موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (51-56)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

مَهِينٌ: أي: ضَعيفٌ ذَليلٌ، وأصلُ (هون) هنا: يدُلُّ على احتقارٍ .
أَسْوِرَةٌ: جَمعُ سِوارٍ، والسِّوارُ: حَلْقةٌ عريضةٌ مِن ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ تُحيطُ بالرُّسغِ، وأصلُ (سور): يدُلُّ على عُلُوٍّ وارتِفاعٍ .
مُقْتَرِنِينَ: أي: مُتَتابِعينَ، يُقارِنُ بَعضُهم بَعضًا، يَشهَدونَ له بصِدقِه، ويُعينونَه على أمْرِه، وأصلُ (قرن) هنا: يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ .
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ: أي: أزعَجَهم، وحَمَلهم على الخِفَّةِ والجَهلِ بكَيدِه وغُرورِه، يقالُ: استخَفَّه عن رأيِه: إذا حمَلَه على الجَهلِ، وأزاله عن الصَّوابِ، وأصلُ (خفف): يدُلُّ على خِلافِ الثِّقَلِ والرَّزانةِ .
آَسَفُونَا: أي أغضَبونا، والأَسَفُ يكونُ على وَجهَينِ: الغَضَبِ، والحُزنِ، وأصلُ (أسف): يدُلُّ على الفَوتِ والتَّلَهُّفِ وما أشْبَهَ ذلك .
سَلَفًا: أي: مُتَقَدِّمينَ لِيَتَّعِظَ بهم الآخِرونَ، جَمعُ سالفٍ، مِثلُ: حارِسٍ وحَرَسٍ، يُقالُ: سَلَف يَسلُفُ: إذا تقَدَّم ومَضى، وأصلُ (سلف): يدُلُّ على تقَدُّمٍ وسَبْقٍ .
وَمَثَلًا: أي: عِبرةً وعِظةً تجري مَجرى المَثَلِ لِمَن بَقِيَ بَعْدَهم، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف: 51، 52]
في أَمْ هنا أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنَّها «أم» المُنقَطِعةُ المقدَّرةُ بـ «بل» للإِضرابِ الانتِقاليِّ، والهَمزةِ الَّتي للإِنكارِ أو للتَّقريرِ، أي: بل أأنا خَيرٌ. الثَّاني: أنَّها بمعنى «بل» فقط، أي: بلْ أنا خيرٌ، فيكونُ قد انتَقَل مِن ذلك الكَلامِ إلى إخبارِه بأنَّه خَيرٌ. الثَّالثُ: أنَّها مُتَّصِلةٌ، والمُعادِلُ محذوفٌ تقديرُه: «أم تُبصِرونَ»؛ لأنَّ المعنى: أفلا تُبصِرونَ أم تُبصِرونَ، إلَّا أنَّه وَضَع قَولَه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مَوضِعَ «أم تُبصِرونَ»؛ لأنَّهم إذا قالوا له: أنت خيرٌ، فهم عندَه بُصَراءُ، وهذا مِن إنزالِ السَّبَبِ مَنزِلةَ المُسَبَّبِ .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن طُغيانِ فِرعونَ وغُرورِه وعِنادِه، واستِخفافِه بعقولِ قَومِه، فيقولُ: ونادى فِرعَونُ في قَومِه فقال: يا قَومِ أليس لي مُلكُ مِصرَ، وهذه الأنهارُ تجري بيْنَ يَدَيَّ في بَساتيني وقُصوري، أفلا تُبصِرونَ؟! بل أنا خيرٌ مِن هذا الَّذي هو ضَعيفٌ ذليلٌ، ولا يَكادُ يُفهَمُ كلامُه؛ لقِلَّةِ فَصاحتِه! فهلَّا أُلقِيَت عليه أساوِرُ مِن ذَهَبٍ، أو جاء معه الملائِكةُ مُؤيِّدينَ له!
 فحَمَل فِرعَونُ قَومَه على الخِفَّةِ والجَهلِ، فصَدَّقوه وأطاعوه؛ لأنَّهم كانوا قومًا كافِرينَ باللهِ.
ثمَّ يقولُ تعالى مُبيِّنًا سوءَ عاقِبَتِهم: فلمَّا أغضَبونا انتَقَمْنا منهم، فأغرَقْناهم جميعًا في البَحرِ، فجعَلْناهم متقدِّمينَ في الهلاكِ قُدوةً لِمَن عَمِل بعمَلِهم مِن الكفَّارِ في استِحقاقِ العذابِ، وعِبرةً وعِظةً لِمَن يأتي بعدَهم، فمَن عَمِل بمثلِ عمَلِهم جُوزِيَ بجزائِهم.

تفسير الآيات:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كُشِفَ عنهم العَذابُ بدَعوةِ موسى، وأضمَرَ فِرعَونُ ومَلَؤُه نَكْثَ الوَعدِ الَّذي وَعَدوه مُوسى بأنَّهم يَهتَدون؛ خَشِيَ فِرعَونُ أنْ يَتَّبِعَ قَومُه دَعوةَ مُوسَى ويُؤمِنوا برِسالَتِه، فأعلَن في قَومِه تَذكيرَهم بعَظَمةِ نَفْسِه؛ لِيُثَبِّتَهم على طاعتِه، ولِئَلَّا يُنقَلَ إليهم ما سأَله مِن مُوسى، وما حَصَل مِن دَعوتِه بكَشفِ العَذابِ، ولِيَحسَبوا أنَّ ارتِفاعَ العَذابِ أمْرٌ اتِّفاقيٌّ؛ إذ قَومُه لم يَطَّلِعوا على ما دار بيْنَه وبيْنَ مُوسَى مِن سُؤالِ كَشْفِ العَذابِ .
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.
أي: ونادى فِرعَونُ في قَومِه القِبطِ مُفتَخِرًا مُتبَجِّحًا، فقال: يا قَومِ أليس لي وَحْدي مُلكُ مِصرَ كُلِّها، لا يُنازِعُني أحَدٌ في التَّصَرُّفِ فيها ؟!
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.
أي: وهذه الأنهارُ المتفَرِّعةُ مِن نَهرِ النِّيلِ تَجري بيْنَ يَدَيَّ في البَساتينِ والقُصورِ وغَيرِها ؟!
أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
أي: أفلا تُبصِرونَ -يا قَومِ- ما أنا فيه مِنَ المُلْكِ والعَظَمةِ، والقُوَّةِ والنَّعيمِ ؟!
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان المقصودُ تَصغيرَ شَأنِ موسَى في نُفوسِهم بأشياءَ هي عَوارِضُ ليست مُؤثِّرةً؛ انتَقَل فِرعَونُ مِن تَعظيمِ شأنِ نَفْسِه إلى إظهارِ البَونِ بيْنَه وبيْنَ موسى الَّذي جاء يحَقِّرُ دينَه وعِبادةَ قَومِه إيَّاه، فقال :
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ.
أي: بل أنا خَيرٌ مِن هذا الَّذي هو ضَعيفٌ ذَليلٌ .
وَلَا يَكَادُ يُبِينُ.
أي: ولا يَكادُ يُعرِبُ عمَّا يُريدُ بوُضوحٍ؛ لِعِيِّ مَنطِقِه، وقِلَّةِ فَصاحتِه !
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا تضَمَّن وصْفُ فِرعَونَ لِموسى بـ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أنَّه مُكَذِّبٌ له دَعواه الرِّسالةَ عن الله؛ فرَّعَ عليه قَولَه: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ؛ ترَقِّيًا في إحالةِ كَونِه رَسولًا مِن اللهِ، يُخَيِّلُ لِقَومِه -جَهلًا أو تَجاهُلًا- أنَّ للرِّسالةِ شِعارًا كشِعارِ المُلوكِ !
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ.
أي: فهَلَّا أُلقِيَت على موسى -إن كان رَسولًا مِن رَبِّ العالَمينَ كما يَزعُمُ- أساوِرُ مِن ذَهَبٍ يَتحَلَّى بلُبسِها في يَدَيه !
أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ.
أي: أو هلَّا جاء الملائِكةُ مُتتابِعينَ قد اقتَرن بعضُهم ببعضٍ، يَشهَدون لموسَى بصِدقِه، ويُعِينونَه على أمرِه !
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54).
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ.
أي: فاستَخَفَّ فِرعَونُ عُقولَ قَومِه، فصدَّقوا باطِلَه وشُبَهَه، واستَجابوا له !
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.
أي: لأنَّهم كانوا قَومًا كافِرينَ باللهِ تعالى، خارِجينَ عن طاعتِه، خَذَلهم اللهُ فأطاعوا فِرعَونَ حيثُ زَيَّن لهم الشَّرَّ .
فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه عقَّب ما مضَى مِن القِصَّةِ بالمقصودِ، وهو هذه الأمورُ الثَّلاثةُ المترتِّبةُ المتفَرِّعُ بَعضُها على بَعضٍ؛ وهي: الانتِقامُ، فالإغراقُ، فالاعتِبارُ بهم في الأُمَمِ بَعْدَهم .
فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.
أي: فلمَّا أغضَبَنا فِرعَونُ وقومُه أوقَعْنا بهم عُقوبَتَنا العاجِلةَ في الدُّنيا .
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
أي: فأغرَقْناهم جميعًا في البَحرِ، فلم نُنْجِ منهم أحَدًا .
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان إهلاكُهم بسَبَبِ إغضابِهم لله تعالى، وبالكِبْرِ على رُسُلِه؛ كانوا سَبَبًا لِأنْ يَتَّعِظَ بحالِهم مَن يأتي بَعْدَهم .
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56).
أي: فجعَلْناهم متقدِّمينَ في الهلاكِ، قُدوةً لِمَن عَمِل بعمَلِهم مِن الكفَّارِ في استِحقاقِ العذابِ، وعِبرةً وعِظَةً لِمَن يأتي بعدَهم، فمَن عَمِل بمِثلِ عمَلِهم جُوزِيَ بجزائِهم .
قال الله تبارك وتعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات: 25، 26].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ تعَزَّز فِرعَونُ بمُلكِ مِصرَ، وجَرْيِ النِّيلِ بأمْرِه -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وكان في ذلك هَلاكُه؛ لِيُعلَمَ أنَّه قد يَتعزَّزُ المرءُ بشَىءٍ مِن دُونِ اللهِ فيَكونُ حَتْفُه وهلاكُه في ذلك الشَّيءِ !
2- قَولُ الله تعالى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ استصغَرَ فِرعَونُ موسى وحديثَه، وعابه بالفَقرِ والعِيِّ؛ فسَلَّطَه الله عليه، وكان هَلاكُه بيَدَيه، فلا يَستصغِرْ أحدٌ أحدًا فيُسَلِّطَه اللهُ عليه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فيه سُؤالٌ: أليس أنَّ موسى عليه السَّلامُ سأل اللهَ تعالى أن يُزيلَ الرُّتَّةَ عن لِسانِه، بقَولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27، 28]، فأعطاه اللهُ تعالى ذلك، بقَولِه: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36]، فكيف عابَه فِرعَونُ بتلك الرُّتَّةِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ فِرعَونُ أراد بقَولِه: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ: حُجَّتَه الَّتي تدُلُّ على صِدقِه فيما يَدَّعي، ولم يُرِدْ أنَّه لا قُدرةَ له على الكلامِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه عابَه بما كان عليه أوَّلًا؛ وذلك أنَّ موسى كان عندَ فِرعَونَ زَمانًا طَويلًا، وفي لِسانِه حُبْسةٌ، فنَسَبَه فِرعَونُ إلى ما عَهِدَه عليه مِنَ الرُّتَّةِ؛ لأنَّه لم يَعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى أزال ذلك العَيبَ عنه .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ فِرعَونَ قد كَذَب في جميعِ قَولِه؛ فقد كان موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أبلَغَ أهلِ زَمانِه قَولًا وفِعلًا، ولكِنَّ الخَبيثَ أسنَدَ هذا إلى ما بَقِيَ في لسانِه مِن الحُبْسةِ؛ تَخييلًا لأتْباعِه؛ لأنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما دعا بإزالةِ حُبْستِه، بل بعُقدةٍ منها .
2- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ فيما يَنفُونَ عن اللهِ تعالى مِن كُلِّ صِفةٍ يُشارِكُه فيها خَلْقُه؛ إذ قد أخبَرَ تعالى عن نَفْسِه أنَّهم قد أغضَبوه .
3- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ دَلالةٌ على بُطلانِ تأويلِ الغَضَبِ بالانتِقامِ؛ فإنَّ معنى آَسَفُونَا: أغضَبونا، فجَعَلَ الانتِقامَ غيرَ الغَضَبِ، فقال: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ، جعَلَ الانتِقامَ أثَرًا مُتَرَتِّبًا على الغَضَبِ؛ فدلَّ هذا على بُطلانِ تفسيرِ الغَضَبِ بالانتِقامِ .
4- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ إثباتُ الأسبابِ .
5- المَقصودُ مِن قِصَّةِ مُوسَى عليه السَّلامُ هو قَولُه فيها: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ [الزخرف: 55، 56]؛ فإنَّ المُرادَ بـ (الآخِرِين): المُكَذِّبون صَناديدُ قُرَيشٍ، و(مِن) المَقصودُ منها بالخُصوصِ هنا قَولُه: وَمَلَئِهِ [الزخرف: 46]، أي: عُظماءِ قَومِه؛ فإنَّ ذلك شَبيهٌ بحَالِ أبي جَهلٍ وأَضرابِه، وقَولُه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف: 47] ؛ لأنَّ حالَهُم في ذلك مُشابِهٌ لحالِ قُرَيشٍ، وقَولُه بعْدَ ذلك: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف: 52] ؛ لأنَّهُم أشبَهُوا بذلك حالَ أبي جَهلٍ ونَحوِه في قَولِهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ إلَّا أنَّ كَلِمةَ سادَةِ قُرَيشٍ كانتْ أقرَبَ إلى الأدَبِ مِن كَلِمةِ فِرعَونَ؛ لأنَّ هَؤلاءِ كان رَسولُهم مِن قَومِهم، فلم يَتركُوا جانِبَ الحَياءِ بالمَرَّةِ، وفِرعَونُ كان رَسولُه غَريبًا عنهم، وقَولُه: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف: 53] ؛ لأنَّه مُشابِهٌ لِمَا تَضَمَّنَه قَولُ صَناديدِ قُرَيشٍ: عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ فإنَّ عَظَمةَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَينِ كانتْ بوَفرةِ المالِ؛ ولذلك لم يُذكَرْ مِثلُه في غَيرِ هذه القِصَّةِ مِن قَصَصِ بَعثةِ مُوسَى عليه السَّلامُ، وقَولُهم: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [الزخرف: 49] ، وهو مُضاهٍ لقَولِه في قُرَيشٍ: هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 30] ، وقَولُه: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55] الدَّالُّ على أنَّ اللهَ أَهلَكَهم كُلَّهُم، وذلك إنذارٌ بما حَصَل مِنِ استِئصالِ صَناديدِ قُرَيشٍ يَومَ بَدرٍ؛ فحَصَل مِن العِبرةِ في هذه القِصَّةِ أمْرانِ؛ أحَدُهما: أنَّ الكُفَّارَ والجَهَلةَ يَتمسَّكُون بمِثلِ هذه الشُّبهةِ في ردِّ فَضلِ الفُضَلاءِ؛ فيَتمسَّكون بخُيوطِ العَنكَبوتِ مِن الأُمورِ العَرَضيَّةِ الَّتي لا أثَرَ لها في قِيمةِ النُّفوسِ الزَّكِيَّةِ. وثانيهما: أنَّ فِرعَونَ صاحِبَ العَظَمةِ الدُّنيَويَّةِ المَحضَةِ صار مَقهورًا مَغلوبًا، انتَصَر عليه الَّذي استَضْعَفَه .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ
- قَولُه: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ جَعَلهم مَحِلًّا لِنِدائِه ومَوقِعًا له، والمَعنَى: أنَّه أمَرَ بالنِّداءِ في مَجامِعِهم وأماكِنِهم مَن نَادَى فيها بذلك؛ فأُسنِدَ النِّداءُ إليه؛ كقَولِكَ: قَطَع الأَميرُ اللِّصَّ؛ إذا أمَر بقَطعِه. ويَجوزُ أنْ يَكونَ عِندَه عُظَماءُ القِبطِ، فيَرفَعُ صَوتَه بذلك فيما بيْنَهم، ثمَّ يُنشَرُ عنه في جُموعِ القِبطِ، فكَأَنَّه نُودِيَ به بيْنَهم، فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ .
- قولُه: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ الإشارةُ إلى جَداولِ النِّيلِ وفُروعِه المشهورةِ بيْنَ أهلِ المدينةِ؛ كأنَّها مُشاهَدةٌ لِعُيونِهم .
- ومعنى قَولِه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يَحتَمِلُ أنَّ الأنهارَ كانت تَجري تَحتَ قَصرِه. ويحتمِلُ أنْ يَكونَ ادَّعَى أنَّ النِّيلَ يَجري بأمْرِه؛ فيَكونَ مِنْ تَحْتِي كِنايةً عن التَّسخيرِ. ويحتمِلُ أنَّه أراد أنَّ النِّيلَ يَجري في مَملَكَتِه مِن بِلادِ أُسوانَ إلى البَحرِ؛ فيَكونَ المرادُ التَّمَكُّنَ مِن تَصاريفِ النِّيلِ، وكان مِثلُ هذا الكَلامِ يَروجُ على الدَّهماءِ؛ لِسَذاجةِ عُقولِهِم. ويَجوزُ أن يَكونَ المُرادُ بالأنهارِ مَصَبَّ المِياهِ الَّتي كانت تَسقِي المَدينةَ والبَساتينَ الَّتي حَوْلَها، وأنَّ تَوزيعَ المِياهِ كان بأمْرِه في سِدَادٍ وخَزَّاناتٍ؛ فهو يُهَوِّلُ عليهم بأنَّه إذا شاء قَطَع عنهم الماءَ، فيَكونَ معنى مِنْ تَحْتِي: مِن تَحتِ أَمرِي، أي: لا تَجرِي إلَّا بأَمرِي .
- والاستِفهامُ في أَفَلَا تُبْصِرُونَ تَقريرِيٌّ؛ جاء التَّقريرُ على النَّفيِ؛ تَحقيقًا لإقرارِهِم حتَّى أنَّ المُقَرِّرَ يَفرِضُ لهم الإِنكارَ؛ فلا يُنكِرون، وهو يُرِيدُ بذلك استِعظامَ مُلكِه .
2- قولُه تعالَى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ
- قولُه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ قال فِرعونُ ذلك تَعريضًا بمُوسى عليه السَّلامُ، ومُبالَغةً في التَّعييرِ بأنَّه ليس معه مِن العُدَدِ وآلاتِ المُلكِ والسِّياسةِ ما يَعتَضِدُ به .
- والإشارَةُ بقَولِه: هَذَا للتَّحقيرِ .
- وجاء بالمَوصولِ الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ؛ لادِّعاءِ أنَّ مَضمونَ الصِّلةِ شَيءٌ عُرِفَ به مُوسَى .
3- قولُه تعالَى: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ
- لَمَّا وَصَف نَفْسَه بالعِزَّةِ والمُلكِ، ووازَنَ بيْنَه وبيْنَ موسى عليه السَّلامُ؛ فوَصَفَه بالضَّعفِ وقِلَّةِ الأَعضادِ مِن المَلائكةِ؛ اعتَرَض فقال: هَلَّا إنْ كان صادِقًا مَلَّكَه رَبُّه وسَوَّدَه وسَوَّرَه، وجَعَلَ المَلائكةَ أَعضادَهُ وأنصارَه !
- و(لَولَا) حَرفُ تَحضيضٍ مُستَعمَلٌ في التَّعجيزِ .
- قَولُه: فَلَوْلَا أُلْقِيَ الإلقاءُ: الرَّميُ، وهو مُستَعمَلٌ هنا في الإنزالِ، أي: هلَّا أُلقِيَ عليه مِن السَّماءِ أَساوِرةٌ مِن ذَهَبٍ، أي: سَوَّرَه الرَّبُّ بها؛ لِيَجعَلَه مَلِكًا على الأُمَّةِ .
- قولُه: أَوْ جَاءَ حَرفُ (أو) للتَّرديدِ، أي: إنْ لم تُلْقَ عليه أَساوِرةٌ مِن ذَهَبٍ، فلْتَجِئْ معه طَوائِفُ مِن المَلائكةِ شاهِدِينَ له بالرِّسالةِ، ولَعَلَّ فِرعَونَ ذَكَرَ المَلائكةَ مُجاراةً لمُوسى عليه السَّلامُ؛ إذ لَعَلَّه سَمِعَ منه أنَّ لِلَّهِ مَلائكةً أو نحوَ ذلك في مَقامِ الدَّعوةِ؛ فأراد إفحامَه بأنْ يأتيَ معه بالملائكةِ الَّذين يَظهَرون له . ولا مانعَ أن يكونَ ذلك معلومًا عندَهم، كما قال مَن قبْلَهم مِن نساءِ القِبطِ في يوسفَ عليه السَّلامُ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] .
4- قولُه تعالَى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
- قَولُه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي: فتَفَرَّعَ عن نِداءِ فِرعَونَ قَومَه أنْ أَثَّرَ بتَمويهِه في نُفوسِ مَلَئِه؛ فعَجَّلوا بطاعَتِه بعْدَ أنْ كانوا مُتَهَيِّئِينَ لاتِّباعِ مُوسَى لَمَّا رَأَوُا الآياتِ؛ فالخِفَّةُ مُعَبَّرٌ بها هنا عن الانتِقالِ مِن حالةِ التَّأمُّلِ في خَلْعِ طاعةِ فِرعَونَ، والتَّثاقُلِ في اتِّباعِه، إلى التَّعجيلِ بالامتِثالِ له، كما يَخِفُّ الشَّيءُ بعدَ التَّثاقُلِ، والمعنَى يَرجِعُ إلى أنَّه استَخَفَّ عُقولَهم، فأسرَعوا إلى التَّصديقِ بما قالَه بعْدَ أنْ صدَّقُوا موسى في نُفوسِهم لَمَّا رَأَوْا آياتِه نُزولًا ورَفْعًا .
- والسِّينُ والتَّاءُ في قولِه: فَاسْتَخَفَّ للمُبالَغةِ في (أخَفَّ)، مِثلُ قَولِه تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران: 155] .
- وجُملةُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ في مَوضِعِ العِلَّةِ لجُملةِ فَأَطَاعُوهُ؛ فإنَّ كَونَهم قد كانوا فاسِقينَ أمْرٌ بَيِّنٌ؛ ضَرورةَ أنَّ موسى عليه السَّلامُ جاءَهم فدَعاهُم إلى تَركِ ما كانوا عليه مِن عِبادةِ الأصنامِ، فلا يَقتَضي في المَقامِ تأكيدُ كَونِهم فاسِقينَ، أي: كافِرِين. والمعنَى: أنَّهم إنَّما خَفُّوا لِطاعةِ رَأسِ الكُفرِ؛ لِقُربِ عَهدِهم بالكُفرِ؛ لأنَّهم كانوا يُؤَلِّهُون فِرعَونَ، فلمَّا حَصَل لهم تَرَدُّدٌ في شأنِه ببَعثةِ موسى عليه السَّلامُ، لم يَلبَثُوا أنْ رَجَعوا إلى طاعةِ فِرعَونَ بأدنَى سَبَبٍ .
5- قولُه تعالَى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ
- في قَولِه: فَلَمَّا آَسَفُونَا إيجازٌ؛ لأنَّ كَونَهُم مُؤسِفينَ لم يَتقَدَّمْ له ذِكرٌ حتَّى يُبنَى أنَّه كان سبَبًا للانتِقامِ منهم؛ فدلَّ إِناطةُ أداةِ التَّوقيتِ به على أنَّه قد حَصَل، والتَّقديرُ: فآسَفُونا، فلمَّا آسَفُونا انتَقَمْنا منهم .
- وإنَّما عُطِفَ فَأَغْرَقْنَاهُمْ بالفاءِ على انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ، مع أنَّ إغراقَهم هو عَينُ الانتِقامِ منهم؛ إمَّا لأنَّ فِعلَ (انتَقَمْنا) مُؤَوَّلٌ بـ: قدَّرْنا الانتِقامَ منهم؛ فيَكون عَطفُ فَأَغْرَقْنَاهُمْ بالفاءِ كالعَطفِ في قَولِه: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] . وإمَّا أن تُجعلَ الفاءُ زائِدةً؛ لتَأكيدِ تَسَبُّبِ آَسَفُونَا في الإغراقِ .
- قولُه: وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ المَثَلُ: النَّظيرُ والمُشابِهُ، وأُطلِقَ المَثَلُ على لازِمِه على سَبيلِ الكِنايةِ، أي: جَعَلْناهُم عِبرةً للآخِرِينَ؛ يَعلَمون أنَّهُم إنْ عَمِلوا مِثلَ عَمَلِهم أصابَهم مِثلُ ما أصابَهُم. ويَجوزُ أنْ يَكونَ المَثَلُ هنا بمَعنَى الحَديثِ العَجيبِ الشَّأنِ الَّذي يَسيرُ بيْنَ النَّاسِ مَسِيرَ الأَمثالِ، أي: جَعَلْناهُم للآخِرِينَ حَديثًا يَتَحَدَّثون به، ويَعِظُهُم به مُحَدِّثُهم .