موسوعة التفسير

سورةُ النَّملِ
الآيات (86-88)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الصُّورِ: أي: القرنُ يَنفخُ فيه إسرافيلُ [1169] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 25، 26)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 308)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 97)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 193). .
دَاخِرِينَ: أي: صاغِرينَ أذِلَّاءَ، وأصلُ (دخر): يدُلُّ على الذُّلِّ [1170] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 387)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/333)، ((المفردات)) للراغب (ص: 309)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 278)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 325). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى منَبِّهًا على قدرتِه التَّامَّةِ، وسلطانِه العظيمِ: ألم يَرَ أولئك المكَذِّبون بآياتِنا أنَّا جعَلْنا اللَّيلَ مُظلِمًا؛ لِيَستريحوا فيه مِنَ النَّصَبِ والتَّعَبِ، وجعَلْنا النَّهارَ ضياءً؛ لِيَنتَشِروا فيه طَلبًا لمعايشِهم؟ إنَّ في خَلقِ اللَّيلِ والنَّهارِ واختِلافِهما لَدَلالاتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ باللهِ.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى أهوالَ يومِ القيامةِ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ يُنفَخُ في البُوقِ فيَفزَعُ كُلُّ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا مَن شاء اللهُ، وكُلُّهم جاؤوا اللهَ خاضِعينَ ذليلينَ.
وترى الجبالَ تَظُنُّها ثابتةً، ولكِنَّها في الحقيقةِ تتحرَّكُ كالسَّحابِ، خَلْقَ اللهِ الَّذي أجاد وأحكَمَ كُلَّ شَيءٍ، إنَّ اللهَ يعلَمُ ما تفعَلون وسيُجازيكم عليه.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا خوَّفَهم اللهُ سُبحانَه وتعالى بأحوالِ القيامةِ؛ ذَكَرَ كلامًا يَصلُحُ أنْ يكونَ دليلًا على التَّوحيدِ وعلى الحَشرِ وعلى النُّبوَّةِ؛ مبالغةً في الإرشادِ إلى الإيمانِ والمنعِ مِن الكُفرِ، فقال [1171] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/573). :
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا.
أي: ألم يَرَوا [1172] قيل: المرادُ: ألم يَرَ أولئك المكَذِّبون بآياتِنا. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/130، 131)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5473). وذهَب مقاتلُ بنُ سليمانَ والسمرقنديُّ إلى أنَّ المرادَ كفَّارُ مكةَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/318)، ((تفسير السمرقندي)) (2/594). والرُّؤيةُ هنا قيل: يجوزُ أن تكونَ عِلميَّةً، ويجوزُ أن تكونَ بصَريَّةً. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/43). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: الرُّؤيةُ العِلميَّةُ والبصَريَّةُ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 478). أنَّا جعَلْنا اللَّيلَ مُظلِمًا لِتَسكُنَ فيه أبدانُهم عن الحَركةِ، ويَستريحوا فيه مِن النَّصَبِ والتَّعَبِ؛ وجعَلْنا النَّهارَ ضياءً لِيَنتشِروا فيه؛ طلبًا لمعايشِهم وغيرِها، فجعَلْناهما مختَلِفَينِ ومُتعاقِبَينِ لمصالحِهم [1173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/130)، ((تفسير القرطبي)) (13/239)، ((تفسير ابن كثير)) (6/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 610)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/45). ؟!
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47] .
وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا *وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ: 9 - 11] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّ في خَلقِ اللَّيلِ والنَّهارِ واختِلافِهما على تلك الصِّفةِ لَدَلالاتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ بالله، ومِن ذلك الدَّلالةُ على توحيدِه وقُدرتِه على إحياءِ الموتى [1174] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/131)، ((تفسير القرطبي)) (13/239)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/222)، ((تفسير السعدي)) (ص: 610). .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 6] .
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الحَشرَ الخاصَّ، والدَّليلَ على مُطلَقِ الحَشرِ والنَّشرِ؛ ذكَرَ الحَشرَ العامَّ؛ لئلَّا يُظَنَّ أنَّه إنما يُحشَرُ الكافِرُ، فقال مُشيرًا إلى عُمومِهم بالموتِ كما عَمَّهم بالنَّومِ، وعُمومِهم بالإحياءِ كما عَمَّهم بالإيقاظِ [1175] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/221). :
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ.
أي: واذكُرْ [1176] قال الألوسي: (و«يَوْمَ» منصوبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ، خُوطِب به نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أي: اذكُرْ يومَ). ((تفسير الألوسي)) (10/236). يومَ يَنفُخُ المَلَكُ بأمرِ اللهِ في البُوقِ [1177] ممَّن اختار أنَّهما نفختان: نفخةُ الفزعِ والصَّعقِ، ونفخة البَعثِ: القرطبيُّ، وابن حجر، وابن باز، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/240)، ((فتح الباري)) لابن حجر (6/446)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (4/328)، ((تفسير ابن عثيمين-سورة النمل)) (ص: 486). ومنهم مَن رجَّح أنَّها ثلاثُ نَفَخاتٍ: نفخةُ الفَزَع أوَّلًا، وهي للأحياءِ الذين بَقُوا في آخِرِ ساعاتِ الدُّنيا، ثمَّ نفخةُ الصَّعقِ والموتِ لهم، ثمَّ نفخةُ البعثِ والقيامِ مِن القبورِ لرَبِّ العالمينَ، وهي لجميعِ الخلائق. وممَّن قال بهذا القولِ: ابنُ تيميَّةَ، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/260)، ((تفسير ابن كثير)) (6/216)، ((تفسير الشوكاني)) (4/178). ومنهم مَن رجَّح أنَّ النَّفَخاتِ أربعٌ: اثنتان قبْلَ يومِ القيامةِ، واثنتانِ في يومِ القيامةِ؛ فأمَّا النَّفختانِ قبْلَ القيامةِ فهُما نفخةٌ للموتِ، ونفخةٌ للبعثِ -قيل: هما المذكورتان في سورةِ (يس)-. وأمَّا النَّفختانِ يومَ القيامةِ: فنَفخةُ الفَزَعِ والصَّعقِ الَّتي يغشى فيها الخلائِقُ -ولا يموتون- إلَّا مَن شاء اللهُ، ثمَّ نفخةٌ أخرى لقيامِهم وإفاقتِهم. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (14/222، 223) و (16/551، 552). فيَنزعِجُ ويَرتاعُ كُلُّ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ، إلَّا مَن شاء اللهُ ألَّا يَفزَعَ [1178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/134، 135)، ((تفسير السمرقندي)) (2/594)، ((تفسير القرطبي)) (13/239، 241)، ((تفسير ابن كثير)) (6/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 610)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/46). قيل: إنَّ الَّذين استثناهم اللهُ تعالى في هذا الموضِعِ مِن أن يَنالَهم الفَزَعُ يومَئذٍ: هم الشُّهداءُ؛ وذلك أنَّهم أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقون، وإن كانوا في عِدادِ الموتى عندَ أهلِ الدُّنيا. وممَّن ذهب إلى ذلك: القرطبيُّ، وابن كثير، ونسبه الرسعني لأكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/241)، ((تفسير ابن كثير)) (6/216)، ((تفسير الرسعني)) (5/500). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو هريرةَ، وابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/135)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/372). وقيل: الاستثناءُ مجمَلٌ يبَيِّنُه قولُه تعالى بعْدَه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ [النمل: 89] ، وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء: 101] إلى قولِه: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] . وممَّن قال بهذا القولِ: ابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/46). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/518)، ((تفسير القرطبي)) (13/241). قال ابن عثيمين: (وهذا المبهَمُ في الآيةِ الصَّحيحُ أنَّه ليس معلومًا لنا؛ ولذلك أشكَلَ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: هل كان موسى ممَّن صَعِقَ أو ممَّن استثنى اللهُ، فدَلَّ هذا على أنَّه ليس معلومًا للنَّاسِ مَن هم المُستثنَون، وهذا يرجِعُ إلى كمالِ ربوبيَّةِ الله سُبحانَه وتعالى). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النمل)) (ص: 492). .
وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ.
أي: وكُلُّ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ جاؤوا إلى اللهِ بذُلٍّ وخُضوعٍ [1179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/135)، ((تفسير ابن كثير)) (6/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 610)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/46). .
كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 93] .
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ تعالى دخورَهم، أتبَعَه بدُخُورِ ما هو أعظمُ منهم، بقَولِه تعالى [1180] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/77). :
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ.
أي: وترَى [1181] قيل: المخاطَبُ هو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/137)، ((تفسير الثعلبي)) (7/229)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5476)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/49). وقيل: المخاطَبُ هو الإنسانُ عُمومًا. وممَّن قال بهذا: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 494). وقال القاسمي: (إنه خِطابٌ لجَنابِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وإيذان الأمرِ له بالأصالةِ مع اشتراكِ غيرِه في هذه الرُّؤيةِ). ((تفسير القاسمي)) (7/509).  الجِبالَ تظُنُّها ثابتةً ساكِنةً، ولكِنَّها في الحقيقةِ تتحرَّكُ كالسَّحابِ [1182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/137)، ((تفسير ابن عطية)) (4/273)، ((تفسير القرطبي)) (13/242، 243)، ((تفسير ابن كثير)) (6/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 610)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/144، 145). ممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الأمرَ يقَعُ يومَ القيامةِ: ابنُ عطية، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/273)، ((تفسير ابن كثير)) (6/217)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 610)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/144، 145)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 494). وممَّا يدُلُّ على أنَّ قولَه: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ يكونُ يومَ القيامةِ، أنَّ قولَه تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ معطوفٌ على قولِه: فَفَزِعَ، وذلك المعطوفُ عليه مُرَتَّبٌ بالفاءِ على قولِه تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ الآيةَ، أي: ويومَ يُنفَخُ في الصُّورِ، فيَفزَعُ مِن في السَّمواتِ وتَرى الجِبالَ؛ فدلَّتْ هذه القرينةُ القُرآنيَّةُ الواضحةُ على أنَّ مَرَّ الجبالِ مَرَّ السَّحابِ كائنٌ يومَ يُنفَخُ في الصُّورِ، لا الآنَ. فالجبالُ في الدُّنيا راكدةٌ ثابتةٌ، أرساها اللهُ وجعَلَها أوْتادًا للأرضِ، وأمَّا يومَ القيامةِ فتَسيرُ الجبالُ وتذهَبُ وتَضمَحِلُّ؛ قال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] ، وقال: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور: 9، 10]، وقال تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20]، وقال: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3]، وهذا المعنى هو الغالبُ في القرآنِ؛ لأنَّ جميعَ الآياتِ الَّتي فيها حرَكةُ الجبالِ كلُّها في يومِ القيامةِ. وأمَّا قولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، فقد جاء نحوُه في آياتٍ كثيرةٍ؛ كقولِه تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14]، وقولِه تعالى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك: 3] ، وتسييرُ الجبالِ وإيجادُها ونصْبُها قبْلَ تسييرِها، كلُّ ذلك صُنْعٌ مُتْقَنٌ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/144، 145)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 176)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (27/324). وذهب بعضُ المفسِّرينَ المعاصرين -كابن عاشور، والشعراوي، والجزائري- إلى أنَّ هذا واقعٌ في الدُّنيا، وأنَّه إشارةٌ إلى دوَرانِ الأرضِ حولَ الشَّمسِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/48 - 50)، ((تفسير الشعراوي)) (17/10857 - 10859)، ((أيسر التفاسير)) للجزائري (4/47). ونسَبَ القاسميُّ هذا القولَ إلى بعضِ علماءِ الفلكِ، وذكر ما احتجُّوا به على قولِهم. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/508-510). .
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.
أي: ذلك مِن فِعْلِ وخَلْقِ اللهِ الذي أجاد وأوثَقَ وأحكَمَ كُلَّ شَيءٍ [1183] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/138)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 811)، ((تفسير القرطبي)) (13/243)، ((تفسير ابن كثير)) (6/217)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/145). .
كما قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك: 3] .
إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ.
أي: إنَّ اللهَ يعلَمُ ما تَفعلونَه مِن خيرٍ وشرٍّ، وسيُجازيكم على جَميعِ أعمالِكم؛ فلْتَحذَروا مُخالَفةَ أمرِه [1184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/139)، ((الوسيط)) للواحدي (3/387)، ((تفسير ابن كثير)) (6/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 610). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا أنَّه ينبغي للعاقلِ أنْ يَعتبرَ بهذه الآياتِ، وأنَّ الاعتبارَ بها مِن الإيمانِ؛ لقولِه تعالى بعدَها: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [1185] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 483). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ تحذيرُ المرءِ أن يَعمَلَ ما يُخالِفُ حُكمَ اللهِ [1186] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 503). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا سؤالٌ: لَمَّا قال: جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، فلِمَ لم يَقُلْ: «والنَّهارَ لِيُبصِروا فيه»؟!
الجوابُ: لأنَّ السُّكونَ في اللَّيلِ هو المقصودُ مِن اللَّيلِ، وأمَّا الإبصارُ في النَّهارِ فليس هو المقصودَ، بل هو وسيلةٌ إلى جَلبِ المنافعِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ [1187] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/573). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أنَّ الانتفاعَ بالآياتِ هو بقَدْرِ ما مع الإنسانِ مِن الإيمانِ؛ لأنَّها رُتِّبَت على وصْفٍ، والمرتَّبُ على وصفٍ يَزيدُ بزيادتِه، ويَنقُصُ بنُقصانِه [1188] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 483). .
3- قولُه تعالى: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فيه كمالُ الرُّبوبيَّةِ والسُّلطانِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ ووجْهُ ذلك أنَّ العظيمَ إذا أَبْهَم ما يَتَصَرَّفُ به دلَّ هذا على أنه لا مُعارِضَ له [1189] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 492). .
4- في قَولِه تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ سؤالٌ: كيف قال دَاخِرِينَ أي: صاغِرينَ أَذِلَّاءَ بعْدَ البعثِ، مع أنَّ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهداءَ والصَّالحينَ يأتون عَزيزينَ مُكرَّمينَ؟!
الجوابُ: المرادُ صَغارُ العبوديَّةِ والرِّقِّ وذُلُّهما، لا ذُلُّ المعاصي والذُّنوبِ، وذلك يَعُمُّ الخلْقَ كلَّهم، كما في قولِه تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [1190] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 426). [مريم: 93] .
5- قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (كُلٌّ) لَفْظُها لفظُ واحدٍ، ومعناها معنى جمْعٍ؛ فلذلك عاد إليها ضميرُ جمْعٍ هنا: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، وعاد إليها ضميرُ واحدٍ في قوله تعالى: كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 285] . وأُفرِدَ خبَرُها في قولِه تعالى: وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 95] ، وجُمِع في قوله جلَّ وعزَّ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [1191] يُنظر: ((أمالي ابن الشجري)) (1/59). .
6- قال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ هذه الآيةُ تدُلُّ بظاهرِها على أنَّ الجبالَ يَظنُّها الرَّائي ساكنةً وهي تسيرُ، وقد جاءتْ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على أنَّ الجبالَ راسيةٌ، والرَّاسي هو الثابتُ في مَحَلٍّ، كقولِه تعالى: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات: 32] ، وقولِه: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15] ، وقولِه: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ [الحجر: 19] ، وقولِه: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ [المرسلات: 27] !
 ووجْهُ الجمعِ ظاهرٌ، وهو أنَّ قولَه: أَرْسَاهَا ونحوَه يعني في الدُّنيا، وقولَه: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ يعني: في الآخرةِ؛ بدليلِ قولِه: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، ثمَّ عَطَف على ذلك قولَه: وَتَرَى الْجِبَالَ. وممَّا يدُلُّ على ذلك النُّصوصُ القرآنيَّةُ على أنَّ سيرَ الجبالِ في يومِ القيامةِ؛ كقولِه تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] ، وقولِه: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [1192] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 176). [النبأ: 20] .
7- قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فيه جوازُ إضافةِ الصُّنعِ إلى اللهِ ، ولا يؤخَذُ منه إثباتُ اسمِ الصانعِ للهِ، لكنْ يُخبَرُ به عن اللهِ، فيقالُ: إنَّ اللهَ تعالى صانِعُ كلِّ شيءٍ -على سبيلِ الخبريَّةِ-، وأمَّا إثباتُ اسمِ الصَّانعِ فلا [1193] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 500). .
8- في قَولِه تعالى: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إثباتُ الحِكمةِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه لا إتقانَ إلَّا بحكمةٍ، فلا يمكِنُ أنْ يُتقَنَ الشَّيءُ إلَّا بعِلمٍ مِن المُتقِنِ كيف يُتقِنُه، والثَّاني: بحِكمةٍ؛ بحيثُ يُنزِلُ كلَّ شيءٍ مَنزلتَه، وإلَّا فاتَ الإتقانُ، فلا يُتقِنُ الشَّيءَ مَن لا يَعلَمُ كيف يُتقِنُه، فهذا ليس بمُمكنٍ [1194] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 502). .
9- في قَولِه تعالى: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ قطعُ اعتراضِ كلِّ معترِضٍ على ما يَحدثُ في الكونِ مِن تدبيراتٍ أو تشريعاتٍ، ووجهُ ذلك: أنَّ اللهَ أتقَنَه، واللهُ تبارك وتعالى أعلَمُ وأحكمُ مِن عبادِه، فأنت متى عَلِمْتَ هذا الشَّيءَ انقطعَ عنك كلُّ اعتراضٍ، سواءٌ سَمِعتَه مِن غيرِك أو أورَدْتَه على نفْسِك [1195] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 502). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ كمالُ عِلمِ اللهِ سبحانه وتعالى، وذلك بالخبرةِ الَّتي هي أخَصُّ مِن مُطلَقِ العِلمِ؛ لأنَّ الخبرةَ هي العِلمُ ببواطنِ الأمورِ [1196] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 503). .
11- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ سؤالٌ؛ وهو أنَّه كان مقتضى السِّياقِ ألَّا تُخْتَمَ الآيةُ بقولِه: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ، بل تُخْتَمُ بقولِه: «إنَّه عليمٌ حكيمٌ» أو «إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ» وما أشبَهَ ذلك؛ لقولِه: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، وهذا يقتضي أنْ تُخْتَمَ الآيةُ بما يدُلُّ على القدرةِ والحكمةِ؛ ولكنها خُتِمَتْ بما يدُلُّ على العِلمِ والخبرةِ -العِلمِ بما يفعلُ العِبادُ-. فما الجوابُ عن هذا العدولِ؛ عن الأوَّلِ إلى الثَّاني؟
الجوابُ -واللهُ أعلمُ-: أنَّ الحكمةَ مِن ذلك هي أنَّ قولَه: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ جملةٌ معترِضةٌ بالنِّسبةِ للمعنى، لا بالنِّسبةِ للإعرابِ، وأنَّ المقامَ يقتضي الإخبارَ بأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ ما يَفعلون؛ لأنَّ يومَ القيامةِ هو يومُ الجزاءِ، والجزاءُ مُرَتَّبٌ على العِلمِ؛ فلهذا قال: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ، نظيرُه قولُه تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] ، فيكونُ هنا ذِكْرُ العلمِ بما يفعلُ النَّاسُ في سياقِ يومِ القيامةِ للإشارةِ إلى أنَّ هذا اليومَ هو يومُ الجزاءِ الَّذي يجبُ على المرءِ أن يَعمَلَ له ويَحتاطَ له [1197] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 498). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُتَّصِلٌ بقولِه: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا [النمل: 85] ، أي: بما أشْرَكوا، فذَكَّرَهم بدَلائلِ الوَحدانيَّةِ بذِكْرِ أظْهَرِ الآياتِ وأكثَرِها تَكرارًا على حَواسِّهم، وأجدَرِها بأنْ تكونَ مُقنِعةً في ارْعوائِهم عن شِرْكِهم. وهي آيةٌ مُلازِمةٌ لهم طولَ حَياتِهم، تَخطُرُ ببالِهم مرَّتينِ كلَّ يومٍ على الأقلِّ. وفيها تَذكيرٌ بتَمثيلِ الموتِ والحياةِ بعْدَه، بسُكونِ اللَّيلِ وانبثاقِ النَّهارِ عَقِبَه. والجُملةُ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ [النمل: 85] وجُملةِ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النمل: 87] ؛ لِيُتَخلَّلَ الوعيدُ بالاستِدلالِ.
- والاستفهامُ في أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا كِنايةٌ عن التَّعجُّبِ مِن حالِهم؛ لأنَّها لِغَرابتِها تَستلزِمُ سُؤالَ مَن يَسأَلُ عن عَدمِ رُؤيتِهم؛ فهذه عَلاقةُ أو مُسوِّغُ استِعمالِ الاستفهامِ في التَّعجُّبِ [1198] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/42، 43). .
- والرُّؤيةُ في قولِه: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا يجوزُ أنْ تكونَ قلْبيَّةً، وجُملةُ أَنَّا جَعَلْنَا سادَّةً مَسَدَّ المفعولينِ، أي: كيف لم يَعلَموا أنَّا جعَلْنا اللَّيلَ لِيَسكُنوا فيه والنَّهارَ مُبصِرًا، مع أنَّ ذلك واضحُ الدَّلالةِ على هذا الجَعلِ؟! واختِيرَ مِن أفعالِ العِلْمِ فِعلُ الرُّؤيةِ؛ لِشَبَهِ هذا العِلمِ بالمعلوماتِ المُبصَرةِ. ويجوزُ أنْ تكونَ الرُّؤيةُ بَصَريَّةً، والمصدرُ المُنسبِكُ مِن الجُملةِ مَفعولَ الرُّؤيةِ، والمعنى: كيف لم يُبصِروا جَعْلَ اللَّيلِ للسُّكونِ والنَّهارِ للإبصارِ، مع أنَّ ذلك بمَرأًى مِن أبصارِهم؟! والجَعلُ مُرادٌ منه أثَرُه، وهو اضطرارُ النَّاسِ إلى السُّكونِ في اللَّيلِ وإلى الانتشارِ في النَّهارِ؛ فجُعِلَت رُؤيةُ أثَرِ الجَعلِ بمَنزلةِ رُؤيةِ ذلك الجَعلِ، وهذا واسعٌ في العربيَّةِ: أنْ يُجعَلَ الأثرُ مَحَلَّ المُؤثِّرِ، والدَّالُّ مَحَلَّ المَدلولِ [1199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/43). .
- وجاء ما في اللَّيلِ مِن الخُصوصيَّةِ بصِيغةِ التَّعليلِ باللَّامِ بقولِه: لِيَسْكُنُوا فِيهِ، وما في النَّهارِ بصِيغةِ مَفعولِ الجَعلِ بقولِه: مُبْصِرًا؛ تفنُّنًا، ولِمَا يُفِيدُه مُبْصِرًا مِن المُبالَغةِ، والمعنى على التَّعليلِ، والمفعولُ واحدٌ في المآلِ؛ ففي الآيةِ ما يُعرَفُ في عِلْمِ البديعِ بالاحتِباكِ؛ حيثُ حُذِفَ مِن كُلِّ جُملةٍ ما دلَّ عليه المذكورُ في الجُملةِ الأخرى، مع التَّقابُلِ؛ إذ المعنى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ مُظلِمًا لِيَسْكُنُوا فِيهِ، فالَّذي حُذِفَ مِن هذا (مُظلِمًا)، وذُكِرَ مُقابِلُه مُبْصِرًا، وحُذِفَ مِن قولِه: وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا (لِيَنتشِروا ولِيَتصَرَّفوا فيه)، وذُكِرَ مُقابِلُه لِيَسْكُنُوا فِيهِ [1200] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/386)، ((تفسير البيضاوي)) (4/168)، ((تفسير أبي السعود)) (6/303)، ((تفسير أبي حيان)) (8/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/45)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 478). .
- وجُعِلَ الإبصارُ للنَّهارِ، وهو لأهلِه؛ تنبيهًا على كمالِ هذه الصِّفةِ فيه [1201] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/573). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تَعليلٌ للتَّعجُّبِ مِن حالِهم؛ إذ لم يَستدِلُّوا باختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ على الوَحدانيَّةِ ولا على البعثِ [1202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/44). .
- وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن مَعنى البُعدِ؛ للإشعارِ ببُعدِ دَرجتِه في الفضلِ [1203] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/303). .
- ووَجْهُ جَعلِ ذلك آياتٍ، ولم يُجعَلْ آيتينِ، وكَوْنُ الآياتِ في ذلك كثيرةً -كما اقتضاهُ الجمْعُ-: هو أنَّ في نِظامِ اللَّيلِ آياتٍ على الانفرادِ بخلْقِ الشَّمسِ وخلْقِ نُورِها الخارقِ للظُّلماتِ، وخلْقِ الأرضِ، وخلْقِ نِظامِ دَورانِها اليوميِّ تُجاهَ أشِعَّةِ الشَّمسِ، وهي الدَّورةُ التي تُكوِّنُ اللَّيلَ والنَّهارَ، وفي خلْقِ طبْعِ الإنسانِ بأنْ يَتلقَّى الظُّلمةَ بطَلبِ السُّكونِ؛ لِمَا يَعْتري الأعصابَ مِن الفُتورِ دونَ بعضِ الدَّوابِّ التي تَنشَطُ في اللَّيلِ؛ كالهَوامِّ والخفافيشِ، وفي ذلك أيضًا دَلالةٌ على تعاقُبِ الموتِ والحياةِ. فتلك آياتٌ، وفي كلِّ آيةٍ منها دقائقُ ونُظُمٌ عظيمةٌ، لو بُسِطَ القولُ فيها لَأوعَبَ مُجلَّداتٍ مِن العلومِ. وفي جَعلِ النَّهارِ مُبصِرًا آياتٌ كثيرةٌ على الوَحدانيَّةِ ودِقَّةِ صُنعٍ تُقابِلُ ما تقدَّمَ في آياتِ جَعلِ اللَّيلِ سكنًا. وفيه دَلالةٌ على أنْ لا إحالةَ ولا استبعادَ في البعثِ بعدَ الموتِ، وأنَّه نظيرُ بَعثِ اليقظةِ بعدَ النَّومِ، وفي جليلِ تلك الآياتِ ودَقيقِها عِدَّةُ آياتٍ [1204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/44). .
- ومعنى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: لِناسٍ شأْنُهم الإيمانُ والاعترافُ بالحُجَّةِ؛ ولذلك جُعِلَ الإيمانُ صِفةً جاريةً على (قومٍ)؛ لأنَّ إناطةَ الحُكْمِ بلفظِ (قومٍ) يُومِئُ إلى أنَّ ذلك الحُكْمَ مُتمكِّنٌ منهم، حتَّى كأنَّه مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، أي: في ذلك آياتٌ لِمَن شِعارُهم التَّدبُّرُ والإنصافُ، أي: فهؤلاء ليسوا بتِلك المنزلةِ. ولِكَونِ الإيمانِ مَقصودًا به أنَّه مَرْجُوٌّ منهم، جِيءَ فيه بصِيغةِ المُضارِعِ يُؤْمِنُونَ؛ إذ ليس المقصودُ: إنَّ في ذلك لآياتٍ لِلَّذِينَ آمَنوا؛ لأنَّ ذلك حاصلٌ بالفَحوى والأَولويَّةِ، فصار المعنى: إنَّ في ذلك لآياتٍ للمُؤمنينَ ولِمَن يُرجَى منهم الإيمانُ عندَ النَّظرِ في الأدلَّةِ [1205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/44). .
- ولَمَّا كان لا يَنتفِعُ بالفِكرِ في هذه الآياتِ إلَّا المؤمنون؛ خُصُّوا بالذِّكْرِ، وإنْ كانت آياتٍ لهم ولغَيرِهم [1206] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/271)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 425). . وكذلك لِمَّا كان مِن مَباني السُّورةِ تَخصيصُ الهِدايةِ بالمؤمنينَ؛ خَصَّهم بالآياتِ لاختِصاصِهم بالانتفاعِ بها، وإنْ كان الكلُّ مُشترِكينَ في كَونِها دَلالةً لهم [1207] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/222). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ خُولِفَ بيْنَ ما هنا وبيْنَ ما في سُورةِ (يُونسَ)؛ إذْ قال هنا: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وقال في سُورةِ (يُونسَ): هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس: 67] . ووَجْهُه: أنَّ آيةَ سُورةِ (يُونسَ) مَسوقةٌ مَساقَ الاستِدلالِ والامتِنانِ؛ فخاطَبَ بها جميعَ النَّاسِ مِن مُؤمِنٍ وكافرٍ؛ فجاءتْ بصِيغةِ الخِطابِ، وجُعِلَتْ دَلالتُها لكلِّ مَن يَسمَعُ أدلَّةَ القرآنِ، فمنهم مُهتَدٍ وضالٌّ؛ ولذلك جِيءَ فيها بفِعْلِ يَسْمَعُونَ المُؤْذِنِ بالامتثالِ والإقبالِ على طَلَبِ الهُدى. وأمَّا هذه الآيةُ فمَسوقةٌ مَساقَ التَّعجيبِ والتَّوبيخِ، فجُعِلَ ما فيها آياتٍ لِمَنِ الإيمانُ مِن شأْنِهم؛ لِيُفِيدَ بمَفهومِه أنَّه لا تَحصُلُ منه دَلالةٌ لِمَن ليس مِن شأْنِهم الإنصافُ والاعترافُ؛ ولذلك أُوثِرَ فيه فِعلُ يُؤْمِنُونَ [1208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/45). .
2- قولُه تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ عطْفٌ على وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا [النمل: 83] ؛ عاد به السِّياقُ إلى المَوعظةِ والوعيدِ؛ فإنَّهم لَمَّا ذُكِّرُوا بـ (يومَ يُحشَرون إلى النَّارِ)، ذُكِّروا أيضًا بما قبْلَ ذلك، وهو يومُ النَّفخِ في الصُّورِ؛ تَسجيلًا عليهم بإثباتِ وُقوعِ البَعثِ، وإنذارًا بما يَعقُبُه ممَّا دلَّ عليه قولُه: أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، وقولُه: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [1209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/45). .
- وجِيءَ بصِيغةِ الماضي فَفَزِعَ مع أنَّ النَّفخَ مُستقبَلٌ؛ للإشعارِ بتَحقُّقِ الفزَعِ، وأنَّه واقعٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّ الفعلَ الماضي يدُلُّ على وُجودِ الفعلِ وكَونِه مقطوعًا به، فصِيغةُ الماضي كِنايةٌ عن التَّحقُّقِ، وقرينةُ الاستقبالِ ظاهرةٌ مِن المُضارِعِ في قولِه: يُنْفَخُ [1210] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/386)، ((المثل السائر)) للضياء ابن الأثير (2/149)، ((تفسير البيضاوي)) (4/168)، ((تفسير أبي حيان)) (8/272)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 425)، ((تفسير أبي السعود)) (3/303)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/46)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/264). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وفي (الزُّمَرِ): فَصَعِقَ [الزمر: 68] ؛ فخُصَّتْ هذه السُّورةُ بقولِه: فَفَزِعَ مُوافَقةً لقولِه: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ [النمل: 89] ، وخُصَّتِ سُورةُ (الزُّمَرِ) بقولِه: فَصَعِقَ مُوافَقةً لقولِه: وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ؛ لأنَّ معناه: مات [1211] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 193). .
- ولعلَّ تأخيرَ بَيانِ الأحوالِ الواقعةِ عندَ ابتداءِ النَّفخةِ عن بَيانِ ما يقَعُ بعْدَها مِن حَشرِ المُكذِّبينَ مِن كلِّ أُمَّةٍ -يعني في قولِه تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [النمل: 83 - 85] -؛ لِتَثنيةِ التَّهويلِ بتَكريرِ التَّذكيرِ؛ إيذانًا بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما طامَّةٌ كُبْرى وداهيةٌ دَهْياءُ، حقيقةٌ بالتَّذكيرِ على حِيالِها، ولو رُوعِيَ التَّرتيبُ الوُقوعيُّ لَرُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ الكلَّ داهيةٌ واحدةٌ قد أُمِرَ بذِكْرِها [1212] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/303، 304). .
- وحُذِف الضَّميرُ مِن (كُلٍّ)، والتَّقديرُ: وكلُّهم، كما قال: وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [1213] يُنظر: ((أمالي ابن الشجري)) (2/350). [مريم: 95] .
- والتَّعبيرُ بالمُضِيِّ في أَتَوْهُ؛ للإشعارِ بتَحقُّقِ الإتيانِ، فكأنَّه قد وقَع حتَّى عُبِّر عنه بلفظِ الماضي [1214] يُنظر: ((عروس الأفراح)) للبهاء السبكي (1/542)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/47). .
3- قولُه تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
- قوله: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ مَنشأُ الحِسْبانِ المَذكورِ أنَّ الأجرامَ المُجتمِعةَ المُتكاثِرةَ العددِ على وجهِ الالتِصاقِ إذا تحرَّكَتْ نحوَ سَمْتٍ لا تَكادُ تَبينُ حرَكتُها، والمشهورُ في وجْهِ الشَّبَهِ السُّرعةُ [1215] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (10/244). .
- قد أُدمِجَ في هذا التَّشبيهِ حالُ الجِبالِ بحالِ السَّحابِ في تَخلْخُلِ الأجزاءِ وانتفاشِها، كما في قولِه تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [1216] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/304). [القارعة: 5] .
- في قولِه: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ طِباقٌ عجيبٌ بيْنَ الجُمودِ والحركةِ السَّريعةِ؛ حيث جُعِلَ ما يَبْدو لِعَينِ النَّاظرِ كالجبلِ في جُمودِه ورُسوخِه، ولكنَّه سريعٌ يمُرُّ مُرورًا حَثيثًا كما يمُرُّ السَّحابُ [1217] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/264). .
- وقولُه: صُنْعَ اللَّهِ مَصدرٌ مؤكِّدٌ لمَضمونِ ما قبْلَه [1218] وهو مِن إضافةِ المصدرِ المؤكدِ إلى الفاعلِ، أي: صَنَعَ اللهُ صُنْعًا، كقولِه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7]، فإنَّه لَمَّا قال جلَّ وعزَّ: مَرَّ السَّحَابِ، وقال: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ؛ عُلِم أنَّه خَلْقٌ وصُنْعٌ، ولكنَّه وكَّدَ وثبَّتَ للعِبادِ. ومِثلُ هذا قولُه تعالى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [النساء: 122]، أي: وَعَدَ اللهُ وعدًا حقًّا. يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (1/381، 382)، ((أمالي ابن الشجري)) (2/359). ، أي: صنَعَ اللهُ ذلك صُنعًا، على أنَّه عبارةٌ عمَّا ذُكِرَ مِن النَّفخِ في الصُّورِ وما ترتَّبَ عليهِ جميعًا، قُصِدَ به التَّنبيهُ على عِظَمِ شأْنِ تلك الأفاعيلِ وتَهويلُ أمْرِها، والإيذانُ بأنَّها ليستْ بطريقِ إخلالِ نِظامِ العالَمِ وإفسادِ أحوالِ الكائناتِ بالكُلِّيَّةِ مِن غيرِ أنْ يَدعوَ إليها داعيةٌ أو يكونَ لها عاقبةٌ، بلْ هي مِن قَبِيلِ بدائعِ صُنعِ اللهِ تعالى المَبْنيَّةِ على أساسِ الحِكمةِ المُستتبِعةِ للغاياتِ الجميلةِ، الَّتي لِأجْلِها رُتِّبَت مُقدِّماتُ الخلْقِ ومَبادئُ الإبداعِ على الوجهِ المَتينِ والنَّهجِ الرَّصينِ [1219] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/305). .
- ووَصْفُ اللهِ تعالى بـ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ تَعميمٌ؛ قُصِدَ به التَّذييلُ، أي: ما هذا الصُّنعُ العجيبُ إلَّا مُماثِلًا لأمثالِه مِن الصَّنائعِ الإلهيَّةِ الدَّقيقةِ الصُّنعِ [1220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/51). .
- وقولُه: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ تَعليلٌ لِكَونِ ما ذُكِرَ صُنْعًا مُحْكَمًا له تعالى، ببَيانِ أنَّ عِلمَهُ تعالى بظَواهرِ أفعالِ المُكلَّفينَ وبواطنِها ممَّا يَدْعو إلى إظهارِها، وبَيانِ كَيفيَّاتِها على ما هي عليه مِن الحُسنِ والسُّوءِ، وتَرتيبِ أجْزِيَتِها عليها بعْدَ بَعثِهم وحَشْرِهم، وجَعْلِ السَّمواتِ والأرضِ والجِبالِ على وَفْقِ ما نطَقَ به التَّنزيلُ؛ لِيَتحقَّقُوا بمُشاهَدةِ ذلك أنَّ وعْدَه حقٌّ لا ريبَ فيه [1221] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/305). . وقيل: قولُه: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ تَذييلٌ أو اعتراضٌ في آخِرِ الكلامِ؛ للتَّذكيرِ والوعظِ والتَّحذيرِ، عقِبَ قولِه: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ؛ لأنَّ إتقانَ الصُّنعِ أثَرٌ مِن آثارِ سَعةِ العلْمِ، فالَّذي بعِلْمِه أتقَنَ كلَّ شَيءٍ هو خبيرٌ بما يَفعَلُ الخلْقُ؛ فلْيَحْذَروا أنْ يُخالِفوا عن أمْرِه [1222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/51). .
- وفي قولِه: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ تَنبيهٌ على الشُّروعِ في الحسابِ والأخذِ في الجزاءِ على سبيلِ الاستئنافِ، وأنَّه جوابٌ لقولِ مَن يَسألُ: فماذا يكونُ بعْدَ هذه القَوارعِ؟ فقِيل: إنَّ اللهَ خبيرٌ بعَمَلِ العامِلينَ، فيُجازِيهم على أعمالِهم؛ حَسَنِها وسَيِّئِها [1223] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/595). .