موسوعة التفسير

سُورةُ التَّكويرِ
الآيات (1-14)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات:

كُوِّرَتْ: أي: لُفَّت كما تُلَفُّ العِمامةُ، فذَهَب ضَوؤُها، والتَّكويرُ: تلفيفٌ على جِهةِ الاستِدارةِ، كتَكويرِ العِمامةِ، وأصلُ (كور): يدُلُّ على دَورٍ وتجَمُّعٍ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 396)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/146)، ((البسيط)) للواحدي (23/245)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 440)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 451). .
انْكَدَرَتْ: أي: تناثَرَتْ مِنَ السَّماءِ، وسَقَطَت على الأرضِ، وأصلُ (كدر) هنا: يدُلُّ على حَرَكةٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/164)، ((المفردات)) للراغب (ص: 704). .
الْعِشَارُ عُطِّلَتْ: أي: النُّوقُ الحوامِلُ الَّتي قد أتَى عليها عَشَرةُ أشهُرٍ مِن حَمْلِها: سُيِّبَت وأُهمِلَت وتُرِكَت بلا راعٍ، وأصلُ (عطل): يدُلُّ على خُلُوٍّ وفَراغٍ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 516)، ((تفسير ابن جرير)) (24/134)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 347)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/351)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 440)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 451). .
سُجِّرَتْ: أي: أُوقِدَت فصارت نارًا تَضطَرِمُ. وقيل: مُلِئتْ ونفَذ بعضُها إلى بعضٍ، فصارَتْ بحرًا واحِدًا مملوءًا. وأصلُ (سجر) على القولِ الأوَّلِ: الإيقادُ، وعلى القولِ الثَّاني: المَلْءُ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 516)، ((تفسير ابن جرير)) (21/568)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 278)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/134)، ((البسيط)) للواحدي (23/254). .
الْمَوْءُودَةُ: هي الجاريةُ المدفونةُ حَيَّةً، سُمِّيَت بذلك لِما يُطرَحُ عليها مِن التُّرابِ فيَؤُودُها، أي: يُثقِلُها حتَّى تموتَ، وكان بعضُ العَرَبِ يَدفِنُ البناتِ حَيَّةً؛ مَخافةَ العارِ والحاجةِ! وأصلُ (وأد): يدُلُّ على إثقالِ شَيءٍ بشَيءٍ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 516)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/78)، ((تفسير البغوي)) (5/216)، ((تفسير القرطبي)) (19/232)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 452). .
كُشِطَتْ: أي: نُزِعَت وطُوِيَت وقُلِعَت، والكَشْطُ: قَلْعٌ عن شِدَّةِ التِزاقٍ، وأصلُ (كشط): يدُلُّ على تَنحيةِ شَيءٍ وكَشْفِه [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 396)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/184)، ((البسيط)) للواحدي (23/262)، ((المفردات)) للراغب (ص: 712)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 440). .
سُعِّرَتْ: أي: أُوقِدَت، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ شَيءٍ واتِّقادِه [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 278)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 411)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 452)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 776). .
أُزْلِفَتْ: أي: قُرِّبَت، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على تقَدُّمٍ في قُربٍ إلى شَيءٍ [13] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 318، 419)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 269، 367)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 319). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ واصِفًا أحوالَ القيامةِ وأهوالَها، فقال تعالى: إذا لُفَّت الشَّمسُ وجُمِعَت، وطُوِيَ بَعْضُها على بَعضٍ؛ فذَهَب ضَوؤُها، وإذا النُّجومُ تساقَطَت وتناثَرَت، وإذا الجِبالُ قُلِعَت مِن أماكِنِها وسُيِّرَت عن وَجْهِ الأرضِ، وإذا النُّوقُ الحوامِلُ -وهي أنفَسُ أموالِ العَرَبِ- تُرِكَت مُهمَلةً بلا راعٍ؛ لِما دهاهم مِن الأمرِ العَظيمِ، وإذا الوُحوشُ مِن الحيواناتِ جُمِعَت يومَ القيامةِ؛ لِيَقتَصَّ اللهُ تعالى مِن بَعْضِها لبَعضٍ، وإذا البِحارُ أُوقِدَت فصارت نارًا تَضْطَرِمُ، وإذا قُرِنَ كُلُّ واحِدٍ بمَن هو مِثْلُه في الخَيرِ والشَّرِّ، وإذا البِنتُ الَّتي دُفِنَت في التُّرابِ حَيَّةً قد سُئِلَت عن الذَّنْبِ الَّذي استحَقَّتْ به القَتْلَ، وإذا صُحُفُ أعمالِ النَّاسِ عُرِضَت ونُشِرَت للحِسابِ، وإذا السَّماءُ نُزِعَت مِن مَكانِها وقُلِعَت، وإذا أُوقِدَت النَّارُ لأعداءِ اللهِ إيقادًا شديدًا، وقُرِّبَت الجنَّةُ وأُدْنِيَت لأهلِها المتَّقينَ المؤمِنينَ لِيَدخُلوها؛ إذا وَقَعَت تلك الأُمورُ المَهُولةُ المُفزِعةُ عَلِمَت وتيَقَّنَت كُلُّ نَفْسٍ ما أحضَرَتْه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ كان منها في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1).
أي: إذا لُفَّت الشَّمسُ وجُمِعَت، وطُوِيَ بَعْضُها على بَعضٍ؛ فذَهَب ضَوؤُها [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/131)، ((الوسيط)) للواحدي (4/428)، ((تفسير ابن كثير)) (8/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 69). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الشَّمسُ والقَمَرُ مُكَوَّرانِ [15] مُكَوَّرانِ: أي: مَطويَّانِ، ذاهِبا الضَّوءِ. وقيل: يُلَفَّانِ ويُجْمَعانِ، ويُلْقَيانِ في النَّارِ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/208)، ((عمدة القاري)) للعيني (15/120). قال القَسْطَلَّاني: (لأنَّهما عُبِدا مِن دونِ الله، وليسَ المرادُ مِن تكويرِهما فيها تعذيبَهما بذلك، لكنَّه زيادةُ تَبكيتٍ لِمَن كان يَعبُدُهما في الدُّنيا؛ لِيَعْلَموا أنَّ عبادتَهم لهما كانتْ باطِلةً). ((إرشاد الساري)) (5/259). يومَ القيامةِ)) [16] رواه البخاري (3200). .
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان التَّأثيرُ في الأعظَمِ دالًّا على التَّأثيرِ فيما دُونَه بطَريقِ الأَوْلى؛ أتْبَعَ ذلك قَوْلَه مُعَمِّمًا بعدَ التَّخصيصِ [17] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/276). :
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2).
أي: وإذا النُّجومُ تهاوَتْ وتَساقَطَت مِن مَواضِعِها وتناثَرَت [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/132)، ((تفسير القرطبي)) (19/227)، ((تفسير ابن جزي)) (2/455)، ((تفسير ابن كثير)) (8/329)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/276)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 70). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: تناثَرَتْ وتساقطَتْ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والثعلبي، ومكِّي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن عطية، وابن الجوزي، والرازي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والنسفي، وابن جُزَي، والخازن، والعُلَيمي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/601)، ((تفسير ابن جرير)) (24/132)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/289)، ((تفسير السمرقندي)) (3/550)، ((تفسير الثعلبي)) (10/137)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8074)، ((الوسيط)) للواحدي (4/ 428)، ((تفسير السمعاني)) (6/164)، ((تفسير البغوي)) (5/215)، ((تفسير ابن عطية)) (5/441)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/406)، ((تفسير الرازي)) (31/63)، ((تفسير الرسعني)) (8/502)، ((تفسير القرطبي)) (19/227)، ((تفسير النسفي)) (3/605)، ((تفسير ابن جزي)) (2/455)، ((تفسير الخازن)) (4/397)، ((تفسير العليمي)) (7/293)، ((تفسير الشوكاني)) (5/469)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 70). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، ومُجاهِدٌ، والرَّبيعُ بنُ خُثَيْمٍ، والحسَنُ البصريُّ، وأبو صالحٍ، وحمَّادُ بنُ أبي سُلَيْمانَ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8075)، ((تفسير القرطبي)) (19/228)، ((تفسير ابن كثير)) (8/330). قال القرطبي: (وعن ابنِ عبَّاسٍ أيضًا: انْكَدَرَتْ: تغيَّرَتْ، فلم يَبْقَ لها ضَوءٌ؛ لِزَوالِها عن أماكِنِها. والمعنى مُتقارِبٌ). ((تفسير القرطبي)) (19/228). ويُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8075). وجمع السعديُّ بيْن المعنيَيْنِ السَّابقَينِ، فقال: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي: تغيَّرَتْ، وتساقطَتْ مِن أفلاكِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 912). .
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بدأ بأعلامِ السَّماءِ لأنَّها أشهَرُ وأعَمُّ تَخويفًا وإرهابًا، وذكَرَ منها اثنَينِ هما أشهَرُ ما فيها وأعَمُّها نَفْعًا؛ أتْبَعَها أعلامَ الأرضِ، فقال مُكَرِّرًا للظَّرفِ؛ لِمَزيدِ الاعتناءِ بالتَّهويلِ [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/276). :
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3).
أي: وإذا الجِبالُ سُيِّرَت عن وَجْهِ الأرضِ بَعْدَ قَلْعِها مِن أماكِنِها [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/133)، ((الوسيط)) للواحدي (4/428)، ((تفسير القرطبي)) (19/228)، ((تفسير ابن كثير)) (8/330)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 70). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] .
وقال سُبحانَه: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] .
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر أعلامَ الجَمادِ؛ أتْبَعَه أعلامَ الحَيوانِ النَّافِعِ الَّذي هو أعَزُّ أموالِ العَرَبِ وأغلَبُها- على وَجهٍ دَلَّ على عِظَمِ الهَولِ؛ فقال [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/277). :
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4).
أي: وإذا النُّوقُ الحوامِلُ الَّتي قد مَرَّ على حَمْلِها عَشَرةُ أشهُرٍ قد تَرَكها أصحابُها، وانشغَلوا عنها مع شِدَّةِ نَفاستِها لَدَيهم؛ من شِدَّةِ أهوالِ ذلك اليَومِ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/134)، ((الوسيط)) للواحدي (4/428)، ((تفسير القرطبي)) (19/228)، ((تفسير ابن كثير)) (8/330، 331)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 70). قال البِقاعي: (وهي أحَبُّ أموالِ العَرَبِ إليهم، وأنفَسُها عِندَهم؛ لأنَّها تَجمَعُ اللَّحْمَ والظَّهْرَ، واللَّبَنَ والوَبَرَ... ولا يزالُ ذلك اسمَها حتَّى تَضَع لتَمامِ السَّنَةِ). ((نظم الدرر)) (21/277). .
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5).
أي: وإذا الحَيواناتُ البَرِّيَّةُ الَّتي لا تَأنَسُ بأحَدٍ قد بعَثَها اللهُ فجُمِعَت يومَ القيامةِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/137)، ((الوسيط)) للواحدي (4/428)، ((تفسير السمعاني)) (6/165)، ((تفسير القرطبي)) (19/229)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/183)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 70). قال السعدي: (جُمِعَت ليومِ القيامةِ؛ لِيَقتَصَّ اللهُ مِن بَعْضِها لبَعضٍ، ويرى العبادُ كَمالَ عَدْلِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 912). .
كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَتُؤَدَّنَّ الحُقوقُ [24] لَتُؤَدَّنَّ: بفتحِ الدَّالِّ المُشَدَّدةِ، وفي بعضِ النُّسخ بضَمِّها؛ فقولُه: (الحُقوقُ): بالرَّفع على الأوَّلِ، وبالنَّصبِ على الثَّاني. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (8/3202). إلى أهلِها يومَ القيامةِ، حتَّى يُقادَ للشَّاةِ الجَلْحاءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ [25] الجَلْحاء هي التي لا قرنَ لها. والقَرْناء: هي الَّتي لها قَرْنٌ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/137)، ((شرح المصابيح)) لابن المَلَك (5/361). ) [26] رواه مسلم (2582). .
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6).
أي: وإذا البِحارُ صارَتْ بحرًا واحدًا، ومُلِئَت، وأُوقِدَت نارًا [27] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1177)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 269، 270)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 70). وممَّن قال بأنَّ المعنى: أُوقِدَتْ: الواحديُّ، وذهب ابنُ القَيِّم إلى أنَّه أقوى الأقوالِ، واختاره السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1177)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 269، 270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 70). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وابنُ زَيدٍ، ومُجاهِدٌ، والحسَنُ بنُ مسلمٍ، وشِمْرُ بنُ عطيَّةَ، وسُفْيانُ، ووَهْبٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/137)، ((تفسير الثعلبي)) (10/137)، ((تفسير ابن كثير)) (8/332). وقيل: معنى: سُجِّرَتْ امتلَأت بالماءِ حتَّى فاضَت به. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/140)، ((تفسير القرطبي)) (19/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/143). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الرَّبيعُ بنُ خُثَيْمٍ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 139)، ((تفسير ابن كثير)) (8/332). قال ابنُ عاشور: (المرادُ: تَجاوُزُ مِياهِها مُعَدَّلَ سُطوحِها، واختلاطُ بَعضِها ببَعضٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/143). ومنهم مَن جمَع بيْنَ تلك المعاني، كالبِقاعي، فقال: (فُجِّرَ بَعْضُها إلى بعضٍ حتَّى صارت بحرًا واحدًا، ومُلِئَت حتَّى كان ما فيها أكثَرَ منها، وأُحمِيَت حتَّى كان كالتَّنُّورِ التِهابًا وتَسَعُّرًا). ((نظم الدرر)) (21/278). ويُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/166)، ((تفسير القرطبي)) (19/230)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 269، 270). .
كما قال تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: 6].
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7).
أي: وإذا النَّاسُ قد قُرِنَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بمَن هو مِثْلُه في الخَيرِ والشَّرِّ [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/145)، ((تفسير ابن عطية)) (5/442)، ((تفسير القرطبي)) (19/230)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/63)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 427)، ((تفسير ابن كثير)) (8/332، 333)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 71). قال ابنُ جُزَي: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّ التَّزويجَ بمعنى التَّنويعِ؛ لأنَّ الأزواجَ هي الأنواعُ، فالمعنى: جَعْلُ الكافِرِ مع الكافِرِ، والمؤمنِ مع المؤمنِ. والثَّاني: زُوِّجَت نُفوسُ المؤمِنينَ بزَوجاتِهم مِنَ الحُورِ العِينِ. والثَّالثُ: زُوِّجَت الأرواحُ والأجسادُ، أي: رُدَّت إليها عندَ البعثِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/ 455). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والزمخشري، وابن عطية، والرَّسْعَني، وابنُ جُزَي، وابن القيِّم -ونسَبَه للأكثَرينَ-، وابنُ كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، والألوسي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/145)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/290)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1177)، ((تفسير الزمخشري)) (4/707)، ((تفسير ابن عطية)) (5/442)، ((تفسير الرسعني)) (8/505)، ((تفسير ابن جزي)) (2/455، 456)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 231)، ((تفسير ابن كثير)) (8/332)، ((تفسير العليمي)) (7/295)، ((تفسير الشوكاني)) (5/470)، ((تفسير الألوسي)) (15/256)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 71). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والرَّبيعُ بنُ خُثَيْمٍ، والحسَنُ في روايةٍ عنه، ومُجاهِدٌ، وقَتادةُ، وعِكْرِمةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/141)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/406)، ((تفسير ابن كثير)) (8/332). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وأنَّ المعنى: زُوِّجَتْ أنفُسُ المؤمِنينَ مع الحُورِ العِينِ، وزُوِّجَت أنفُسُ الكافِرينَ مع الشَّياطينِ، يعني: يُقرَنُ ابنُ آدَمَ وشيطانه في السِّلسلةِ الواحدةِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/601). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعَطاءٌ، والكلبيُّ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/255(، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/406). قال ابن القيِّم: (وهو راجعٌ إلى القولِ الأوَّلِ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 231). وممَّن اختار القولَ الثَّالثَ وأنَّ المعنى: قُرِنَتْ بأجسادِها: جلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والشربيني. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 793)، ((تفسير الشربيني)) (4/491). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو العاليةِ، وعِكْرِمةُ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والشَّعبيُّ، والحسَنُ البصريُّ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/144)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/406)، ((تفسير ابن كثير)) (8/332). وجمَع السعديُّ بيْن القولِ الأوَّلِ والثَّاني، فقال: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي: قُرِنَ كُلُّ صاحِبِ عَمَلٍ مع نَظيرِه، فجُمِعَ الأبرارُ مع الأبرارِ، والفُجَّارُ مع الفُجَّارِ، وزُوِّج المؤمنونَ بالحُورِ العِينِ، والكافِرونَ بالشَّياطينِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 912). وممَّن جمَع أيضًا بيْن المعاني السَّابقةِ: البِقاعي، فقال: (زُوِّجَتْ أي: قُرِنَتْ بأبدانِها، وجُمِع كلٌّ مِن الخَلقِ إلى ما كانت نفْسُه تألَفُه وتَنزِعُ إليه، فكانوا أصنافًا، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ [الصافات: 22، 23]). ((نظم الدرر)) (21/279). وقال ابن عاشور بعدَ أن جوَّز المعنى الأوَّلَ والثَّالثَ: (ولعلَّ قَصْدَ إفادةِ هذا التَّركيبِ لهذيْنِ المعنيَيْنِ هو مُقتضَى العُدولِ عن ذِكْرِ ما زُوِّجَتِ النُّفوسُ به. وأوَّلُ منازِلِ البعثِ اقْتِرانُ الأرواحِ بأجْسادِها، ثُمَّ تقسيمُ النَّاسِ إلى مَراتِبِهم للحشرِ). ((تفسير بن عاشور)) (30/144). .
كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22-23].
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9).
أي: وإذا البِنتُ الَّتي دُفِنَت في التُّرابِ حَيَّةً قد سُئِلَت عن الذَّنْبِ الَّذي استحَقَّتْ به القَتْلَ [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/146، 147)، ((تفسير القرطبي)) (19/232-234)، ((تفسير ابن كثير)) (8/333)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/279، 280)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 71). !
كما قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58-59] .
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10).
أي: وإذا صُحُفُ أعمالِ النَّاسِ الَّتي طُوِيَت بعدَ مَوتِهم قد فُتِحَت لهم، فيَطَّلِعُ كُلُّ أحَدٍ فيها على عَمَلِه [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/148)، ((الوسيط)) للواحدي (4/430)، ((تفسير القرطبي)) (19/234)، ((تفسير ابن كثير)) (8/335)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/149). .
كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13-14] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة: 25] .
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11).
أي: وإذا السَّماءُ نُزِعَت مِن مَكانِها، وجُذِبتْ، وقُلِعَت بقُوَّةٍ وسُرعةٍ، وأُزِيلَتْ [31] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/149)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/291)، ((الوسيط)) للواحدي (4/430)، ((تفسير ابن كثير)) (8/335)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 73). .
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12).
أي: وإذا النَّارُ الشَّديدةُ التَّأجُّجِ قد أُحمِيَت لأهْلِها، واشتَدَّ توَقُّدُها ولَهيبُها [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/150)، ((الوسيط)) للواحدي (4/430)، ((تفسير القرطبي)) (19/235)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/150)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 73). .
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر دارَ الأعداءِ البُعَداءِ تَرهيبًا؛ أتْبَعَه دارَ المقَرَّبينَ السُّعَداءِ تَرغيبًا، فقال [33] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/282). :
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13).
أي: وإذا الجَنَّةُ قد قُرِّبَت وأُدنِيَت لأهْلِها [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/150)، ((الوسيط)) للواحدي (4/430)، ((تفسير القرطبي)) (19/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/150). قال ابنُ عاشور: (جُعِلَت بقُربٍ مِن مَحْشَرِهم، بحيث لا تَعَبَ عليهم في الوُصولِ إليها؛ وذلك كرامةً لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (30/150). .
كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] .
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى هذه الأُمورَ الاثنَيْ عَشَرَ؛ ذَكَر الجزاءَ المرَتَّبَ على الشَّرطِ الَّذي هو مجموعُ هذه الأشياءِ، فقال [35] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/67). :
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14).
أي: إذا وَقَعَت تلك الأُمورُ المَهُولةُ المُفزِعةُ عَلِمَت وتيَقَّنَت حينَئِذٍ كُلُّ نَفْسٍ ما أحضَرَتْه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ عَمِلَتْه في الدُّنيا [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/151)، ((الوسيط)) للواحدي (4/430)، ((تفسير ابن عطية)) (5/443)، ((تفسير القرطبي)) (19/235)، ((تفسير ابن كثير)) (8/335)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 150، 151). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وقال سُبحانَه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5].
وقال عزَّ وجلَّ: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [يونس: 30] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى آخِرِ السِّياقِ إعلامٌ بخَرابِ عالَمِ المُلْكِ والشَّهادةِ؛ تزهيدًا في كُلِّ ما يَجُرُّ إليه، وحَثًّا على عدَمِ المبالاةِ، والابتعادِ مِن التَّعَلُّقِ بشَيءٍ مِن أسبابِه [37] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/275). .
2- قال اللهُ تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ... هذه الأوصافُ الَّتي وَصَف اللهُ بها يومَ القيامةِ مِنَ الأوصافِ الَّتي تنزَعِجُ لها القُلوبُ، وتشتَدُّ مِن أَجْلِها الكُروبُ، وترتَعِدُ الفرائِصُ، وتَعُمُّ المَخاوِفُ، وتَحُثُّ أُولي الألبابِ للاستِعدادِ لذلك اليومِ، وتَزجُرُهم عن كُلِّ ما يُوجِبُ اللَّومَ [38] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 912). .
3- في قَولِه تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ترغيبٌ في الأعمالِ الصَّالِحةِ والقُرَناءِ الصَّالِحينَ؛ لئلَّا يُزَوَّجَ بما يَسوءُه [39] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/279). !
4- قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يُؤخَذُ مِن سُؤالِ المَوْؤُودةِ تحريمُ الظُّلمِ لكُلِّ أحدٍ، وكَفُّ اليَدِ واللِّسانِ عن كُلِّ إنسانٍ [40] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/281). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ سُؤالٌ: كيف الجَمعُ بيْن هذه الآيةِ الكريمةِ والحَديثِ الَّذي فيه ((أنَّ الشَّمسَ تَدنو مِن الخلائقِ يومَ القيامةِ)) [41] يُنظر ما أخرجه البخاريُّ (3340)، ومسلمٌ (194) من حديث أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه. ؟
الجوابُ: أنَّه وَرَدَ في يومِ القيامةِ أشياءُ مُتغايرةٌ، ولكنَّ يومَ القيامةِ مِقْدارُه خمسونَ ألْفَ سَنَةٍ، فتتغيَّرُ فيها الأمورُ؛ تَدنو الشَّمسُ مِن الخلائقِ، وتُكَوَّرُ بعدَ ذلك، وكذلك أيضًا تُلْقَى في النَّارِ إهانةً لعابِدِيها، فيَومُ القيامةِ ليس يومًا أو شهرًا أو سَنَةً، وانظرْ إلى قَولِ اللهِ تبارك وتعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] ، وقولِه: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه: 102] ، واختلافٌ بيْن الزُّرْقةِ والسَّوادِ، كذلك أيضًا أخْبَر عن المشرِكينَ أنَّهم يقولونَ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وفي آيةٍ أخرى قال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ، فَهُم في الأوَّلِ قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] في الآيةِ الأُولى، وفي الثَّانيةِ قال: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] ؛ لأنَّ الحوادثَ تتغيَّرُ، فكلُّ ما أتاك مِن اختلافاتٍ في اليومِ الآخِرِ فإنَّما ذلك لطُولِ مُدَّتِه، وتَغَيُّرِ الأحوالِ فيه [42] يُنظر: ((دروس الحرم المدني)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 6). .
2- في قَولِه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ سُؤالٌ: أنَّه إذا أُنْشِرَ الموتى للبَعثِ والحِسابِ، وزُوِّجَتِ النُّفوسُ بقُرَنائِها بالثَّوابِ والعِقابِ؛ فلِمَ يحصُلُ هَدْمُ الأبنيةِ، وسَيْرُ الجبالِ، ودَكُّ الأرضِ، وفَطْرُ السَّماءِ، ونَثْرُ النُّجومِ، وتكويرُ الشَّمسِ؟!
الجوابُ: أنَّه إنَّما بُنِيَتْ لهم الدَّارُ للسُّكنى والتَّمَتُّعِ، وجَعَلَها سُبحانَه وجَعَلَ ما فيها للاعتِبارِ والتَّفَكُّرِ، والاستِدلالِ عليه بحُسْنِ التَّأمُّلِ والتَّذَكُّرِ، فلمَّا انقَضَتْ مدةُ السُّكنى، وأَجْلَاهم مِن الدَّارِ؛ خَرَّبَها لانتِقالِ السَّاكنِ منها، وفي إحالةِ الأحوالِ وإظهارِ تلك الأهوالِ بيانُ المقدرةِ بعدَ بيانِ العِزَّةِ، وتكذيبٌ لأهلِ الإلحادِ وزنادقةِ المنجِّمِينَ وعُبَّادِ الكواكِبِ والشَّمسِ والقَمَرِ والأوثانِ، فيَعْلَمُ الَّذين كفروا أنَّهم كانوا كاذِبينَ، فإذا رأَوا آلهتَهم قد انهَدَمتْ، وأنَّ معبوداتِهم قد انتَثَرتْ وانفَطَرتْ، ومَحَالَّها قد تشَقَّقتْ؛ ظهرتْ فضائِحُهم، وتَبَيَّنَ كَذِبُهم، وظَهَرَ أنَّ العالَمَ مَربوبٌ مُحْدَثٌ مُدَبَّرٌ، له ربٌّ يُصَرِّفُه كيف يشاءُ؛ تكذيبًا لملاحِدةِ الفلاسِفةِ القائِلينَ بالقِدَمِ، فكم للهِ تعالى مِن حِكمةٍ في هَدمِ هذه الدَّارِ! ودَلالةٍ على عِظَمِ عِزَّتِه وقُدرتِه وسُلطانِه، وانفرادِه بالرُّبوبيَّةِ، وانقيادِ المخلوقاتِ بأَسْرِها لقَهْرِه، وإذعانِها لمشيئَتِه. فتبارَكَ اللهُ ربُّ العالَمينَ [43] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/182)، والجواب نقله عن أبي الوفاء ابنِ عَقِيل. !
3- قال اللهُ تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ الغَرَضُ مِن ذِكرِ هذه القِصَّةِ هاهنا وُجوهٌ:
أحَدُها: أنَّه تعالى إذا كان يومُ القيامةِ يَحشُرُ كُلَّ الحيواناتِ؛ إظهارًا للعَدْلِ، فكيف يجوزُ مع هذا ألَّا يَحشُرَ المكَلَّفينَ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ؟!
الثَّاني: أنَّها تجتَمِعُ في مَوقِفِ القيامةِ مع شِدَّةِ نفْرتِها عن النَّاسِ في الدُّنيا، وتَبَدُّدِها في الصَّحاري؛ فدَلَّ هذا على أنَّ اجتِماعَها إلى النَّاس ليس إلَّا مِن هَولِ ذلك اليَومِ.
والثَّالثُ: أنَّ هذه الحيواناتِ بَعضُها غِذاءٌ للبَعضِ، ثمَّ إنَّها في ذلك اليومِ تَجتَمِعُ، ولا يتعَرَّضُ بَعضُها لبعضٍ، وما ذاك إلَّا لشِدَّةِ هَولِ ذلك اليَومِ [44] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/64). .
4- اللهُ سُبحانَه وتعالى يَحكُمُ في الأُمورِ المتماثِلةِ بأحكامٍ مُتماثِلةٍ؛ ولهذا قال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قَرَن النَّظيرَ بنَظيرِه، وقال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ [القمر: 43]، وقال: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات: 22] أي: أشباهَهم ونُظَراءَهم [45] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/23). .
5- في قَولِه تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أنَّه يُقْرَنُ كلُّ صاحِبِ عَمَلٍ بشَكْلِه وَنظيرِه، فقُرِنَ بيْن المتحابِّينَ في اللهِ في الجَنَّةِ، وقُرِنَ بيْن المتحابِّينَ في طاعةِ الشَّيطانِ في الجَحيمِ؛ فالمرءُ مع مَن أَحَبَّ، شاء أو أَبَى [46] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/248). .
6- في قَولِه تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ سُؤالٌ: ما معنى سُؤالِ المَوؤودةِ عن ذَنْبِها الَّذي قُتِلَت به؟ وهلَّا سُئِلَ الوائِدُ عن مُوجِبِ قَتْلِه لها؟!
الجوابُ: سُؤالُها وجوابُها تَبكيتٌ لقاتِلِها، وهو كتَبكيتِ النَّصارى في قَولِه لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة: 116] [47] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/66). ! ونظيرُ ذلك لو أنَّ شخصًا اعتدى على آخَرَ في الدُّنيا، فأَتَوا إلى السُّلطانِ أوِ الأميرِ، فقال للمظلومِ: بأيِّ ذَنْبٍ ضرَبَك هذا الرَّجُلُ؟ وهو يَعرِفُ أنَّه مُعتدًى عليه؛ ليس له ذنْبٌ، لكنْ مِن أجْلِ التَّوبيخِ للظَّالمِ، فالمَوؤدةُ تُسْألُ: بأيِّ ذنْبٍ قُتِلَتْ؟ توبيخًا لظالِمِها وقاتلِها ودافنِها [48] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 72). ، ولإدْخالِ الرَّوعِ على مَن وَأَدَها، وليَكونَ جَوابُها شَهادةً على مَن وَأَدَها؛ فيَكونَ استِحقاقُه العِقابَ أشَدَّ وأَظهَرَ [49] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/708)، ((تفسير القرطبي)) (19/234)، ((تفسير البيضاوي)) (5/289)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 600)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/146). ، أو تَوجيهُ السُّؤالِ إليْها لتَسلِيتِها، وإظهارِ كَمالِ الغَيظِ والسَّخَطِ لوائِدِها، وإسقاطِه عن دَرجةِ الخِطابِ، والمُبالَغةِ في تَبكيتِه [50] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/115). ؛ فيومَ القيامةِ تُسألُ الموءودةُ على أيِّ ذنْبٍ قُتِلَتْ؛ لِيَكونَ ذلك تهديدًا لقاتلِها، فإذا سُئل المظلومُ فما ظَنُّ الظَّالِمِ إذَن [51] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/333). ؟!
7- في قَولِه تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ سؤالٌ عن وَجهِ الجَمعِ مع الآياتِ الَّتي تَنْفي السُّؤالَ يومَ القيامةِ، كقَولِه تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وقَولِه عزَّ وجلَّ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] ؟
الجوابُ: أنَّ سُؤالَ المَوْؤودةِ لا يُعارِضُ الآياتِ النَّافيةَ السُّؤالَ عن الذَّنْبِ؛ لأنَّها سُئِلَت عن أيِّ ذَنبٍ قُتِلَت، وهذا ليس من ذَنْبِها، والمرادُ بسُؤالِها توبيخُ قاتِلِها وتقريعُه؛ لأنَّها هي تقولُ: لا ذَنْبَ لي! فيَرجِعُ اللَّومُ على مَن قَتَلَها ظُلْمًا [52] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (7/504). .
8- إسقاطُ الحَمْلِ حَرامٌ، قال بعضُ العُلماءِ: وهو مِن الوَأْدِ الَّذي قال اللهُ تعالى فيه: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [53] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (3/400). وهذا مذهبُ المالكيَّةِ: أنَّه لا يجوزُ إسقاطُه ولو قبْلَ الأرْبَعينَ يومًا. يُنظر: ((الشرح الكبير وحاشية الدسوقي)) (2/266). وذهَب الجُمهورُ مِن الحَنَفيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ إلى أنَّه يجوزُ إسقاطُ الجَنينِ قبْلَ نَفخِ الرُّوحِ فيه. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/176)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (5/ 331)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (1/121). قال ابنُ باز: (إسقاطُ الجنينِ فيه تفصيلٌ؛ فإذا كان في الأربعينَ الأُولى فالأمرُ فيه أوسَعُ، ولا يَنبغي إسقاطُه، لكنْ إذا اقتَضَت المصلحةُ الشَّرعيَّةُ إسقاطَه لِمَضَرَّةٍ على الأمِّ، أو لهذا السَّبَبِ الَّذي قرَّره الأطبَّاءُ أنَّه قد يَتشوَّهُ بأسبابٍ فعَلَتْها الأمُّ: فلا حرَجَ في ذلك). ((فتاوى نور على الدرب)) (21/430). .
9- في قَولِه تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ دَليلٌ على أنَّه لا يجوزُ قَتْلُ النَّفْسِ إلَّا بذَنْبٍ منها، فلا يجوزُ قَتْلُ الصَّبيِّ والمجنونِ؛ لأنَّ القَلَمَ مرفوعٌ عنهما، فلا ذَنْبَ لهما، وهذه العِلَّةُ لا يَنبغي أنْ يُشَكَّ فيها في النَّهيِ عن قَتلِ صِبيانِ أهلِ الحَرْبِ، وأمَّا العِلَّةُ المشترَكةُ بيْنَهم وبيْن النِّساءِ فكَونُهم ليسوا مِن أهلِ القِتالِ -على الصَّحيحِ الَّذي هو قولُ الجُمهورِ-، أو كونُهم يَصيرون للمُسلِمينَ، فأمَّا التَّعليلُ بهذا وَحْدَه في الصَّبيِّ فلا، والآيةُ تَقتضي ذَمَّ قَتْلِ كلِّ مَن لا ذَنْبَ له مِن صغيرٍ وكبيرٍ [54] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/80). .
10- قال تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، والمعنى: حُصولُ اليَقينِ بما لم يَكُنْ لها به عِلمٌ مِن حَقائقِ الأعْمالِ الَّتي كان عِلمُها بها أشتاتًا؛ بَعضُه مَعلومٌ على غَيرِ وَجْهِه، وبَعضُه مَعلومٌ صُورتُه مَجهولةٌ عَواقِبُه، وبَعضُه مَغفولٌ عنه؛ فنُزِّلَ العِلمُ الَّذي كان حاصِلًا للنَّاسِ في الحَياةِ الدُّنيا مَنزِلةَ عَدَمِ العِلمِ، وأُثبِتَ العِلمُ لهم في ذلك اليَومِ؛ عِلمُ أعْمالِهم مِن خَيرٍ أو شرٍّ، فيَعلَمُ ما لم يَكُنْ له به عِلمٌ ممَّا يَحْقِرُه مِن أعمالِه، ويَتذكَّرُ ما كان قد عَلِمَه مِن قبْلُ، وتَذَكُّرُ المَنسيِّ والمَغفولِ عنه نَوعٌ مِن العِلمِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/151). .
11- في قَولِه تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ سُؤالٌ: أنَّ كُلَّ نفْسٍ تَعلَمُ ما أحضَرَت؛ لِقَولِه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران: 30] ، فما معنى قَولِه: عَلِمَتْ نَفْسٌ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا هو مِن عَكسِ كَلامِهم الَّذي يَقصِدونَ به الإفراطَ -وإن كان اللَّفظُ مَوضوعًا للقَليلِ-، ومنه قَولُه تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر: 2] ، وكمَن يَسألُ فاضِلًا مسألةً ظاهِرةً، ويقولُ: هل عندَك فيها شَيءٌ؟ فيقولُ: «رُبَّما حَضَر شَيءٌ»، وغَرَضُه الإشارةُ إلى أنَّ عِندَه في تلك المسألةِ ما لا يقولُ به غيرُه؛ فكذا هاهنا.
الوَجهُ الثَّاني: لعَلَّ الكُفَّارَ كانوا يُتعِبونَ أنفُسَهم في الأشياءِ الَّتي يَعتَقِدونَها طاعاتٍ، ثمَّ بدا لهم يومَ القيامةِ خِلافُ ذلك، فهو المرادُ مِن هذه الآيةِ [56] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/67). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/709). ويُنظر ما يأتي في البلاغةِ (ص: 319). . والتَّنوينُ في نَفْسٌ إذَنْ للنَّوعِ، أي: عَلِمَت نفْسٌ كافِرةٌ أنَّ ما حَسِبَته طاعةً كان وَبالًا عليها [57] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/67)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/313). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ الافتِتاحُ بحَرفِ (إِذَا) افتِتاحٌ مُشوِّقٌ؛ لأنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ يَستَدعي مُتعلَّقًا، ولأنَّه أيضًا شَرطٌ يُؤذِنُ بذِكرِ جَوابٍ بعْدَه، فإذا سَمِعَه السَّامعُ تَرقَّبَ ما سيأتي بعدَه، فعندَما يَسمَعُه يَتمكَّنُ مِن نَفْسِه كَمالَ تَمكُّنٍ، وخاصَّةً بالإطْنابِ بتَكريرِ كَلِمةِ (إِذَا)، وتَعدُّدِ الجُملِ الَّتي أُضيفَ إليها اثنَتَيْ عَشْرةَ مرَّةً، فإعادةُ كَلِمةِ (إِذَا) بعدَ (واو) العَطفِ في هذه الجُمَلِ المُتعاطِفةِ إطْنابٌ، وهذا الإطْنابُ اقْتَضاه قَصدُ التَّهويلِ، والتَّهويلُ مِن مُقْتضَياتِ الإطْنابِ والتَّكريرِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/140). .
- وفي إعادةِ (إِذَا) إشارةٌ إلى أنَّ مَضمونَ كُلِّ جُملةٍ مِن هذه الجُمَلِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ مُستقِلٌّ بحُصولِ مَضمونِ جُملةِ الجَوابِ عندَ حُصولِه، بقَطْعِ النَّظرِ عن تَفاوُتِ زَمانِ حُصولِ الشُّروطِ؛ فإنَّ زَمنَ سُؤالِ المَوْءُودةِ، ونَشرِ الصُّحُفِ أقْرَبُ لعِلمِ النُّفوسِ بما أَحضرَتْ، أقْرَبُ مِن زَمانِ تَكويرِ الشَّمسِ وما عُطِفَ عليه ممَّا يَحصُلُ قبْلَ البَعثِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/140، 141). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليْه في الجُمَلِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ المُفتتَحاتِ بكَلِمةِ (إِذَا) مِن قولِه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قولِه: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، والإخبارُ عنه بالمُسنَدِ الفِعليِّ، مع إمكانِ أنْ يُقالَ: إذا كُوِّرَتِ الشَّمسُ، وإذا انكَدرَتِ النُّجومُ... وهكذا؛ لإفادةِ الاهتِمامِ بتلك الأخبارِ المَجْعولةِ عَلاماتٍ ليَومِ البَعثِ؛ تَوسُّلًا بالاهتِمامِ بأشْراطِه إلى الاهتِمامِ به وتَحقيقِ وُقوعِه؛ لأنَّ الابْتداءَ بها أَدخَلُ في التَّهويلِ والتَّشويقِ، وليُفيدَ ذلك التَّقديمُ على المُسنَدِ الفِعليِّ تَقَوِّيَ الحُكمِ وتأكيدَه في جَميعِ تلك الجُملِ؛ رَدًّا على إنْكارِ مُنكِرِيه؛ فلذلك قيلَ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، ولم يُقَلْ: إذا كُوِّرَتِ الشَّمسُ، وهكذا نَظائِرُه [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/141، 150). .
- وصِيغةُ الماضي في الجُملِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ الوارِدةِ شُروطًا لأداةِ الشَّرطِ (إذا) مُستَعمَلةٌ في مَعنى الاستِقبالِ؛ تَنبيهًا على تَحقُّقِ وُقوعِ الشَّرطِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/141). .
- وفي قولِه: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قالَ هُنا: سُجِّرَتْ -أي: أُوقِدَتْ فَصارَتْ نارًا، أو مُلِئَتْ بتَفجيرِ بَعضِها إلى بَعضٍ حتَّى تَعودَ بَحرًا واحِدًا، مِن: (سَجَرَ التَّنُّورَ): إذا مَلأَه بالحَطَبِ ليُحمِيَه، وقالَ في (الانفِطارِ): وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [الانفطار: 3]: أي: سالَتْ مِياهُها على الأرضِ، فَصارَتْ بَحرًا واحِدًا، واختَلطَ العَذبُ بالمِلحِ-؛ مُوافَقةً في الأوَّلِ لقولِه بعدَه: سُعِّرَتْ؛ ليَقَعَ الوَعيدُ بتَسجيرِ البِحارِ، وتَسعيرِ النَّارِ. وفي الثَّاني لقولِه: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار: 2]، أي: تَساقَطَتْ على الأرضِ [62] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 599)، ((تفسير أبي السعود)) (9/115). ، فهذه الآيةُ مُناسِبةٌ لبقيَّةِ الآياتِ؛ لأنَّ معناه: تغييرُ أوصافِ تلك الأشياءِ عن حالاتِها، وتنقلِها عن أماكِنِها، فناسَبَ ذلك انفجارُ البحارِ؛ لتغيُّرِها عن حالِها مع بقائها [63] يُنظر: ((كشف المعاني في المتشابه من المثاني)) لابن جماعة (ص: 374). .
2- قولُه تعالَى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بمُناسَبةِ ذِكرِ تَزويجِ النُّفوسِ بالأجسادِ - على قولٍ في معنى التَّزويجِ- خُصَّ سُؤالُ المَوءُودةِ بالذِّكرِ دونَ غَيرِه ممَّا يُسألُ عنه المُجرِمون يَومَ الحِسابِ؛ ذلك لأنَّ إعادةَ الأرواحِ إلى الأجسادِ كان بعْدَ مُفارَقَتِها بالمَوتِ، والمَوتُ إمَّا بِعارِضٍ جَسَديٍّ مِن انحِلالٍ أو مَرَضٍ، وإمَّا باعتِداءٍ عُدوانيٍّ مِن قَتلٍ أو قِتالٍ، وكان مِن أفظَعِ الاعتِداءِ على إزهاقِ الأرواحِ مِن أجسادِها اعتِداءُ الآباءِ على نُفوسِ أطفالِهم بالوَأْدِ؛ فإنَّ اللهَ جَعَلَ في الفِطرةِ حِرصَ الآباءِ على استِحياءِ -أي: طلَب حَياةِ- أبنائِهم، وجَعَلَ الأبَوَينِ سَببَ إيجادِ الأبناءِ؛ فالوَأْدُ أفظَعُ أعْمالِ أهلِ الشِّركِ. وسُؤالُ المَوْءودةِ سُؤالٌ تَعريضيٌّ مُرادٌ منه تَهديدُ وائِدِها ورُعْبُه بالعَذابِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/144). .
- وأيضًا الاستِفهامُ في بِأَيِّ ذَنْبٍ تَقريريٌّ، وإنَّما سُئِلَتْ عن تَعيينِ الذَّنْبِ المُوجِبِ قَتْلَها، دُون أنْ تُسألَ عن قاتِلِها؛ لزِيادةِ التَّهديدِ؛ لأنَّ السُّؤالَ عن تَعيينِ الذَّنْبِ مَع تَحقُّقِ الوائِدِ الَّذي يَسمَعُ ذلك السُّؤالَ أنْ لا ذَنْبَ لها، إشعارٌ للوائِدِ بأنَّه غَيرُ مَعذورٍ فيما صَنَعَ بها [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/146). .
- قولُه: قُتِلَتْ قُرِئَ بتَشديدِ التَّاءِ [66] قرأ أبو جعفرٍ بتشديدِ التَّاءِ، وقرأ الباقونَ بتخفيفِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/398). ؛ لأنَّ الموءودةَ اسمُ جِنسٍ، فناسَبَ التَّكثيرُ باعتبارِ الأشخاصِ [67] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/416). ، أو تُفيدُ مَعنى: أنَّه قَتلٌ شَديدٌ فَظيعٌ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/149). .
3- قولُه تعالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
- قولُه: نُشِرَتْ قُرِئ بالتَّشديدِ [69] قرأها نافعٌ وأبو جَعْفرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وعاصِمٌ بتخفيفِ الشِّينِ، وقرَأها الباقونَ بتَشديدِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/398). ؛ للمُبالَغةِ في النَّشرِ، أو لكَثرةِ الصُّحُفِ المنْشورةِ، أو شِدَّةِ التَّطايُرِ [70] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/289، 290)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/149). .
- قولُه: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، أي: هذا الجِنسُ كلُّه؛ أفْردَه لأنَّه يُعلَمُ بالقُدرةِ على بعضِه القُدرةُ على الباقِي [71] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/281). .
وكُشِطَتْ، أي: قُلعتْ بقُوَّةٍ عظيمةٍ وسُرعةٍ زائدةٍ، وأُزيلتْ عن مَكانِها الَّتي هي ساترةٌ له محيطةٌ به، أو عن الهواءِ المحيطِ بسَطْحِها الَّذي هو كالرُّوحِ لها، كما يُكشَطُ الإهابُ عمَّا هو ساترٌ له ومحيطٌ به مع شِدَّةِ الالتزاقِ به؛ لأنَّ ذلك يومُ الكشفِ والإظهارِ. والكشطُ: إزالةُ الإهابِ عن الحيوانِ الميِّتِ، وهو أعمُّ مِن السَّلخِ، والظَّاهرُ أنَّ السَّماءَ تَبقَى مُنشقَّةً مُنفطِرةً تَعرُجُ الملائكةُ بيْنَهما وبيْنَ أرضِ المحشرِ حتَّى يتِمَّ الحسابُ، فإذا قُضِيَ الحسابُ أُزيلتِ السَّماءُ مِن مكانِها؛ فالسَّماءُ مَكشوطةٌ، والمكشوطُ عنه هو عالَمُ الخُلودِ، ويكون كُشِطَتْ مُعبَّرًا بها عن الإزالةِ [72] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/149). .
- قولُه: سُعِّرَتْ بتَشْديدِ العَينِ مُبالَغةً في الإسعارِ، أي: أُوقِدَت إيقادًا شديدًا [73] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/709)، ((تفسير البيضاوي)) (5/290)، ((تفسير أبي السعود)) (9/116)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/150). .
- قولُه: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، أي: قُرِّبتْ مِن المؤمِنينَ، ونُعِّمتْ ببَردِ العَيشِ وطِيبِ المستقَرِّ، والآيةُ مِن الاحتباكِ [74] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذِكْرُ التَّسعيرِ أوَّلًا دالٌّ على ضِدِّه في الجَنَّةِ ثانيًا، وذِكرُ التَّقريبِ ثانيًا دالٌّ على مِثلِه أولًا [75] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/281). .
4- قولُه تعالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ هو جَوابُ (إِذَا)، على أنَّ المرادَ بها: زَمانٌ واحِدٌ مُمتَدٌّ يَسَعُ الأمورَ المذكورةَ، لكنْ لا بمَعنى أنَّها تَعلَمُ ما تَعلَمُ في كُلِّ جُزءٍ مِن أجزاءِ ذلك الوَقتِ المَديدِ، أو عِندَ وُقوعِ داهِيةٍ مِن تلك الدَّواهي، بل عندَ نَشْرِ الصُّحُفِ، إلَّا أنَّه لَمَّا كان بَعضُ تلك الدَّواهي مِن مَباديهِ وبعضُها مِن رَوادفِه نُسِبَ عِلمُها بذلك إلى زَمانِ وَقْعِ كُلِّها؛ تَهويلًا للخَطْبِ، وتَفظيعًا للحالِ [76] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/290)، ((تفسير أبي السعود)) (9/116). . وجُعِلَتْ مَعرفةُ النُّفوسِ لجَزاءِ أعْمالِها حاصِلةً عندَ حُصولِ مَجموعِ الشُّروطِ الَّتي ذُكِرَتْ في الجُمَلِ الثِّنتَيْ عَشْرةَ؛ لأنَّ بعضَ الأحوالِ الَّتي تَضمَّنَتْها الشُّروطُ مُقارِنٌ لِحُصولِ عِلمِ النُّفوسِ بأعمالِها، وهي الأحوالُ السِّتَّةُ المَذكورةُ أخيرًا، وبَعضُ الأحوالِ حاصلٌ مِن قبْلُ بقَليلٍ، وهي الأحوالُ السِّتَّةُ المَذكورةُ أوَّلًا؛ فنُزِّلَ القَريبُ مَنزلةَ المُقارِنِ؛ فلِذلك جُعِلَ الجَميعُ شُروطًا لأداةِ الشَّرطِ (إِذَا) [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/151). .
- قولُه: نَفْسٌ نَكِرةٌ في سِياقِ الشَّرطِ، مُرادٌ بها العُمومُ، أي: عَلِمَتْ كُلُّ نفْسٍ ما أحضَرَتْ [78] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/290)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/313)، ((تفسير أبي حيان)) (10/417)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/150)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/393). .
- وأيضًا تَنكيرُ النَّفْسِ المفيدُ لثُبوتِ العِلمِ المذكورِ لفَرْدٍ مِن النُّفوسِ أو لبَعضٍ منها؛ للإيذانِ بأنَّ ثُبوتَه لجَميعِ أفرادِها قاطبةً مِن الظُّهورِ والوُضوحِ بحيثُ لا يَكادُ يَحومُ حوْلَه شائبةُ اشْتِباهٍ قطعًا، يَعرِفُه كلُّ أحدٍ ولو جِيءَ بعِبارةٍ تدُلُّ على خِلافِه، وللرَّمزِ إلى أنَّ تلكَ النُّفوسَ العالِمةَ بما ذُكِرَ -مع تَوفُّرِ أفرادِها، وتَكثُّرِ أعدادِها- ممَّا يُستقَلُّ بالنِّسبةِ إلى جَنابِ الكِبرياءِ الَّذي أُشيرَ إلى بَعضِ بَدائعِ شُؤونِه المنْبِئةِ عن عِظَمِ سُلطانِه. ويَجوزُ أنْ يَكونَ ذلك للإشعارِ بأنَّه إذا عَلِمَتْ حِينَئذٍ نفْسٌ مِن النُّفوسِ ما أحضَرَتْ، وَجَبَ على كُلِّ نفْسٍ إصلاحُ عَمَلِها؛ مَخافةَ أنْ تَكونَ هي تلك الَّتي عَلِمَتْ ما أحضَرَتْ؛ فكيفَ وكُلُّ نفْسٍ تَعلَمُه؟! على طَريقةِ قولِك -لِمَن تَنصَحُه-: لعلَّكَ ستَندَمُ على ما فعَلْتَ، ورُبَّما نَدِمَ الإنسانُ على ما فَعَل! فإنَّك لا تَقصِدُ بذلك أنَّ نَدَمَه مَرجُوُّ الوُجودِ لا مُتَيَقَّنٌ به، أو نادِرُ الوُقوعِ، بل تُريدُ أنَّ العاقِلَ يَجِبُ عليه أنْ يَجتَنِبَ أمرًا يُرجَى فيه النَّدَمُ، أو قَلَّ ما يَقَعُ فيه، فكيفَ به إذا كان قَطْعيَّ الوُجودِ كَثيرَ الوُقوعِ [79] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/117). ؟!
- قولُه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، أُسنِدَ الإحضارُ إلى النُّفوسِ؛ لأنَّها الفاعِلةُ للأعْمالِ الَّتي يَظهَرُ جَزاؤُها يَومَئذٍ، فهذا الإسنادُ مِن إسنادِ فِعلِ الشَّيءِ إلى سَببِ فِعلِه [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/151). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ خَتَمَ الآيةَ هنا بقولِه: مَا أَحْضَرَتْ، وختَمَها في الانفِطارِ بقَولِه: مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5]؛ قيل: وجْهُ ذلِك: أنَّ ما في هذه السُّورةِ مُتَّصلٌ بقولِه: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، فقَرَأَها أرْبابُها فعَلِموا ما أحْضَرَت، وفي الانفطارِ مُتَّصلٌ بقولِه: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، والقُبورُ كانت في الدُّنيا، فيَذكُرون ما قدَّموا في الدُّنيا وما أخَّروا في العُقبى؛ فكلُّ خاتمةٍ لائقةٌ بمَكانِها، وهذه السُّورةُ مِن أوَّلِها شَرطٌ وجَزاءٌ، وقسَمٌ وجَوابٌ [81] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 246). .
وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه رِعايةٌ للمُناسَبةِ؛ إذ شُروطُ الجَوابِ هنا طالَتْ بكَثرتِها، فحَسُنَ اختِصارُه ليُوقَفَ عليه، وشُروطُه ثَمَّ قَصُرَتْ بقِلَّتِها، فحَسُنَ بَسْطُه لتَيَسُّرِ الوَقفِ عليه حِينَئذٍ [82] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 600). ، وقيل غيرُ ذلك [83] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1338)، ((كشف المعانى فى المتشابه من المثانى)) لابن جماعة (ص: 374، 375). .