موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (66-72)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات :

جِثِيًّا: أي: بُروكًا على رُكَبِهم، لا يستطيعونَ القيامَ ممَّا هم فيه، جمعُ جاثٍ. وقيل: چ أي: جميعًا، وقيلَ: أي: جماعاتٌ، جمعُ جَثْوَةٍ، وهي المجموعُ مِن التُّرابِ أو الحجارةِ [702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/606)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 179)، ((الوسيط)) للواحدي (3/190)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 687)، ((المفردات)) للراغب (ص: 187)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 225)، ((تفسير الشوكاني)) (3/405)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 357). .
شِيعَةٍ: الشيعةُ: الفرقةُ التي شايَع بعضُها بعضًا، أي: تابَعه، والشِّيعَةُ: مَن يتقوَّى بهم الإنسانُ، ويَنْتشِرون عنه، وكلُّ قومٍ اجتَمعوا على أمرٍ فهم شيعةٌ، وأصلُه يدلُّ على معاضدةٍ ومساعفةٍ [703] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/235)، ((الوسيط)) للواحدي (2/284)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 470)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/155). .
عِتِيًّا: أي:تمرُّدًا، والعُتُوُّ: النُّبُوُّ -أي: الارتفاعُ- عن الطاعةِ، وكلُّ مُتَناهٍ إلى غايَتِه في كِبرٍ، أو فسادٍ، أو كفرٍ فهو عاتٍ، وأصلُ (عتو) هنا: يدُلُّ على استكبارٍ [704] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/465، 588)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/225)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/366). .
صِلِيًّا: أي: دُخولًا، ومُقاساةً لحَرِّها، وأصلُ الصلي هنا: الإيقادُ بالنَّارِ. وقيل: أصلُه: القربُ مِن النارِ [705] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/590)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490)، ((تفسير القرطبي)) (11/135)، ((تفسير الألوسي)) (2/425). .
وَارِدُهَا: أي: مارٌّ عليها، أو: داخلُها، وأصلُ (ورد): يدلُّ على الموافاةِ إلى الشَّيءِ [706] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/591)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/105)، ((المفردات)) للراغب (ص: 865)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 225)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 949). .
حَتْمًا: أي: أمرًا محتومًا، لازمًا، جازمًا، واجِبًا لا محيدَ عنه، والحتمُ: إيجابُ القضاءِ، والقطعُ بالأمرِ [707] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/293)، ((تفسير الرسعني)) (4/453)، ((تفسير الشوكاني)) (3/407)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 413)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/481). .

المعنى الإجمالي:

يُخبرُ الله تعالى عن موقفِ المشركينَ مِن البعثِ، ويحكي أقوالَهم الباطلةَ، فيقولُ تعالى: ويقولُ الإنسانُ الكافِرُ مُنكِرًا للبَعثِ بعدَ الموتِ: هل إذا ما مِتُّ وفَنِيتُ أُخرَجُ مِن قبري حيًّا؟!
ويردُّ الله سبحانَه عليهم بما يُبطِلُ قولَهم، فيقولُ: أولَا يَذكُرُ هذا الكافِرُ أنَّا خَلَقْناه أوَّلَ مَرَّةٍ، ولم يكُنْ شيئًا مذكورًا؟! فالقادِرُ على إيجادِه مِن العَدَمِ قادِرٌ على إحيائِه بعدَ مَوتِه.
ثمَّ يُقسِمُ الله سبحانَه على وقوعِ البعثِ والنشورِ فيقولُ: فوربِّك -يا محمَّدُ- لنجمعَنَّ هؤلاء المُنكِرينَ للبَعثِ يومَ القيامةِ مع الشَّياطينِ الذين أضَلُّوهم، ثمَّ لنُحضِرَنَّهم حَولَ جهنَّمَ باركينَ على رُكَبِهم، ثمَّ لنأخُذَنَّ مِن كلِّ طائفةٍ أشدَّهم تمرُّدًا وكُفرًا وعِصيانًا لله، فنبدأُ بعَذابِهم، ثمَّ لنحن أعلَمُ بمَن هم أحقُّ بشدَّةِ العذابِ في النَّارِ.
ثمَّ يُبيِّنُ أنَّ الجميعَ سيرِدُ جهنَّمَ، فيقولُ: وما منكم -أيُّها النَّاسُ- أحدٌ إلَّا وارِدٌ النَّارَ، كان ذلك على ربِّك أمرًا محتومًا وقَضاءً واجبًا لا بدَّ مِن وقوعِه، ثمَّ ننجِّي الذين اتَّقَوا ربَّهم بامتِثالِ ما أمَرَ واجتنابِ ما نهى، ونتركُ الظالمينَ أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي في النَّارِ باركينَ على رُكَبِهم.

تفسير الآيات:

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تضَمَّنَ قَولُه تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم: ٦٥] إبطالَ عَقيدةِ الإشراكِ به؛ ناسبَ الانتقالُ إلى إبطالِ أثَرٍ مِن آثارِ الشِّركِ، وهو نفيُ المشركينَ وُقوعَ البعثِ بعد الموتِ؛ حتى يتِمَّ انتقاضُ أصلَيِ الكُفرِ [708] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/144). .
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66).
أي: ويقولُ الإنسانُ الكافِرُ مُنكِرًا للبَعثِ بعدَ الموتِ: هل سأُخرَجُ بعدَ موتي وفَنائي حيًّا مِن قبري [709] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/586)، ((تفسير ابن كثير)) (5/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/145)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/473). ؟!
كما قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد: 5].
وقال سُبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] .
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67).
القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: يَذْكُرُ قراءتانِ:
1- قِراءةُ يَذْكُرُ مِنَ (الذِّكر) الذي يكونُ عَقيبَ النِّسيانِ والغَفلةِ، أي: أوَلا يتنبَّهُ الإنسانُ ويعلَمُ [710] قرأ بها نافعٌ، وعاصمٌ، وابنُ عامرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/318). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 445)، ((الكشف)) لمكي (2/90). ؟
2- قِراءةُ يَذَّكَّرُ مِن (التذَكُّرِ) الذي هو بمعنى التدبُّر، أي: أوَلا يتدبَّرُ الإنسانُ ويتفَكَّرُ [711] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/318). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 445)، ((الحجة)) لأبي علي الفارسي (5/204)، ((الكشف)) لمكي (2/90). ؟
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67).
أي: أوَلا يتنبَّهُ الكافِرُ المُنكِرُ قُدرةَ اللهِ على بَعثِه أنَّ اللهَ قد خلقَه مِن قَبلُ [712] قيل: معنى مِنْ قَبْلُ: أي: من قبلِ كلِّ حالةٍ هو عليها؛ فقيل: هي حالةُ بقائِه، وقيل: هي حالةُ جدالِه، وإنكارِه للبعثِ، وقولِه ما قال. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/285)، ((تفسير القرطبي)) (11/131)، ((تفسير النسفي)) (2/346)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/234)، ((تفسير الشوكاني)) (3/405)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/146). ولم يكُنْ شَيئًا مذكورًا؟! فالقادِرُ على إيجادِه مِن العَدَمِ قادِرٌ على إحيائِه بعدَ مَوتِه [713] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/586، 587)، ((تفسير ابن كثير)) (5/251)، ((تفسير الشوكاني)) (3/405)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/473). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27] .
وقال سُبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78، 79].
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال الله: كذَّبني ابنُ آدَمَ، ولم يكُنْ له ذلك، وشتَمَني، ولم يكنْ له ذلك؛ فأمَّا تكذيبُه إيَّاي فزَعَم أنِّي لا أقدِرُ أن أُعيدَه كما كان، وأمَّا شَتمُه إيَّاي فقولُه: لي ولَدٌ، فسُبحاني أن أتَّخِذَ صاحِبةً أو ولدًا! )) [714] رواه البخاري (4482). .
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68).
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ.
أي: فأُقسِمُ برَبِّك -يا محمَّدُ- لنجمَعَنَّ المُنكِرينَ للبَعثِ يومَ القيامةِ معَ شياطينِهم الذين أضَلُّوهم [715] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/634)، ((تفسير ابن جرير)) (15/587)، ((فتح البيان)) للقنوجي (8/184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/474). قال النيسابوري: (إضافة القَسَمِ إلى المخاطَب -وهو رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بإجماعِ المفَسِّرينَ- تفخيمٌ لشأنِه، ورفعٌ مِن مِقدارِه). ((تفسير النيسابوري)) (4/502). .
كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22- 23].
ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا.
أي: ثمَّ لنُحضِرَنَّهم حولَ جهنَّمَ أذِلَّاءَ، باركينَ على رُكَبِهم؛ مِن شِدَّةِ الأهوالِ، وفظاعةِ الأحوالِ [716] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/587)، ((تفسير الألوسي)) (8/435)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/147)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/475). .
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) .
أي: ثمَّ لنأخُذَنَّ بشِدَّةٍ وعُنفٍ مِن كُلِّ جماعةٍ وفِرقةٍ مِن طوائِفِ الكُفرِ والضَّلالِ أشَدَّهم تمَرُّدًا على الرَّحمنِ، وأعظَمَهم فَسادًا وكُفرًا وظُلمًا، فنبدأُ بتعذيبِهم، وإدخالِهم النَّارَ [717] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/588، 589)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/155)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/148)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/475، 476). قال الشنقيطي: (أي: لنَستخرجَنَّ ولنُميِّزنَّ مِن كلِّ طائفةٍ مِن طوائفِ الغَيِّ والفسادِ أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم، فيبدأُ بتعذيبه وإدخالِه النَّارَ على حسَبِ مراتبهم في الكفرِ، والإضلالِ والضلالِ). ((أضواء البيان)) (3/476). .
كما قال تعالى عن فرعونَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] .
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنه لمَّا كان هذا النَّزعُ والتَّمييزُ مُجملًا، فقد يزعُمُ كلُّ فريقٍ أنَّ غيرَه أشدُّ عِصيانًا؛ أعلَمَ اللهُ تعالى أنَّه يعلَمُ مَن هو أولَى منهم بمِقدارِ صِلِيِّ النَّارِ؛ فإنَّها دركاتٌ مُتفاوتةٌ [718] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/148). .
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) .
أي: ثمَّ [719] قال ابن كثير: (قَولُه: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا، ثُمَّ هاهنا لِعَطفِ الخبَرِ على الخبَرِ، والمرادُ: أنَّه تعالى أعلَمُ بمن يستحِقُّ مِن العبادِ أن يَصلَى بنارِ جهنَّمَ ويَخلُدَ فيها، وبمَن يَستحِقُّ تَضعيفَ العذابِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/251-252). لنحنُ أعلَمُ بمَن هم أحقُّ بشدَّةِ العذابِ في النَّارِ مِن غَيرِهم [720] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/589، 590)، ((تفسير ابن كثير)) (5/251، 252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/476). .
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) .
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا .
أي: وما منكم أحدٌ -أيُّها النَّاسُ- إلَّا سيَرِدُ النَّارَ [721] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/293)، ((تفسير ابن عطية)) (4/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498). الخطابُ في قولِه: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا لجميعِ الناسِ، عندَ الجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/27)، ((تفسير ابن جزي)) (1/484). قال الواحدي: (وأكثرُ الناسِ على الحكمِ بظاهرِ هذه الآيةِ، وهو: أنَّ الخلقَ كلَّهم يرِدُ النارَ، ثم يُنجِّي الله المؤمنينَ). ((البسيط)) (14/293). واختلف المفسرون في معنى الورودِ، فقيل: هو المرورُ على الصراطِ. وقيل: الورودُ: الدخولُ. وقيل غير ذلك. قال ابنُ تيميةَ: (ولفظُ «الورود» يحتمِلُ العبورَ، والدخولَ). ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/230). وممَّن ذهب إلى أنَّ معناه: المرورُ على الصراط المقامِ على متنِ جهنَّم: ابنُ جرير، وابنُ تيمية، وابنُ كثير، وابنُ أبي العز. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/590، 601)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/279)، ((تفسير ابن كثير)) (5/256)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/606). قال ابن عبد البر: (وقال آخرونَ: الوُرودُ: المَمَرُّ على الصِّراطِ. روَى الكعبيُّ، عن أبي صالحٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قال: المَمَرُّ على الصِّراطِ. ورُوِي ذلك عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، وكعبِ الأحبارِ، وخالدِ بنِ معدانَ، وأبي نَضْرَةَ، وهو قولُ السُّدِّيِّ). ((الاستذكار)) (3/75). وقال الزجَّاج: (والحُجَّةُ القاطعةُ في هذا القَولِ ما قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء: 101-102] . فهذا -والله أعلمُ- دليلٌ أن أهلَ الحسنى لا يدخلونَ النَّارَ. وفي اللغةِ: وردتُ بلدَ كذا وكذا، إذا أشرفتَ عليه؛ دخَلْتَه أو لم تدخُلْه... فالورودُ هاهنا بالإجماعِ ليس بدُخولٍ). ((معاني القرآن)) (3/341- 342). ويُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 250). وقيل: معنى الورودِ على جهنمَ: دخولُها، فيرِدُها جميعُ النَّاسِ، وتكون بردًا وسلامًا على المؤمنينَ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: السمعاني، والرسعني -ونسَب القول بأنَّ المعنى: ما منكم أيُّها المؤمنونَ والكافرونَ مِن أحدٍ إلَّا داخلٌ النارَ إلى الأكثرينَ-، والقرطبي، والعُليمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/306)، ((تفسير الرسعني)) (4/449)، ((تفسير القرطبي)) (11/139)، ((تفسير العُليمي)) (4/268)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/479، 480). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباس، وعبدُ الله بنُ رواحةَ، وجابرُ بنُ عبد الله. يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (6/353)، ((طرح التثريب)) للعراقي (3/251). قال ابنُ رجب: (وقالت طائِفةٌ: الوُرودُ هو الدُّخولُ، وهذا هو المعروفُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، ورُوِيَ عنه من غيرِ وَجهٍ، وكان يَستَدِلُّ لذلك بقَولِه تعالى في فِرعونَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] ، وبِقَولِه: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم: 86] ، وكذلك قَولُه تعالى: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا [الأنبياء: 99] ). ((التخويف من النار)) (ص: 250). ويُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/161). وقال الشنقيطي: (مِن أنواعِ البَيانِ التي تضَمَّنَها [أي: تفسيرُه الأضواء]: الاستِدلالُ على أحَدِ المعاني الدَّاخِلةِ في معنى الآيةِ بكَونِه هو الغالِبَ في القُرآنِ، فغَلَبتُه فيه دَليلٌ استِقرائيٌّ على عدَمِ خُروجِه مِن مَعنى الآيةِ،... فإذا عَلِمْتَ ذلك فاعلَمْ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما استدَلَّ على المرادِ بورودِ النَّارِ في الآيةِ بمِثلِ ذلك الدَّليلِ الذي ذكَرْنا أنَّه مِن أنواعِ البَيانِ في هذا الكِتابِ المبارَكِ، وإيضاحُه أنَّ ورودَ النَّارِ جاء في القرآنِ في آياتٍ مُتعَدِّدةٍ، والمرادُ في كُلِّ واحدةٍ منها الدُّخولُ، فاستدَلَّ بذلك ابنُ عبَّاسٍ على أنَّ الورودَ في الآيةِ التي فيها النِّزاعُ: هو الدُّخولُ؛ لدَلالةِ الآياتِ الأُخرى على ذلك). ((أضواء البيان)) (3/478). وقال أيضًا: (أجاب مَن قال بأنَّ الوُرودَ في الآيةِ الدُّخولُ عن قَولِه تعالى: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] بأنَّهم مُبعَدونَ عن عَذابِها وألَمِها؛ فلا ينافي ذلك ورودَهم إيَّاها مِن غيرِ شُعورِهم بألمٍ ولا حَرٍّ منها). ((أضواء البيان)) (3/480). وقال الرسعني: (فإنْ قيلَ: فما تصنَعُ بقَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:101-102] ، وبِقَولِه: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] ، والمؤمِنون آمِنونَ مِن الخِزْيِ؟ قلتُ: لا يلزَمُ مِن وُرودِ النَّارِ على الوَجهِ الذي ذكَرْناه سَماعُ حَسيسِها ولا الدُّخولُ على وَجهِ الخِزيِ؛ فإنَّ ذلك إنَّما يكونُ إذا دخلَها دُخولَ تَعذيبٍ وخُلودٍ، لا دُخولَ وُرودٍ). ((تفسير الرسعني)) (4/452). وقال ابنُ حَجر: (وهذان القَولانِ أصَحُّ ما ورد في ذلك، ولا تنافيَ بينَهما؛ لأنَّ مَن عَبَّر بالدُّخولِ تجَوَّزَ به عن المرورِ، ووَجهُه أنَّ المارَّ عليها فَوقَ الصِّراطِ في معنى مَن دَخَلَها، لكِنْ تختَلِفُ أحوالُ المارَّةِ باختِلافِ أعمالِهم... ويؤيِّدُ صِحَّةَ هذا التأويلِ: ما رواه مُسلِمٌ مِن حديثِ أمِّ مُبَشِّرٍ «أنَّ حَفصةَ قالت للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا قال: لا يدخُلُ أحَدٌ شَهِدَ الحُدَيبيَةَ النَّارَ: أليس اللهُ يقولُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] ؟! فقال لها: أليس اللهُ تعالى يقولُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الآية؟». وفي هذا بيانُ ضَعفِ قَولِ مَن قال: الورودُ مختَصٌّ بالكُفَّارِ، ومن قال: معنى الورودِ: الدُّنُوُّ منها، ومن قال: معناه: الإشرافُ عليها، ومن قال: معنى ورُودِها: ما يُصيبُ المؤمِنَ في الدُّنيا مِنَ الحُمَّى، على أنَّ هذا الأخيرَ ليس ببَعيدٍ، ولا ينافيه بقيَّةُ الأحاديثِ. والله أعلمُ). ((فتح الباري)) (3/124). وقال ابن كثير: (وقال عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بنِ أسلمَ في قولِه: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قال: ورودُ المسلمينَ: المرورُ على الجسرِ بينَ ظهريها، وورودُ المشركينَ أن يدخلوها). ((تفسير ابن كثير)) (5/256). تنبيهٌ: قال ابنُ رجبٍ: (اعلَمْ أنَّ النَّاسَ مُنقَسِمونَ إلى مؤمنٍ يَعبُدُ اللهَ وَحدَه، ولا يُشرِكُ به شيئًا، ومُشرِكٍ يَعبُدُ مع اللهِ غَيرَه؛ فأمَّا المُشرِكونَ فإنَّهم لا يمُرُّونَ على الصِّراطِ، إنَّما يَقَعونَ في النَّارِ قبلَ وَضعِ الصِّراطِ). ((التخويف من النار)) (ص: 235). .
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يؤتى بالجِسرِ فيُجعَلُ بين ظَهرَي جهنَّم. قُلنا: يا رسولَ اللهِ، وما الجِسرُ؟ قال: مَدحَضةٌ مَزِلَّةٌ [722] مَدحَضةٌ مَزلَّةٌ: أي: تَزلَقُ عليه الأقدامُ ولا تَثبُتُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/310). ، عليه خطاطيفُ وكلاليبُ [723] كلاليبُ: جَمعُ كَلُّوبٍ، وهو: حَديدةٌ مَعطوفةُ الرَّأسِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/21). ، وحَسَكةٌ مُفلطحةٌ [724] حَسَكةٌ مُفَلطَحةٌ: شَوْكَة صُلبةٌ قَوِيَّة لَهَا عرضٌ واتِّساعٌ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/105). لها شوكةٌ عُقَيفاءُ [725] عُقَيفاء: أي: مُعْوجَّةٌ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (10/405). -تكونُ بنَجْدٍ، يقالُ لها: السَّعدان- المؤمِنُ عليها كالطَّرفِ [726] كالطَّرْفِ: أي: كلَمحِ البَصَرِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (10/405). وكالبَرقِ وكالرِّيحِ، وكأجاويدِ [727] أجاويد الخيل: جَمعُ جَوادٍ، وهو الفَرَسُ السَّابِقُ الجيِّدُ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (10/405). الخَيلِ والرِّكابِ [728] الرِّكابُ: الإبِلُ، واحِدتُها الرَّاحِلةُ مِن غَيرِ لَفظِها. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (10/405). ؛ فناجٍ مُسَلَّمٌ، وناجٍ مَخدوشٌ، ومَكدوسٌ [729] مكدوسٌ: أي: مَصروعٌ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (10/405). في نارِ جهنَّمَ، حتى يمُرَّ آخِرُهم يُسحَبُ سَحبًا)) [730] رواه البخاري (7439) واللفظ له، ومسلم (183). .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: أخبَرَتني أمُّ مُبشِّر أنَّها سَمِعت النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ عند حفصةَ: ((لا يدخُلُ النَّارَ -إن شاء اللهُ- من أصحابِ الشَّجرةِ أحَدُ الذين بايعوا تحتَها، قالت: بلى يا رسولَ اللهِ! فانتهَرَها، فقالت حفصةُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) [731] رواه مسلم (2496). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَّا أهلُ النَّارِ الذين هم أهلُها، فإنَّهم لا يموتونَ فيها ولا يَحيَونَ، ولكِنْ ناسٌ أصابَتهم النَّارُ بذُنوبِهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم إماتةً، حتى إذا كانوا فَحمًا أُذِن بالشَّفاعةِ، فجيء بهم ضبائِرَ ضبائِرَ [732] ضبائِرَ: أي: جَماعاتٍ متَفرِّقةً. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/38). ، فبُثُّوا [733] فبُثُّوا: أي: فُرِّقوا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/38). على أنهارِ الجنَّةِ، ثمَّ قيل: يا أهلَ الجنَّةِ أفيضُوا عليهم، فيَنبُتونَ نباتَ الحِبَّةِ [734] الحِبَّة: اسمٌ جامِعٌ لحُبوبِ البُقولِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (10/406). تكونُ في حَميلِ السَّيلِ [735] حميلُ السيلِ: هو ما يجيءُ به السيلُ مِن طينٍ وغيرِه، فعيلٌ بمعنى مفعولٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/108). ) [736] رواه مسلم (185). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يموتُ لمُسلمٍ ثلاثةٌ مِن الوَلَدِ فيَلِجَ النَّارَ، إلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ [737] تَحِلَّةَ القَسَمِ: أي: تحليلَ اليمينِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/107). )، قال أبو عبدِ اللهِ أي: البخاري: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [738] رواه البخاري (1251) واللفظ له، ومسلم (2632). .
كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا .
أي: كان ورودُكم النَّارَ أمرًا واجبًا لازمًا، قضَى الله تعالى أنَّه لا بُدَّ مِن وُقوعِه لا مَحالةَ، وحتَّمه على نفسِه [739] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/590)، ((تفسير السمرقندي)) (2/383)، ((تفسير البغوي)) (3/246)، ((تفسير الشوكاني)) (3/407)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/481). .
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا .
أي: ثمَّ نُخَلِّصُ الذين اتَّقوا اللهَ بامتِثالِ ما أمَرَ، واجتنابِ ما نهى، مِن النَّارِ بعدَ وُرودِ النَّاسِ إيَّاها [740] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/606)، ((تفسير القرطبي)) (11/141)، ((تفسير ابن كثير)) (5/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498). قال ابنُ تيميَّةَ: (لَفظُ «النجاةِ مِنَ الشَّرِّ» يقتضي انعِقادَ سَبَبِ الشَّرِّ، لا نَفسَ حُصولِه في المُنجَّى؛ فقَولُه تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 72] لا يقتضي أنَّهم كانوا مُعذَّبينَ ثمَّ نجَوا، لكِنْ يقتضي أنَّهم كانوا مُعَرَّضينَ للعذابِ الذي انعقَدَ سَببُه، وهذا هو الورودُ؛ فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لن يدخُلَ النَّارَ أحَدٌ بايعَ تحت الشَّجَرةِ» لا يُنافي هذا الورودَ؛ فإنَّ مجرَّدَ الوُرودِ ليس بعذابٍ، بل هو تعريضٌ للعذابِ، وهو إنما نفى الدُّخولَ الذي هو العذابُ، لم يَنفِ التَّقريبَ مِن العذابِ، ولا انعِقادَ سَبَبِه، ولا الدُّخولَ على سَطح ِمكانِ العذابِ). ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/51). وقال ابن عاشور: (اتَّفق جميعُ المفَسِّرينَ على أنَّ المتَّقينَ لا تنالُهم نارُ جهنمَ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/151). .
وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
أي: ونترُكُ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والشِّركِ والمعاصي في النَّارِ بُروكًا على رُكَبِهم [741] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/606)، ((تفسير العُليمي)) (4/268)، ((تفسير الشوكاني)) (3/405)، ((تفسير القنوجي)) (8/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 498). .

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فيه دعوةٌ للنَّظَرِ بالدَّليلِ العَقليِّ بألطَفِ خِطابٍ، وأنَّ إنكارَ مَن أنكر ذلك مبنيٌّ على غفلةٍ منه عن حالِه الأُولَى، وإلَّا فلو تذكَّرَها وأحضَرَها في ذِهنِه، لم يُنكِرْ ذلك [742] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٩٨). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِ الله تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا قال بعضُ العُلَماءِ: لو اجتَمع كلُّ الخلائقِ على إيرادِ حُجَّةٍ في البعثِ على هذا الاختصارِ، ما قَدَروا عليه؛ إذ لا شكَّ أنَّ الإعادةَ ثانيًا أهونُ مِن الإيجادِ أوَّلًا [743] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (3/193). ، فهذه الحُجَّةُ في غايةِ الاختصارِ والإلزامِ للخصمِ، ويُسمَّى هذا النَّوعُ الاحتجاجَ النَّظريَّ، وبعضُهم يُسمِّيه المذهبَ الكلاميَّ [744] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/286). وقال أبو حيان في تعريفِه: (هو أن يَذكُرَ المتكَلِّمُ معنًى يَستدِلُّ عليه بضُروبٍ مِن المعقولِ، نحوُ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ [يس: 81] ). ((المصدر السابق)) (3/395). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فإن قيل: كيف أمَر تعالى الإنسانَ بالذِّكرِ مع أنَّ الذِّكرَ هو العِلمُ بما قد عَلِمَه من قبلُ، ثمَّ تخلَّلهما سهوٌ؟
الجوابُ: أن المراد: أوَلا يتفكَّرُ فيَعلَم، خصوصًا إذا قرئ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ بالتشديدِ، أمَّا إذا قرئ أَوَلَا يَذْكُرُ بالتخفيف، فالمرادُ: أو لا يعلَمُ ذلك من حالِ نَفسِه؛ لأنَّ كُلَّ أحدٍ يعلَمُ أنَّه لم يكن حيًّا في الدُّنيا ثمَّ صار حيًّا [745] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/556). .
3- قوله تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا هذه الآيةُ أصلٌ في إلحاقِ المِثْلِ بمِثْلِه [746] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (3/127). .
4- في قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا إشارةٌ إلى أنَّ العذابَ يَتَوَجَّهُ إلى السَّاداتِ أوَّلًا، ثم تكونُ الأتباعُ تَبَعًا لهم فيه، كما كانوا تَبَعًا لهم في الدُّنيا [747] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/155). ، فيُعذَّب الرؤساءُ القادةُ في الكفرِ قبلَ غيرِهم، ويشدَّدُ عليهم العذابُ؛ لضلالِهم وإضلالِهم [748] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/476). .
5- في قَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ في الوعيدِ شَديدةٌ؛ لزعمِهم أنَّ الدَّاخِلَ مِن الموحِّدينَ النارَ لا يَخْرُجُ منها أبدًا، وهذا نصُّ القرآنِ يُخْبِرُ بورودِ الجميعِ إيَّاها، وصَدْرِ المتَّقينَ عنها [749] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/259). . وذلك على القولِ بأنَّ الورودَ هو الدخولُ.
6- في قَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا بيانُ نعمةِ اللهِ على المتَّقينَ؛ أنَّهم مع الورودِ والعُبورِ عليها وسُقوطِ غيرِهم فيها، نجَوا منها [750] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/50). ، وذلك على القولِ بأنَّ الورودَ هو المرورُ على الصراطِ.
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا -على القَولِ بأنَّ الورودَ هو الدُّخولُ- فيه سؤالٌ: إذا لم يكُنْ على المؤمِنينَ عَذابٌ في دُخولِهم النَّارَ، فما الفائِدةُ في ذلك الدُّخولِ؟
الجوابُ من وجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ ذلك ممَّا يزيدُهم سرورًا إذا عَلِموا الخلاصَ منه.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ فيه مزيدَ غَمٍّ على أهلِ النَّارِ؛ مِن حيثُ يَرَونَ المؤمنينَ الذين هم أعداؤُهم يتخَلَّصون منها، وهم يبقَونَ فيها.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ فيه مزيدَ غَمٍّ على أهلِ النَّارِ؛ مِن حيثُ تَظهَرُ فضيحتُهم عند المؤمِنينَ، بل وعندَ الأولياءِ، وعندَ مَن كان يخوِّفُهم مِن النَّارِ فما كانوا يلتَفِتون إليه.
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ المؤمنين إذا كانوا معهم في النَّارِ يُبكِّتونَهم؛ فزاد ذلك غمًّا للكُفَّارِ، وسُرورًا للمؤمنين.
الوجهُ الخامِسُ: أنَّ المؤمِنينَ كانوا يخوِّفونَهم بالحَشرِ والنَّشرِ، ويُقيمونَ عليهم صِحَّةَ الدَّلائِلِ، فما كانوا يَقبَلونَ تلك الدَّلائِلَ، فإذا دخلوا جهنَّمَ معهم أظهَروا لهم أنَّهم كانوا صادِقينَ فيما قالوا، وأنَّ المكَذِّبينَ بالحَشرِ والنَّشرِ كانوا كاذبينَ.
الوجهُ السَّادسُ: أنَّهم إذا شاهدوا ذلك العذابَ صار ذلك سببًا لِمَزيدِ الْتِذاذِهم بنعيمِ الجنَّةِ، كما قال الشاعر [751] وهو أبو الطيبِ المتنبي، ويُنظر: ((ديوانه)) (ص: 127). :
وبضِدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ [752] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/559).
8- قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، على القولِ بأنَّ المرادَ بالوُرودِ: المرورُ على الصراطِ؛ فهذه أقوَى آيةٍ في ذِكرِ الصِّراطِ [753] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 175). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا
- والواوُ في قولِه: وَيَقُولُ عاطفةٌ قصَّةً على قصَّةٍ، والإتيانُ بفعْلِ (يقول) مُضارِعًا؛ لاستحضارِ حالةِ هذا القولِ؛ للتَّعجيبِ من قائلِه تَعجيبَ إنكارٍ [754] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/144). .
- قولُه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ يحتمِلُ أنْ يُرادَ بالإنسانِ الجنسُ بأَسْرِه، أو يُرادَ البعضُ المعهودُ منهم: وهم الكفرةُ. فإنْ قيل: لِمَ جازتْ إرادةُ الأَناسيِّ كلِّهم، وكلُّهم غيرُ قائلينَ ذلك؟ أُجيبَ بأنَّه: لمَّا كانت هذه المقالةُ موجودةً فيمَن هو من جنْسِهم، صَحَّ إسنادُه إلى جميعِهم [755] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/31)، ((تفسير البيضاوي)) (4/16)، ((تفسير أبي حيان)) (7/284)، ((تفسير أبي السعود)) (5/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/144). . ويجوزُ أنْ يكونَ وصْفٌ حُذِفَ، أي: الإنسانُ الكافرُ؛ فتكون كقولِه تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [756] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/144). [القيامة: 3، 4].
- قولُه: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا فيه تقديمُ الظَّرفِ (إذا)، ومَجيئُه بعدَ حرْفِ الإنكارِ (الهمزة)؛ لأنَّ المُنكَرَ كونُ ما بعدَ الموتِ وقْتَ الحياةِ [757] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/31)، ((تفسير البيضاوي)) (4/16)، ((تفسير أبي حيان)) (7/285)، ((تفسير أبي السعود)) (5/274). .
- والاستفهامُ في قولِه: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا استفهامٌ فيه معنى الجَحدِ والإنكارِ لوُقوعِ البعثِ [758] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/145). ؛ فلذلك أُتِيَ بالجُملةِ المُسلَّطِ عليها الإنكارُ مُقترِنةً بلامِ الابتداءِ الدَّالَّةِ على تَوكيدِ الجُملةِ الواقعةِ هي فيها، أي: يقولُ: لا يكونُ ما حَقَّقتموه من إحيائي في المُستقبَلِ [759] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/145). ، وإمَّا أنْ يكونَ إخبارًا على سَبيلِ الهُزءِ والسُّخريةِ بمَن يقولُ ذلك؛ إذ لمْ يُرِدْ به مُطابقةَ اللَّفظِ للمَعْنى [760] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/285). .
- وقولُه: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا فيه إيجازٌ بالحذفِ، والتَّقديرُ: أُخْرَجُ من القبرِ [761] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/145). .
2- قولُه تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا الاستفهامُ استفهامُ إنكارٍ وتعجُّبٍ من ذُهولِ الإنسانِ المُنكِرِ البعثَ عن خلْقِه الأوَّلِ [762] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/32)، ((تفسير البيضاوي)) (4/16)، ((تفسير أبي حيان)) (7/286)، ((تفسير أبي السعود)) (5/274)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/145). ، وتَوسيطُ همزةِ الإنكارِ بينه وبينَ العاطفِ مع أنَّ الأصلَ أنْ يتقدَّمَهما؛ للدَّلالةِ على أنَّ المُنكِرَ بالذَّاتِ هو المعطوفُ، وأنَّ المعطوفَ عليه إنَّما نشَأ منه؛ فإنَّه لو تذكَّرَ وتأمَّلَ أنَّا خلَقْناه مِن قبْلُ، ولم يكُ شيئًا، بل كان عدَمًا صِرْفًا، لم يقُلْ ذلك؛ فإنَّه أعجَبُ مِن جمْعِ الموادِّ بعدَ التَّفريقِ، وإيجادِ مثْلِ ما كان فيها من الأعراضِ [763] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/32)، ((تفسير البيضاوي)) (4/16)، ((تفسير أبي حيان)) (7/286). .
- قوله: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ فيه إظهارُ الْإِنْسَانُ في موقعِ الإضمارِ؛ لأنَّ المرادَ منه الإنسانُ المذكورُ في قوله: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66]؛ ووُضِعَ المُظهرُ -وهو الإنسانُ- موضعَ المضمرِ؛ ليُؤذنَ بحَقارتِه ودَناءتِه، وأنَّ إعادةَ مِثلِه لا يُؤبَهُ بها -ولهذا صرَّح بقوله: وَلَمْ يَكُ شَيْئًا- ولزِيادةِ التَّقريرِ، والإشعارِ بأنَّ (الإنسانيَّة) مِن دواعي التَّفكُّرِ فيما جَرَى عليه مِن شُؤونِ التَّكوينِ التي تُحتِّمُ عليه الإقلاعَ عن القَولِ المَذكورِ -وهو قولُه: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا- وهو السِّرُّ في إسنادِه بلَفظِ (الإنسان)، أي: ما أعجبَ الإنسانَ في إنكارِه وعَدمِ تَذكُّرِه لِمَا ذُكِرَ، وهو الذي أُعطي العَقلَ؛ لينظرَ في العواقِبِ، وأُنعِمَ عليه؛ ليَعرِفَ المُنعِمَ فيَشكُرَه ويَعبُدَه، فيُجازَى على فِعلِه [764] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/70)، (10/76)، ((تفسير أبي السعود)) (5/274)، ((تفسير القاسمي)) (7/108). !
- قولُه: مِنْ قَبْلُ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فإنَّه لمَّا حُذِفُ المُضافُ إليه، واعتُبِرَ مُضافًا إليه مُجْملًا، ولم يُراعَ له لفْظٌ مخصوصٌ تقدَّمَ ذِكْرُه: بُنِيَتْ (قبْلُ) على الضَّمِّ، والتَّقديرُ: أنَّا خلَقْناه من قبْلِ كلِّ حالةٍ هو عليها [765] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/146). .
3- قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا
- الفاءُ في قولِه: فَوَرَبِّكَ تفريعٌ على جُملةِ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؛ باعتبارِ ما تضمَّنَته من التَّهديدِ [766] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/146). .
- وفي قولِه: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ أقسَمَ اللهُ تعالى باسْمِه سُبحانه مُضافًا إلى نَبيِّه؛ تَحقيقًا للأمْرِ بالإشعارِ بعلِّيتِه، وتَفخيمًا لشأنِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورفْعِ مَنزلتِه [767] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/33)، ((تفسير البيضاوي)) (4/16)، ((تفسير أبي حيان)) (7/286)، ((تفسير أبي السعود)) (5/275). ؛ فواوُ القسَمِ لتَحقيقِ الوعيدِ، والقسَمُ بالرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِ المُخاطَبِ وهو النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إدماجٌ لتَشريفِ قدْرِه [768] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/146). .
- قولُه: لَنَحْشُرَنَّهُمْ إثباتٌ للبعثِ بالطَّريقِ البُرهانيِّ [769] الطريق البرهاني: هو قياسٌ استثنائيٌّ استُدِلَّ فيه بنفيِ اللازمِ، البيِّنِ انتفاؤُه، على نفيِ الملزومِ، كما يُقالُ: هل زيدٌ في البلدِ؟ فتقولُ: لا؛ إذ لو كان فيها لحضَرَ مجلسَنا، فيستدلُّ بعدمِ الحضورِ على عدمِ كونِه في البلدِ. أو: هو ما يلزمُ مِن نفْيِ مِثلِ مِثلِه نفيُ مثلِه. يُنظر: ((حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع)) (1/452)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/23)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (7/451). على أبلغِ وجهٍ وآكدِه، كأنَّه أمرٌ واضحٌ غنِيٌّ عن التَّصريحِ به، وإنَّما المحتاجُ إلى البَيانِ ما بعْدَ ذلك من الأهوالِ [770] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/275). .
- وفي قولِه: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ عطْفُ (الشَّيَاطِينَ) على ضميرِ المُشرِكين لَنَحْشُرَنَّهُمْ؛ لقَصدِ تَحقيرِهم بأنَّهم يُحْشَرون مع أحقَرِ جنْسٍ وأفسَدِه، وللإشارةِ إلى أنَّ الشَّياطينَ هم سبَبُ ضلالِهم المُوجبِ لهم هذه الحالةَ، فحشْرُهم مع الشَّياطينِ إنذارٌ لهم بأنَّ مصيرَهم هو مَصيرُ الشَّياطينِ، وهو مُحقَّقٌ عندَ النَّاسِ كلِّهم؛ فلذلك عُطِفَ عليه جُملةُ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، والضَّميرُ للجميعِ [771] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/147). .
- قولُه: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا إعدادٌ آخرُ للتَّقريبِ مِن العذابِ؛ فهو إنذارٌ على إنذارٍ، وتدرُّجٌ في إلقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم؛ فحرْفُ (ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ لا للمُهلةِ؛ إذ ليستِ المُهلةُ مقصودةً، وإنَّما المقصودُ أنَّهم يُنْقَلون من حالةِ عذابٍ إلى أشدَّ [772] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/147). .
4- قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا
- جُملةُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ معطوفةٌ على جُملةِ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، إنذارٌ بعدَ إنذارٍ، وهي حالةٌ أُخرى مِن الرُّعبِ أشدُّ مِن اللَّتينِ قبْلَها، وهي حالةُ تَمييزِهم للإلقاءِ في دَركاتِ الجحيمِ على حسَبِ مَراتبِ غُلوِّهم في الكُفرِ. وفيه تَهديدٌ لعُظماءِ المُشرِكينَ، مثلِ أبي جهْلٍ وأُميَّةَ بنِ خلَفٍ ونُظرائِهم [773] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/147-148). .
- وذِكْرُ صِفَةِ الرَّحمنِ هنا في قولِه: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا؛ لتفظيعِ عُتوِّهم؛ لأنَّ شديدَ الرَّحمةِ بالخلْقِ حقيقٌ بالشُّكرِ له والإحسانِ، لا بالكُفرِ به والطُّغيانِ [774] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/148). .
- وفي الكلامِ حذْفٌ، تَقديرُه: فيُلْقيه في أشدِّ العذابِ، أو فيبدَأُ بعذابِه، ثمَّ بمَن دونَه، إلى آخرِهم عذابًا [775] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/288). .
5- قولُه تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا
- عَطْفُ هذه الجُمَلِ: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بأداةِ البُعدِ مَقرونةً بنونِ العَظَمةِ؛ لِبُعدِ مَراتِبِها، وتصاعُدِها وترقِّيها؛ تهويلًا للمَقامِ، وتعظيمًا للأمرِ؛ لاستبعادِهم له، على أنَّه يمكِنُ أن تكونَ الحُروفُ الثَّلاثةُ للتَّرتيبِ الزَّمانيِّ، وهو في الأوَّلَينِ واضِحٌ، وأمَّا في الثَّالثِ فلأنَّ العِلمَ كِنايةٌ عن الإصلاءِ؛ لأنَّ مَن عَلِمَ ذَنبَ عَدُوِّه -وهو قادِرٌ- عَذَّبه، فكأنَّه قيل: لَنُصلِينَّ كُلًّا منهم النَّارَ على حَسَبِ استِحقاقِه؛ لأنَّا أعلَمُ بأولويَّتِه لذلك [776] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/236). .
6- قولُه تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
- في قولِه: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا افتنانٌ، وهو الإتيانُ في الكلامِ بمُتضادَّينِ، أو مُختلِفينِ، أو مُتَّفقينِ، والآيةُ جمعَتْ بينَ المُتضادَّينِ؛ حيث جمعَتْ بين الوعدِ والوعيدِ، وبينَ التَّبشيرِ والتَّحذيرِ، وما يلزَمُ مِن هذينِ مِن المدْحِ للمُختصِّينَ بالبشارةِ، والذَّمِّ لأهْلِ النِّذارةِ [777] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/135). .
- قولُه: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا فيه ذِكْرُ فعْلِ (نَذَر) هنا دونَ غيرِه؛ للإشعارِ بالتَّحقيرِ، أي: نترُكُهم في النَّارِ لا نعبَأُ بهم؛ لأنَّ في فعْلِ التَّركِ معنى الإهمالِ [778] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/152). .
- والتَّعبيرُ بقولِه: الظَّالِمِينَ إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، والأصلُ: ونَذَرُكم أيُّها الظَّالمونَ [779] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/150). .