غريب الكلمات:
بَارِزَةً: أي: بادِيةً ظاهِرةً ليس عليها جَبَلٌ ولا شجَرٌ ولا بِناءٌ، وأصلُ (برز): يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ وبُدُوِّه .
بَارِزَةً: أي: بادِيةً ظاهِرةً ليس عليها جَبَلٌ ولا شجَرٌ ولا بِناءٌ، وأصلُ (برز): يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ وبُدُوِّه .
يقولُ الله تعالى مبينًا بعضَ مشاهدِ يومِ القيامةِ وأهوالِها: واذكُرْ يومَ نُزيلُ الجِبالَ عن أماكِنِها، وترى الأرضَ ظاهِرةً ليس عليها شيءٌ يَستُرُها، وجمَعْنا العبادَ كُلَّهم لِمَوقِفِ الحسابِ، فلم نَترُكْ منهم أحدًا، وعُرِضوا جميعًا على ربِّك مُصطَفِّينَ لا يُحجَبُ منهم أحَدٌ، فيُقالُ لهم: لقد جِئتُم إلينا كما خلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ، فُرادى، حُفاةً، عُراةً، غيرَ مختونينَ، لا مالَ معكم ولا ولَدَ، ثمَّ يقالُ لمُنكِري البعثِ: بل ظنَنْتُم أنْ لن نجعَلَ لكم مَوعِدًا نبعَثُكم فيه؛ لِمُجازاتِكم على أعمالِكم.
ووُضِعَ كِتابُ أعمالِ العباد، فتُبصِرُ المجرمينَ خائِفينَ مِمَّا فيه؛ بسبَبِ ما عَمِلوه من السيِّئاتِ، ويقولونَ حين يطَّلِعون عليه: يا ويلَنا! ما لهذا الكِتابِ لم يَترُكْ صغيرةً مِن أفعالِنا ولا كبيرةً إلَّا عدَّها وأثبَتَها؟! ووجَدوا كُلَّ ما عَمِلوه في الدُّنيا حاضِرًا مُثبَتًا، ولا يَظلِمُ رَبُّك أحدًا مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ فلا يَنقُصُ أحدًا من حَسَناتِه، أو يزيدُ في سَيِّئاتِه.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن بيَّنَ لهم تعَرُّضَ ما هم فيه من نعيمٍ إلى الزَّوالِ على وجهِ الموعظةِ؛ أعقَبَه بالتَّذكيرِ بما بعد ذلك الزَّوالِ، بتَصويرِ حالِ البَعثِ وما يترقَّبُهم فيه من العِقابِ على كُفرِهم به؛ وذلك مقابلةً لضِدِّه المذكورِ في قَولِه تعالى: وَالْبَاقِياتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
[الكهف: 46] .
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ.
أي: واذكُرْ
يومَ نُزيلُ الجِبالَ عن أماكِنِها ونَنسِفُها، فتضمَحِلُّ وتتلاشَى
.
كما قال عزَّ وجلَّ: وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور: 10].
وقال تعالى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3] .
وقال سُبحانَه: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] .
وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105- 107] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل: 14] .
وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً.
أي: وترَى الأرضَ يومَ القيامةِ باديةً ظاهِرةً لأعيُنِ النَّاظِرينَ، ليس عليها شيءٌ يَستُرُها مِن جبَلٍ أو شجَرٍ أو بُنيانٍ، وليس فيها مَعلَمٌ لأحدٍ، ولا مكانٌ يُواري أحدًا
.
وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا.
أي: وجمَعْنا العِبادَ أوَّلَهم وآخِرَهم على تلك الأرضِ؛ للحِسابِ والجزاءِ، فلم نَترُكْ منهم أحَدًا بلا بَعثٍ
.
كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93- 95] .
وقال سُبحانَه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49-50] .
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حَشرَ الخَلقِ، ذكَرَ كيفيَّةَ عَرضِهم
، فقال تعالى:
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا.
أي: وعُرِضَ العِبادُ على ربِّك -يا مُحمَّدُ- مُصطَفِّينَ ظاهِرينَ، لا يخفَى منهم أحَدٌ
.
لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: فيُقالُ لهم: لقد جِئتُمونا -أيُّها النَّاسُ- بعد مَوتِكم أحياءً، كهَيئتِكم حينَ خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ: فُرادَى، حُفاةً، عُراةً، غيرَ مختونينَ، لا شيءَ معكم ممَّا كنتُم تتباهَوْن به في الدُّنيا من الأهلِ والأموالِ
.
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قال: ((قام فينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ، فقال: إنَّكم مَحشُورونَ حُفاةً عُراةً غُرلًا
: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] ))
.
بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا .
أي: يُقالُ لِمُنكري البَعثِ
: بل اعتَقَدتُم خَطأً في الدُّنيا أنَّ اللهَ لن يبعَثَكم بعدَ مَوتِكم للحِسابِ والجزاءِ يومَ القيامةِ
.
كما قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] .
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49).
وَوُضِعَ الْكِتَابُ.
أي: ووُضِعَت كُتُبُ أعمالِ العبادِ -التي كتَبَتْها الملائِكةُ- في أيديهم؛ فمنهم آخِذٌ كتابَه بيَمينِه، ومنهم آخِذٌ كِتابَه بشِمالِه
.
كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] .
وقال سُبحانَه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13- 14] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19] .
وقال عزَّ مِن قائلٍ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة: 25] .
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ.
أي: فتَرى المُجرمِينَ
خائِفينَ مِمَّا في كُتُبِ أعمالِهم من السَّيِّئاتِ التي عَمِلوها في الدُّنيا، خوفًا عظيمًا مِن عقابِ اللهِ والفَضيحةِ بين خَلقِ الله
.
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا.
أي: ويقولُ المُجرِمونَ إذا اطَّلَعوا على كُتُبِ أعمالِهم، فرَأَوا ما فيها من السَّيِّئاتِ: يا حَسرَتَنا وهلاكَنا! ما شأنُ هذا الكتابِ لا يَترُكُ صَغيرةً مِن ذُنوبِنا ولا كبيرةً منها إلَّا حَفِظَها وعَدَّها
؟!
كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10-12].
وقال سُبحانَه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17- 18] .
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا.
أي: ووجَدوا كُلَّ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ مَكتوبًا مُثبَتًا في صُحُفِ أعمالِهم، فجُوزُوا به
.
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وقال سُبحانَه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7- 8] .
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
أي: ولا يَظلِمُ رَبُّك -يا مُحمَّدُ- أحدًا مِن عبادِه، سواء مِن هؤلاء المُجرِمينَ أم مِن غَيرِهم؛ فلا يَنقُصُ أحدًا من حَسَناتِه، أو يزيدُ في سَيِّئاتِه، أو يُعاقِبُه بذنبٍ لم يفعَلْه، ونحو ذلك من الأفعالِ التي يُنزَّهُ عنها الرَّبُّ سُبحانه؛ لكَمالِ عَدلِه وغِناه ورَحمتِه، وإنَّما يُجازي كلًّا بما يستَحِقُّه
.
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
وقال سُبحانَه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر: 31] .
وعن عبد اللهِ بنِ أُنَيسٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ -أو قال: العِبادُ- عُراةً غُرْلًا بُهْمًا. قال: قُلْنا: وما بُهمًا؟ قال: ليس معهم شَيءٌ، ثُمَّ يناديهم بصَوتٍ يَسمَعُه مَن بَعُدَ كما يَسمَعُه مَن قَرُب: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ، ولا ينبغي لأحدٍ مِن أهلِ النَّارِ أن يَدخُلَ النَّارَ وله عندَ أحدٍ مِن أهلِ الجَنَّةِ حَقٌّ حتى أقُصَّه منه، ولا ينبغي لأحدٍ مِن أهلِ الجنَّةِ أن يَدخُلَ الجنَّةَ ولأحدٍ مِن أهلِ النَّارِ عندَه حَقٌّ حتى أقُصَّه منه، حتى اللَّطمةُ. قال: قُلْنا: كيف وإنَّا إنَّما نأتي اللهَ عَزَّ وجَلَّ عُراةً غُرلًا بُهمًا؟ قال: بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ))
.
1- قَولُ اللهِ تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فلا مالَ، ولا أهلَ، ولا عَشيرةَ، ما معهم إلَّا الأعمالُ التي عَمِلوها، والمكاسِبُ في الخيرِ والشَّرِّ التي كَسِبوها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ
[الأنعام: 94] .
2- عن قَتادةَ في قَولِه تعالى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا قال: (يَشتَكي القَومُ -كما تَسمَعونَ- الإحصاءَ، ولم يَشتَكِ أحَدٌ ظُلمًا، فإيَّاكم والمُحَقَّراتِ مِن الذُّنوبِ؛ فإنَّها تجتَمِعُ على صاحبِها حتى تُهلِكَه)
.
3- عن عَونِ بنِ عبدِ اللهِ في قَولِه عزَّ وجلَّ: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، قال: (ضجَّ -واللهِ- القَومُ مِن الصِّغارِ قبلَ الكِبارِ)
!
1- قال الله عزَّ وجَلَّ: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا، وقال أيضًا: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام: 62] ، وقال: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30] ، وقال: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة: 12] ، كُلُّ ذلك يدُلُّ على أنَّ الله ليس في خَلقِه، ولا خَلْقُه فيه، سُبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ عُلُوًّا كبيرًا
.
2- قولُ الله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ليس المرادُ حصولَ المساواةِ مِن كلِّ الوجوهِ؛ لأنَّهم خُلِقوا صِغارًا ولا عقلَ لهم ولا تكليفَ عليهم، بل المرادُ أنَّه قال للمُشرِكين المُنكِرين للبَعثِ، المفتَخِرين في الدُّنيا على فُقراءِ المؤمنينَ بالأموالِ والأنصارِ: قد جئتُمونا كما خلَقْناكم أوَّلَ مرَّةٍ عراةً حُفاةً بغيرِ أموالٍ ولا أعوانٍ
.
3- قَولُ الله تعالى: وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا يَدُلُّ على إثباتِ صَغائِرَ وكبائِرَ في الذُّنوبِ، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بينَ المُسلِمينَ
.
4- قَولُ الله تعالى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فيه سؤالٌ: لماذا قال: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً مع أنَّ الصَّغائِرَ تكَفَّرُ باجتنابِ الكبائِرِ؛ لِقَولِه تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء: 31] ؟
الجوابُ: أنَّ الآيةَ الأولَى في حَقِّ الكافرينَ؛ بدَليلِ قَولِه تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ، والثانيةُ في حقِّ المؤمنينَ؛ لأنَّ اجتنابَ الكبائِرِ لا يتحقَّقُ مع الكُفرِ.
أو يقال: إنَّ الأُولى في حقِّ المؤمنينَ أيضًا، لكِنْ يجوز أن تُكتَبَ الصَّغائِرُ لِيُشاهِدَها العبدُ يومَ القيامةِ، ثمَّ يُكَفَّر عنه، فيَعلَم قَدْرَ نِعمةِ العَفوِ عليه
.
5- القرآنُ مملوءٌ مِن الأخبارِ بأنَّ دُخولَ النَّارِ إنَّما يكونُ بالأعمالِ، كما في قولِه: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وقَولِه تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 90] ، وقَولِه تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] ، وقَولِه تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76] إلى غيرِ ذلك من النُّصوصِ
.
6- قال الله تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا يُستفادُ مِن ذلك أنَّ النَّكرةَ في سياقِ النَّفيِ تَعُمُّ
.
7- إنَّ نفيَ الظُّلمِ عنه سُبحانه في قَولِه تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا يتضَمَّنُ كمالَ عَدلِه
، فهو سبحانَه حكمٌ عدلٌ لا يضعُ الأشياءَ إلا مواضعَها، ووضعُها غيرَ مواضعِها ليس ممتنعًا لذاتِه؛ بل هو ممكنٌ لكنَّه لا يفعلُه؛ لأنَّه لا يريدُه؛ بل يكرهُه ويبغضُه؛ إذ قد حرَّمه على نفسِه، فاستحقَّ الحمدَ والثناءَ؛ لأنَّه ترَك هذا الظلمَ وهو قادرٌ عليه، وكما أنَّ الله منزهٌ عن صفاتِ النقصِ والعيبِ، فهو أيضًا منزهٌ عن أفعالِ النقصِ والعيبِ
.
1- قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا عطْفٌ على جُملةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 45] ؛ فلفظُ (يوم) منصوبٌ بفعْلٍ مُضمَرٍ، تَقديرُه: اذكُرْ. ويجوزُ أنْ يكونَ الظَّرفُ مُتعلِّقًا بمحذوفٍ غيرِ فعْلِ (اذكُرْ) يدُلُّ عليه مقامُ الوعيدِ، مثلُ: يَرَون أمرًا مُفظعًا أو عظيمًا، أو نحوُ ذلك ممَّا تذهَبُ إلى تَقديرِه نفْسُ السَّامعِ. ويُقدَّرُ المحذوفُ مُتأخِّرًا عن الظَّرفِ وما اتَّصَلَ به؛ لقَصدِ تَهويلِ اليومِ وما فيه
.
- قولُه: وَحَشَرْنَاهُمْ فيه إيثارُ صِيغَةِ الماضي بعدَ نُسَيِّرُ وَتَرَى؛ للدَّلالةِ على تحقُّقِ الحشرِ المُتفرِّعِ على البعثِ الَّذي يُنكِرُه المُنكرِون
. وقيل: هو للدَّلالةِ على أنَّ حشْرَهم قبْلَ التَّسييرِ والبُروزِ؛ ليُعاينوا تلك الأهوالَ، كأنَّه قيلَ: وحشرْناهم قبْلَ ذلك
.
2- قوله تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا
- جُملةُ: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ معطوفةٌ على جُملةِ وَحَشَرْنَاهُمْ، فهي في موضعِ الحالِ من الضَّميرِ المنصوبِ في وَحَشَرْنَاهُمْ، أي: حشَرْناهم وقد عُرِضوا؛ تَنبيهًا على سُرعةِ عَرْضِهم في حينِ حشْرِهم
.
- قولُه: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا في الالْتِفات إلى الغَيبةِ في قوله: عَلَى رَبِّكَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: (علينا)، وبِناءِ الفعلِ وَعُرِضُوا للمفعولِ، مع التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، والإضافةِ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: من تَربيةِ المَهابةِ، والجَريِ على سَننِ الكبرياءِ، وإظهارِ اللُّطْفِ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لا يَخْفى
. وفيه كذلك تَنويهٌ بشأْنِ المُضافِ إليه، بأنَّ في هذا العرضِ وما فيه من التَّهديدِ نَصيبًا من الانتصارِ للمُخاطَبِ؛ إذ كذَّبوه حين أخبَرَهم وأنذَرَهم بالبعثِ
.
- قولُه: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا، أي: مُصْطفِّينَ. وقيل: المعنى صَفًّا صفًّا، فحُذِفَ (صَفًّا) وهو مُرادٌ، وهذا التَّكرارُ مُنبِئٌ عنِ استيفاءِ الصُّفوفِ إلى آخرِها
، وانتصَبَ صَفًّا على الحالِ من واوِ وَعُرِضُوا، وتلك الحالةُ إيذانٌ بأنَّهم أُحْضِروا بحالةِ الجُناةِ الَّذين لا يَخْفى منهم أحدٌ؛ إيقاعًا للرُّعبِ في قُلوبِهم
.
- وجُملةُ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مقولٌ لقولٍ مَحذوفٍ، دَلَّ عليه أنَّ الجُملةَ خِطابٌ للمَعروضينَ؛ فتعيَّنَ تَقديرُ القولِ، وهذه الجُملةُ في مَحلِّ الحالِ، والتَّقديرُ: قائلينَ لهم: لَقَدْ جِئْتُمُونَا
. والخبرُ في قولِه: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مُستعملٌ في التَّهديدِ والتَّغليظِ والتَّنديمِ على إنكارِهم البعثَ
مع التقريعِ، والتوبيخِ لهم على رؤوسِ الأشهادِ
- قولُه: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ واقعٌ موقعَ المفعولِ المُطلَقِ المُفيدِ للمُشابهةِ، أي: جئْتُمونا مَجيئًا كخلْقِكم أوَّلَ مرَّةٍ؛ فالخلْقُ الثَّاني أشبَهَ الخلْقَ الأوَّلَ، أي: فهذا خلْقٌ ثانٍ. و(ما) مصدريَّةٌ، أي: كخلْقِنا إيَّاكم المرَّةَ الأُولى، والمقصودُ التَّعريضُ بخطَئِهم في إنكارِهم البعثَ
.
- قولُه: بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا للإضرابِ بمعنى الانتقالِ من خبرٍ إلى خبرٍ، وليس بمعنى الإبطالِ
، وهو انتقالٌ من التَّهديدِ، وما معه من التَّعريضِ بالتَّغليطِ، إلى التَّصريحِ بالتَّغليطِ في قالبِ الإنكارِ
.
3- قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
- قولُه: الْكِتَابُ اللَّامُ للجنْسِ، وهو صحُفُ الأعمالِ، أي: وُضِعَت كُتبُ أعمالِ البشرِ؛ لأنَّ لكلِّ أحدٍ كِتابًا، كما دلَّتْ عليه آياتٌ أُخرى؛ منها قولُه تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ
[الإسراء: 13، 14].
- قولُه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ جاء الفعْلُ بصِيغَةِ الماضي؛ لتَحقُّقِ وُقوعِه
.
- وإفرادُ الضَّميرِ في قولِه: مِمَّا فِيهِ؛ لمُراعاةِ إفرادِ لفْظِ (الكِتاب)
.
- قولُه: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ، أي: قاطبةً، فيدخُلُ فيهم الكَفرةُ المُنكِرون للبعثِ دُخولًا أوَّليًّا
.
- في قولِه: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ عُبِّرَ بالمضارعِ (يَقُولُونَ)؛ لاستِحضارِ الحالةِ الفظيعةِ، أو لإفادةِ تَكرُّرِ قولِهم ذلك وإعادتِه، شأْنَ الفَزِعينَ الخائفينَ
.
- قولُه: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا يَاوَيْلَتَنَا كِنايةٌ عن أنَّه لا نَديمَ لهم إذ ذاكَ إلَّا الهلاكُ
.
- والاستفهامُ في قولِهم: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ
؛ فـ (ما) اسمُ استفهامٍ، ومعناها: أيُّ شَيءٍ، و(لِهَذَا الْكِتَابِ) صِفَةٌ لـ (ما) الاستفهاميَّةِ؛ لِما فيها من التَّنكيرِ، أي: ما ثبَتَ لهذا الكتابِ. واللَّامُ للاختصاصِ مثْلُ قولِه: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ [يوسف: 11]. وجُملةُ لَا يُغَادِرُ في موضعِ الحالِ، هي مَثارُ التَّعجُّبِ، وقد جَرى الاستعمالُ بمُلازمةِ الحالِ لنحوِ: (ما لكَ)، فيقولون: ما لك لا تفعَلُ؟ وما لك فاعلًا
؟
- قولُه: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، أي: حَواها وضبَطَها، جُملةٌ حاليَّةٌ مُحقِّقةٌ لِما في الجُملةِ الاستفهاميَّةِ من التَّعجُّبِ. أو استئنافيَّةٌ مَبنيَّةٌ على سُؤالٍ نشَأَ من التَّعجُّبِ؛ كأنَّه قيل: ما شأْنُه حتَّى يُتَعَجَّبَ منه؟ فقيل: لا يُغادِرُ سيِّئةً صغيرةً ولا كبيرةً إلَّا أحصاها
.
- قولُه: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا قُدِّم الصغيرةُ اهتمامًا بها؛ ليُنبِّهَ منها، ويدلَّ أنَّ الصغيرةَ إذا أُحصيتْ، فالكبيرةُ أحْرَى بذلك، والعربُ أبدًا تُقدِّمُ في الذِّكرِ الأقلَّ مِن كُلِّ مُقترنَينِ، نحو قولِهم: القَمران، والعُمران، سَمَّوْا باسمِ الأقلِّ؛ تَنبيهًا منهم؛ فقُدِّمَ ذِكْرُ الصَّغيرةِ؛ لأنَّها أهَمُّ من حيثُ يتعلَّقُ التَّعجُّبُ من إحصائِها، وعُطِفَت عليها الكبيرةُ؛ لإرادةِ التَّعميمِ في الإحصاءِ؛ لأنَّ التَّعميمَ أيضًا ممَّا يُثيرُ التَّعجُّبَ، فقد عَجِبوا من إحاطةِ كاتبِ الكتابِ بجميعِ الأعمالِ
. وقيل: تَقديمُ الصغائر على الكبائر؛ لأنَّهم لَمَّا هالَهم إثباتُ جميعِ الصغائرِ، بَدؤوا بها، وصرَّحوا بالكبائرِ -وإنْ كان إثباتُ الصغائرِ يُفهِمُها- تأكيدًا؛ لأنَّ المقامَ للتهويلِ وتَعظيمِ التفجُّعِ، وإشارةً إلى أنَّ الذي جرَّهم إلى الكبائِرِ هو الصغائرُ
.
- قوله: إِلَّا أَحْصَاهَا الاستثناءُ من عُمومِ أحوالِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ، أي: لا يُبْقي صَغيرةً ولا كبيرةً في جميعِ أحوالِهما إلَّا في حالِ إحصائِه إيَّاها، أي: لا يُغادِرُه غيرَ مُحصًى، فالاستثناءُ هنا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه؛ لأنَّه إذا أحصاهُ فهو لم يُغادِرْه، فآلَ إلى معنى: أنَّه لا يُغادِرُ شيئًا، وانتفَتْ حقيقةُ الاستثناءِ
.
- قولُه: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فيه استعمالُ العامِّ في النَّفيِ، والخاصِّ في الإثباتِ؛ فإنَّ وُجودَ المُؤاخذةِ على الصَّغيرةِ يَلزَمُ منه وُجودُ المُؤاخذةِ على الكبيرةِ؛ فيَنْبغي أنْ يكونَ لا يُغادِرُ كبيرةً ولا صغيرةً؛ لأنَّه إذا لم يُغادِرْ صَغيرةً، فمِن الأَولى ألَّا يُغادِرَ كبيرةً، وأمَّا إذا لم يُغادِرْ كبيرةً، فإنَّه يجوزُ أنْ يُغادِرَ صغيرةً؛ لأنَّه إذا لم يَعْفُ عن الصَّغيرةِ، فيَنْبغي القياسُ أنَّه لا يَعْفو عن الكبيرةِ، وإذا لم يَعْفُ عن الكبيرةِ، فيجوزُ أنْ يعفُوَ عن الصَّغيرةِ
.
- وجُملةُ: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا عطْفٌ على جُملةِ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا؛ لِما أفهمَتْه الصِّلةُ من أنَّهم لم يَجِدوا غيرَ ما عَمِلوا، أي: لم يُحْمَلْ عليهم شَيءٌ لم يَعْمَلوه؛ لأنَّ اللهَ لا يظلِمُ أحدًا، فيُؤاخِذُه بما لم يَقترِفْه، وقد حدَّدَ لهم من قبْلِ ذلك ما ليس لهم أنْ يَفْعلوه وما أُمِرُوا بفعْلِه، وتوعَّدَهم ووعَدَهم، فلم يكُنْ في مُؤاخذتِهم بما عَمِلوه من المَنهيَّاتِ بعدَ ذلك ظُلمٌ لهم. والمقصودُ: إفادةُ هذا الشَّأنِ من شُؤونِ اللهِ تعالى، فلذلك عُطِفَتِ الجُملةُ؛ لتَكونَ مقصودةً أصالةً، وهي مع ذلك مُفيدةٌ معنى التَّذييلِ؛ لِما فيها من الاستِدلالِ على مضمونِ الجُملةِ قبْلَها، ومن العُمومِ الشَّاملِ لمَضمونِ الجُملةِ قبْلَها وغيرِه؛ فكانت من هذا الوجْهِ صالحةً للفصْلِ بدُونِ عطْفٍ؛ لتكونَ تَذييلًا
.