موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (76-78)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَبَغَى: أي: تكَبَّرَ، وتجاوَزَ حَدَّه، وأصلُه: يدُلُّ على جِنسٍ مِنَ الفَسادِ [971] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/311)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 136)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 284). .
لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ: أي: تُثقِلُهم وتُميلُهم بثِقْلِها، يُقالُ: ناءَ به الحِملُ: إذا أثقَلَه حتَّى أمالَه. والعُصبةُ: الجماعةُ الكَثيرةُ، وقيل: هم مِن الرِّجالِ عَشَرةٌ. وأصلُ (نوء): يدُلُّ على نُهوضٍ بثِقلٍ، وأصلُ (عصب): يدُلُّ على رَبطِ شَيٍء بشَيءٍ، فسُمِّيَتْ العصبةُ بذلك؛ لأنَّها قد عُصِبَتْ، أي: كأنَّها رُبِطَ بعضُها ببعضٍ [972] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 334)، ((الكامل في اللغة والأدب)) للمُبَرِّد (1/176، 290) و (3/265)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 152)، ((أمالي القالي)) (2/131)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/336) و(5/366)، ((تفسير الزمخشري)) (1/1900)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 285)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 330). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا قصَّةَ قارونَ: إنَّ قارونَ كان مِن قَومِ موسى الإسرائيليِّينَ، فتكبَّر على قَومِه واحتقَرَهم بسبَبِ غِناه، وقد آتاه اللهُ أموالًا كثيرةً مُدَّخَرةً لا يَستطيعُ حَمْلَ مفاتيحِها الجَماعةُ الأشِدَّاءُ مِن الرِّجالِ؛ فهي تُميلُهم بثِقْلِها، إذ قال له قَومُه: لا تفرَحْ وتَبطَرْ؛ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ البَطِرينَ، واطلُبْ ثوابَ الآخرةِ فيما آتاك اللهُ إيَّاه، فاستَعمِلْه في طاعةِ اللهِ، وأنفِقْ منه في الخَيرِ، ولا تترُكْ حظَّك مِن الدُّنيا أن تعمَلَ فيها لآخِرتِك، وأحسِنْ في عبادةِ اللهِ وإلى خَلْقِ اللهِ، كما أحسَنَ اللهُ إليك، ولا تطلُبِ الفَسادَ في الأرضِ بَغيًا وتكَبُّرًا؛ إنَّ اللهَ لا يحِبُّ المفسِدينَ.
قال قارونُ: إنَّما أُوتِيتُ هذه الكُنوزَ؛ لأنِّي أهلٌ لذلك! أوَلَمْ يعلَمْ أنَّ اللهَ قد أهلك مِن قَبْلِه مِن الأُمَمِ الماضيةِ مَن كان أقوى منه وأكثَرَ جَمعًا للأموالِ؟! ولا يُسألُ المُجرِمونَ عن ذُنوبِهم، بل يُعاقِبُهم اللهُ تعالى عليها؛ لعِلمِه بها.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أنْ ذكَر سبحانَه حديثَ أهلِ الضَّلالةِ وما يَلْقَونَه مِن الإهانةِ والاحتقارِ يومَ القيامةِ، ومُناداتَهم على رؤوسِ الأشهادِ بما يَفضَحُهم، ويُبَيِّنُ لهم سوءَ مَغَبَّتِهم؛ أعْقَبه بقصصِ قارونَ، لِيُبيِّنَ عاقبةَ أهلِ البغْيِ والجبروتِ فى الدُّنيا والآخرةِ [973] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (20/92). .
وأيضًا لهذه القصَّةِ اتِّصالٌ بانتهاءِ قِصَّةِ جُندِ فِرعونَ المنتهيةِ عندَ قولِه تعالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا الآيةَ [974] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/174). [القصص: 46] .
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ.
أي: إنَّ قارونَ كان مِن بني إسرائيلَ مِن عَشيرةِ موسى، فتكبَّرَ على قَومِه، وتَجاوَزَ الحدَّ في احتِقارِهم؛ بسَبَبِ غِناه [975] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/309، 311)، ((الوسيط)) للواحدي (3/407)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/349)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/176). قال الرَّسْعَنيُّ: (اختلَفوا في قَرابتِه مِن موسى؛ فقال ابنُ عبَّاسٍ وقَتادةُ ومُقاتلٌ وأكثَرُ المفسِّرينَ: كان ابنَ عمِّ موسى). ((تفسير الرسعني)) (5/565). وقال ابن كثير: (وهكذا قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ، وعبدُ اللهِ بنُ الحارثِ بنِ نَوْفَلٍ، وسِماكُ بنُ حربٍ، وقَتادةُ، ومالكُ بنُ دينارٍ، وابنُ جُرَيْجٍ، وغيرُهم: أنَّه كان ابنَ عمِّ موسَى عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (6/253). .
كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7].
وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ بَغْيَه؛ ذَكَرَ سببَه الحقيقيَّ، فقال [976] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/350). :
وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ.
أي: وآتَيْنا قارونَ أموالًا كثيرةً مُدَّخَرةً يُثقِلُ حَمْلُ مَفاتيحِها الجَماعةَ الأشِدَّاءَ مِن الرِّجالِ، وتُميلُهم بثِقْلِها؛ لِكَثرتِها [977] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/312 - 319)، ((تفسير الزمخشري)) (3/430)، ((تفسير القرطبي)) (13/312)، ((تفسير ابن كثير)) (6/253)، ((تفسير الألوسي)) (10/316)، ((تفسير القاسمي)) (7/536)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/176، 177). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ المفاتِحَ هنا: جمعُ مِفتاحٍ، وهي الأداةُ الَّتي يُفتحُ بها: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، والألوسي، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/312)، ((تفسير الزمخشري)) (3/430)، ((تفسير الألوسي)) (10/316)، ((تفسير القاسمي)) (7/536)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/176، 177). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: خَيْثَمةُ، ومُجاهدٌ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/312)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/392). وذهب مقاتلُ بنُ سليمانَ، والفَرَّاءُ، والزجَّاجُ، والواحِديُّ -ونَسَبه للأكَثرينَ- إلى أنَّ المَفاتحَ هي خزائنُ الأموالِ نَفْسُها، لا ما تُفتحُ به. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/355)، ((معاني القرآن)) للفرَّاء (2/310)، ((معاني القرآن)) للزَّجَّاج (4/155)، ((الوسيط)) للواحدي (3/407). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو صالحٍ، والضَّحَّاكُ، وأبو رَزِينٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/313)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3007)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/392). قال ابنُ تيميَّةَ: (الكنوزُ إمَّا أن يكونَ هو كَنَزَها، كما قال: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة: 34]، وإمَّا أن يكونَ اطَّلَع على كنائِزَ مدفونةٍ، وهو الرِّكازُ). ((مجموع الفتاوى)) (29/377، 378). !
إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ.
أي: إذ [978] قال أبو حيان: (قال الحوفي: النَّاصِبُ له محذوفٌ، تقديرُه: «اذكُرْ»... ويظهَرُ أن يكونَ تقديرُه: فأظهَرَ التَّفاخُرَ والفَرَحَ بما أُوتيَ من الكنوزِ إذ قال له قَومُه: لا تَفرَحْ). ((تفسير أبي حيان)) (8/325). وقال ابنُ عاشور: (إِذْ ظرفٌ مَنصوبٌ بفِعلِ «بغى عليهم»، والمقصودُ مِن هذا الظَّرفِ القِصَّةُ، وليس القَصدُ به توقيتَ البَغيِ؛ ولذلك قَدَّره بعضُ المفَسِّرينَ مُتعَلِّقًا بـ «اذكر» محذوفًا، وهو المعنيُّ في نظائِرِه مِنَ القَصَصِ). ((تفسير ابن عاشور)) (20/177). قال له قَومُه ناصِحينَ: لا تَفرَحْ بهذه الدُّنيا وتَبطَرْ بما أُوتيتَ فيها مِن الكُنوزِ [979] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/320)، ((تفسير ابن كثير)) (6/253)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ بزينةِ الدُّنيا، البَطِرينَ بما أُوتُوا مِن مَتاعِها الفاني [980] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/320)، ((تفسير القرطبي)) (13/313)، ((تفسير البيضاوي)) (4/185)، ((تفسير ابن كثير)) (6/253)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). قال ابنُ الجوزي: (لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ يعني: الأَشِرينَ، ولم يُردِ الفرحَ بنعمةِ الله تعالى). ((صفة الصفوة)) (1/72). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8].
وقال سبحانه: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26].
وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَهَوه عن الفَرَحِ المُطغِي، أمَروه بأنْ يَطْلُبَ فيما آتاه اللهُ مِن الكُنوزِ وسَعةِ الرِّزقِ ثوابَ الدَّارِ الآخرةِ، بأنْ يَفعَلَ فيه أفعالَ البِرِّ، ويجعلَه زادَه إلى الآخِرةِ [981] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/325). .
وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ.
أي: واطلُبْ -يا قارونُ- ثوابَ الآخرةِ ونَعيمَها بما آتاك اللهُ مِنَ الدُّنيا، ووهَبَك مِن أموالِها، فاستَعْمِلْه في طاعةِ اللهِ والتَّقَرُّبِ إليه، والإنفاقِ في أوجُهِ الخَيرِ [982] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/322)، ((تفسير القرطبي)) (13/314)، ((تفسير ابن كثير)) (6/253)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/178). .
وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما سبَقَ شديدَ المشَقَّةِ على النُّفوسِ، مع ما فيه مِن شائبةِ الاتِّهامِ؛ قالوا [983] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/352). :
وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.
أي: لا تَترُكْ حظَّك مِن الدُّنيا أن تعمَلَ فيها لآخِرتِك [984] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/322)، ((الوسيط)) للواحدي (3/407)، ((تفسير الرسعني)) (5/569). ممَّن اختار أنَّ المعنى: لا تَترُكْ حظَّك مِن الدُّنيا أن تعمَلَ فيها لآخرتِك؛ لأنَّ حقيقةَ نَصيبِ الإنسانِ مِن الدُّنيا ما عَمِلَ فيها لآخِرتِه: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جرير، والزجَّاج، وابن أبي زمنين، والسمعاني، والخازن، ونسَبَه الواحديُّ والرَّسْعَنيُّ لأكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/355)، ((تفسير ابن جرير)) (18/322)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/155)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/335)، ((تفسير السمعاني)) (4/156)، ((تفسير الخازن)) (3/371)، ((الوسيط)) للواحدي (3/407)، ((تفسير الرسعني)) (5/569). وممَّن يُروى عنه هذا القولُ مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وعَوْنُ بنُ عبدِ الله، ومجاهدٌ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/322)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3010)، ((تفسير البغوي)) (3/543). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: ولا تَترُكْ حظَّك مِنَ التَّنعُّمِ بما أحلَّ اللهُ لك في الدُّنيا؛ مِنَ المآكِلِ والمَشارِبِ، والملابِسِ والمساكِنِ، والمَناكِحِ وغَيرِها: ابنُ العربيِّ، وابنُ جُزَي، وابن كثير، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/513)، ((تفسير ابن جزي)) (2/119)، ((تفسير ابن كثير)) (6/253)، ((تفسير الشوكاني)) (4/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/179)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 343-346). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/324)، ((البسيط)) للواحدي (17/457). قال الشوكانيُّ عن هذا القولِ: (وهذا ألْصَقُ بِمعنَى النَّظمِ القرآنيِّ). ((تفسير الشوكاني)) (4/215). .
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
أي: وأحسِنْ -يا قارونُ- في عبادةِ اللهِ وإلى خَلْقِ اللهِ، كما أحسَنَ اللهُ إليك بالرِّزقِ الواسِعِ [985] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/324)، ((تفسير الزمخشري)) (3/431)، ((تفسير القرطبي)) (13/314)، ((تفسير ابن كثير)) (6/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 347). قيل: المرادُ بالإحسانِ هنا: الإحسانُ إلى عِبادِ الله. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: ابنُ جرير، وابن عطية، وابن جُزَي، وابن كثير، والعُلَيمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/324)، ((تفسير ابن عطية)) (4/300)، ((تفسير ابن جزي)) (2/119)، ((تفسير ابن كثير)) (6/254)، ((تفسير العليمي)) (5/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). وقيل: المرادُ بالإحسانِ هنا: طاعةُ الله وعبادتُه. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: البَغَويُّ، والقُرطُبيُّ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/544)، ((تفسير القرطبي)) (13/314). وقال الرَّسْعَنيُّ: (أحسِنْ بأداءِ ما افترَضَ الله عليك، كما في إحسانِه إليك). ((تفسير الرسعني)) (5/569). وممَّن ذهب هنا إلى الجمعِ بيْنَ الإحسانِ في عبادةِ الله والإحسانِ إلى خَلْقِ الله: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 347). .
كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].
وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانتِ النَّفْسُ مِن شأنِها -إنْ لم تُزَمَّ بزِمامِ الشَّرعِ- الإسرافُ والإجحافُ، قالوا [986] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/353). :
وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ.
أي: ولا تَطلُبْ -يا قارونُ- الفسادَ في الأرضِ بالمعاصي والبَغيِ والتكَبُّرِ [987] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/325)، ((البسيط)) للواحدي (17/458)، ((تفسير البغوي)) (3/544)، ((تفسير القرطبي)) (13/315)، ((تفسير ابن كثير)) (6/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسِدينَ في الأرضِ بالكُفرِ والمعاصي، والبَغيِ والظُّلمِ [988] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/609)، ((تفسير ابن جرير)) (18/325)، ((تفسير الشوكاني)) (4/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). .
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78).
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي.
أي: قال قارونُ: إنَّما أُوتيتُ هذه الكُنوزَ؛ لأنِّي أهلٌ لذلك [989] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/325)، ((تفسير القرطبي)) (13/315)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 37)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 205، 206)، ((تفسير ابن كثير)) (6/254، 255). قال الماوَرْديُّ: (قولُه: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ... فيه خمسةُ أوجُهٍ؛ أحَدُها: أي: بقوَّتي وعِلمي، قاله يحيى بنُ سلَّامٍ. الثَّاني: على خيرٍ وعِلمٍ عندي، قاله قَتادةُ. الثَّالثُ: لِرِضا الله عنِّي، ومعرفتِه باستِحقاقي، قاله ابنُ زَيدٍ. الرَّابعُ: على عِلمٍ بوجْهِ المكاسِبِ، قاله ابنُ عيسى. الخامسُ: العِلمُ بصَنعةِ الكيمياءِ). ((تفسير الماوردي)) (4/268). ممَّن قال في الجملةِ: إنَّ المرادَ بقَولِه: عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي: على عِلمٍ مِنَ الله بحالي وفَضلي عليكم، واستِحقاقي لذلك المالِ: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جرير، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/356)، ((تفسير ابن جرير)) (18/325)، ((تفسير ابن كثير)) (6/254). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ زَيدٍ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/325)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3012). وممَّن قال: إنَّ المرادَ: إنَّما نِلْتُ هذا المالَ؛ بسَبَبِ ما لَدَيَّ مِن العِلمِ والمعرفةِ: البِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623، 624)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/181). قال ابنُ كثير: (وقد رُوي عن بعضِهم أنَّه أراد: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أي: أنَّه كان يُعاني عِلمَ الكيمياءِ، وهذا القولُ ضعيفٌ؛ لأنَّ علمَ الكيمياءِ في نفسِه علمٌ باطلٌ؛ لأنَّ قلبَ الأعيانِ لا يقدِرُ أحدٌ عليها إلَّا الله عزَّ وجلَّ). ((تفسير ابن كثير)) (6/254). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/377). .
كما قال تعالى: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الزمر: 49، 50].
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا.
أي: أوَلَمْ يعلَمْ قارونُ أنَّ اللهَ قد أهلَكَ مِن قَبْلِه مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ مَن كان أقوى منه وأكثَرَ جَمعًا للأموالِ؟ فلا مانِعَ إذَنْ مِن إهلاكِ قارونَ، كما أُهلِكَ مَن هو مِثلُه أو أعظَمُ، وقد فَعَل ما يُوجِبُ الهلاكَ [990] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/326)، ((تفسير القرطبي)) (13/316)، ((تفسير ابن كثير)) (6/255)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624). قال البقاعي: (قُوَّةً أي: في البدَنِ، والمعاني مِنَ العِلمِ وغَيرِه، والأنصارِ والخَدَمِ، وَأَكْثَرُ جَمْعًا في المالِ والرِّجالِ). ((نظم الدرر)) (14/355). !
وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ .
أي: ولا يُسألُ المُجرِمونَ عن ذُنوبِهم، فيُعاقِبُهم اللهُ تعالى عليها مِن غيرِ أن يَستَعلِمَهم عنها؛ لعِلْمِه بها كُلِّها [991] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/326، 327)، ((تفسير الزمخشري)) (3/431)، ((تفسير القرطبي)) (13/316)، ((تفسير ابن كثير)) (6/255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 624)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/182). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- مِن حُسْنِ الدَّعوةِ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى أنَّه إذا ذُكِرَ الحُكمُ تُذكَرُ العِلَّةُ؛ تخويفًا أو تَرغيبًا، إنْ كان مَنصوحًا بطلَبٍ تُذكَرُ العِلَّةُ ترغيبًا، وإنْ كان منصوحًا بنَهيٍ فإنَّها تُذكَرُ تخويفًا، كما في قَولِه تعالى: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وقولِه: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فينبغي للدَّاعي أنْ يُذَكِّرَ المدعُوَّ بنِعمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ذُكِّرَ بالنِّعمةِ فقد يَخْجَلُ مِن اللهِ فلا يَعْصيه، أمَّا إذا ذُكِرَ له الأمرُ والنَّهيُ مجرَّدًا عن الأسبابِ والوسائلِ الَّتي تحمِلُه على الفِعلِ أو التَّركِ؛ فإنَّ هذه الدَّعوةَ تكون قاصِرةً؛ فالَّذي ينبغي للدَّاعي أنْ يُذَكِّرَ المرءَ المَدْعُوَّ بما يقتضي إقبالَه وقَبولَه [992] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 341، 352). .
2- قال تعالى: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ الفرَحُ المنهيُّ عنه هو المفرطُ منه، أي: الذي تمحَّض للتَّعلُّقِ بمتاعِ الدُّنيا ولَذَّاتِ النَّفْسِ به؛ لأنَّ الانكبابَ على ذلك يُميتُ مِن النَّفْسِ الاهتمامَ بالأعمالِ الصَّالحةِ والمنافسةَ لاكتسابِها، فيَنحدِرُ به التَّوغُّلُ في الإقبالِ على اللَّذَّاتِ إلى حَضيضِ الإعراضِ عن الكمالِ النَّفْسانيِّ، والاهتِمامِ بالآدابِ الدِّينيَّةِ، والمُبالَغةُ في الفرَحِ تَقتضي شدَّةَ الإقبالِ على ما يُفرَحُ به، وهي تَستلزِمُ الإعراضَ عن غيرِه [993] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/178). . ومتى كان الفرَحُ بالله، وبما مَنَّ الله به، مُقارنًا لِلخَوفِ والحذَرِ؛ لم يَضُرَّ صاحبَه، ومتى خلا عن ذلك ضرَّه، ولا بُدَّ [994] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/108). .
3- في قَولِه تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ أنَّه ينبغي لِمَن آتاه اللهُ مالًا أنْ يُحسِنَ النِّيَّةَ والقَصدَ في بَذْلِه، وقد أشار إلى ذلك النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَ قال لسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ: ((إنَّك لن تُنفِقَ نَفَقةً تَبتَغي بها وَجْهَ اللهِ إلَّا أُجِرْتَ عليها، حتَّى ما تَجعَلُ في فِي امرأ تِك)) [995] أخرجه البخاري (56) واللفظ له، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ، فقد قيَّدَها بقَولِه: ((تبتغي بها وَجْهَ اللهِ)) [996] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 351). .
4- في قَولِه تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أنَّ مَنِ اعتقَدَ أنَّ ما رزقَه اللهُ هو مِن كَسْبِه، ولم يَنسبِ الفضلَ لله؛ فهو مُشابِهٌ لقارونَ في عدَمِ اعترافِه بنِعمةِ اللهِ؛ فالإنسانُ الَّذي يقولُ: حَصَّلْتُ هذا بيَدي، وبمَعرِفتي بالأمورِ والمكاسِبِ، نقولُ له: أنت مُشابِهٌ لقارونَ [997] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 357). .
5- في قَولِه تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي، وقولِه تعالى: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49] النَّهيُ عن إضافةِ النِّعَمِ إلى أسبابِها دُونَ المُنعِمِ بها. وإضافةُ النِّعَمِ إلى أسبابِها جَحْدٌ لإنعامِ الله، وكذلك إضافةُ النِّعَمِ إلى غيرِه ممَّن يَعجِزُ عنها. ولا بأسَ بإضافتِها إلى الأسبابِ مع مُلاحَظةِ كَوْنِها أسبابًا، وأنَّ المُنعِمَ بها هو اللهُ وحْدَه؛ فإنَّا قد أُمِرْنا بشُكرِ الأسبابِ أيضًا؛ قال الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [998] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 251). [لقمان: 14] .
6- لِيَحذَرِ الإنسانُ كُلَّ الحَذَرِ مِن طُغيانِ «أنا»، و «لي»، و«عندي»؛ فإنَّ هذه الألفاظَ الثَّلاثةَ ابتُليَ بها إبليسُ، وفِرعَونُ، وقارونُ؛ فـ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12] لإبليسَ، ولِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف: 51] لِفرعَونَ، و إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي لِقارونَ، وأحسنُ ما وُضِعت «أنا» في قولِ العبدِ: أنا العبدُ المذنبُ، المستغفِرُ، المعترِفُ ونحوِه. «ولي»، في قولِه: لي الذنبُ، ولي الجرمُ، ولي المسكنةُ. «وعندي» في قولِه [999] جزء من حديث أخرجه البخاري (6399)، ومسلم (2719) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. : ((اغْفِرْ لي جِدِّي، وهَزلي، وخَطئي، وعَمدي، وكلُّ ذلك عِندي )) [1000] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/434). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ أنَّ القَوميَّةَ لا تنفَعُ أصحابَها، إنَّما النَّافِعُ هو الإيمانُ باللهِ عزَّ وجلَّ؛ فهذا الرَّجلُ مِن قَومِ موسى، ومع ذلك بغَى عليهم [1001] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 341). !
2- في قَولِه تعالى: فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ أنَّ الغِنى سَبَبٌ للطُّغيانِ؛ لأنَّ قارونَ إنَّما بغَى وطغَى بسببِ ما آتاه اللهُ تعالى مِن المالِ [1002] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 340). .
3- الإيتاءُ المضافُ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى يكونُ كَوْنيًّا، ويكونُ شَرعيًّا؛ مِثالُ الكَونيِّ قَولُه تعالى: فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، ومِثالُ الشَّرعيِّ قَولُه تعالى: وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [1003] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/185). قال ابنُ تيميَّةَ: (واللهُ سُبحانَه قد بَيَّنَ في كتابِه في كلِّ واحدةٍ مِنَ: «الكَلِماتِ» و«الأمرِ» و«الإرادةِ» و«الإذنِ» و«الكتابِ» و«الحُكمِ» و«القضاءِ» و«التَّحريمِ» ونحوِ ذلك ما هو دينيٌّ مُوافِقٌ لمِحَبَّةِ الله ورِضاهُ وأمرِه الشَّرعيِّ، وما هو كَوْنيٌّ موافِقٌ لمَشيئتِه الكَونيَّةِ). ((مجموع الفتاوى)) (10/24). [الإسراء: 2] .
4- جاء الفَرَحُ في القُرآنِ على نَوعينِ: مُطلَقٌ، ومُقَيَّدٌ:
فالمُطلَقُ: جاء في الذَّمِّ، كقَولِه تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] ، وقَولِه: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] .
والمقَيَّدُ نوعانِ أيضًا:
الأولُ: مُقيَّدٌ بالدُّنيا يُنسي صاحِبَه فضْلَ اللهِ ومِنَّتَه، فهو مذمومٌ، كقَولِه تعالى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] .
والثاني: مُقيَّدٌ بفَضلِ اللهِ وبِرَحمتِه، وهو نوعانِ أيضًا:
فَضلٌ ورحمةٌ بالسَّبَبِ، وفَضلٌ بالمُسَبَّبِ؛ فالأوَّلُ: كقَولِه تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] ، والثَّاني: كقَولِه تعالى: فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: 170] ؛ فالفَرَحُ باللهِ وبرَسولِه، وبالإيمانِ وبالسُّنَّةِ، وبالعِلمِ وبالقرآنِ: مِن أعلى مقاماتِ العارفينَ؛ قال الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] ، وقال: وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرعد: 36] . فالفَرَحُ بالعِلمِ والإيمانِ والسُّنَّةِ: دَليلٌ على تعظيمِه عندَ صاحِبِه، ومحبَّتِه له، وإيثارِه له على غيرِه؛ فإنَّ فَرَحَ العبدِ بالشَّيءِ عندَ حُصولِه له: على قَدْرِ محبَّتِه له، ورغبتِه فيه، فمَن ليس له رغبةٌ في الشَّيءِ لا يُفرِحُه حُصولُه له، ولا يَحزُنُه فَواتُه؛ فالفَرَحُ تابعٌ للمحَبَّةِ والرَّغبةِ [1004] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/149، 150). .
5- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ يُؤخَذُ منه إثباتُ المحبَّةِ للهِ، مع أنَّ المرادَ نَفْيُ المحبَّةِ، ولكِنْ ما نفاها عن هؤلاء إلَّا وهي ثابِتةٌ لضِدِّه؛ ولهذا استدَلَّ العلماءُ بأنَّ المؤمِنينَ يَرونَ ربَّهم بقَولِه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ، قالوا: فلمَّا حُجِبَ هؤلاء عن ربِّهم؛ دلَّ على أنَّ غَيرَهم غيرُ محجوبينَ، فلو كان الكُلُّ محجوبينَ ما كان لِتَخصيصِ هؤلاء فائِدةٌ [1005] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 341). .
6- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ هذه الجملةُ المرادُ منها أنَّ اللهَ لا يُحِبُّ، ولازمُها أنه يَكرَهُ، وإنْ كانتِ القِسمةُ العقليَّةُ لا تقتضي ذلك؛ فنَفْيُ المحبَّةِ لا يَلْزَمُه إثباتُ الكُرهِ، لكنَّ السِّياقَ يقتضيه، لأنّ كلَّ شَيءٍ نفَى اللهُ عنه حُبَّه نَجِدُ أنَّه ممَّا يَكرَهُه اللهُ، قال تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64] ؛ وقال تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة: 205] ، وقال تعالى: لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] ، وقال تعالى: لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام: 141] ، فالظَّاهرُ مِن السِّياقاتِ أنَّ المرادَ إثباتُ الكراهةِ، لكنَّه أتَى بنَفْيِ المحَبَّةِ؛ لأنَّ المَحَبَّةَ محبوبةٌ؛ فكأنَّ هذا الَّذي أحَبَّ الفسادَ أو أحَبَّ الفرحَ وما أشبَهَ ذلك يُقابَلُ بنقيضِ قَصْدِه [1006] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 339). .
7- قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا في قَولِه: نَصِيبَكَ إضافةُ النَّصيبِ إلى ضَميرِه؛ ففيه دَلالةٌ على أنَّه حَقُّه، وأنَّ للمَرءِ الانتِفاعَ بمالِه فيما يُلائِمُه في الدُّنيا خاصَّةً ممَّا ليس مِن القُرُباتِ، ولم يكُنْ حَرامًا [1007] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/179). . وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
8- قَولُه تعالى: وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فيه تحريمُ نيَّةِ الفَسادِ في الأرضِ؛ وإذا حُرِّمَتْ نِيَّةُ الفَسادِ، فالفسادُ نَفْسُه مِن بابِ أولَى [1008] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 352). .
9- كُلُّ مَن عصى اللهَ فقد طلَبَ الفَسادَ في الأرضِ؛ قال تعالى: وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ أي: بالمعصيةِ [1009] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/156). .
10- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا بَيانُ أنَّ عَطاءَه سُبحانَه ليس دليلًا على حُسْنِ حالةِ المُعْطَى [1010] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 624). .
11- قال تعالى: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، وقال سبحانَه: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خِلافِ ذلك؛ منها قَولُه تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] ، فهذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ اللهَ يَسألُ جَميعَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، ونَظيرُها قَولُه تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93].
والجوابُ عن هذا مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:
الأوَّلُ: وهو أوجَهُها؛ لِدَلالةِ القُرآنِ عليه، وهو أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتَقريعٍ، وأداتُه غالِبًا: (لِـمَ)؛ وسُؤالُ استِخبارٍ واستِعلامٍ، وأداتُه غالِبًا: (هل)؛ فالمُثبَتُ هو سُؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سؤالُ الاستِخبارِ والاستِعلامِ.
الوجهُ الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعَدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسأَلونَ، وفي بَعضِها لا يُسأَلونَ.
الوجهُ الثالثُ: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عن التَّوحيدِ وتصديقِ الرُّسُلِ، وعَدَمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يَستَلزِمُه الإقرارُ بالنُّبُوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه، ويدُلُّ لهذا قَولُه تعالى: فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65]، والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى [1011] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 100، 101). .

بلاغُة الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
- قولُه: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ استِئنافٌ ابتدائيٌّ لذِكْرِ قِصَّةٍ ضُرِبَتْ مثلًا لحالِ بعضِ كُفَّارِ مَكَّةَ، وهم سادَتُهم؛ مِثلَ: الوليدِ بنِ المُغيرةِ، وأبي جهلِ بنِ هشامٍ، ولها مَزيدُ تعلُّقٍ بجملةِ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، إلى قولِه: ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [1012] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/174). [القصص: 60، 61].
- وافتِتاحُ الجُملةِ بحرفِ التوكيدِ (إنَّ) يَجوزُ أنْ يكونَ لإفادةِ تأكيدِ خبَرِ (إنَّ) وما عُطِفَ عليه وتَعلَّقَ به ممَّا اشْتَمَلَتْ عليه القِصَّةُ، وهو سُوءُ عاقبةِ الَّذين تَغُرُّهم أموالُهم وتَزْدَهيهم؛ فلا يَكتَرِثونَ بشُكرِ النِّعمةِ، ويَسْتخِفُّونَ بالدِّينِ، ويَكْفُرونَ بشرائعِ اللهِ؛ لظُهورِ أنَّ الإخبارَ عن قارونَ بأنَّه مِنْ قَوْمِ مُوسَى ليس مِن شأنِه أن يَتَرَدَّدَ فيه السَّامعُ حتَّى يُؤكَّدَ له؛ فمَصَبُّ التَّأكيدِ هو ما بعْدَ قولِه: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ... إلى آخِرِ القصَّةِ المُنتَهِيةِ بالخَسْفِ. ويَجوزُ أن تكونَ (إنَّ) لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالخبرِ، ومَناطُ الاهتمامِ هو مَجموعُ ما تَضَمَّنَتْه القصَّةُ مِن العِبَرِ، الَّتي منها أنَّه مِن قومِ مُوسى، فصار عدوًّا له ولأتْباعِه؛ فأمْرُه أغْرَبُ مِن أمْرِ فِرعونَ. وعَدَل عن أنْ يُقالَ: (كان مِن بَني إسرائيلَ)؛ لِمَا في إضافةِ قَوْمِ إلى مُوسَى مِن الإيماءِ إلى أنَّ لقارونَ اتِّصالًا خاصًّا بمُوسى؛ فهو اتِّصالُ القَرابةِ [1013] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/175، 176). .
- وفي الإخبارِ عنه بأنَّه مِن قومِ موسى تمهيدٌ للكِنايةِ بهذا الخبَرِ، عن إرادةِ التَّنظيرِ بما عَرَضَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن بَغْيِ بَعضِ قَرابتِه مِن المُشركينَ عليه [1014] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/176). .
- وجُملةُ فَبَغَى عَلَيْهِمْ مُعتَرِضةٌ بينَ جملةِ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى وجملةِ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ، والفاءُ فيها للتَّرتيبِ والتَّعقيبِ؛ للتَّعجُّبِ مِنْ بَغيِ أحَدٍ على قَومِه [1015] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/176). .
- قولُه: وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ بُولِغَ في وَصْفِ كُنوزِ قارونَ؛ حيثُ ذَكَرها جَمْعًا، وجَمَع المفاتحَ أيضًا، وذَكَر النَّوْءَ والعُصْبةَ وأُولِي القُوَّةِ، وهذه المُبالَغةُ في القُرآنِ مِنْ أحسَنِ المُبالَغاتِ وأغرَبِها عندَ الحُذَّاقِ؛ وهي أنْ يُتقصَّى جميعُ ما يَدُلُّ على الكَثرةِ وتعدُّدِ ما يَتَعَلَّقُ بما يَمْلِكُه [1016] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/430)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/294)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/380). .
- في قولِه: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ حُسْنُ تُعليلٍ بجُملةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ؛ لأنَّ الفرَحَ المَحضَ في الدُّنيا -مِن حيثُ إنَّها دُنْيا- مَذْمومٌ على الإطلاقِ، وأيُّ فَرَحٍ بشَيءٍ زائلٍ، وظِلٍّ حائلٍ [1017] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/380). ؟!
2- قولُه تعالَى: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
- قولُه: وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا جُملةٌ مُعتَرِضةٌ بيْنَ الجُملتَينِ الحافتَينِ بها، والواوُ اعتراضيَّةٌ، والنَّهيُ في وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مُستَعْملٌ في الإباحةِ، والنِّسيانُ كِنايةٌ عن التَّرْكِ. وهذا احتِراسٌ في الموعظةِ خَشْيَةَ نُفورِ المَوعوظِ مِن موعظةِ الواعظِ؛ لأنَّهم لَمَّا قالوا لِقارونَ: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ؛ أوْهَموا أنْ يَتْرُكَ حُظوظَ الدُّنيا؛ فلا يَستَعمِلُ مالَه إلَّا في القُرُباتِ؛ فأُفيدَ أنَّ له استِعمالَ بعضِه فيما هو مُتَمَحِّضٌ لنَعيمِ الدُّنيا إذا آتَى حَقَّ اللهِ في أموالِه، فقيلَ: أرادُوا أنَّ لكَ أنْ تأخُذَ ما أَحَلَّ اللهُ لكَ [1018] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/178، 179). .
- قولُه: وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا تَتْميمٌ [1019]  التَّتميم: من أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124]؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و (2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/49 - 51، 240، 241). لا بُدَّ منه؛ لأنَّه إذا لم يَغْتَنِمْها ليَعْمَلَ للآخِرةِ، لم يكنْ له نَصيبٌ في الآخِرةِ [1020] يُنظر: ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/294)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/382). ، وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
- قولُه: وَأَحْسِنْ الإحسانُ داخلٌ في عُمومِ ابتِغاء الدَّارِ الآخِرةِ، ولكنَّه ذُكِرَ هنا ليَبْنِيَ عليه الاحتِجاجَ بقولِه: كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وحُذِفَ مُتعلَّقُ الإحسانِ لتَعْميمِ ما يُحْسِنُ إليه؛ فيَشملُ نفسَه وقَومَه ودوابَّه ومخلوقاتِ اللهِ الدَّاخِلةَ في دائرةِ التَّمكُّنِ مِن الإحسانِ إليها [1021] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/179). .
- وعَطَفَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ؛ للتَّحذيرِ مِنْ خَلْطِ الإحسانِ بالفَسادِ؛ فإنَّ الفسادَ ضِدُّ الإحسانِ؛ فالأمرُ بالإحسانِ يَقتضي النَّهيَ عن الفسادِ، وإنَّما نَصَّ عليه؛ لأنَّه لَمَّا تَعدَّدتْ مَواردُ الإحسانِ والإساءةِ فقد يَغيبُ عن الذِّهْنِ أنَّ الإساءةَ إلى شَيءٍ مع الإحسانِ إلى أشياءَ يُعتبَرُ غيرَ إحسانٍ [1022] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/180). .
- وجملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ عِلَّةٌ للنَّهيِ عن الإفسادِ [1023] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/180). .
3- قولُه تعالَى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
- قولُه تعالَى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي جوابٌ عن مَوعظةِ واعظِيه مِن قَومِه، وقد جاء على أُسلوبِ حِكايةِ المُحاوَراتِ؛ فلمْ يُعْطَفْ، وهو جوابُ مُتصَلِّفٍ -أي: مُتكبِّرٍ- حاوَلَ به إفحامَهم، وأنْ يَقْطَعوا مَوعظتَهم؛ لأنَّها أَمَرَّتْ بَطَرَه وازْدِهاءَه [1024] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/180). .
- و(إنَّما) أداةُ الحَصْرِ، وبُنِيَ الفِعلُ للنائبِ أُوتِيتُهُ؛ للعِلْمِ بالفاعلِ مِن كلامِ واعِظيهِ [1025] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/180). .
- وقولُه: عِنْدِي صِفةٌ لـ عِلْمٍ -على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ- ؛ تأكيدًا لتَمكُّنِه مِن العِلْمِ وشُهرَتِه به [1026] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/181). .
- قوله: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا إقبالٌ على خِطابِ المسلمينَ. والهمزةُ في أَوَلَمْ يَعْلَمْ للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّعجُّبيِّ؛ تعجيبًا مِن عدَمِ جَرْيِهِ على موجَبِ عِلْمِه بأنَّ اللهَ أَهْلَك أُمَمًا على بَطَرِهمُ النِّعمةَ، وإعجابِهم بقوَّتِهم، ونِسيانِه، حتَّى صارَ كأنَّه لم يَعْلَمْه؛ تعجُّبًا مِن فَواتِ مُراعاةِ ذلكَ منه مع سَعَةِ عِلْمِه بغَيْرِه [1027] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/181، 182). .
- وأيضًا قولُه: أَوَلَمْ يَعْلَمْ ... تعجُّبٌ وتوبيخٌ على اغترارِه بقُوَّتِه وكَثرةِ مالِه مع عِلْمِه بذلك؛ لأنَّه قَرَأَه في التَّوراةِ، وسَمِعَه مِن حُفَّاظِ التَّواريخِ، أو رَدٌّ لادِّعائِه للعِلْمِ وتعَظُّمِه به بنَفْي هذا العِلمِ عنه [1028] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/431)، ((تفسير البيضاوي)) (4/185)، ((تفسير أبي السعود)) (7/25). . وقيل: الظَّاهرُ أنَّ قولَه: أَوَلَمْ يَعْلَمْ تَقريرٌ لعِلمِه ذلك، وتنبيهٌ على خَطَئِه في اغْتِرارِه، أي: قد عَلِمَ أنَّ اللهَ قد أهْلَك مِن القُرونِ قَبْلَه مَن هو أقوى منه وأغْنى؛ لأنَّه قد قَرَأَه وأخْبَر به مُوسى وسَمِعه، كأنَّه قيلَ: أوَلَمْ يَعْلَمْ في جُملةِ ما عِندَه مِنَ العِلْمِ هذا؛ حتى لا يَغْتَرَّ بكثرةِ مالِه وقوَّتِه؟ ويَجوزُ أنْ يكونَ نعتًا لعِلْمِه بذلكَ؛ لأنَّه لَمَّا قال: أُوتيتُه على عِلْمٍ عندي، فتَنَفَّحَ بالعلمِ وتَعَظَّمَ به، قيلَ: أعِنْدَهُ مِثلُ ذلكَ العِلمِ الَّذي ادَّعاهُ؟ وأُرِيَ نفْسَه به مُستَوْجِبةً لكلِّ نعمةٍ، ولم يَعْلَمْ هذا العِلمَ النَّافعَ حتَّى يَقِيَ نفْسَه مَصارِعَ الهالِكينَ [1029] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/326). !
- قولُه: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي: ولا يُسألُ سُؤالَ استعلامٍ -فإنه تعالَى مُطَّلِعٌ عليها- أو مُعاتَبةٍ؛ فإنَّهم يُعَذَّبونَ بها بَغْتةً؛ كأنَّهُ لَمَّا هدَّدَ قارونَ بذِكْرِ إهلاكِ مَن قَبْلَه ممَّن كانوا أقوَى منه وأغنَى؛ أكَّدَ ذلك بأنْ بَيَّنَ أنه لم يَكُنْ مُطَّلِعًا على ما يَخُصُّهم، بلِ اللهُ مُطَّلِعٌ على ذُنوبِ المُجرمينَ كلِّهم، مُعاقِبُهم عليها لا مَحالةَ [1030] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/185)، ((تفسير أبي السعود)) (7/25). .
- والواوُ في قَولِه: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ عاطفةٌ؛ لِتَربطَ الجُملةَ بما قَبْلَها على سَبيلِ التَّهديدِ والوعيدِ، أي: إنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على ذُنوبِ المجرمينَ لا يَحتاجُ إلى سُؤالٍ عنها [1031] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/376). .
- وقيل: قولُه: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ تَذْييلٌ للكلامِ؛ فهو استئنافٌ وليس عَطفًا على أنَّ اللهَ قد أهلَكَ مَن قبْلَهُ، والسُّؤالُ المنفيُّ: السُّؤالُ في الدُّنيا، وليس سؤالَ الآخِرةِ، ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ السُّؤالُ كِنايةً عن عدَمِ الحاجةِ إلى السُّؤالِ عن ذُنوبِهم؛ فهو كنايةٌ عن عِلْمِ اللهِ تعالَى بذُنوبِهم، وهو كِنايةٌ عن عِقابِهم على إجرامِهم؛ فهي كِنايةٌ بوَسائطَ، والكلامُ تهديدٌ للمُجرمينَ؛ ليَكونوا بالحذَرِ مِنْ أن يُؤْخَذوا بَغْتةً، ويَحتَمِلُ أن يكونَ السُّؤالُ بمَعناه الحقيقيِّ، أي: لا يُسأَلُ المجرمُ عن جُرْمِه قبْلَ عِقابِه؛ لأنَّ اللهَ قد بَيَّنَ للنَّاسِ على ألْسِنةِ الرُّسُلِ بحَدَّيِ الخَيرِ والشَّرِّ، وأَمْهَلَ المجرِمَ؛ فإذا أخَذَهُ أَخَذَهُ بَغْتةً، وهذا كقولِه تعالَى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [1032] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/182). [الأنعام: 44] .