موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (77-83)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ

غَريبُ الكَلِماتِ:

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: الماءُ الصَّافي قَلَّ أو كَثُر، وقيل: الماءُ القليلُ، ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ [875] يُنظر: ((العين)) للخليل (7/436)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/440)، ((المفردات)) للراغب (ص: 811)، ((تفسير القرطبي)) (12/6)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/266). قال الشنقيطي: (النُّطْفة مختلِطةٌ مِن ماءِ الرَّجلِ وماءِ المرأةِ، خلافًا لِمَنْ زَعَم أنَّها مِن ماءِ الرَّجُلِ وحْدَه). ((أضواء البيان)) (4/266). وذكَر الدَّليلَ على ذلك في موضعٍ آخَرَ، فقال: (بدليلِ قولِه تعالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] ، أي: أخلاطٍ مِن ماءِ الرَّجُلِ وماءِ المرأةِ). ((أضواء البيان)) (2/330). .
خَصِيمٌ: أي: مُخاصِمٌ جَدِلٌ بِالباطِلِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على المُنازَعةِ [876] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 755)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 71)، ((تفسير القرطبي)) (15/58)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 143). .
رَمِيمٌ: أي: باليةٌ، وأصلُ (رمم): يدُلُّ على بلاءِ الشَّيءِ [877] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 368)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 241)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/378)، ((تفسير القرطبي)) (15/58)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 350). .
مَلَكُوتُ: أي: ملْكُ، أو هو أعظَمُ الملكِ، وهو مختصٌّ بملكِ الله تعالى، والمَلَكوتُ مَصدرٌ مِن المُلْكِ، كالرَّغَبوتِ مِنَ الرَّغبةِ، والرَّهَبوتِ مِن الرَّهبةِ؛ زِيدَتْ فيه الواوُ والتاءُ، وبُنِيَ على (فَعَلُوت)، وهو بِناءُ مُبالَغةٍ؛ وأصلُ (ملك): يدُلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ، وصحَّةٍ [878] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((تفسير ابن جرير)) (9/347)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 414)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/351)، ((المفردات)) للراغب (ص: 775)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 97)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 193)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 880). .

المعنى الإجماليُّ:

يَختِمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ بإقامةِ الأدلَّةِ على كمالِ قدرتِه، وعلى أنَّ البعثَ حقٌّ، فيقولُ: أوَلم يَرَ الإنسانُ المكذِّبُ بالبَعثِ أنَّا خلَقْناه مِن مَنيٍّ، فإذا هو بالغُ الخُصومةِ، والجَدلِ بالباطِلِ، مُبِينٌ عما يريدُه؟! ولم يَكتَفِ بذلك، بل ضرَبَ لنا مَثَلًا، فأنكَر قُدرتَنا على إحياءِ الموتَى، وعلى بَعثِهم يومَ القيامةِ، فقال -دونَ أن يَفطُنَ إلى أصلِ خِلقتِه-: مَن يُحيي العِظامَ وهي باليةٌ؟!
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالرَّدِّ عليه، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لهذا المُنكِرِ للبَعثِ: يُحييها اللهُ تعالى الَّذي أوجَدَها مِن العدَمِ أوَّلَ مَرَّةٍ، وهو عليمٌ بخَلقِه، وهو الَّذي جعَلَ لكم مِن الشَّجَرِ الرَّطْبِ الأخضَرِ نارًا مُحرِقةً، فإذا أنتم مِن هذا الشَّجرِ تُوقِدونَ النَّارَ!
أوَلَيس اللهُ الَّذي خلق السَّمَواتِ والأرضَ بقادِرٍ على أن يُعيدَ خَلْقَ النَّاسِ بعدَ مَوتِهم؟! بلى قادِرٌ سُبحانَه على أن يَبعَثَهم، وهو الكثيرُ الخَلقِ لِما يَشاءُ خَلْقَه، الواسِعُ العِلمِ، فلا يخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه. إنَّما أمرُه تعالى إذا أراد إيجادَ شَيءٍ أن يقولَ له: كُنْ، فإذا هو كائِنٌ في الحالِ.
ثمَّ يختِمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ بتنزيهِه عن كلِّ نقصٍ، فيقولُ: فتَنَزَّهَ اللهُ الَّذي بيَدِه مُلكُ كُلِّ شَيءٍ، وإليه وَحْدَه تُرجَعونَ بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم على أعمالِكم.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى دليلًا على عِظَمِ قُدرتِه، ووُجوبِ عِبادتِه، بقَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس: 71] ؛ ذكَرَ دليلًا مِن الأنفُسِ أبْيَنَ مِن الأوَّلِ [879] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/365). .
وأيضًا لَمَّا أُبطِلَت شُبَهُ المشرِكينَ في إشراكِهم بعِبادةِ اللهِ، وإحالتِهم قُدرتَه على البَعثِ، وتَكذيبِهم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إنبائِه بذلك إبطالًا كُلِّيًّا؛ عُطِفَ الكلامُ إلى جانبِ تَسفيهِ أقوالٍ جُزْئيَّةٍ لِزُعماءِ المكذِّبين بالبَعثِ؛ تَوبيخًا لهم على وَقاحَتِهم، وكُفْرِهم بنِعمةِ ربِّهم [880] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/73). .
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77).
أي: أوَلم يَرَ الإنسانُ المكذِّبُ بالبَعثِ أنَّا خلَقْناه مِن مَنِيٍّ، ثمَّ تنقَّل في الأطوارِ شيئًا فشيئًا، حتَّى كَبِرَ، وتمَّ عقلُه، فإذا هو بالِغُ الخُصومةِ، وفي غايةِ البيانِ عَمَّا يُريدُه، حتَّى إنَّه لَيُجادِلُ مَن أعطاه العَقلَ والقُدرةَ، مُنكِرًا قُدرتَه على إحيائِه ثانيةً [881] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/58)، ((تفسير ابن كثير)) (6/594)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/177)، ((تفسير السعدي)) (ص: 699)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 289). وقد ذهب جمهورُ المفَسِّرينَ -كما قال ابنُ الجوزيِّ- إلى أنَّ المرادَ بالإنسانِ هنا، وفي الآيةِ الَّتي بعدَها: أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ، وصحَّحه ابنُ عطيَّةَ، وذهَبَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ إلى أنَّه العاصِ بنُ وائلٍ. والأوَّلُ أشهَرُ كما قال السَّمْعانيُّ. يُنظر: ((سيرة ابن هشام)) (1/361)، ((تفسير ابن جرير)) (19/487)، ((تفسير السمعاني)) (4/389)، ((تفسير ابن عطية)) (4/464)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/533). وقال ابن كثير: (وعلى كُلِّ تقديرٍ -سواءٌ كانت هذه الآياتُ قد نزلت في أُبيِّ بنِ خلفٍ، أو في العاصِ بنِ وائلٍ، أو فيهما- فهي عامَّةٌ في كُلِّ مَن أنكر البَعثَ، والألِفُ واللَّامُ في قَولِه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ للجِنسِ؛ يعُمُّ كُلَّ مُنكِرٍ للبَعثِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/594). وقال الشوكاني: (والإنسانُ المذكورُ في الآيةِ المرادُ به جنسُ الإنسانِ، كما في قولِه: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، ولا وجْهَ لتخصيصِه بإنسانٍ مُعَيَّنٍ). ((تفسير الشوكاني)) (4/439). وقال الشنقيطي: (قولُه: مُبِينٌ على أنَّه اسمُ فاعلِ «أَبَانَ» المُتعدِّيةِ، والمفعولُ محذوفٌ للتَّعميمِ، أي: مُبِينٌ كُلَّ ما يُريدُ بيانَه وإظهارَه بلسانِه مِمَّا في ضميرِه؛ وذلك لأنَّ رَبَّه عَلَّمَه البيانَ، وعلى أنَّه صفةٌ مُشَبَّهةٌ مِن «أَبَانَ» اللَّازمةِ، وأنَّ المعنَى فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي: بَيِّنُ الخصومةِ ظاهِرُها؛ فكذلك أيضًا؛ لأنَّه ما كان بَيِّنَ الخُصومةِ إلَّا لأنَّ اللهَ عَلَّمه البيانَ). ((أضواء البيان)) (7/490). وممَّن اختار أنَّ المعنى: ظاهرُ الخصومةِ: السمعاني، وابنُ الجوزي، والعُليمي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/389)، ((نفسير ابن الجوزي)) (2/550)، ((تفسير العليمي)) (5/500). وقال البِقاعي: (بَيِّنُ القدرةِ على الخِصامِ، وموضحٌ لِما يُريدُه غايةَ الإيضاحِ). ((نظم الدرر)) (11/107). ؟!
كما قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4] .
وقال سُبحانَه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66، 67].
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78).
أي: ومثَّلَ الكافِرُ بشَيءٍ يُريدُ به إنكارَ البَعثِ، ونَسِيَ [882] قال البِقاعي: (النِّسيانُ هنا يحتمِلُ أن يكونَ بمعنى الذُّهولِ، وأن يكونَ بمعنى التَّركِ). ((نظم الدرر)) (16/178). ابتِداءَ خَلقِ اللهِ له مِن نُطفةٍ -فمَن قَدَر على ذلك فهو قادِرٌ على بَعثِه-؛ فقال مُستبعِدًا ذلك: مَن الَّذي يَقدِرُ على إحياءِ عِظامِ الموتى بعدَما بَلِيَت، وصارت ترابًا تَذْرُوه الرِّياحُ، فيَتلاشَى [883] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/488)، ((تفسير القرطبي)) (15/58)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/109)، ((تفسير ابن كثير)) (6/594)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/178، 179)، ((تفسير السعدي)) (ص: 699)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/75)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 292، 293). ؟!
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79).
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهذا المُنكِرِ للبَعثِ: الَّذي يُحيي العِظامَ هو الَّذي خلَقَها أوَّلَ مَرَّةٍ، ولم تكُنْ شَيئًا؛ فالَّذي قدَرَ على ابتِداءِ خَلقِها لن يَعجِزَ عن إعادتِها مرَّةً أُخرى [884] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/488)، ((تفسير السمرقندي)) (3/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 699)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 294، 295). !
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ عَليمٌ بجَميعِ خَلقِه [885] قال ابن عثيمين: (هل الخَلقُ هنا بمعنى المخلوقِ أو بمعنى الفِعلِ؟... يحتمِلُ الأمْرَينِ، لكِنِ احتِمالُ الفِعلِ أكثَرُ، يعني: كلُّ خَلقٍ فاللهُ عليمٌ به، ومِن المعلومِ أنَّ العالِمَ بالخَلقِ عالمٌ بالمخلوقِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 298). ، فيَعلَمُ كيف يُحييهم، وكيف يُميتُهم، ويَعلَمُ أين تفرَّقَت عِظامُهم، وتفَتَّت أجسادُهم، لا يخفى عليه شَيءٌ مِن خَلقِه كائِنًا ما كان [886] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/488)، ((تفسير ابن كثير)) (6/594)، ((تفسير الشوكاني)) (4/440)، ((تفسير السعدي)) (ص: 699). .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80).
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا.
أي: الَّذي يُحيي العِظامَ وهي رَميمٌ هو الَّذي خلَقَ بقُدرتِه مِن الشَّجَرِ الرَّطْبِ النَّدِيِّ البارِدِ نارًا يابِسةً مُحرِقةً [887] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/489)، ((تفسير القرطبي)) (15/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 700)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 299). قيل: المرادُ أنَّ الَّذي قدَرَ على إخراجِ النَّارِ اليابسةِ مِن الشَّجَرِ الأخضَرِ الَّذي هو في غايةِ الرُّطوبةِ، مع تَضادِّهما وشِدَّةِ تخالُفِهما: فهو قادِرٌ على إخراجِ الموتى مِن قبورِهم، وإحيائِهم بعدَ موتِهم. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ القيِّم، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/59)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (1/132)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/110)، ((تفسير السعدي)) (ص: 700)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 299، 300). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/489). وقيل: المرادُ أنَّ الذي بدأ خَلْقَ هذا الشَّجرِ مِن ماءٍ حتَّى صار خَضِرًا نَضرًا ذا ثَمَرٍ ويَنْعٍ، ثمَّ أعاده إلى أن صار حَطبًا يابِسًا تُوقَدُ به النَّارُ: كذلك هو فَعَّالٌ لِما يَشاءُ، قادِرٌ على ما يُريدُ، لا يَمْنَعُه شيءٌ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/595)، ((تفسير القاسمي)) (8/196). !
كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة: 71 - 73].
فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ.
أي: فإذا أنتم مِن هذا الشَّجَرِ تُوقِدونَ النَّارَ [888] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/489)، ((البسيط)) للواحدي (18/528)، ((تفسير السمعاني)) (4/390). .
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تبيَّن الاستِدلالُ بخَلقِ أشياءَ على إمكانِ خَلقِ أمثالِها؛ ارتقَى في هذه الآيةِ إلى الاستِدلالِ بخَلقِ مَخلوقاتٍ عَظيمةٍ على إمكانِ خَلقِ ما دُونَها [889] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/78). .
وأيضًا بعْدَ أنْ ذكَرَ بَديعَ جَعْلِه مِن الشَّجرِ الأخضَرِ نارًا؛ ذكَرَ ما هو أبدَعُ وأغرَبُ مِن خلْقِ الإنسانِ مِن نُطْفةٍ، ومِن إعادةِ المَوتَى، وهو إنشاءُ هذه المخلوقاتِ العظيمةِ الغريبةِ مِن صِرْفِ العدَمِ إلى الوُجودِ، فقال [890] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/85). :
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.
أي: أوَليس الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ السَّبْعَ والأرضَ بقادِرٍ على أن يُعيدَ خَلْقَ النَّاسِ يَومَ القيامةِ؟ فاللهُ الَّذي لم يَعجِزْ عن خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ -وهي أعظَمُ مِن خَلقِ النَّاسِ- لن يَعجِزَ عن إحياءِ النَّاسِ بعدَ مَوتِهم [891] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/490)، ((الوسيط)) للواحدي (3/520)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/110)، ((تفسير ابن كثير)) (6/595). قال الزركشي: (قولُه تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ يظُنُّ بعضُهم أنَّ معناه: مِثل السَّمواتِ والأرضِ، وهو فاسدٌ؛ لوجهينِ: أحدُهما: أنَّهم ما أنكروا إعادةَ السَّمواتِ والأرضِ حتَّى يَدُلَّ على إنكارِهم إعادَتَهما بابتدائِهما، وإنَّما أنكروا إعادةَ أنفُسِهم، فكان الضَّميرُ راجعًا إليهم؛ لِيَتحَقَّقَ حصولُ الجوابِ لهم، والرَّدُّ عليهم. الثَّاني: لتَبَيُّنِ المرادِ في قولِه: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [الأحقاف: 33] . فإنْ قِيل: إنَّما أثْبَت قُدرتَه على إعادةِ مِثْلِهم لا على إعادَتِهم أنفُسِهم؛ فلا دَلالةَ فيه عليهم. قُلْنا: المرادُ بمِثْلِهم: هُمْ، كما في قولِه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وقولِهم: مِثلي لا يَفعلُ كذا، أي: أنا). ((البرهان في علوم القرآن)) (4/34). !
كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .
بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ.
أي: بلى، اللهُ الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ قادِرٌ على أن يَبعَثَهم يومَ القيامةِ أحياءً، وهو الكثيرُ الخَلقِ لِما يَشاءُ خَلْقَه، الواسِعُ العِلمِ؛ فلا يَخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه [892] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/490)، ((البسيط)) للواحدي (18/529)، ((تفسير القرطبي)) (15/60)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/183، 184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 700)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/79)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 302، 303). .
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82).
أي: إنَّما أمْرُ اللهِ إذا أراد إيجادَ أيِّ شَيءٍ أن يقولَ له مرَّةً واحِدةً بلا تَكرارٍ: كُنْ، فهو يكونُ في الحالِ كما أراد اللهُ، بلا تأخيرٍ؛ فإعادةُ إحياءِ الموتى أمرٌ هيِّنٌ ويَسيرٌ على اللهِ تعالى [893] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/490)، ((تفسير القرطبي)) (15/60)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/110)، ((تفسير ابن كثير)) (6/596)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 700). .
كما قال الله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50].
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83).
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: فتَنَزَّهَ اللهُ الَّذي بيَدِه مُلكُ كُلِّ شَيءٍ وخَزائِنُه: عن كُلِّ عَيبٍ ونَقصٍ، وعَجزٍ وجَهلٍ؛ فهو يَتصرَّفُ في كلِّ شَيءٍ كما يَشاءُ [894] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/491)، ((الوسيط)) للواحدي (3/520)، ((تفسير القرطبي)) (15/60)، ((تفسير ابن كثير)) (6/596)، ((تفسير السعدي)) (ص: 700). .
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 88، 89].
وقال سُبحانَه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1].
وعن عَوفِ بنِ مالِكٍ الأشْجَعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُمْتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةً، فقام فقرأَ سورةَ البَقَرةِ، لا يَمُرُّ بآيةِ رَحمةٍ إلَّا وقَفَ فسَألَ، ولا يمُرُّ بآيةِ عذابٍ إلَّا وقَفَ فتعَوَّذَ. قال: ثمَّ ركَعَ بقَدْرِ قيامِه، يقولُ في رُكوعِه: سُبحانَ ذي الجَبَروتِ والمَلَكوتِ، والكِبرياءِ والعَظَمةِ. ثمَّ سجَدَ بقَدرِ قيامِه، ثمَّ قال في سُجودِه مِثلَ ذلك )) [895] أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1132)، وأحمد (23980). صححه النووي في ((المجموع)) (4/67)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (873)، وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/74). .
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: وإلى اللهِ تُرَدُّونَ وتَصيرونَ بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم بأعمالِكم [896] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/491)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/296)، ((تفسير السمرقندي)) (3/133)، ((الوسيط)) للواحدي (3/520)، ((تفسير القرطبي)) (15/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/80). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أنَّ الخُصومةَ بالباطِلِ مَذمومةٌ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ سِيقَتْ مَساقَ الذَّمِّ لا مَساقَ المَدحِ، أمَّا الخُصومةُ لإثباتِ الحَقِّ وإبطالِ الباطِلِ فإنَّها ممدوحةٌ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 290). [النحل: 125] .
2- في قَولِه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ أنَّه ينبغي للمُستدِلِّ المُناظِرِ أنْ يأتيَ بالشَّيءِ الَّذي يُقِرُّ به خَصْمُه؛ مِن أجْلِ أنْ تَقومَ عليه الحُجَّةُ، والخَصمُ هنا لا يُنكِرُ أنَّ اللهَ تعالى أنشَأَها أوَّلَ مَرَّةٍ، وهذا أدبٌ مِن أدَبِ المناظرةِ؛ لأنَّه أقرَبُ إلى الإقناعِ [898] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 297). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النِّداءُ على الإنسانِ بالظُّلمِ؛ وجْهُ ذلك: كيف يكونُ هذا الَّذي خُلِقَ مِن هذه النُّطفةِ يَبلُغُ به الحَدُّ إلى أن يكونَ خَصيمًا للهِ عزَّ وجلَّ بَيِّنَ الخُصومةِ؟! إنَّ الإنسانَ يجبُ عليه إذا نَظَرَ إلى أصلِه أنْ يَعرِفَ قَدْرَ نَفْسِه، لا أنْ يكونَ مُخاصِمًا لرَبِّه عزَّ وجلَّ [899] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 290). .
2- إنَّ كُلَّ مَن عارَضَ الوَحيَ بالرَّأيِ والعَقلِ فهو مِن خُصَماءِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه قد خاصَمَ اللهَ في الوَحيِ الَّذي أنزَلَه على رَسولِه، واحتَجَّ على بُطلانِه، ويكفي العبدَ خِذلانًا وجَهلًا وعَمًى أن يكونَ خَصْمَ ربِّه تبارك وتعالى؛ ولهذا أخبَرَ تعالى عن هؤلاء المعارِضينَ للكتابِ بعُقولِهم بذلك؛ قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [900] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1385). .
3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ لطيفةٌ غَريبةٌ، وهي أنَّه تعالى قال: اختِلافُ صُوَرِ أعضائِه مع تَشابُهِ أجزاءِ ما خُلِقَ منه: آيةٌ ظاهِرةٌ، ومع هذا فهنالك ما هو أظهَرُ، وهو نُطقُه وفَهْمُه؛ وذلك لأنَّ النُّطفةَ جِسمٌ، فهَبْ أنَّ جاهِلًا يقولُ: إنَّه استَحالَ وتكَّونَ جِسمًا آخَرَ، لكِنَّ القُوَّةَ النَّاطِقةَ والقُوَّةَ الفاهِمةَ مِن أين تقتَضيهما النُّطفةُ؟! فإبداعُ النُّطقِ والفَهمِ أعجَبُ وأغرَبُ مِن إبداعِ الخَلقِ والجِسمِ، وهو إلى إدراكِ القُدرةِ والاختيارِ منه أقرَبُ؛ فقَولُه: خَصِيمٌ أي: ناطِقٌ، وإنَّما ذُكِرَ «الخصيمُ» مكانَ «النَّاطِق»؛ لأنَّه أعلى أحوالِ النَّاطِقِ؛ فإنَّ النَّاطِقَ مع نَفْسِه لا يُبِينُ كَلامَه مِثلَ ما يُبِينُه وهو يتكَلَّمُ مع غيرِه، والمتكَلِّمُ مع غيرِه إذا لم يكُنْ خَصمًا لا يُبِينُ ولا يَجتَهِدُ مِثلَ ما يَجتَهِدُ إذا كان كلامُه مع خَصْمِه، وقَولُه: مُبِينٌ إشارةٌ إلى قُوَّةِ عَقلِه، واختار الإبانةَ؛ لأنَّ العاقِلَ عندَ الإفهامِ أعلى درجةً منه عندَ عَدَمِه؛ لأنَّ المُبِينَ بانَ عندَه الشَّيءُ ثمَّ أبانَه؛ فقَولُه تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ إشارةٌ إلى أدنى ما كان عليه، وقَولُه: خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارةٌ إلى أعلى ما حَصَل عليه [901] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/308). .
4- في هذه الآيةِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ قبَّح اللهُ عزَّ وجَلَّ إنكارَهم البعْثَ تَقبيحًا لا تَرى أعجَبَ منه وأبلَغَ، وأدلَّ على تَمادي كُفْرِ الإنسانِ وإفراطِه في جُحودِ النِّعَمِ وعُقوقِ الأيادي، حيثُ قرَّرَه بأنَّ عُنْصُرَه الَّذي خلَقَه منه هو أخسُّ شَيءٍ وأمْهَنُه، وهو النُّطفةُ المَذِرَةُ الخارجةُ مِن الإحليلِ الَّذي هو قَناةُ النَّجاسةِ، ثمَّ عجَّبَ مِن حالِه بأنْ يَتصدَّى مِثلُه -على مَهانةِ أصْلِه، ودَناءةِ أوَّلِه- لِمُخاصَمةِ الجبَّارِ، ويُبْرِزَ صَفْحتَه لِمُجادَلتِه، ويَرْكَبَ مَتْنَ الباطلِ ويَلَجَّ، ويقولَ: مَن يَقدِرُ على إحياءِ الميِّتِ بعدَ ما رمت عِظامُه، ثمَّ يكونُ خِصامُه في ألْزَمِ وَصفٍ له وألْصَقِه به، وهو كَوْنُه مُنشَأً مِن مَواتٍ، وهو يُنكِرُ إنشاءَه مِن مَواتٍ، وهي المكابَرةُ الَّتي لا مَطمَحَ وَراءَها [902] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/30)، ((تفسير البيضاوي)) (4/274)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/95)، ((تفسير أبي حيان)) (9/83)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/237). !
5- في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ... إلى آخِرِ السِّياقِ: دَليلٌ على استِعمالِ القياسِ والاعتِبارِ، والتَّعَلُّقِ بطَريقِ الأَولى؛ فإنَّ الابتداءَ أصعَبُ مِن الإعادةِ، والإعادةَ أيسَرُ مِن الابتداءِ، والقادِرُ على الأعظَمِ قادِرٌ على الأهوَنِ الأدوَنِ لا مَحالةَ [903] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (4/355)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 217). .
6- في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ أنَّ هذا الجاحِدَ لو ذَكَرَ خَلْقَه لَمَا ضرَبَ المَثَلَ، بل لَمَّا نَسِيَ خَلْقَه ضرَبَ المَثَلَ؛ فتَحْتَ قولِه: وَنَسِيَ خَلْقَهُ ألطَفُ جوابٍ، وأبيَنُ دَليلٍ، وهذا كما تقولُ لِمَن جَحَدَك أنْ تكونَ قد أعطَيْتَه شيئًا: فُلانٌ جَحَدَني الإحسانَ إليه، ونَسِيَ الثِّيابَ الَّتي عليهِ، والمالَ الَّذي معه، والدَّارَ الَّتي هو فيها؛ حيث لا يُمكِنُه جَحْدُ أنْ يكونَ ذلك منك [904] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/109). !
7- في قَولِه تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، وقولِه: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام: 29] ، وقولِه: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [الدخان: 35] ما يدُلُّ على إنكارِهم لأصلِ يومِ القيامةِ. وفي سورةِ (يونُسَ) قال تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، وهذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّهم يَرجُونَ شَفاعةَ أصنامِهم يومَ القيامةِ؟
الجوابُ: أنَّهم يَرجُونَ شَفاعتَها في الدُّنيا لإصلاحِ معاشِهم، وفي الآخِرةِ -على تقديرِ وُجودِها-؛ لأنَّهم شاكُّونَ فيها، ويدُلُّ له قَولُه تعالى عن الكافِرِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت: 50] ، وقَولُه: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف: 36] ؛ لأنَّ «إن» الشَّرطيَّةَ تدُلُّ على الشَّكِّ في حُصولِ الشَّرطِ، ويدُلُّ له قَولُه: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً في الآيتَينِ المذكورتينِ [905] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 114). .
8- في قَولِه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ بيانُ قوَّةِ الإقناعِ في إقامةِ الحُجَّةِ مِن كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فأقوى ما يَسوقُ الحُجَجَ ويُبيِّنُها هو كلامُ اللهِ؛ لأنَّ كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ أبلَغُ الكلامِ وأحسَنُه؛ قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87] ؛ فحديثُ اللهِ عزَّ وجلَّ لا شكَّ أنَّه أصدَقُ الحديثِ وأتَمُّه، وأحسَنُه في الإقناعِ، وإقامةِ الحُجَّةِ [906] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 296). .
9- تعليقُ الإحياءِ بالعظامِ في قَولِه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه دَلالةٌ على أنَّ عِظامَ الحيِّ تحلُّها الحياةُ -كلَحْمِه ودَمِه-، وليست بمنزلةِ القصبِ والخشبِ؛ ولذلك تَنجسُ عِظامُ الحيوانِ الَّذي مات دونَ ذكاةٍ [907] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/76). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/28). والقولُ بنجاسةِ عِظامِ المَيْتةِ هو مذهبُ الجمهورِ: المالكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ. يُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/89)، ((المجموع)) للنووي (1/236)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/92). .
10- قولُه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فيه بيانُ نعمةِ اللهِ علينا بجَعْلِه مِن الشَّجرِ الأخضرِ نارًا؛ ووجْهُ الدَّلالةِ أنَّه قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ، وقد قَرَّرَ اللهُ هذه النِّعمةَ بقوله: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [الواقعة: 71، 72]، ولا أحدَ يُنْكِرُ ما في الطَّاقةِ الحراريَّةِ مِن المنافعِ العظيمةِ للخَلْقِ، فأنواعُها -بل أجناسُها- لا تُحصَى، فضلًا عن أفرادِها [908] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 301). .
11- في قَولِه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا دَليلٌ على تمامِ قُدرتِه، وإخراجِ الأمواتِ مِن قُبورِهم، كما أخرَجَ النَّارَ مِن الشَّجَرةِ الخَضراءِ، وفي ذلك جوابٌ عن شُبهةِ مَن قال مِن مُنكِري المعادِ: «الموتُ باردٌ يابسٌ، والحياةُ طَبعُها الرُّطوبةُ والحَرارةُ؛ فإذا حَلَّ الموتُ بالجِسمِ لم يمكنْ أنْ تَحُلَّ فيه الحياةُ بعدَ ذلك؛ لِتَضَادِّ ما بيْنَهما»! وهذه شبهةٌ تَليقُ بعقولِ المُكَذِّبينَ الَّذين لا سَمْعَ لهم ولا عقْلَ؛ فإنَّ الحياةَ لا تُجامِعُ الموتَ في المَحَلِّ الواحدِ لِيَلزَمَ ما قالوا، بل إذا أوجَدَ اللهُ فيه الحياةَ وطَبْعَها ارتفعَ الموتُ وطَبعُه [909] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/110). .
12- في قَولِه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا الاستِدلالُ بالأشَدِّ على الأخَفِّ؛ لأنَّ التَّنافُرَ بيْنَ الرَّطْبِ واليابسِ والحارِّ والباردِ: أعظَمُ مِن أنْ يُعادَ الخَلْقُ، أو تُعادَ العِظامُ بعدَ رَميمِها؛ فالقادِرُ على هذا الشَّيءِ قادِرٌ على إحياءِ الموتى [910] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 300). .
13- في قَولِه تعالى: فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ تقريرُ الشَّيءِ بالواقعِ، فبدَلًا مِن أنْ نُلْقِيَه تَصَوُّرًا في الذِّهنِ؛ نَذْكُرُ واقعَه بالفعلِ، فهو سُبحانَه وتعالى بَيَّنَ أنَّه جَعَلَ لنا مِن الشَّجرِ الأخضرِ نارًا، ثمَّ حَقَّقَ ذلك بذِكْرِ الأمرِ الواقعِ فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي: تُحِسُّونه بواقعِكم، وتَلْمُسُونه بأيديكم [911] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 301). .
14- في قَولِه تعالى: بَلَى جوازُ إجابةِ السَّائلِ نَفْسَه في الأمرِ المُحَقَّقِ المُتقرِّرِ [912] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 304). .
15- في قَولِه تعالى: بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ كثيرًا ما يَقرِنُ تعالى بيْن خَلقِه وعِلمِه؛ لأنَّ خَلْقَ المخلوقاتِ مِن أقوى الأدِلَّةِ العَقليَّةِ على عِلمِ خالِقِها وحِكمتِه [913] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 549). .
16- قال الله عزَّ وجَلَّ: بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْخَلَّاقُ إشارةٌ إلى أنَّه في القُدرةِ كامِلٌ، وفي قَولِه تعالى: الْعَلِيمُ إشارةٌ إلى أنَّ عِلمَه شامِلٌ [914] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/309). .
17- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ؛ فلو كان «كُنْ» مخلوقةً لَزِمَ ألَّا يُوجَدَ شَيءٌ مِن المخلوقاتِ؛ لأنَّ «كُنْ» تكونُ مخلوقةً بـ «كُنْ» أُخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا يُوجَدُ شَيءٌ [915] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/68). !
18- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إثباتُ القَولِ والكلامِ للهِ، وأنَّه يكونُ بحَرفٍ؛ لِقَولِه: كُنْ؛ فإنَّ «كُنْ» كَلِمةٌ مُكَوَّنةٌ مِن حَرفينِ، وفيه أيضًا إثباتُ أنَّه بصوتٍ؛ لِقَولِه: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فهذا الخِطابُ مُوَجَّهٌ لِمَا أرادَه اللهُ، وهو يقتضي أنْ يكونَ هذا المرادُ سامِعًا لهذا القَولِ، ولا سماعَ إلَّا بصَوتٍ، فيكونُ في الآيةِ رَدٌّ على قولِ الأشاعرةِ في كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيث يقولون: إنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى القائِمُ بنَفْسِه، وأنَّ ما يُسمَعُ مِن الأصواتِ والحروفِ هو عبارةٌ عن كلامِ الله! ويَرَونَ أنَّ هذا المسموعَ مَخلوقٌ [916] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 309). !
19- أنَّ الصِّفةَ قد تكونُ ذاتيَّةً فِعليَّةً باعتبارينِ، كالكلامِ؛ فإنَّ الكلامَ باعتبارِ أصْلِه صِفةٌ ذاتيَّةٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يَزَلْ ولا يَزالُ مُتكَلِّمًا، وباعتبارِ آحادِ الكلامِ صِفةٌ فِعليَّةٌ؛ لأنَّ الكلامَ يَتعلَّقُ بمشيئتِه سُبحانَه؛ يَتكلَّمُ متى شاء بما شاء، كما في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [917] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/287). .

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ كلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لِبَيانِ بُطلانِ إنكارِهم البعْثَ بعْدَ ما شاهَدوا في أنفُسِهم أوضَحَ دَلائلِه وأعدَلَ شَواهِدِه، والهمزةُ للإنكارِ والتَّعجُّبِ، والواوُ للعَطفِ عَلى جُملةٍ مُقدَّرةٍ هي مُسْتتبِعةٌ للمَعطوفِ، أي: ألمْ يَتفكَّرِ الإنسانُ ولم يَعلَمْ عِلمًا يَقينيًّا أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ... إلخ، أو هي عَيْنُ الجُملةِ السَّابقةِ؛ أُعِيدتْ تأْكيدًا للنَّكيرِ السَّابقِ، وتَمْهيدًا لإنكارِ ما هو أحقُّ منه بالإنكارِ والتَّعجُّبِ؛ لِمَا أنَّ المنكَرَ هناك عدَمُ عِلْمِهم بما يَتعلَّقُ بخَلْقِ أسبابِ مَعايِشِهم، وهاهنا عدَمُ عِلْمِهم بما يَتعلَّقُ بخَلْقِ أنفُسِهم، ولا رَيْبَ في أنَّ عِلْمَ الإنسانِ بأحوالِ نفْسِه أهَمُّ، وإحاطتَه بها أسهَلُ وأكمَلُ؛ فالإنكارُ والتَّعجُّبُ مِن الإخلالِ بذلك أدخَلُ، كأنَّه قِيل: ألمْ يَعلَمُوا خَلْقَه تعالى لأسبابِ مَعايشِهم، ولم يَعلَمُوا خَلْقَه تعالى لأنفُسِهم أيضًا، مع كَونِ العِلمِ بذلك في غايةِ الظُّهورِ ونهايةِ الأهمِّيَّةِ؟! على معنَى أنَّ المنكَرَ الأوَّلَ بَعيدٌ قَبيحٌ، والثَّانيَ أبعَدُ وأقبحُ. ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ في أَوَلَمْ لِعَطْفِ الجُملةِ الإنكاريَّةِ الثَّانيةِ على الأُولى، على أنَّها مُتقدِّمةٌ في الاعتِبارِ، وأنَّ تَقدُّمَ الهمزةِ عليها لاقتِضائِها الصَّدارةَ في الكلامِ [918] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/180)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/234). .
- وإيرادُ الإنسانِ في أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ مَوردَ الضَّميرِ؛ لأنَّ مَدارَ الإنكارِ مُتعلِّقٌ بأحوالِه مِن حيثُ هو إنسانٌ، كما في قولِه تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [919] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/180). [مريم: 67] .
- وذِكْرُ النُّطفةِ في قولِه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ تَمهيدٌ للمُفاجأةِ بكَونِه خَصيمًا مُبِينًا عقِبَ خلْقِه، أي: ذلك الهيِّنُ المَنشَأِ قد أصبَحَ خَصِيمًا عَنِيدًا، ولِيُبْنَى عليه قولُه بعْدُ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ، أي: نسِيَ خلْقَه الضَّعيفَ فتَطاوَلَ وجاوَزَ، ولأنَّ خلْقَه مِن النُّطفةِ أعجَبُ مِن إحيائِه وهو عَظْمٌ؛ مُجاراةً لِزَعْمِه في مِقدارِ الإمكانِ، وإنْ كان اللهُ يُحْيي ما هو أضعَفُ مِن العِظامِ، فيُحْيِي الإنسانَ مِن رَمادِه، ومِن تُرابِه، ومِن عَجْبِ ذَنَبِه [920] عَجْبُ الذَّنَبِ: العَظمُ بيْنَ الألْيَتَينِ الَّذي في أسفَلِ الصُّلْبِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3505). ، ومِن لا شَيءَ باقيًا منه [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/75). .
- قولُه: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ عطْفٌ على الجُملةِ المنفيَّةِ، داخِلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، كأنَّه قِيل: أولمْ يَرَ أنَّا خلَقْناهُ مِن أخَسِّ الأشياءِ وأمْهَنِها، ففاجَأَ خُصومَتَنا في أمْرٍ يَشهَدُ بصِحَّتهِ وتَحقُّقهِ مَبدأُ فِطرتِه شَهادةً بَيِّنةً. وإيرادُ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على استِقرارِه في الخُصومةِ، واستمرارِه عليها. وقِيل: معنى قولِه تعالى: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ: فإذا هو بعْدَما كان ماءً مَهينًا رجُلٌ مُميِّزٌ مِنْطِيقٌ قادرٌ على الخِصامِ مُبينٌ، مُعرِبٌ عمَّا في نفْسِه فصيحٌ؛ فهو حينَئذٍ مَعطوفٌ على خَلَقْنَاهُ، غيرُ داخلٍ تحتَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، بلْ هو مِن مُتمِّماتِ شَواهدِ صِحَّةِ البعثِ [922] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/180). .
- و(إذا) في قولِه: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ للمُفاجأةِ، ووَجْهُ المُفاجأةِ: أنَّ ذلك الإنسانَ خُلِقَ لِيَعبُدَ اللهَ، ويَعلَمَ ما يَلِيقُ به، فإذا لمْ يَجْرِ على ذلك فكأنَّه فاجَأَ بما لمْ يكُنْ مُترَقَّبًا منه، مع إفادةِ أنَّ الخُصومةَ في شُؤونِ الإلهيَّةِ كانتْ بما بادَرَ به حين عَقَلَ [923] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/74). .
- والخَصيمُ فَعِيلٌ؛ مُبالَغةٌ في معنى مُفاعِلٍ، أي: مُخاصِمٌ شَديدُ الخِصامِ، والمرادُ بـ خَصِيمٌ في تلك الآيةِ: أنَّه شَديدُ الشَّكيمةِ بعْدَ أنْ كان أصْلُه نُطْفةً [924] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/74). .
2- قولُه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
- قولُه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ... مَعطوفٌ على الجُملةِ المنفيَّةِ، داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّقبيحِ، أو عطْفٌ على الجُملةِ الفُجائيَّةِ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، والمعنى: ففاجَأَ خُصومتَنا وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا، أي: أوْرَدَ في شأْنِنا قصَّةً عَجيبةً في نفْسِ الأمْرِ، هي في الغرابةِ والبُعدِ عن العُقولِ كالمَثَلِ، وهي إنكارُ إحيائِنا العِظامَ، أو قِصَّةً عَجيبةً في زَعْمِه، واستَبْعدَها وعَدَّها مِن قَبِيلِ المَثَلِ، وأنْكَرَها أشدَّ الإنكارِ، وهي إحياؤُنا إيَّاها؛ فالمَثَلُ على الأوَّلِ هو إنكارُ إحيائهِ تعالى للعِظامِ؛ فإنَّه أمْرٌ عَجيبٌ في نفْسِ الأمْرِ، حَقيقٌ لِغَرابتهِ وبُعْدِه مِن العقولِ بأنْ يُعَدَّ مثَلًا ضَرورةَ جَزْمِ العقول ببُطلانِ الإنكارِ ووُقوعِ المنكَرِ؛ لكَونِه كالإنشاءِ، بلْ أهْوَنُ منه في قياسِ العقلِ، وعلى الثَّاني هو إحياؤُه تعالى لها؛ فإنَّه أمرٌ عَجيبٌ في زَعْمِه قد استَبْعدَهُ وعَدَّه مِن قَبِيلِ المثَلِ، وأنْكَرَه أشدَّ الإنكارِ، مع أنَّه في نفْسِ الأمْرِ أقرَبُ شَيءٍ مِن الوُقوعِ؛ لِكَونِه مِثلَ الإنشاءِ أو أهْوَنَ منه، وأمَّا على الثَّالثِ فلا فرْقَ بيْن أنْ يكون المَثَلُ هو الإنكارَ أو المنكَرَ [925] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/181). .
وقيل: المَثَلُ: تمثيلُ الحالةِ، فالمعنَى: وأظهَر للنَّاسِ وأتَى لهم بتشبيهِ حالِ قُدرتِنا بحالِ عَجْزِ النَّاسِ؛ إذ أحال إحياءَنا العِظامَ بعدَ أن أرَمَّتْ، فهو كقولِه تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] ، أي: لا تُشَبِّهوه بخَلْقِه فتَجعَلوا له شركاءَ؛ لوُقوعِه بعدَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [926] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/74، 75). [النحل: 73] .
- وقولُه: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ استِئنافٌ وقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ ضَرْبهِ المثَلَ، كأنَّه قِيل: أيَّ مَثَلٍ ضرَبَ؟ أو ماذا قال؟ فقِيل: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ [927] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/181). .
- والاستِفهامُ في قولِه: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ استِفهامٌ إنكاريٌّ، مُؤكَّدٌ بقولِه: وَهِيَ رَمِيمٌ، ومَنْ عامَّةٌ في كلِّ مَن يُسنَدُ إليه الخبَرُ؛ فالمعنى: لا أحَدَ يُحْيي العِظامَ وهي رَميمٌ، تَعْجيزًا للهِ تعالى، وتَشبيهًا له بخلْقِه في أنَّهم غيرُ مَوصوفينَ بالقُدرةِ عليه؛ فشَمِلَ عُمومُه إنكارَهم أنْ يكونَ اللهُ تعالى مُحْييًا للعِظامِ وهي رَميمٌ، أي: في حالِ كَونِها رَميمًا، وهو بَيانٌ لِجُملةِ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا [928] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/31)، ((تفسير أبي السعود)) (7/181)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/75). .
3- قولُه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
- قولُه: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ أُمِرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجَوابٍ على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ بحمْلِ استِفهامِ القائلِ على خِلافِ مُرادِه؛ لأنَّه لَمَّا قال: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لم يكُنْ قاصِدًا تَطلُّبَ تَعيينِ المُحْيي، وإنَّما أراد الاستِحالةَ، فأُجِيبَ جَوابَ مَن هو مُتطلِّبٌ عِلْمًا، فقِيل له: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ فلذلك بُنِيَ الجوابُ على فِعلِ الإحياءِ مُسنَدًا للمُحْيي، على أنَّ الجوابَ صالحٌ لأنْ يكونَ إبطالًا للنَّفيِ المرادِ مِن الاستفهامِ الإنكاريِّ، كأنَّه قِيل: بلْ يُحْييها الَّذي أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ، ولم يُبْنَ الجوابُ على بَيانِ إمكانِ الإحياءِ، وإنَّما جُعِل بَيانُ الإمكانِ في جَعلِ المُسنَدِ إليه مَوصولًا؛ لِتَدُلَّ الصِّلةُ على الإمكانِ، فيَحصُلَ الغرَضانِ؛ فالموصولُ هنا إيماءٌ إلى وَجهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو يُحْيِيهَا، أي: يُحْيِيها لأنَّه أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ، فهو قادرٌ على إنشائِها ثانيَ مرَّةٍ كما أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ [929] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/75، 76). .
- وقَولُه: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه احتِباكٌ؛ فذِكرُ الإحياءِ أوَّلًا دالٌّ على مِثلِه ثانيًا، والإنشاءِ ثانيًا دالٌّ على مِثلِه أوَّلًا، و أَوَّلَ مَرَّةٍ في الثَّاني دالٌّ على «ثاني مَرَّةٍ» في الأوَّلِ [930] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/180). .
- وجُملةُ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إمَّا اعتِراضٌ تَذْييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَضمونِ الجوابِ للاستِدلالِ، أو مَعطوفةٌ على الصِّلةِ الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. والعُدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ عِلْمَه تعالى بما ذُكِرَ أمرٌ مُستمِرٌّ، ليس كإنشائهِ للمُنشَآتِ [931] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/76). .
4- قولُه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ
- قولُه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا بدَلٌ مِن الَّذِي أَنْشَأَهَا [يس: 79] بدَلًا مُطابِقًا، وإنَّما لم تُعطَفِ الصِّلةُ على الصِّلةِ -فيُكْتفَى بالعطْفِ عن إعادةِ اسمِ الموصولِ-؛ لأنَّ في إعادةِ الموصولِ بَيانًا لِتَفاوُتِهما في كَيفيَّةِ الدَّلالةِ، وتأْكيدًا للأوَّلِ واهتِمامًا بالثَّاني؛ حتَّى تَستشرِفَ نفْسُ السَّامعِ لِتَلقِّي ما يَرِدُ بعْدَه، فيَفطَنَ بما في هذا الخَلْقِ مِن الغَرابةِ؛ إذ هو إيجادُ الضِّدِّ -وهو نِهايةُ الحرارةِ- مِن ضِدِّه، وهو الرُّطوبةُ، وهذا هو وَجْهُ وَصفِ الشَّجرِ بالأخضَرِ؛ إذ ليس المرادُ مِن الأخضَرِ اللَّونَ، وإنَّما المرادُ لازِمُه، وهو الرُّطوبةُ؛ لأنَّ الشَّجرَ أخضَرُ اللَّونِ ما دام حيًّا، فإذا جفَّ وزالَتْ منه الحياةُ استحالَ لَونُه إلى الغُبْرةِ؛ فصارتِ الخُضرةُ كِنايةً عن رُطوبةِ النَّبْتِ وحياتِه [932] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/84)، ((تفسير أبي السعود)) (7/181، 182)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/76، 77). .
- والجارَّانِ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ مُتعلِّقانِ بـ جَعَلَ، قُدِّمَا على مَفعولِه الصَّريحِ نَارًا، مع تأْخيرِهما عنه رُتْبةً؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ [933] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/182). .
- والمُفاجأةُ المُستفادةُ مِن فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دالَّةٌ على عَجيبِ إلهامِ اللهِ البشَرَ لاستعمالِ الاقتِداحِ بالشَّجَرِ الأخضَرِ، واهتِدائِهم إلى خاصِّيَّتِه [934] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/77). .
- وجِيءَ بالمُسنَدِ فِعلًا مُضارِعًا تُوقِدُونَ؛ لإفادةِ تَكرُّرِ ذلك واستِمرارِه [935] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/77). .
5- قولُه تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
- قولُه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ استِئنافٌ تَقريريٌّ؛ لِتَحقيقِ مَضمونِ الجوابِ الَّذي أُمِرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُخاطِبَهم به، ويُلزِمَهم الحُجَّةَ. والهَمزةُ في أَوَلَيْسَ للإنكارِ، والواوُ للعطفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: أليسَ الَّذي أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ، وليس الَّذي جعَلَ لهم مِنَ الشَّجرِ الأخضَرِ نَارًا، وليس الَّذى خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ مع كِبَرِ جِرْمِهما وعِظَمِ شأْنِهما بقادرٍ... [936] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/182)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/235). .
- وجِيءَ في هذا الدَّليلِ بطَريقةِ التَّقريرِ الَّذي دَلَّ عليه الاستِفهامُ التَّقريريُّ؛ لأنَّ هذا الدَّليلَ -لِوُضوحِه- لا يَسَعُ المُقِرَّ إلَّا الإقرارُ به؛ فإنَّ البَديهةَ قاضيةٌ بأنَّ مَن خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ هو على خلْقِ ناسٍ بعْدَ الموتِ أقدَرُ، وإنَّما وُجِّهَ التَّقريرُ إلى نَفْيِ المُقرَّرِ بثُبوتِه تَوسعةً على المُقرَّرِ إنْ أراد إنكارًا، مع تَحقُّقِ أنَّه لا يَسَعُه الإنكارُ؛ فيَكونُ إقرارُه بعْدَ تَوجيهِ التَّقريرِ إليه على نَفْيِ المقصودِ شاهدًا على أنَّه لا يَستطيعُ إلَّا أنْ يُقِرَّ [937] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/78). .
- واسمُ الفاعِلِ (قادِر) في قولِه: بِقَادِرٍ مجرورٌ بالباءِ المَزيدةِ في النَّفيِ؛ لِتأْكيدِه [938] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/78). .
- والالتِفاتُ مِن الخِطابِ في قولِه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ إلى الغَيبةِ في قولِه: مِثْلَهُمْ؛ لِمَزيدِ الاحتقارِ والازدراءِ، أي: مِثلَ أولئك البُعداءِ [939] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/101، 102). . وقيل: إيذانًا بأنَّهم صاروا بهذا الجدَلِ أهلًا لغايةِ الغضبِ [940] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/183). .
- وعُقِّبَ التَّقريرُ بجَوابٍ عن المُقرَّرِ بكَلمةِ بَلَى الَّتي هي لِنَقْضِ النَّفيِ، أي: بلى هو قادرٌ على أنْ يَخلُقَ مِثلَهم، وهو جَوابٌ مِن جِهَتهِ تعالى، وتَصريحٌ بما أفادَه الاستِفهامُ الإنكارِيُّ مِن تَقريرِ ما بعْدَ النَّفيِ، وإيذانٌ بتَعيُّنِ الجوابِ، نَطَقُوا به أو تَلَعْثَموا فيه مَخافةَ الإلزامِ [941] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/274)، ((تفسير أبي السعود)) (7/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/78). .
- قولُه: وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي: هو يَخلُقُ خلائقَ كثيرةً، وواسعُ العِلمِ بأحوالِهم ودَقائقِ تَرْتيبِها؛ فالخلَّاقُ مُبالَغةٌ لِكَثرةِ مَخلوقاتِه، فهو سُبحانه المبالِغُ في الخلْقِ والعلْمِ كَيْفًا وكمًّا [942] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/85)، ((تفسير أبي السعود)) (7/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/79). .
6- قولُه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذه فَذْلَكةُ [943] الفَذْلكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ كَلِمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة) مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُراد بالفذلكة النتيجةُ لِمَا سبَق من الكلام، والتفريعُ عليه، ومنها فذلكةُ الحساب، أي: مُجمَل تفاصيله، وإنهاؤه، والفراغ منه، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعد قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). الاستِدلالِ، وفَصْلُ المقالِ؛ فلذلك فُصِلَت عمَّا قبْلَها كما تُفصَلُ جُملةُ النَّتيجةِ عن جُملتَيِ القِياسِ؛ فقد نتَجَ ممَّا تَقدَّمَ أنَّه تعالى إذا أراد شيئًا فإنَّه يقولُ له: (كُنْ)، وهو أخصَرُ كَلِمةٍ تُعبِّرُ عن الأمْرِ بالكونِ، أي: الاتِّصافِ بالوُجودِ [944] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/79). .
- وقولُه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه قصرٌ إضافيٌّ [945] القَصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبْتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على الموصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثَرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ، مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ، بتنزيلِ غيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ مُعَيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيْدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرة؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لِقَلْبِ اعتِقادِهم أنَّه يَحتاجُ إلى جمْعِ مادَّةٍ وتَكييفِها، ومُضِيِّ مُدَّةٍ لإتمامِها، وفي ذلك قَطْعٌ لِمادَّةِ الشُّبهةِ، وهو قِياسُ قُدرةِ اللهِ تعالى على قُدْرةِ الخلْقِ [946] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/275)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/79). !
7- قولُه تعالى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذا تَنزيهٌ للهِ ممَّا وصَفَه به المُشرِكون، وتَعجُّبٌ مِن أنْ يَقولوا فيه ما قالوا، وتأْكيدٌ وتَقريرٌ لِمَا سبَقَه [947] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/32)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/104)، ((تفسير أبي السعود)) (7/182). .
- والفاءُ في قولِه: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَصيحةٌ تدُلُّ على كلامٍ مُقدَّرٍ، أي: إذا ظهَرَ كلُّ ما سَمِعْتُم مِن الدَّلائلِ على عَظيمِ قُدْرةِ اللهِ، وتَفرُّدِه بالإلهيَّةِ، وأنَّه يُعِيدُكم بعدَ الموتِ؛ فيَنشَأُ تَنْزيهُه عن أقوالِهم في شأْنِه، المُفْضيةِ إلى نَقْصِ عَظَمتِه؛ لأنَّ بيَدِه المُلْكَ الأتَمَّ لكلِّ مَوجودٍ [948] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/80). . وهذه الفاءُ أيضًا للإشارةِ إلى أنَّ ما فُصِّلَ مِن شُؤونِه تعالى مُوجِبةٌ لِتَنزُّهِه وتَنْزيهِه أكمَلَ إيجابٍ، كما أنَّ وَصْفَه تعالى بالمالكيَّةِ الكُلِّيَّةِ المُطلَقةِ للإشعارِ بأنَّها مُقْتضيةٌ لذلك أتمَّ اقتضاءٍ [949] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/182). .
- قولُه: بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملَكُوتُ: مُبالَغةٌ في المُلكِ، كالرَّحَموتِ والرَّهَبوتِ [950] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/80). .
- وجُملةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عطْفٌ على جُملةِ التَّسبيحِ عَطْفَ الخبَرِ على الإنشاءِ؛ فهو ممَّا شَمِلَته الفاءُ الفصيحةُ، والمعنى: قدِ اتَّضَحَ أنَّكم صائرون إليه، غيرُ خارجينَ مِن قبْضةِ مُلْكِه، وذلك بإعادةِ خلْقِكم بعدَ الموتِ [951] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/80). .
- وأيضًا قولُه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لا إلى غَيرِه، وفيهِ مِن الوَعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى؛ فالخطاب عامٌّ للمؤمنينَ والمشركينَ، وقيل: هو وعيدٌ فقط على أنَّ الخطابَ للمشركينَ لا غير توبيخًا لهم [952] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/182)، ((تفسير الألوسي)) (12/55). .
- وتَقديمُ (إِلَيْهِ) على تُرْجَعُونَ؛ للاهتِمامِ ورِعايةِ الفاصلةِ؛ لأنَّهم لم يَكونوا يَزعُمون أنَّ ثمَّةَ رَجعةً إلى غيرِه، ولكنَّهم يُنكِرون المعادَ مِن أصْلِه [953] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/80). .