موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (77-83)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ

غَريبُ الكَلِماتِ:

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: الماءُ الصَّافي قَلَّ أو كَثُر، وقيل: الماءُ القليلُ، ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .
خَصِيمٌ: أي: مُخاصِمٌ جَدِلٌ بِالباطِلِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على المُنازَعةِ .
رَمِيمٌ: أي: باليةٌ، وأصلُ (رمم): يدُلُّ على بلاءِ الشَّيءِ .
مَلَكُوتُ: أي: ملْكُ، أو هو أعظَمُ الملكِ، وهو مختصٌّ بملكِ الله تعالى، والمَلَكوتُ مَصدرٌ مِن المُلْكِ، كالرَّغَبوتِ مِنَ الرَّغبةِ، والرَّهَبوتِ مِن الرَّهبةِ؛ زِيدَتْ فيه الواوُ والتاءُ، وبُنِيَ على (فَعَلُوت)، وهو بِناءُ مُبالَغةٍ؛ وأصلُ (ملك): يدُلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ، وصحَّةٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يَختِمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ بإقامةِ الأدلَّةِ على كمالِ قدرتِه، وعلى أنَّ البعثَ حقٌّ، فيقولُ: أوَلم يَرَ الإنسانُ المكذِّبُ بالبَعثِ أنَّا خلَقْناه مِن مَنيٍّ، فإذا هو بالغُ الخُصومةِ، والجَدلِ بالباطِلِ، مُبِينٌ عما يريدُه؟! ولم يَكتَفِ بذلك، بل ضرَبَ لنا مَثَلًا، فأنكَر قُدرتَنا على إحياءِ الموتَى، وعلى بَعثِهم يومَ القيامةِ، فقال -دونَ أن يَفطُنَ إلى أصلِ خِلقتِه-: مَن يُحيي العِظامَ وهي باليةٌ؟!
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالرَّدِّ عليه، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لهذا المُنكِرِ للبَعثِ: يُحييها اللهُ تعالى الَّذي أوجَدَها مِن العدَمِ أوَّلَ مَرَّةٍ، وهو عليمٌ بخَلقِه، وهو الَّذي جعَلَ لكم مِن الشَّجَرِ الرَّطْبِ الأخضَرِ نارًا مُحرِقةً، فإذا أنتم مِن هذا الشَّجرِ تُوقِدونَ النَّارَ!
أوَلَيس اللهُ الَّذي خلق السَّمَواتِ والأرضَ بقادِرٍ على أن يُعيدَ خَلْقَ النَّاسِ بعدَ مَوتِهم؟! بلى قادِرٌ سُبحانَه على أن يَبعَثَهم، وهو الكثيرُ الخَلقِ لِما يَشاءُ خَلْقَه، الواسِعُ العِلمِ، فلا يخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه. إنَّما أمرُه تعالى إذا أراد إيجادَ شَيءٍ أن يقولَ له: كُنْ، فإذا هو كائِنٌ في الحالِ.
ثمَّ يختِمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ بتنزيهِه عن كلِّ نقصٍ، فيقولُ: فتَنَزَّهَ اللهُ الَّذي بيَدِه مُلكُ كُلِّ شَيءٍ، وإليه وَحْدَه تُرجَعونَ بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم على أعمالِكم.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى دليلًا على عِظَمِ قُدرتِه، ووُجوبِ عِبادتِه، بقَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس: 71] ؛ ذكَرَ دليلًا مِن الأنفُسِ أبْيَنَ مِن الأوَّلِ .
وأيضًا لَمَّا أُبطِلَت شُبَهُ المشرِكينَ في إشراكِهم بعِبادةِ اللهِ، وإحالتِهم قُدرتَه على البَعثِ، وتَكذيبِهم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إنبائِه بذلك إبطالًا كُلِّيًّا؛ عُطِفَ الكلامُ إلى جانبِ تَسفيهِ أقوالٍ جُزْئيَّةٍ لِزُعماءِ المكذِّبين بالبَعثِ؛ تَوبيخًا لهم على وَقاحَتِهم، وكُفْرِهم بنِعمةِ ربِّهم .
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77).
أي: أوَلم يَرَ الإنسانُ المكذِّبُ بالبَعثِ أنَّا خلَقْناه مِن مَنِيٍّ، ثمَّ تنقَّل في الأطوارِ شيئًا فشيئًا، حتَّى كَبِرَ، وتمَّ عقلُه، فإذا هو بالِغُ الخُصومةِ، وفي غايةِ البيانِ عَمَّا يُريدُه، حتَّى إنَّه لَيُجادِلُ مَن أعطاه العَقلَ والقُدرةَ، مُنكِرًا قُدرتَه على إحيائِه ثانيةً ؟!
كما قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4] .
وقال سُبحانَه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66، 67].
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78).
أي: ومثَّلَ الكافِرُ بشَيءٍ يُريدُ به إنكارَ البَعثِ، ونَسِيَ ابتِداءَ خَلقِ اللهِ له مِن نُطفةٍ -فمَن قَدَر على ذلك فهو قادِرٌ على بَعثِه-؛ فقال مُستبعِدًا ذلك: مَن الَّذي يَقدِرُ على إحياءِ عِظامِ الموتى بعدَما بَلِيَت، وصارت ترابًا تَذْرُوه الرِّياحُ، فيَتلاشَى ؟!
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79).
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهذا المُنكِرِ للبَعثِ: الَّذي يُحيي العِظامَ هو الَّذي خلَقَها أوَّلَ مَرَّةٍ، ولم تكُنْ شَيئًا؛ فالَّذي قدَرَ على ابتِداءِ خَلقِها لن يَعجِزَ عن إعادتِها مرَّةً أُخرى !
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ عَليمٌ بجَميعِ خَلقِه ، فيَعلَمُ كيف يُحييهم، وكيف يُميتُهم، ويَعلَمُ أين تفرَّقَت عِظامُهم، وتفَتَّت أجسادُهم، لا يخفى عليه شَيءٌ مِن خَلقِه كائِنًا ما كان .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80).
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا.
أي: الَّذي يُحيي العِظامَ وهي رَميمٌ هو الَّذي خلَقَ بقُدرتِه مِن الشَّجَرِ الرَّطْبِ النَّدِيِّ البارِدِ نارًا يابِسةً مُحرِقةً !
كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة: 71 - 73].
فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ.
أي: فإذا أنتم مِن هذا الشَّجَرِ تُوقِدونَ النَّارَ .
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تبيَّن الاستِدلالُ بخَلقِ أشياءَ على إمكانِ خَلقِ أمثالِها؛ ارتقَى في هذه الآيةِ إلى الاستِدلالِ بخَلقِ مَخلوقاتٍ عَظيمةٍ على إمكانِ خَلقِ ما دُونَها .
وأيضًا بعْدَ أنْ ذكَرَ بَديعَ جَعْلِه مِن الشَّجرِ الأخضَرِ نارًا؛ ذكَرَ ما هو أبدَعُ وأغرَبُ مِن خلْقِ الإنسانِ مِن نُطْفةٍ، ومِن إعادةِ المَوتَى، وهو إنشاءُ هذه المخلوقاتِ العظيمةِ الغريبةِ مِن صِرْفِ العدَمِ إلى الوُجودِ، فقال :
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.
أي: أوَليس الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ السَّبْعَ والأرضَ بقادِرٍ على أن يُعيدَ خَلْقَ النَّاسِ يَومَ القيامةِ؟ فاللهُ الَّذي لم يَعجِزْ عن خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ -وهي أعظَمُ مِن خَلقِ النَّاسِ- لن يَعجِزَ عن إحياءِ النَّاسِ بعدَ مَوتِهم !
كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .
بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ.
أي: بلى، اللهُ الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ قادِرٌ على أن يَبعَثَهم يومَ القيامةِ أحياءً، وهو الكثيرُ الخَلقِ لِما يَشاءُ خَلْقَه، الواسِعُ العِلمِ؛ فلا يَخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه .
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82).
أي: إنَّما أمْرُ اللهِ إذا أراد إيجادَ أيِّ شَيءٍ أن يقولَ له مرَّةً واحِدةً بلا تَكرارٍ: كُنْ، فهو يكونُ في الحالِ كما أراد اللهُ، بلا تأخيرٍ؛ فإعادةُ إحياءِ الموتى أمرٌ هيِّنٌ ويَسيرٌ على اللهِ تعالى .
كما قال الله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50].
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83).
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: فتَنَزَّهَ اللهُ الَّذي بيَدِه مُلكُ كُلِّ شَيءٍ وخَزائِنُه: عن كُلِّ عَيبٍ ونَقصٍ، وعَجزٍ وجَهلٍ؛ فهو يَتصرَّفُ في كلِّ شَيءٍ كما يَشاءُ .
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 88، 89].
وقال سُبحانَه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1].
وعن عَوفِ بنِ مالِكٍ الأشْجَعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُمْتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةً، فقام فقرأَ سورةَ البَقَرةِ، لا يَمُرُّ بآيةِ رَحمةٍ إلَّا وقَفَ فسَألَ، ولا يمُرُّ بآيةِ عذابٍ إلَّا وقَفَ فتعَوَّذَ. قال: ثمَّ ركَعَ بقَدْرِ قيامِه، يقولُ في رُكوعِه: سُبحانَ ذي الجَبَروتِ والمَلَكوتِ، والكِبرياءِ والعَظَمةِ. ثمَّ سجَدَ بقَدرِ قيامِه، ثمَّ قال في سُجودِه مِثلَ ذلك )) .
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: وإلى اللهِ تُرَدُّونَ وتَصيرونَ بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم بأعمالِكم .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أنَّ الخُصومةَ بالباطِلِ مَذمومةٌ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ سِيقَتْ مَساقَ الذَّمِّ لا مَساقَ المَدحِ، أمَّا الخُصومةُ لإثباتِ الحَقِّ وإبطالِ الباطِلِ فإنَّها ممدوحةٌ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] .
2- في قَولِه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ أنَّه ينبغي للمُستدِلِّ المُناظِرِ أنْ يأتيَ بالشَّيءِ الَّذي يُقِرُّ به خَصْمُه؛ مِن أجْلِ أنْ تَقومَ عليه الحُجَّةُ، والخَصمُ هنا لا يُنكِرُ أنَّ اللهَ تعالى أنشَأَها أوَّلَ مَرَّةٍ، وهذا أدبٌ مِن أدَبِ المناظرةِ؛ لأنَّه أقرَبُ إلى الإقناعِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النِّداءُ على الإنسانِ بالظُّلمِ؛ وجْهُ ذلك: كيف يكونُ هذا الَّذي خُلِقَ مِن هذه النُّطفةِ يَبلُغُ به الحَدُّ إلى أن يكونَ خَصيمًا للهِ عزَّ وجلَّ بَيِّنَ الخُصومةِ؟! إنَّ الإنسانَ يجبُ عليه إذا نَظَرَ إلى أصلِه أنْ يَعرِفَ قَدْرَ نَفْسِه، لا أنْ يكونَ مُخاصِمًا لرَبِّه عزَّ وجلَّ .
2- إنَّ كُلَّ مَن عارَضَ الوَحيَ بالرَّأيِ والعَقلِ فهو مِن خُصَماءِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه قد خاصَمَ اللهَ في الوَحيِ الَّذي أنزَلَه على رَسولِه، واحتَجَّ على بُطلانِه، ويكفي العبدَ خِذلانًا وجَهلًا وعَمًى أن يكونَ خَصْمَ ربِّه تبارك وتعالى؛ ولهذا أخبَرَ تعالى عن هؤلاء المعارِضينَ للكتابِ بعُقولِهم بذلك؛ قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ .
3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ لطيفةٌ غَريبةٌ، وهي أنَّه تعالى قال: اختِلافُ صُوَرِ أعضائِه مع تَشابُهِ أجزاءِ ما خُلِقَ منه: آيةٌ ظاهِرةٌ، ومع هذا فهنالك ما هو أظهَرُ، وهو نُطقُه وفَهْمُه؛ وذلك لأنَّ النُّطفةَ جِسمٌ، فهَبْ أنَّ جاهِلًا يقولُ: إنَّه استَحالَ وتكَّونَ جِسمًا آخَرَ، لكِنَّ القُوَّةَ النَّاطِقةَ والقُوَّةَ الفاهِمةَ مِن أين تقتَضيهما النُّطفةُ؟! فإبداعُ النُّطقِ والفَهمِ أعجَبُ وأغرَبُ مِن إبداعِ الخَلقِ والجِسمِ، وهو إلى إدراكِ القُدرةِ والاختيارِ منه أقرَبُ؛ فقَولُه: خَصِيمٌ أي: ناطِقٌ، وإنَّما ذُكِرَ «الخصيمُ» مكانَ «النَّاطِق»؛ لأنَّه أعلى أحوالِ النَّاطِقِ؛ فإنَّ النَّاطِقَ مع نَفْسِه لا يُبِينُ كَلامَه مِثلَ ما يُبِينُه وهو يتكَلَّمُ مع غيرِه، والمتكَلِّمُ مع غيرِه إذا لم يكُنْ خَصمًا لا يُبِينُ ولا يَجتَهِدُ مِثلَ ما يَجتَهِدُ إذا كان كلامُه مع خَصْمِه، وقَولُه: مُبِينٌ إشارةٌ إلى قُوَّةِ عَقلِه، واختار الإبانةَ؛ لأنَّ العاقِلَ عندَ الإفهامِ أعلى درجةً منه عندَ عَدَمِه؛ لأنَّ المُبِينَ بانَ عندَه الشَّيءُ ثمَّ أبانَه؛ فقَولُه تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ إشارةٌ إلى أدنى ما كان عليه، وقَولُه: خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارةٌ إلى أعلى ما حَصَل عليه .
4- في هذه الآيةِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ قبَّح اللهُ عزَّ وجَلَّ إنكارَهم البعْثَ تَقبيحًا لا تَرى أعجَبَ منه وأبلَغَ، وأدلَّ على تَمادي كُفْرِ الإنسانِ وإفراطِه في جُحودِ النِّعَمِ وعُقوقِ الأيادي، حيثُ قرَّرَه بأنَّ عُنْصُرَه الَّذي خلَقَه منه هو أخسُّ شَيءٍ وأمْهَنُه، وهو النُّطفةُ المَذِرَةُ الخارجةُ مِن الإحليلِ الَّذي هو قَناةُ النَّجاسةِ، ثمَّ عجَّبَ مِن حالِه بأنْ يَتصدَّى مِثلُه -على مَهانةِ أصْلِه، ودَناءةِ أوَّلِه- لِمُخاصَمةِ الجبَّارِ، ويُبْرِزَ صَفْحتَه لِمُجادَلتِه، ويَرْكَبَ مَتْنَ الباطلِ ويَلَجَّ، ويقولَ: مَن يَقدِرُ على إحياءِ الميِّتِ بعدَ ما رمت عِظامُه، ثمَّ يكونُ خِصامُه في ألْزَمِ وَصفٍ له وألْصَقِه به، وهو كَوْنُه مُنشَأً مِن مَواتٍ، وهو يُنكِرُ إنشاءَه مِن مَواتٍ، وهي المكابَرةُ الَّتي لا مَطمَحَ وَراءَها !
5- في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ... إلى آخِرِ السِّياقِ: دَليلٌ على استِعمالِ القياسِ والاعتِبارِ، والتَّعَلُّقِ بطَريقِ الأَولى؛ فإنَّ الابتداءَ أصعَبُ مِن الإعادةِ، والإعادةَ أيسَرُ مِن الابتداءِ، والقادِرُ على الأعظَمِ قادِرٌ على الأهوَنِ الأدوَنِ لا مَحالةَ .
6- في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ أنَّ هذا الجاحِدَ لو ذَكَرَ خَلْقَه لَمَا ضرَبَ المَثَلَ، بل لَمَّا نَسِيَ خَلْقَه ضرَبَ المَثَلَ؛ فتَحْتَ قولِه: وَنَسِيَ خَلْقَهُ ألطَفُ جوابٍ، وأبيَنُ دَليلٍ، وهذا كما تقولُ لِمَن جَحَدَك أنْ تكونَ قد أعطَيْتَه شيئًا: فُلانٌ جَحَدَني الإحسانَ إليه، ونَسِيَ الثِّيابَ الَّتي عليهِ، والمالَ الَّذي معه، والدَّارَ الَّتي هو فيها؛ حيث لا يُمكِنُه جَحْدُ أنْ يكونَ ذلك منك !
7- في قَولِه تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، وقولِه: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام: 29] ، وقولِه: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [الدخان: 35] ما يدُلُّ على إنكارِهم لأصلِ يومِ القيامةِ. وفي سورةِ (يونُسَ) قال تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، وهذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّهم يَرجُونَ شَفاعةَ أصنامِهم يومَ القيامةِ؟
الجوابُ: أنَّهم يَرجُونَ شَفاعتَها في الدُّنيا لإصلاحِ معاشِهم، وفي الآخِرةِ -على تقديرِ وُجودِها-؛ لأنَّهم شاكُّونَ فيها، ويدُلُّ له قَولُه تعالى عن الكافِرِ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت: 50] ، وقَولُه: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف: 36] ؛ لأنَّ «إن» الشَّرطيَّةَ تدُلُّ على الشَّكِّ في حُصولِ الشَّرطِ، ويدُلُّ له قَولُه: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً في الآيتَينِ المذكورتينِ .
8- في قَولِه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ بيانُ قوَّةِ الإقناعِ في إقامةِ الحُجَّةِ مِن كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فأقوى ما يَسوقُ الحُجَجَ ويُبيِّنُها هو كلامُ اللهِ؛ لأنَّ كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ أبلَغُ الكلامِ وأحسَنُه؛ قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87] ؛ فحديثُ اللهِ عزَّ وجلَّ لا شكَّ أنَّه أصدَقُ الحديثِ وأتَمُّه، وأحسَنُه في الإقناعِ، وإقامةِ الحُجَّةِ .
9- تعليقُ الإحياءِ بالعظامِ في قَولِه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه دَلالةٌ على أنَّ عِظامَ الحيِّ تحلُّها الحياةُ -كلَحْمِه ودَمِه-، وليست بمنزلةِ القصبِ والخشبِ؛ ولذلك تَنجسُ عِظامُ الحيوانِ الَّذي مات دونَ ذكاةٍ .
10- قولُه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فيه بيانُ نعمةِ اللهِ علينا بجَعْلِه مِن الشَّجرِ الأخضرِ نارًا؛ ووجْهُ الدَّلالةِ أنَّه قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ، وقد قَرَّرَ اللهُ هذه النِّعمةَ بقوله: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [الواقعة: 71، 72]، ولا أحدَ يُنْكِرُ ما في الطَّاقةِ الحراريَّةِ مِن المنافعِ العظيمةِ للخَلْقِ، فأنواعُها -بل أجناسُها- لا تُحصَى، فضلًا عن أفرادِها .
11- في قَولِه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا دَليلٌ على تمامِ قُدرتِه، وإخراجِ الأمواتِ مِن قُبورِهم، كما أخرَجَ النَّارَ مِن الشَّجَرةِ الخَضراءِ، وفي ذلك جوابٌ عن شُبهةِ مَن قال مِن مُنكِري المعادِ: «الموتُ باردٌ يابسٌ، والحياةُ طَبعُها الرُّطوبةُ والحَرارةُ؛ فإذا حَلَّ الموتُ بالجِسمِ لم يمكنْ أنْ تَحُلَّ فيه الحياةُ بعدَ ذلك؛ لِتَضَادِّ ما بيْنَهما»! وهذه شبهةٌ تَليقُ بعقولِ المُكَذِّبينَ الَّذين لا سَمْعَ لهم ولا عقْلَ؛ فإنَّ الحياةَ لا تُجامِعُ الموتَ في المَحَلِّ الواحدِ لِيَلزَمَ ما قالوا، بل إذا أوجَدَ اللهُ فيه الحياةَ وطَبْعَها ارتفعَ الموتُ وطَبعُه .
12- في قَولِه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا الاستِدلالُ بالأشَدِّ على الأخَفِّ؛ لأنَّ التَّنافُرَ بيْنَ الرَّطْبِ واليابسِ والحارِّ والباردِ: أعظَمُ مِن أنْ يُعادَ الخَلْقُ، أو تُعادَ العِظامُ بعدَ رَميمِها؛ فالقادِرُ على هذا الشَّيءِ قادِرٌ على إحياءِ الموتى .
13- في قَولِه تعالى: فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ تقريرُ الشَّيءِ بالواقعِ، فبدَلًا مِن أنْ نُلْقِيَه تَصَوُّرًا في الذِّهنِ؛ نَذْكُرُ واقعَه بالفعلِ، فهو سُبحانَه وتعالى بَيَّنَ أنَّه جَعَلَ لنا مِن الشَّجرِ الأخضرِ نارًا، ثمَّ حَقَّقَ ذلك بذِكْرِ الأمرِ الواقعِ فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي: تُحِسُّونه بواقعِكم، وتَلْمُسُونه بأيديكم .
14- في قَولِه تعالى: بَلَى جوازُ إجابةِ السَّائلِ نَفْسَه في الأمرِ المُحَقَّقِ المُتقرِّرِ .
15- في قَولِه تعالى: بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ كثيرًا ما يَقرِنُ تعالى بيْن خَلقِه وعِلمِه؛ لأنَّ خَلْقَ المخلوقاتِ مِن أقوى الأدِلَّةِ العَقليَّةِ على عِلمِ خالِقِها وحِكمتِه .
16- قال الله عزَّ وجَلَّ: بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْخَلَّاقُ إشارةٌ إلى أنَّه في القُدرةِ كامِلٌ، وفي قَولِه تعالى: الْعَلِيمُ إشارةٌ إلى أنَّ عِلمَه شامِلٌ .
17- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ؛ فلو كان «كُنْ» مخلوقةً لَزِمَ ألَّا يُوجَدَ شَيءٌ مِن المخلوقاتِ؛ لأنَّ «كُنْ» تكونُ مخلوقةً بـ «كُنْ» أُخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا يُوجَدُ شَيءٌ !
18- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إثباتُ القَولِ والكلامِ للهِ، وأنَّه يكونُ بحَرفٍ؛ لِقَولِه: كُنْ؛ فإنَّ «كُنْ» كَلِمةٌ مُكَوَّنةٌ مِن حَرفينِ، وفيه أيضًا إثباتُ أنَّه بصوتٍ؛ لِقَولِه: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فهذا الخِطابُ مُوَجَّهٌ لِمَا أرادَه اللهُ، وهو يقتضي أنْ يكونَ هذا المرادُ سامِعًا لهذا القَولِ، ولا سماعَ إلَّا بصَوتٍ، فيكونُ في الآيةِ رَدٌّ على قولِ الأشاعرةِ في كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيث يقولون: إنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى القائِمُ بنَفْسِه، وأنَّ ما يُسمَعُ مِن الأصواتِ والحروفِ هو عبارةٌ عن كلامِ الله! ويَرَونَ أنَّ هذا المسموعَ مَخلوقٌ !
19- أنَّ الصِّفةَ قد تكونُ ذاتيَّةً فِعليَّةً باعتبارينِ، كالكلامِ؛ فإنَّ الكلامَ باعتبارِ أصْلِه صِفةٌ ذاتيَّةٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يَزَلْ ولا يَزالُ مُتكَلِّمًا، وباعتبارِ آحادِ الكلامِ صِفةٌ فِعليَّةٌ؛ لأنَّ الكلامَ يَتعلَّقُ بمشيئتِه سُبحانَه؛ يَتكلَّمُ متى شاء بما شاء، كما في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ كلامٌ مُستأْنَفٌ مَسوقٌ لِبَيانِ بُطلانِ إنكارِهم البعْثَ بعْدَ ما شاهَدوا في أنفُسِهم أوضَحَ دَلائلِه وأعدَلَ شَواهِدِه، والهمزةُ للإنكارِ والتَّعجُّبِ، والواوُ للعَطفِ عَلى جُملةٍ مُقدَّرةٍ هي مُسْتتبِعةٌ للمَعطوفِ، أي: ألمْ يَتفكَّرِ الإنسانُ ولم يَعلَمْ عِلمًا يَقينيًّا أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ... إلخ، أو هي عَيْنُ الجُملةِ السَّابقةِ؛ أُعِيدتْ تأْكيدًا للنَّكيرِ السَّابقِ، وتَمْهيدًا لإنكارِ ما هو أحقُّ منه بالإنكارِ والتَّعجُّبِ؛ لِمَا أنَّ المنكَرَ هناك عدَمُ عِلْمِهم بما يَتعلَّقُ بخَلْقِ أسبابِ مَعايِشِهم، وهاهنا عدَمُ عِلْمِهم بما يَتعلَّقُ بخَلْقِ أنفُسِهم، ولا رَيْبَ في أنَّ عِلْمَ الإنسانِ بأحوالِ نفْسِه أهَمُّ، وإحاطتَه بها أسهَلُ وأكمَلُ؛ فالإنكارُ والتَّعجُّبُ مِن الإخلالِ بذلك أدخَلُ، كأنَّه قِيل: ألمْ يَعلَمُوا خَلْقَه تعالى لأسبابِ مَعايشِهم، ولم يَعلَمُوا خَلْقَه تعالى لأنفُسِهم أيضًا، مع كَونِ العِلمِ بذلك في غايةِ الظُّهورِ ونهايةِ الأهمِّيَّةِ؟! على معنَى أنَّ المنكَرَ الأوَّلَ بَعيدٌ قَبيحٌ، والثَّانيَ أبعَدُ وأقبحُ. ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ في أَوَلَمْ لِعَطْفِ الجُملةِ الإنكاريَّةِ الثَّانيةِ على الأُولى، على أنَّها مُتقدِّمةٌ في الاعتِبارِ، وأنَّ تَقدُّمَ الهمزةِ عليها لاقتِضائِها الصَّدارةَ في الكلامِ .
- وإيرادُ الإنسانِ في أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ مَوردَ الضَّميرِ؛ لأنَّ مَدارَ الإنكارِ مُتعلِّقٌ بأحوالِه مِن حيثُ هو إنسانٌ، كما في قولِه تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67] .
- وذِكْرُ النُّطفةِ في قولِه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ تَمهيدٌ للمُفاجأةِ بكَونِه خَصيمًا مُبِينًا عقِبَ خلْقِه، أي: ذلك الهيِّنُ المَنشَأِ قد أصبَحَ خَصِيمًا عَنِيدًا، ولِيُبْنَى عليه قولُه بعْدُ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ، أي: نسِيَ خلْقَه الضَّعيفَ فتَطاوَلَ وجاوَزَ، ولأنَّ خلْقَه مِن النُّطفةِ أعجَبُ مِن إحيائِه وهو عَظْمٌ؛ مُجاراةً لِزَعْمِه في مِقدارِ الإمكانِ، وإنْ كان اللهُ يُحْيي ما هو أضعَفُ مِن العِظامِ، فيُحْيِي الإنسانَ مِن رَمادِه، ومِن تُرابِه، ومِن عَجْبِ ذَنَبِه ، ومِن لا شَيءَ باقيًا منه .
- قولُه: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ عطْفٌ على الجُملةِ المنفيَّةِ، داخِلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، كأنَّه قِيل: أولمْ يَرَ أنَّا خلَقْناهُ مِن أخَسِّ الأشياءِ وأمْهَنِها، ففاجَأَ خُصومَتَنا في أمْرٍ يَشهَدُ بصِحَّتهِ وتَحقُّقهِ مَبدأُ فِطرتِه شَهادةً بَيِّنةً. وإيرادُ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على استِقرارِه في الخُصومةِ، واستمرارِه عليها. وقِيل: معنى قولِه تعالى: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ: فإذا هو بعْدَما كان ماءً مَهينًا رجُلٌ مُميِّزٌ مِنْطِيقٌ قادرٌ على الخِصامِ مُبينٌ، مُعرِبٌ عمَّا في نفْسِه فصيحٌ؛ فهو حينَئذٍ مَعطوفٌ على خَلَقْنَاهُ، غيرُ داخلٍ تحتَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ، بلْ هو مِن مُتمِّماتِ شَواهدِ صِحَّةِ البعثِ .
- و(إذا) في قولِه: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ للمُفاجأةِ، ووَجْهُ المُفاجأةِ: أنَّ ذلك الإنسانَ خُلِقَ لِيَعبُدَ اللهَ، ويَعلَمَ ما يَلِيقُ به، فإذا لمْ يَجْرِ على ذلك فكأنَّه فاجَأَ بما لمْ يكُنْ مُترَقَّبًا منه، مع إفادةِ أنَّ الخُصومةَ في شُؤونِ الإلهيَّةِ كانتْ بما بادَرَ به حين عَقَلَ .
- والخَصيمُ فَعِيلٌ؛ مُبالَغةٌ في معنى مُفاعِلٍ، أي: مُخاصِمٌ شَديدُ الخِصامِ، والمرادُ بـ خَصِيمٌ في تلك الآيةِ: أنَّه شَديدُ الشَّكيمةِ بعْدَ أنْ كان أصْلُه نُطْفةً .
2- قولُه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
- قولُه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ... مَعطوفٌ على الجُملةِ المنفيَّةِ، داخلٌ في حيِّزِ الإنكارِ والتَّقبيحِ، أو عطْفٌ على الجُملةِ الفُجائيَّةِ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، والمعنى: ففاجَأَ خُصومتَنا وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا، أي: أوْرَدَ في شأْنِنا قصَّةً عَجيبةً في نفْسِ الأمْرِ، هي في الغرابةِ والبُعدِ عن العُقولِ كالمَثَلِ، وهي إنكارُ إحيائِنا العِظامَ، أو قِصَّةً عَجيبةً في زَعْمِه، واستَبْعدَها وعَدَّها مِن قَبِيلِ المَثَلِ، وأنْكَرَها أشدَّ الإنكارِ، وهي إحياؤُنا إيَّاها؛ فالمَثَلُ على الأوَّلِ هو إنكارُ إحيائهِ تعالى للعِظامِ؛ فإنَّه أمْرٌ عَجيبٌ في نفْسِ الأمْرِ، حَقيقٌ لِغَرابتهِ وبُعْدِه مِن العقولِ بأنْ يُعَدَّ مثَلًا ضَرورةَ جَزْمِ العقول ببُطلانِ الإنكارِ ووُقوعِ المنكَرِ؛ لكَونِه كالإنشاءِ، بلْ أهْوَنُ منه في قياسِ العقلِ، وعلى الثَّاني هو إحياؤُه تعالى لها؛ فإنَّه أمرٌ عَجيبٌ في زَعْمِه قد استَبْعدَهُ وعَدَّه مِن قَبِيلِ المثَلِ، وأنْكَرَه أشدَّ الإنكارِ، مع أنَّه في نفْسِ الأمْرِ أقرَبُ شَيءٍ مِن الوُقوعِ؛ لِكَونِه مِثلَ الإنشاءِ أو أهْوَنَ منه، وأمَّا على الثَّالثِ فلا فرْقَ بيْن أنْ يكون المَثَلُ هو الإنكارَ أو المنكَرَ .
وقيل: المَثَلُ: تمثيلُ الحالةِ، فالمعنَى: وأظهَر للنَّاسِ وأتَى لهم بتشبيهِ حالِ قُدرتِنا بحالِ عَجْزِ النَّاسِ؛ إذ أحال إحياءَنا العِظامَ بعدَ أن أرَمَّتْ، فهو كقولِه تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] ، أي: لا تُشَبِّهوه بخَلْقِه فتَجعَلوا له شركاءَ؛ لوُقوعِه بعدَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73] .
- وقولُه: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ استِئنافٌ وقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ ضَرْبهِ المثَلَ، كأنَّه قِيل: أيَّ مَثَلٍ ضرَبَ؟ أو ماذا قال؟ فقِيل: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ .
- والاستِفهامُ في قولِه: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ استِفهامٌ إنكاريٌّ، مُؤكَّدٌ بقولِه: وَهِيَ رَمِيمٌ، ومَنْ عامَّةٌ في كلِّ مَن يُسنَدُ إليه الخبَرُ؛ فالمعنى: لا أحَدَ يُحْيي العِظامَ وهي رَميمٌ، تَعْجيزًا للهِ تعالى، وتَشبيهًا له بخلْقِه في أنَّهم غيرُ مَوصوفينَ بالقُدرةِ عليه؛ فشَمِلَ عُمومُه إنكارَهم أنْ يكونَ اللهُ تعالى مُحْييًا للعِظامِ وهي رَميمٌ، أي: في حالِ كَونِها رَميمًا، وهو بَيانٌ لِجُملةِ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا .
3- قولُه تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
- قولُه: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ أُمِرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجَوابٍ على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ بحمْلِ استِفهامِ القائلِ على خِلافِ مُرادِه؛ لأنَّه لَمَّا قال: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لم يكُنْ قاصِدًا تَطلُّبَ تَعيينِ المُحْيي، وإنَّما أراد الاستِحالةَ، فأُجِيبَ جَوابَ مَن هو مُتطلِّبٌ عِلْمًا، فقِيل له: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ فلذلك بُنِيَ الجوابُ على فِعلِ الإحياءِ مُسنَدًا للمُحْيي، على أنَّ الجوابَ صالحٌ لأنْ يكونَ إبطالًا للنَّفيِ المرادِ مِن الاستفهامِ الإنكاريِّ، كأنَّه قِيل: بلْ يُحْييها الَّذي أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ، ولم يُبْنَ الجوابُ على بَيانِ إمكانِ الإحياءِ، وإنَّما جُعِل بَيانُ الإمكانِ في جَعلِ المُسنَدِ إليه مَوصولًا؛ لِتَدُلَّ الصِّلةُ على الإمكانِ، فيَحصُلَ الغرَضانِ؛ فالموصولُ هنا إيماءٌ إلى وَجهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو يُحْيِيهَا، أي: يُحْيِيها لأنَّه أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ، فهو قادرٌ على إنشائِها ثانيَ مرَّةٍ كما أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ .
- وقَولُه: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه احتِباكٌ؛ فذِكرُ الإحياءِ أوَّلًا دالٌّ على مِثلِه ثانيًا، والإنشاءِ ثانيًا دالٌّ على مِثلِه أوَّلًا، و أَوَّلَ مَرَّةٍ في الثَّاني دالٌّ على «ثاني مَرَّةٍ» في الأوَّلِ .
- وجُملةُ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إمَّا اعتِراضٌ تَذْييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَضمونِ الجوابِ للاستِدلالِ، أو مَعطوفةٌ على الصِّلةِ الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. والعُدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ عِلْمَه تعالى بما ذُكِرَ أمرٌ مُستمِرٌّ، ليس كإنشائهِ للمُنشَآتِ .
4- قولُه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ
- قولُه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا بدَلٌ مِن الَّذِي أَنْشَأَهَا [يس: 79] بدَلًا مُطابِقًا، وإنَّما لم تُعطَفِ الصِّلةُ على الصِّلةِ -فيُكْتفَى بالعطْفِ عن إعادةِ اسمِ الموصولِ-؛ لأنَّ في إعادةِ الموصولِ بَيانًا لِتَفاوُتِهما في كَيفيَّةِ الدَّلالةِ، وتأْكيدًا للأوَّلِ واهتِمامًا بالثَّاني؛ حتَّى تَستشرِفَ نفْسُ السَّامعِ لِتَلقِّي ما يَرِدُ بعْدَه، فيَفطَنَ بما في هذا الخَلْقِ مِن الغَرابةِ؛ إذ هو إيجادُ الضِّدِّ -وهو نِهايةُ الحرارةِ- مِن ضِدِّه، وهو الرُّطوبةُ، وهذا هو وَجْهُ وَصفِ الشَّجرِ بالأخضَرِ؛ إذ ليس المرادُ مِن الأخضَرِ اللَّونَ، وإنَّما المرادُ لازِمُه، وهو الرُّطوبةُ؛ لأنَّ الشَّجرَ أخضَرُ اللَّونِ ما دام حيًّا، فإذا جفَّ وزالَتْ منه الحياةُ استحالَ لَونُه إلى الغُبْرةِ؛ فصارتِ الخُضرةُ كِنايةً عن رُطوبةِ النَّبْتِ وحياتِه .
- والجارَّانِ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ مُتعلِّقانِ بـ جَعَلَ، قُدِّمَا على مَفعولِه الصَّريحِ نَارًا، مع تأْخيرِهما عنه رُتْبةً؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .
- والمُفاجأةُ المُستفادةُ مِن فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دالَّةٌ على عَجيبِ إلهامِ اللهِ البشَرَ لاستعمالِ الاقتِداحِ بالشَّجَرِ الأخضَرِ، واهتِدائِهم إلى خاصِّيَّتِه .
- وجِيءَ بالمُسنَدِ فِعلًا مُضارِعًا تُوقِدُونَ؛ لإفادةِ تَكرُّرِ ذلك واستِمرارِه .
5- قولُه تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
- قولُه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ استِئنافٌ تَقريريٌّ؛ لِتَحقيقِ مَضمونِ الجوابِ الَّذي أُمِرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُخاطِبَهم به، ويُلزِمَهم الحُجَّةَ. والهَمزةُ في أَوَلَيْسَ للإنكارِ، والواوُ للعطفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: أليسَ الَّذي أنْشَأَها أوَّلَ مرَّةٍ، وليس الَّذي جعَلَ لهم مِنَ الشَّجرِ الأخضَرِ نَارًا، وليس الَّذى خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ مع كِبَرِ جِرْمِهما وعِظَمِ شأْنِهما بقادرٍ... .
- وجِيءَ في هذا الدَّليلِ بطَريقةِ التَّقريرِ الَّذي دَلَّ عليه الاستِفهامُ التَّقريريُّ؛ لأنَّ هذا الدَّليلَ -لِوُضوحِه- لا يَسَعُ المُقِرَّ إلَّا الإقرارُ به؛ فإنَّ البَديهةَ قاضيةٌ بأنَّ مَن خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ هو على خلْقِ ناسٍ بعْدَ الموتِ أقدَرُ، وإنَّما وُجِّهَ التَّقريرُ إلى نَفْيِ المُقرَّرِ بثُبوتِه تَوسعةً على المُقرَّرِ إنْ أراد إنكارًا، مع تَحقُّقِ أنَّه لا يَسَعُه الإنكارُ؛ فيَكونُ إقرارُه بعْدَ تَوجيهِ التَّقريرِ إليه على نَفْيِ المقصودِ شاهدًا على أنَّه لا يَستطيعُ إلَّا أنْ يُقِرَّ .
- واسمُ الفاعِلِ (قادِر) في قولِه: بِقَادِرٍ مجرورٌ بالباءِ المَزيدةِ في النَّفيِ؛ لِتأْكيدِه .
- والالتِفاتُ مِن الخِطابِ في قولِه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ إلى الغَيبةِ في قولِه: مِثْلَهُمْ؛ لِمَزيدِ الاحتقارِ والازدراءِ، أي: مِثلَ أولئك البُعداءِ . وقيل: إيذانًا بأنَّهم صاروا بهذا الجدَلِ أهلًا لغايةِ الغضبِ .
- وعُقِّبَ التَّقريرُ بجَوابٍ عن المُقرَّرِ بكَلمةِ بَلَى الَّتي هي لِنَقْضِ النَّفيِ، أي: بلى هو قادرٌ على أنْ يَخلُقَ مِثلَهم، وهو جَوابٌ مِن جِهَتهِ تعالى، وتَصريحٌ بما أفادَه الاستِفهامُ الإنكارِيُّ مِن تَقريرِ ما بعْدَ النَّفيِ، وإيذانٌ بتَعيُّنِ الجوابِ، نَطَقُوا به أو تَلَعْثَموا فيه مَخافةَ الإلزامِ .
- قولُه: وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي: هو يَخلُقُ خلائقَ كثيرةً، وواسعُ العِلمِ بأحوالِهم ودَقائقِ تَرْتيبِها؛ فالخلَّاقُ مُبالَغةٌ لِكَثرةِ مَخلوقاتِه، فهو سُبحانه المبالِغُ في الخلْقِ والعلْمِ كَيْفًا وكمًّا .
6- قولُه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذه فَذْلَكةُ الاستِدلالِ، وفَصْلُ المقالِ؛ فلذلك فُصِلَت عمَّا قبْلَها كما تُفصَلُ جُملةُ النَّتيجةِ عن جُملتَيِ القِياسِ؛ فقد نتَجَ ممَّا تَقدَّمَ أنَّه تعالى إذا أراد شيئًا فإنَّه يقولُ له: (كُنْ)، وهو أخصَرُ كَلِمةٍ تُعبِّرُ عن الأمْرِ بالكونِ، أي: الاتِّصافِ بالوُجودِ .
- وقولُه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه قصرٌ إضافيٌّ ؛ لِقَلْبِ اعتِقادِهم أنَّه يَحتاجُ إلى جمْعِ مادَّةٍ وتَكييفِها، ومُضِيِّ مُدَّةٍ لإتمامِها، وفي ذلك قَطْعٌ لِمادَّةِ الشُّبهةِ، وهو قِياسُ قُدرةِ اللهِ تعالى على قُدْرةِ الخلْقِ !
7- قولُه تعالى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذا تَنزيهٌ للهِ ممَّا وصَفَه به المُشرِكون، وتَعجُّبٌ مِن أنْ يَقولوا فيه ما قالوا، وتأْكيدٌ وتَقريرٌ لِمَا سبَقَه .
- والفاءُ في قولِه: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَصيحةٌ تدُلُّ على كلامٍ مُقدَّرٍ، أي: إذا ظهَرَ كلُّ ما سَمِعْتُم مِن الدَّلائلِ على عَظيمِ قُدْرةِ اللهِ، وتَفرُّدِه بالإلهيَّةِ، وأنَّه يُعِيدُكم بعدَ الموتِ؛ فيَنشَأُ تَنْزيهُه عن أقوالِهم في شأْنِه، المُفْضيةِ إلى نَقْصِ عَظَمتِه؛ لأنَّ بيَدِه المُلْكَ الأتَمَّ لكلِّ مَوجودٍ . وهذه الفاءُ أيضًا للإشارةِ إلى أنَّ ما فُصِّلَ مِن شُؤونِه تعالى مُوجِبةٌ لِتَنزُّهِه وتَنْزيهِه أكمَلَ إيجابٍ، كما أنَّ وَصْفَه تعالى بالمالكيَّةِ الكُلِّيَّةِ المُطلَقةِ للإشعارِ بأنَّها مُقْتضيةٌ لذلك أتمَّ اقتضاءٍ .
- قولُه: بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملَكُوتُ: مُبالَغةٌ في المُلكِ، كالرَّحَموتِ والرَّهَبوتِ .
- وجُملةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عطْفٌ على جُملةِ التَّسبيحِ عَطْفَ الخبَرِ على الإنشاءِ؛ فهو ممَّا شَمِلَته الفاءُ الفصيحةُ، والمعنى: قدِ اتَّضَحَ أنَّكم صائرون إليه، غيرُ خارجينَ مِن قبْضةِ مُلْكِه، وذلك بإعادةِ خلْقِكم بعدَ الموتِ .
- وأيضًا قولُه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لا إلى غَيرِه، وفيهِ مِن الوَعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى؛ فالخطاب عامٌّ للمؤمنينَ والمشركينَ، وقيل: هو وعيدٌ فقط على أنَّ الخطابَ للمشركينَ لا غير توبيخًا لهم .
- وتَقديمُ (إِلَيْهِ) على تُرْجَعُونَ؛ للاهتِمامِ ورِعايةِ الفاصلةِ؛ لأنَّهم لم يَكونوا يَزعُمون أنَّ ثمَّةَ رَجعةً إلى غيرِه، ولكنَّهم يُنكِرون المعادَ مِن أصْلِه .