ البُعدَ بيْن الشَّيئينِ تَشبيهَ مَعقولٍ بمَحسوسٍ .
- قولُه: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ مُفرَّعٌ على قولِه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، والتَّفريعُ للتَّسبُّبِ، أي: انتفاءُ رُؤيةِ التَّفاوُتِ جُعِلَ سببًا للأمْرِ بالنَّظرِ؛ ليَكونَ نفْيُ التَّفاوُتِ مَعلومًا عن يقينٍ .
- والاستفهامُ في قولِه: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ تَقريريٌّ، ووقَعَ بحرْفِ (هل)؛ لأنَّ (هل) تُفيدُ تأكيدَ الاستفهامِ؛ إذ هي بمعْنى (قد) في الاستفهامِ ، وفي ذلك تأكيدٌ وحثٌّ على التَّبصُّرِ والتَّأمُّلِ، أي: لا تَقتنِعْ بنَظْرةٍ ونَظرتَينِ، فتقولَ: لمْ أجِدْ فُطورًا، بلْ كرِّرِ النَّظَرَ وعاوِدْه باحثًا عن مُصادَفةِ فُطورٍ؛ لعلَّك تَجِدُه، أي: لا يَسَعُك إلَّا أنْ تَعترِفَ بانتفاءِ الفُطورِ في نِظامِ السَّمواتِ فتَراها مُلتئمةً مَحبوكةً، لا تَرى في خِلالِها انشقاقًا، ولذلك كان انفطارُ السَّماءِ وانشقاقُها علامةً على انقراضِ هذا العالَمِ ونِظامِه الشَّمسيِّ؛ قال تعالَى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ: 19] ، وقال: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ، إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1].
- وعطْفُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ دالٌّ على التَّراخي الرُّتبيِّ، كما هو شأْنُ (ثُمَّ) في عطْفِ الجُمَلِ؛ فإنَّ مَضمونَ الجُملةِ المعطوفةِ بحرْفِ (ثُمَّ) هنا أهَمُّ وأدخَلُ في الغرَضِ مِن مَضمونِ الجُملةِ المعطوفِ عليها؛ لأنَّ إعادةَ النَّظَرِ تَزيدُ العِلمَ بانتفاءِ التَّفاوُتِ في الخلْقِ رُسوخًا ويَقينًا .
- وكَرَّتَيْنِ تَثنيةُ كرَّةٍ، وهي المرَّةُ، وعُبِّرَ عنها هنا بالكَرَّةِ -مُشتقَّةٌ مِن الكَرِّ، وهو العَودُ-؛ لأنَّها عَودٌ إلى شَيءٍ بعدَ الانفصالِ عنه، ككَرَّةِ المقاتلِ يَحمِلُ على العدوِّ بعدَ أنْ يَفِرَّ فرارًا مَصنوعًا. وإيثارُ لَفظِ كَرَّتَيْنِ في هذهِ الآيةِ دونَ مُرادِفِه، نحْو مرَّتَين وتارَتَينِ؛ لأنَّ كَلمةَ (كرَّة) لم يَغلِبْ إطلاقُها على عدَدِ الاثنينِ، فكان إيثارُها في مَقامٍ لا يُرادُ فيه (اثنينِ) أظهَرَ في أنَّها مُستعمَلةٌ في مُطلَقِ التَّكريرِ دونَ عدَدِ اثنينِ أو زَوجٍ، وهذا مِن خَصائصِ الإعجازِ؛ ألَا تَرى أنَّ مَقامَ إرادةِ عدَدِ الزَّوجِ كان مُقتضيًا تَثنيةَ مرَّةٍ في قولِه تعالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة: 229] ؛ لأنَّه أظهَرُ في إرادةِ العدَدِ؛ إذ لَفظُ (مرَّة) أكثَرُ تَداوُلًا .
فـ كَرَّتَيْنِ، أي: كرَّةً بعدَ كرَّةً، لا كرَّتَينِ اثنتينِ؛ فالتَّثنيةُ فيها بمعنى التَّكريرِ بكَثرةٍ أو مُطلَقِ التَّكريرِ؛ فإنَّ مِن استِعمالاتِ صِيغةِ التَّثنيةِ في الكلامِ أنْ يُرادَ بها التَّكريرُ، وذلك كما في قولِهم: لبَّيك وسَعدَيك، يُريدون تَلبياتٍ كثيرةً، وإسعادًا كثيرًا، وقولِهم: دَوالَيك .
- قولُه: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا الانقلابُ: الرُّجوعُ، يُقالُ: انقلَبَ إلى أهْلِه، أي: رجَعَ إلى مَنزلِه، وإيثارُ فِعلِ يَنْقَلِبْ هنا دونَ (يَرجِعُ)؛ لئلَّا يَلتبِسَ بفِعلِ ارْجِعِ المذكورِ قبْلَه، وهذا مِن خَصائصِ الإعجازِ .
- وفي قولِه: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ وضْعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ المُضمَرِ، وفيه مِن الفائدةِ التَّنبيهُ على أنَّ الَّذي يَرجِعُ خاسئًا حسيرًا غيرُ مُدرِكٍ الفُطورَ، هو الآلةُ الَّتي يُلتمَسُ بها إدراكُ ما هو كائنٌ، فإذا لم يُدرَكْ شَيءٌ دلَّ على أنَّه لا شَيءَ .
4- قوله تعالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ
- قولُه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ... كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في ذِكرِ دَلائلَ أُخرى على تَمامِ قُدرتِه سُبحانه . وهو بَيانٌ لكَونِ خلْقِ السَّمواتِ في غايةِ الحُسنِ والبهاءِ، إثْرَ بَيانِ خُلوِّها عن شائبةِ القُصورِ .
- بيَّن ما في إحدى السَّمواتِ مِن إتقانِ الصُّنعِ، وهو ممَّا شَمِلَه عُمومُ الإتقانِ في خلْقِ السَّمواتِ السَّبعِ، وذِكْرُه مِن ذِكرِ بَعضِ أفرادِ العامِّ، كذِكرِ المثالِ بعْدَ القاعدةِ الكُلِّيَّةِ، فدَقائقُ السَّماءِ الدُّنيا أوضَحُ دَلالةً على إتقانِ الصُّنعِ؛ لكَونِها نُصْبَ أعيُنِ المخاطَبين، ولأنَّ مِن بَعضِها يَحصُلُ تَخلُّصٌ إلى التَّحذيرِ مِن حِيَلِ الشَّياطينِ، وسُوءِ عَواقبِ أتْباعِهم .
- قولُه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ فيه تَصديرُ الجُملةِ بالقسَمِ؛ لإبرازِ كَمالِ الاعتناءِ بمَضمونِها .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بـ (قدْ)؛ لأنَّه نَتيجةُ الاستِفهامِ التَّقريريِّ المؤكَّدِ بـ (هل) أُخْتِ (قدْ) في الاستفهامِ .
- وسُمِّيَت النُّجومُ هنا مَصابيحَ على التَّشبيهِ في حُسنِ المنظَرِ؛ فهو تَشبيهٌ بَليغٌ .
- وعُدِلَ عن تَعريفِ (مَصابيح) باللَّامِ إلى تَنكيرِه؛ لِما يُفيدُه التَّنكيرُ مِن التَّعظيمِ .
- وذِكرُ التَّزيينِ إدماجٌ للامتِنانِ في أثناءِ الاستدلالِ، أي: زيَّنَّاها لكم، مِثل الامتنانِ في قولِه: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل: 6] ، والمَقصدُ: التَّخلُّصُ إلى ذِكرِ رَجْمِ الشَّياطينِ؛ ليُتخلَّصَ منه إلى وَعيدِهم، ووَعيدِ مُتَّبعِيهم .
- قولُه: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ضَميرُ الغائبةِ في (جَعَلْنَاهَا) المتبادِرُ أنَّه عائدٌ إلى المصابيحِ، أي: أنَّ المصابيحَ رُجومٌ للشَّياطينِ. ومعْنى جَعْلِ المصابيحِ رُجومًا جارٍ على طَريقةِ إسنادِ عمَلِ بَعضِ الشَّيءِ إلى جَميعِه، مِثل إسنادِ الأعمالِ إلى القبائلِ؛ لأنَّ العاملينَ مِن أفرادِ القبيلةِ . أو نُسِبَ الرَّجْمُ إلى المصابيحِ؛ لأنَّ الشِّهابَ المُتَّبِعَ للمُسْتَرِقِ مُنفصِلٌ مِن نارِها، والكوكبُ قارٌّ في فَلَكِه على حالِه، فالشِّهابُ كقبَسٍ يُؤخَذُ مِن النَّارِ، والنَّارُ باقيةٌ لا تَنقُصُ . أو الضَّميرُ المنصوبُ في وَجَعَلْنَاهَا عائدٌ إلى السَّماءِ الدُّنيا، على تَقديرِ: وجَعَلْنا منها رُجومًا؛ إمَّا على حذْفِ حرْفِ الجرِّ، وإمَّا على تَنزيلِ المكانِ الَّذي صدَرَ منه الرُّجومُ مَنزلةَ نفْسِ الرُّجومِ .