موسوعة التفسير

سُورةُ التَّكويرِ
الآيات (1-14)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات:

كُوِّرَتْ: أي: لُفَّت كما تُلَفُّ العِمامةُ، فذَهَب ضَوؤُها، والتَّكويرُ: تلفيفٌ على جِهةِ الاستِدارةِ، كتَكويرِ العِمامةِ، وأصلُ (كور): يدُلُّ على دَورٍ وتجَمُّعٍ .
انْكَدَرَتْ: أي: تناثَرَتْ مِنَ السَّماءِ، وسَقَطَت على الأرضِ، وأصلُ (كدر) هنا: يدُلُّ على حَرَكةٍ .
الْعِشَارُ عُطِّلَتْ: أي: النُّوقُ الحوامِلُ الَّتي قد أتَى عليها عَشَرةُ أشهُرٍ مِن حَمْلِها: سُيِّبَت وأُهمِلَت وتُرِكَت بلا راعٍ، وأصلُ (عطل): يدُلُّ على خُلُوٍّ وفَراغٍ .
سُجِّرَتْ: أي: أُوقِدَت فصارت نارًا تَضطَرِمُ. وقيل: مُلِئتْ ونفَذ بعضُها إلى بعضٍ، فصارَتْ بحرًا واحِدًا مملوءًا. وأصلُ (سجر) على القولِ الأوَّلِ: الإيقادُ، وعلى القولِ الثَّاني: المَلْءُ .
الْمَوْءُودَةُ: هي الجاريةُ المدفونةُ حَيَّةً، سُمِّيَت بذلك لِما يُطرَحُ عليها مِن التُّرابِ فيَؤُودُها، أي: يُثقِلُها حتَّى تموتَ، وكان بعضُ العَرَبِ يَدفِنُ البناتِ حَيَّةً؛ مَخافةَ العارِ والحاجةِ! وأصلُ (وأد): يدُلُّ على إثقالِ شَيءٍ بشَيءٍ .
كُشِطَتْ: أي: نُزِعَت وطُوِيَت وقُلِعَت، والكَشْطُ: قَلْعٌ عن شِدَّةِ التِزاقٍ، وأصلُ (كشط): يدُلُّ على تَنحيةِ شَيءٍ وكَشْفِه .
سُعِّرَتْ: أي: أُوقِدَت، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ شَيءٍ واتِّقادِه .
أُزْلِفَتْ: أي: قُرِّبَت، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على تقَدُّمٍ في قُربٍ إلى شَيءٍ .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ واصِفًا أحوالَ القيامةِ وأهوالَها، فقال تعالى: إذا لُفَّت الشَّمسُ وجُمِعَت، وطُوِيَ بَعْضُها على بَعضٍ؛ فذَهَب ضَوؤُها، وإذا النُّجومُ تساقَطَت وتناثَرَت، وإذا الجِبالُ قُلِعَت مِن أماكِنِها وسُيِّرَت عن وَجْهِ الأرضِ، وإذا النُّوقُ الحوامِلُ -وهي أنفَسُ أموالِ العَرَبِ- تُرِكَت مُهمَلةً بلا راعٍ؛ لِما دهاهم مِن الأمرِ العَظيمِ، وإذا الوُحوشُ مِن الحيواناتِ جُمِعَت يومَ القيامةِ؛ لِيَقتَصَّ اللهُ تعالى مِن بَعْضِها لبَعضٍ، وإذا البِحارُ أُوقِدَت فصارت نارًا تَضْطَرِمُ، وإذا قُرِنَ كُلُّ واحِدٍ بمَن هو مِثْلُه في الخَيرِ والشَّرِّ، وإذا البِنتُ الَّتي دُفِنَت في التُّرابِ حَيَّةً قد سُئِلَت عن الذَّنْبِ الَّذي استحَقَّتْ به القَتْلَ، وإذا صُحُفُ أعمالِ النَّاسِ عُرِضَت ونُشِرَت للحِسابِ، وإذا السَّماءُ نُزِعَت مِن مَكانِها وقُلِعَت، وإذا أُوقِدَت النَّارُ لأعداءِ اللهِ إيقادًا شديدًا، وقُرِّبَت الجنَّةُ وأُدْنِيَت لأهلِها المتَّقينَ المؤمِنينَ لِيَدخُلوها؛ إذا وَقَعَت تلك الأُمورُ المَهُولةُ المُفزِعةُ عَلِمَت وتيَقَّنَت كُلُّ نَفْسٍ ما أحضَرَتْه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ كان منها في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1).
أي: إذا لُفَّت الشَّمسُ وجُمِعَت، وطُوِيَ بَعْضُها على بَعضٍ؛ فذَهَب ضَوؤُها .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الشَّمسُ والقَمَرُ مُكَوَّرانِ يومَ القيامةِ)) .
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان التَّأثيرُ في الأعظَمِ دالًّا على التَّأثيرِ فيما دُونَه بطَريقِ الأَوْلى؛ أتْبَعَ ذلك قَوْلَه مُعَمِّمًا بعدَ التَّخصيصِ :
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2).
أي: وإذا النُّجومُ تهاوَتْ وتَساقَطَت مِن مَواضِعِها وتناثَرَت .
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بدأ بأعلامِ السَّماءِ لأنَّها أشهَرُ وأعَمُّ تَخويفًا وإرهابًا، وذكَرَ منها اثنَينِ هما أشهَرُ ما فيها وأعَمُّها نَفْعًا؛ أتْبَعَها أعلامَ الأرضِ، فقال مُكَرِّرًا للظَّرفِ؛ لِمَزيدِ الاعتناءِ بالتَّهويلِ :
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3).
أي: وإذا الجِبالُ سُيِّرَت عن وَجْهِ الأرضِ بَعْدَ قَلْعِها مِن أماكِنِها .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] .
وقال سُبحانَه: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] .
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر أعلامَ الجَمادِ؛ أتْبَعَه أعلامَ الحَيوانِ النَّافِعِ الَّذي هو أعَزُّ أموالِ العَرَبِ وأغلَبُها- على وَجهٍ دَلَّ على عِظَمِ الهَولِ؛ فقال :
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4).
أي: وإذا النُّوقُ الحوامِلُ الَّتي قد مَرَّ على حَمْلِها عَشَرةُ أشهُرٍ قد تَرَكها أصحابُها، وانشغَلوا عنها مع شِدَّةِ نَفاستِها لَدَيهم؛ من شِدَّةِ أهوالِ ذلك اليَومِ .
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5).
أي: وإذا الحَيواناتُ البَرِّيَّةُ الَّتي لا تَأنَسُ بأحَدٍ قد بعَثَها اللهُ فجُمِعَت يومَ القيامةِ .
كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَتُؤَدَّنَّ الحُقوقُ إلى أهلِها يومَ القيامةِ، حتَّى يُقادَ للشَّاةِ الجَلْحاءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ ) .
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6).
أي: وإذا البِحارُ صارَتْ بحرًا واحدًا، ومُلِئَت، وأُوقِدَت نارًا .
كما قال تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: 6].
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7).
أي: وإذا النَّاسُ قد قُرِنَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بمَن هو مِثْلُه في الخَيرِ والشَّرِّ .
كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22-23].
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9).
أي: وإذا البِنتُ الَّتي دُفِنَت في التُّرابِ حَيَّةً قد سُئِلَت عن الذَّنْبِ الَّذي استحَقَّتْ به القَتْلَ !
كما قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58-59] .
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10).
أي: وإذا صُحُفُ أعمالِ النَّاسِ الَّتي طُوِيَت بعدَ مَوتِهم قد فُتِحَت لهم، فيَطَّلِعُ كُلُّ أحَدٍ فيها على عَمَلِه .
كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13-14] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة: 25] .
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11).
أي: وإذا السَّماءُ نُزِعَت مِن مَكانِها، وجُذِبتْ، وقُلِعَت بقُوَّةٍ وسُرعةٍ، وأُزِيلَتْ .
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12).
أي: وإذا النَّارُ الشَّديدةُ التَّأجُّجِ قد أُحمِيَت لأهْلِها، واشتَدَّ توَقُّدُها ولَهيبُها .
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر دارَ الأعداءِ البُعَداءِ تَرهيبًا؛ أتْبَعَه دارَ المقَرَّبينَ السُّعَداءِ تَرغيبًا، فقال :
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13).
أي: وإذا الجَنَّةُ قد قُرِّبَت وأُدنِيَت لأهْلِها .
كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] .
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى هذه الأُمورَ الاثنَيْ عَشَرَ؛ ذَكَر الجزاءَ المرَتَّبَ على الشَّرطِ الَّذي هو مجموعُ هذه الأشياءِ، فقال :
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14).
أي: إذا وَقَعَت تلك الأُمورُ المَهُولةُ المُفزِعةُ عَلِمَت وتيَقَّنَت حينَئِذٍ كُلُّ نَفْسٍ ما أحضَرَتْه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ عَمِلَتْه في الدُّنيا .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وقال سُبحانَه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5].
وقال عزَّ وجلَّ: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [يونس: 30] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى آخِرِ السِّياقِ إعلامٌ بخَرابِ عالَمِ المُلْكِ والشَّهادةِ؛ تزهيدًا في كُلِّ ما يَجُرُّ إليه، وحَثًّا على عدَمِ المبالاةِ، والابتعادِ مِن التَّعَلُّقِ بشَيءٍ مِن أسبابِه .
2- قال اللهُ تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ... هذه الأوصافُ الَّتي وَصَف اللهُ بها يومَ القيامةِ مِنَ الأوصافِ الَّتي تنزَعِجُ لها القُلوبُ، وتشتَدُّ مِن أَجْلِها الكُروبُ، وترتَعِدُ الفرائِصُ، وتَعُمُّ المَخاوِفُ، وتَحُثُّ أُولي الألبابِ للاستِعدادِ لذلك اليومِ، وتَزجُرُهم عن كُلِّ ما يُوجِبُ اللَّومَ .
3- في قَولِه تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ترغيبٌ في الأعمالِ الصَّالِحةِ والقُرَناءِ الصَّالِحينَ؛ لئلَّا يُزَوَّجَ بما يَسوءُه !
4- قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يُؤخَذُ مِن سُؤالِ المَوْؤُودةِ تحريمُ الظُّلمِ لكُلِّ أحدٍ، وكَفُّ اليَدِ واللِّسانِ عن كُلِّ إنسانٍ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ سُؤالٌ: كيف الجَمعُ بيْن هذه الآيةِ الكريمةِ والحَديثِ الَّذي فيه ((أنَّ الشَّمسَ تَدنو مِن الخلائقِ يومَ القيامةِ)) ؟
الجوابُ: أنَّه وَرَدَ في يومِ القيامةِ أشياءُ مُتغايرةٌ، ولكنَّ يومَ القيامةِ مِقْدارُه خمسونَ ألْفَ سَنَةٍ، فتتغيَّرُ فيها الأمورُ؛ تَدنو الشَّمسُ مِن الخلائقِ، وتُكَوَّرُ بعدَ ذلك، وكذلك أيضًا تُلْقَى في النَّارِ إهانةً لعابِدِيها، فيَومُ القيامةِ ليس يومًا أو شهرًا أو سَنَةً، وانظرْ إلى قَولِ اللهِ تبارك وتعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] ، وقولِه: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه: 102] ، واختلافٌ بيْن الزُّرْقةِ والسَّوادِ، كذلك أيضًا أخْبَر عن المشرِكينَ أنَّهم يقولونَ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وفي آيةٍ أخرى قال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ، فَهُم في الأوَّلِ قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] في الآيةِ الأُولى، وفي الثَّانيةِ قال: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ؛ لأنَّ الحوادثَ تتغيَّرُ، فكلُّ ما أتاك مِن اختلافاتٍ في اليومِ الآخِرِ فإنَّما ذلك لطُولِ مُدَّتِه، وتَغَيُّرِ الأحوالِ فيه .
2- في قَولِه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ سُؤالٌ: أنَّه إذا أُنْشِرَ الموتى للبَعثِ والحِسابِ، وزُوِّجَتِ النُّفوسُ بقُرَنائِها بالثَّوابِ والعِقابِ؛ فلِمَ يحصُلُ هَدْمُ الأبنيةِ، وسَيْرُ الجبالِ، ودَكُّ الأرضِ، وفَطْرُ السَّماءِ، ونَثْرُ النُّجومِ، وتكويرُ الشَّمسِ؟!
الجوابُ: أنَّه إنَّما بُنِيَتْ لهم الدَّارُ للسُّكنى والتَّمَتُّعِ، وجَعَلَها سُبحانَه وجَعَلَ ما فيها للاعتِبارِ والتَّفَكُّرِ، والاستِدلالِ عليه بحُسْنِ التَّأمُّلِ والتَّذَكُّرِ، فلمَّا انقَضَتْ مدةُ السُّكنى، وأَجْلَاهم مِن الدَّارِ؛ خَرَّبَها لانتِقالِ السَّاكنِ منها، وفي إحالةِ الأحوالِ وإظهارِ تلك الأهوالِ بيانُ المقدرةِ بعدَ بيانِ العِزَّةِ، وتكذيبٌ لأهلِ الإلحادِ وزنادقةِ المنجِّمِينَ وعُبَّادِ الكواكِبِ والشَّمسِ والقَمَرِ والأوثانِ، فيَعْلَمُ الَّذين كفروا أنَّهم كانوا كاذِبينَ، فإذا رأَوا آلهتَهم قد انهَدَمتْ، وأنَّ معبوداتِهم قد انتَثَرتْ وانفَطَرتْ، ومَحَالَّها قد تشَقَّقتْ؛ ظهرتْ فضائِحُهم، وتَبَيَّنَ كَذِبُهم، وظَهَرَ أنَّ العالَمَ مَربوبٌ مُحْدَثٌ مُدَبَّرٌ، له ربٌّ يُصَرِّفُه كيف يشاءُ؛ تكذيبًا لملاحِدةِ الفلاسِفةِ القائِلينَ بالقِدَمِ، فكم للهِ تعالى مِن حِكمةٍ في هَدمِ هذه الدَّارِ! ودَلالةٍ على عِظَمِ عِزَّتِه وقُدرتِه وسُلطانِه، وانفرادِه بالرُّبوبيَّةِ، وانقيادِ المخلوقاتِ بأَسْرِها لقَهْرِه، وإذعانِها لمشيئَتِه. فتبارَكَ اللهُ ربُّ العالَمينَ !
3- قال اللهُ تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ الغَرَضُ مِن ذِكرِ هذه القِصَّةِ هاهنا وُجوهٌ:
أحَدُها: أنَّه تعالى إذا كان يومُ القيامةِ يَحشُرُ كُلَّ الحيواناتِ؛ إظهارًا للعَدْلِ، فكيف يجوزُ مع هذا ألَّا يَحشُرَ المكَلَّفينَ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ؟!
الثَّاني: أنَّها تجتَمِعُ في مَوقِفِ القيامةِ مع شِدَّةِ نفْرتِها عن النَّاسِ في الدُّنيا، وتَبَدُّدِها في الصَّحاري؛ فدَلَّ هذا على أنَّ اجتِماعَها إلى النَّاس ليس إلَّا مِن هَولِ ذلك اليَومِ.
والثَّالثُ: أنَّ هذه الحيواناتِ بَعضُها غِذاءٌ للبَعضِ، ثمَّ إنَّها في ذلك اليومِ تَجتَمِعُ، ولا يتعَرَّضُ بَعضُها لبعضٍ، وما ذاك إلَّا لشِدَّةِ هَولِ ذلك اليَومِ .
4- اللهُ سُبحانَه وتعالى يَحكُمُ في الأُمورِ المتماثِلةِ بأحكامٍ مُتماثِلةٍ؛ ولهذا قال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قَرَن النَّظيرَ بنَظيرِه، وقال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ [القمر: 43]، وقال: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات: 22] أي: أشباهَهم ونُظَراءَهم .
5- في قَولِه تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أنَّه يُقْرَنُ كلُّ صاحِبِ عَمَلٍ بشَكْلِه وَنظيرِه، فقُرِنَ بيْن المتحابِّينَ في اللهِ في الجَنَّةِ، وقُرِنَ بيْن المتحابِّينَ في طاعةِ الشَّيطانِ في الجَحيمِ؛ فالمرءُ مع مَن أَحَبَّ، شاء أو أَبَى .
6- في قَولِه تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ سُؤالٌ: ما معنى سُؤالِ المَوؤودةِ عن ذَنْبِها الَّذي قُتِلَت به؟ وهلَّا سُئِلَ الوائِدُ عن مُوجِبِ قَتْلِه لها؟!
الجوابُ: سُؤالُها وجوابُها تَبكيتٌ لقاتِلِها، وهو كتَبكيتِ النَّصارى في قَولِه لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة: 116] ! ونظيرُ ذلك لو أنَّ شخصًا اعتدى على آخَرَ في الدُّنيا، فأَتَوا إلى السُّلطانِ أوِ الأميرِ، فقال للمظلومِ: بأيِّ ذَنْبٍ ضرَبَك هذا الرَّجُلُ؟ وهو يَعرِفُ أنَّه مُعتدًى عليه؛ ليس له ذنْبٌ، لكنْ مِن أجْلِ التَّوبيخِ للظَّالمِ، فالمَوؤدةُ تُسْألُ: بأيِّ ذنْبٍ قُتِلَتْ؟ توبيخًا لظالِمِها وقاتلِها ودافنِها ، ولإدْخالِ الرَّوعِ على مَن وَأَدَها، وليَكونَ جَوابُها شَهادةً على مَن وَأَدَها؛ فيَكونَ استِحقاقُه العِقابَ أشَدَّ وأَظهَرَ ، أو تَوجيهُ السُّؤالِ إليْها لتَسلِيتِها، وإظهارِ كَمالِ الغَيظِ والسَّخَطِ لوائِدِها، وإسقاطِه عن دَرجةِ الخِطابِ، والمُبالَغةِ في تَبكيتِه ؛ فيومَ القيامةِ تُسألُ الموءودةُ على أيِّ ذنْبٍ قُتِلَتْ؛ لِيَكونَ ذلك تهديدًا لقاتلِها، فإذا سُئل المظلومُ فما ظَنُّ الظَّالِمِ إذَن ؟!
7- في قَولِه تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ سؤالٌ عن وَجهِ الجَمعِ مع الآياتِ الَّتي تَنْفي السُّؤالَ يومَ القيامةِ، كقَولِه تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وقَولِه عزَّ وجلَّ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] ؟
الجوابُ: أنَّ سُؤالَ المَوْؤودةِ لا يُعارِضُ الآياتِ النَّافيةَ السُّؤالَ عن الذَّنْبِ؛ لأنَّها سُئِلَت عن أيِّ ذَنبٍ قُتِلَت، وهذا ليس من ذَنْبِها، والمرادُ بسُؤالِها توبيخُ قاتِلِها وتقريعُه؛ لأنَّها هي تقولُ: لا ذَنْبَ لي! فيَرجِعُ اللَّومُ على مَن قَتَلَها ظُلْمًا .
8- إسقاطُ الحَمْلِ حَرامٌ، قال بعضُ العُلماءِ: وهو مِن الوَأْدِ الَّذي قال اللهُ تعالى فيه: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ .
9- في قَولِه تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ دَليلٌ على أنَّه لا يجوزُ قَتْلُ النَّفْسِ إلَّا بذَنْبٍ منها، فلا يجوزُ قَتْلُ الصَّبيِّ والمجنونِ؛ لأنَّ القَلَمَ مرفوعٌ عنهما، فلا ذَنْبَ لهما، وهذه العِلَّةُ لا يَنبغي أنْ يُشَكَّ فيها في النَّهيِ عن قَتلِ صِبيانِ أهلِ الحَرْبِ، وأمَّا العِلَّةُ المشترَكةُ بيْنَهم وبيْن النِّساءِ فكَونُهم ليسوا مِن أهلِ القِتالِ -على الصَّحيحِ الَّذي هو قولُ الجُمهورِ-، أو كونُهم يَصيرون للمُسلِمينَ، فأمَّا التَّعليلُ بهذا وَحْدَه في الصَّبيِّ فلا، والآيةُ تَقتضي ذَمَّ قَتْلِ كلِّ مَن لا ذَنْبَ له مِن صغيرٍ وكبيرٍ .
10- قال تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، والمعنى: حُصولُ اليَقينِ بما لم يَكُنْ لها به عِلمٌ مِن حَقائقِ الأعْمالِ الَّتي كان عِلمُها بها أشتاتًا؛ بَعضُه مَعلومٌ على غَيرِ وَجْهِه، وبَعضُه مَعلومٌ صُورتُه مَجهولةٌ عَواقِبُه، وبَعضُه مَغفولٌ عنه؛ فنُزِّلَ العِلمُ الَّذي كان حاصِلًا للنَّاسِ في الحَياةِ الدُّنيا مَنزِلةَ عَدَمِ العِلمِ، وأُثبِتَ العِلمُ لهم في ذلك اليَومِ؛ عِلمُ أعْمالِهم مِن خَيرٍ أو شرٍّ، فيَعلَمُ ما لم يَكُنْ له به عِلمٌ ممَّا يَحْقِرُه مِن أعمالِه، ويَتذكَّرُ ما كان قد عَلِمَه مِن قبْلُ، وتَذَكُّرُ المَنسيِّ والمَغفولِ عنه نَوعٌ مِن العِلمِ .
11- في قَولِه تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ سُؤالٌ: أنَّ كُلَّ نفْسٍ تَعلَمُ ما أحضَرَت؛ لِقَولِه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران: 30] ، فما معنى قَولِه: عَلِمَتْ نَفْسٌ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا هو مِن عَكسِ كَلامِهم الَّذي يَقصِدونَ به الإفراطَ -وإن كان اللَّفظُ مَوضوعًا للقَليلِ-، ومنه قَولُه تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر: 2] ، وكمَن يَسألُ فاضِلًا مسألةً ظاهِرةً، ويقولُ: هل عندَك فيها شَيءٌ؟ فيقولُ: «رُبَّما حَضَر شَيءٌ»، وغَرَضُه الإشارةُ إلى أنَّ عِندَه في تلك المسألةِ ما لا يقولُ به غيرُه؛ فكذا هاهنا.
الوَجهُ الثَّاني: لعَلَّ الكُفَّارَ كانوا يُتعِبونَ أنفُسَهم في الأشياءِ الَّتي يَعتَقِدونَها طاعاتٍ، ثمَّ بدا لهم يومَ القيامةِ خِلافُ ذلك، فهو المرادُ مِن هذه الآيةِ . والتَّنوينُ في نَفْسٌ إذَنْ للنَّوعِ، أي: عَلِمَت نفْسٌ كافِرةٌ أنَّ ما حَسِبَته طاعةً كان وَبالًا عليها .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ الافتِتاحُ بحَرفِ (إِذَا) افتِتاحٌ مُشوِّقٌ؛ لأنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ يَستَدعي مُتعلَّقًا، ولأنَّه أيضًا شَرطٌ يُؤذِنُ بذِكرِ جَوابٍ بعْدَه، فإذا سَمِعَه السَّامعُ تَرقَّبَ ما سيأتي بعدَه، فعندَما يَسمَعُه يَتمكَّنُ مِن نَفْسِه كَمالَ تَمكُّنٍ، وخاصَّةً بالإطْنابِ بتَكريرِ كَلِمةِ (إِذَا)، وتَعدُّدِ الجُملِ الَّتي أُضيفَ إليها اثنَتَيْ عَشْرةَ مرَّةً، فإعادةُ كَلِمةِ (إِذَا) بعدَ (واو) العَطفِ في هذه الجُمَلِ المُتعاطِفةِ إطْنابٌ، وهذا الإطْنابُ اقْتَضاه قَصدُ التَّهويلِ، والتَّهويلُ مِن مُقْتضَياتِ الإطْنابِ والتَّكريرِ .
- وفي إعادةِ (إِذَا) إشارةٌ إلى أنَّ مَضمونَ كُلِّ جُملةٍ مِن هذه الجُمَلِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ مُستقِلٌّ بحُصولِ مَضمونِ جُملةِ الجَوابِ عندَ حُصولِه، بقَطْعِ النَّظرِ عن تَفاوُتِ زَمانِ حُصولِ الشُّروطِ؛ فإنَّ زَمنَ سُؤالِ المَوْءُودةِ، ونَشرِ الصُّحُفِ أقْرَبُ لعِلمِ النُّفوسِ بما أَحضرَتْ، أقْرَبُ مِن زَمانِ تَكويرِ الشَّمسِ وما عُطِفَ عليه ممَّا يَحصُلُ قبْلَ البَعثِ .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليْه في الجُمَلِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ المُفتتَحاتِ بكَلِمةِ (إِذَا) مِن قولِه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قولِه: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، والإخبارُ عنه بالمُسنَدِ الفِعليِّ، مع إمكانِ أنْ يُقالَ: إذا كُوِّرَتِ الشَّمسُ، وإذا انكَدرَتِ النُّجومُ... وهكذا؛ لإفادةِ الاهتِمامِ بتلك الأخبارِ المَجْعولةِ عَلاماتٍ ليَومِ البَعثِ؛ تَوسُّلًا بالاهتِمامِ بأشْراطِه إلى الاهتِمامِ به وتَحقيقِ وُقوعِه؛ لأنَّ الابْتداءَ بها أَدخَلُ في التَّهويلِ والتَّشويقِ، وليُفيدَ ذلك التَّقديمُ على المُسنَدِ الفِعليِّ تَقَوِّيَ الحُكمِ وتأكيدَه في جَميعِ تلك الجُملِ؛ رَدًّا على إنْكارِ مُنكِرِيه؛ فلذلك قيلَ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، ولم يُقَلْ: إذا كُوِّرَتِ الشَّمسُ، وهكذا نَظائِرُه .
- وصِيغةُ الماضي في الجُملِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ الوارِدةِ شُروطًا لأداةِ الشَّرطِ (إذا) مُستَعمَلةٌ في مَعنى الاستِقبالِ؛ تَنبيهًا على تَحقُّقِ وُقوعِ الشَّرطِ .
- وفي قولِه: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قالَ هُنا: سُجِّرَتْ -أي: أُوقِدَتْ فَصارَتْ نارًا، أو مُلِئَتْ بتَفجيرِ بَعضِها إلى بَعضٍ حتَّى تَعودَ بَحرًا واحِدًا، مِن: (سَجَرَ التَّنُّورَ): إذا مَلأَه بالحَطَبِ ليُحمِيَه، وقالَ في (الانفِطارِ): وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [الانفطار: 3]: أي: سالَتْ مِياهُها على الأرضِ، فَصارَتْ بَحرًا واحِدًا، واختَلطَ العَذبُ بالمِلحِ-؛ مُوافَقةً في الأوَّلِ لقولِه بعدَه: سُعِّرَتْ؛ ليَقَعَ الوَعيدُ بتَسجيرِ البِحارِ، وتَسعيرِ النَّارِ. وفي الثَّاني لقولِه: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار: 2]، أي: تَساقَطَتْ على الأرضِ ، فهذه الآيةُ مُناسِبةٌ لبقيَّةِ الآياتِ؛ لأنَّ معناه: تغييرُ أوصافِ تلك الأشياءِ عن حالاتِها، وتنقلِها عن أماكِنِها، فناسَبَ ذلك انفجارُ البحارِ؛ لتغيُّرِها عن حالِها مع بقائها .
2- قولُه تعالَى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بمُناسَبةِ ذِكرِ تَزويجِ النُّفوسِ بالأجسادِ - على قولٍ في معنى التَّزويجِ- خُصَّ سُؤالُ المَوءُودةِ بالذِّكرِ دونَ غَيرِه ممَّا يُسألُ عنه المُجرِمون يَومَ الحِسابِ؛ ذلك لأنَّ إعادةَ الأرواحِ إلى الأجسادِ كان بعْدَ مُفارَقَتِها بالمَوتِ، والمَوتُ إمَّا بِعارِضٍ جَسَديٍّ مِن انحِلالٍ أو مَرَضٍ، وإمَّا باعتِداءٍ عُدوانيٍّ مِن قَتلٍ أو قِتالٍ، وكان مِن أفظَعِ الاعتِداءِ على إزهاقِ الأرواحِ مِن أجسادِها اعتِداءُ الآباءِ على نُفوسِ أطفالِهم بالوَأْدِ؛ فإنَّ اللهَ جَعَلَ في الفِطرةِ حِرصَ الآباءِ على استِحياءِ -أي: طلَب حَياةِ- أبنائِهم، وجَعَلَ الأبَوَينِ سَببَ إيجادِ الأبناءِ؛ فالوَأْدُ أفظَعُ أعْمالِ أهلِ الشِّركِ. وسُؤالُ المَوْءودةِ سُؤالٌ تَعريضيٌّ مُرادٌ منه تَهديدُ وائِدِها ورُعْبُه بالعَذابِ .
- وأيضًا الاستِفهامُ في بِأَيِّ ذَنْبٍ تَقريريٌّ، وإنَّما سُئِلَتْ عن تَعيينِ الذَّنْبِ المُوجِبِ قَتْلَها، دُون أنْ تُسألَ عن قاتِلِها؛ لزِيادةِ التَّهديدِ؛ لأنَّ السُّؤالَ عن تَعيينِ الذَّنْبِ مَع تَحقُّقِ الوائِدِ الَّذي يَسمَعُ ذلك السُّؤالَ أنْ لا ذَنْبَ لها، إشعارٌ للوائِدِ بأنَّه غَيرُ مَعذورٍ فيما صَنَعَ بها .
- قولُه: قُتِلَتْ قُرِئَ بتَشديدِ التَّاءِ ؛ لأنَّ الموءودةَ اسمُ جِنسٍ، فناسَبَ التَّكثيرُ باعتبارِ الأشخاصِ ، أو تُفيدُ مَعنى: أنَّه قَتلٌ شَديدٌ فَظيعٌ .
3- قولُه تعالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
- قولُه: نُشِرَتْ قُرِئ بالتَّشديدِ ؛ للمُبالَغةِ في النَّشرِ، أو لكَثرةِ الصُّحُفِ المنْشورةِ، أو شِدَّةِ التَّطايُرِ .
- قولُه: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، أي: هذا الجِنسُ كلُّه؛ أفْردَه لأنَّه يُعلَمُ بالقُدرةِ على بعضِه القُدرةُ على الباقِي .
وكُشِطَتْ، أي: قُلعتْ بقُوَّةٍ عظيمةٍ وسُرعةٍ زائدةٍ، وأُزيلتْ عن مَكانِها الَّتي هي ساترةٌ له محيطةٌ به، أو عن الهواءِ المحيطِ بسَطْحِها الَّذي هو كالرُّوحِ لها، كما يُكشَطُ الإهابُ عمَّا هو ساترٌ له ومحيطٌ به مع شِدَّةِ الالتزاقِ به؛ لأنَّ ذلك يومُ الكشفِ والإظهارِ. والكشطُ: إزالةُ الإهابِ عن الحيوانِ الميِّتِ، وهو أعمُّ مِن السَّلخِ، والظَّاهرُ أنَّ السَّماءَ تَبقَى مُنشقَّةً مُنفطِرةً تَعرُجُ الملائكةُ بيْنَهما وبيْنَ أرضِ المحشرِ حتَّى يتِمَّ الحسابُ، فإذا قُضِيَ الحسابُ أُزيلتِ السَّماءُ مِن مكانِها؛ فالسَّماءُ مَكشوطةٌ، والمكشوطُ عنه هو عالَمُ الخُلودِ، ويكون كُشِطَتْ مُعبَّرًا بها عن الإزالةِ .
- قولُه: سُعِّرَتْ بتَشْديدِ العَينِ مُبالَغةً في الإسعارِ، أي: أُوقِدَت إيقادًا شديدًا .
- قولُه: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، أي: قُرِّبتْ مِن المؤمِنينَ، ونُعِّمتْ ببَردِ العَيشِ وطِيبِ المستقَرِّ، والآيةُ مِن الاحتباكِ : ذِكْرُ التَّسعيرِ أوَّلًا دالٌّ على ضِدِّه في الجَنَّةِ ثانيًا، وذِكرُ التَّقريبِ ثانيًا دالٌّ على مِثلِه أولًا .
4- قولُه تعالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ هو جَوابُ (إِذَا)، على أنَّ المرادَ بها: زَمانٌ واحِدٌ مُمتَدٌّ يَسَعُ الأمورَ المذكورةَ، لكنْ لا بمَعنى أنَّها تَعلَمُ ما تَعلَمُ في كُلِّ جُزءٍ مِن أجزاءِ ذلك الوَقتِ المَديدِ، أو عِندَ وُقوعِ داهِيةٍ مِن تلك الدَّواهي، بل عندَ نَشْرِ الصُّحُفِ، إلَّا أنَّه لَمَّا كان بَعضُ تلك الدَّواهي مِن مَباديهِ وبعضُها مِن رَوادفِه نُسِبَ عِلمُها بذلك إلى زَمانِ وَقْعِ كُلِّها؛ تَهويلًا للخَطْبِ، وتَفظيعًا للحالِ . وجُعِلَتْ مَعرفةُ النُّفوسِ لجَزاءِ أعْمالِها حاصِلةً عندَ حُصولِ مَجموعِ الشُّروطِ الَّتي ذُكِرَتْ في الجُمَلِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ؛ لأنَّ بعضَ الأحوالِ الَّتي تَضمَّنَتْها الشُّروطُ مُقارِنٌ لِحُصولِ عِلمِ النُّفوسِ بأعمالِها، وهي الأحوالُ السِّتَّةُ المَذكورةُ أخيرًا، وبَعضُ الأحوالِ حاصلٌ مِن قبْلُ بقَليلٍ، وهي الأحوالُ السِّتَّةُ المَذكورةُ أوَّلًا؛ فنُزِّلَ القَريبُ مَنزلةَ المُقارِنِ؛ فلِذلك جُعِلَ الجَميعُ شُروطًا لأداةِ الشَّرطِ (إِذَا) .
- قولُه: نَفْسٌ نَكِرةٌ في سِياقِ الشَّرطِ، مُرادٌ بها العُمومُ، أي: عَلِمَتْ كُلُّ نفْسٍ ما أحضَرَتْ .
- وأيضًا تَنكيرُ النَّفْسِ المفيدُ لثُبوتِ العِلمِ المذكورِ لفَرْدٍ مِن النُّفوسِ أو لبَعضٍ منها؛ للإيذانِ بأنَّ ثُبوتَه لجَميعِ أفرادِها قاطبةً مِن الظُّهورِ والوُضوحِ بحيثُ لا يَكادُ يَحومُ حوْلَه شائبةُ اشْتِباهٍ قطعًا، يَعرِفُه كلُّ أحدٍ ولو جِيءَ بعِبارةٍ تدُلُّ على خِلافِه، وللرَّمزِ إلى أنَّ تلكَ النُّفوسَ العالِمةَ بما ذُكِرَ -مع تَوفُّرِ أفرادِها، وتَكثُّرِ أعدادِها- ممَّا يُستقَلُّ بالنِّسبةِ إلى جَنابِ الكِبرياءِ الَّذي أُشيرَ إلى بَعضِ بَدائعِ شُؤونِه المنْبِئةِ عن عِظَمِ سُلطانِه. ويَجوزُ أنْ يَكونَ ذلك للإشعارِ بأنَّه إذا عَلِمَتْ حِينَئذٍ نفْسٌ مِن النُّفوسِ ما أحضَرَتْ، وَجَبَ على كُلِّ نفْسٍ إصلاحُ عَمَلِها؛ مَخافةَ أنْ تَكونَ هي تلك الَّتي عَلِمَتْ ما أحضَرَتْ؛ فكيفَ وكُلُّ نفْسٍ تَعلَمُه؟! على طَريقةِ قولِك -لِمَن تَنصَحُه-: لعلَّكَ ستَندَمُ على ما فعَلْتَ، ورُبَّما نَدِمَ الإنسانُ على ما فَعَل! فإنَّك لا تَقصِدُ بذلك أنَّ نَدَمَه مَرجُوُّ الوُجودِ لا مُتَيَقَّنٌ به، أو نادِرُ الوُقوعِ، بل تُريدُ أنَّ العاقِلَ يَجِبُ عليه أنْ يَجتَنِبَ أمرًا يُرجَى فيه النَّدَمُ، أو قَلَّ ما يَقَعُ فيه، فكيفَ به إذا كان قَطْعيَّ الوُجودِ كَثيرَ الوُقوعِ ؟!
- قولُه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، أُسنِدَ الإحضارُ إلى النُّفوسِ؛ لأنَّها الفاعِلةُ للأعْمالِ الَّتي يَظهَرُ جَزاؤُها يَومَئذٍ، فهذا الإسنادُ مِن إسنادِ فِعلِ الشَّيءِ إلى سَببِ فِعلِه .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ خَتَمَ الآيةَ هنا بقولِه: مَا أَحْضَرَتْ، وختَمَها في الانفِطارِ بقَولِه: مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5]؛ قيل: وجْهُ ذلِك: أنَّ ما في هذه السُّورةِ مُتَّصلٌ بقولِه: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، فقَرَأَها أرْبابُها فعَلِموا ما أحْضَرَت، وفي الانفطارِ مُتَّصلٌ بقولِه: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، والقُبورُ كانت في الدُّنيا، فيَذكُرون ما قدَّموا في الدُّنيا وما أخَّروا في العُقبى؛ فكلُّ خاتمةٍ لائقةٌ بمَكانِها، وهذه السُّورةُ مِن أوَّلِها شَرطٌ وجَزاءٌ، وقسَمٌ وجَوابٌ .
وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه رِعايةٌ للمُناسَبةِ؛ إذ شُروطُ الجَوابِ هنا طالَتْ بكَثرتِها، فحَسُنَ اختِصارُه ليُوقَفَ عليه، وشُروطُه ثَمَّ قَصُرَتْ بقِلَّتِها، فحَسُنَ بَسْطُه لتَيَسُّرِ الوَقفِ عليه حِينَئذٍ ، وقيل غيرُ ذلك .