موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (96-99)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ

غريب الكلمات:

سُلْطَانٍ: أي: حُجَّة، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقهرُ، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا .
الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ: أي: المَدخَلُ المَدخولُ، وأصلُ (ورد): يدلُّ على المُوافاةِ إلى الشَّيءِ .
الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ: أي: العطاءُ المُعطَى، والعونُ المُعانُ، وأصلُ (رفد): يدلُّ على مُعاونةٍ ومُظاهرةٍ بالعَطاءِ وغيرِه .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ الله تعالى أنَّه قد أرسَلَ مُوسى بحُجَجٍ مِن عندِه سُبحانَه، ومُعجزةٍ باهرةٍ ظاهرةٍ، دالَّةٍ على صِدقِه ونبُوَّتِه، إِلى فِرعَونَ وأتباعِه وأشرافِ قَومِه، فاتَّبَعوا طريقةَ فِرعَونَ، وما هو عليه مِن الكُفرِ، وتَرَكوا الإيمانَ بما جاءهم به موسى، وما طريقُ فِرعونَ وما هو عليه بسديدٍ ولا حميدِ العاقبةِ، ولا يدعو إلى خيرٍ، يَتقَدَّمُ فِرعونُ قَومَه يومَ القيامةِ حتى يُدخِلَهم النَّارَ، فكما كان قُدوتَهم في الضَّلالِ والكُفرِ في الدُّنيا، فكذلك هو قُدوتُهم وإمامُهم في النَّارِ، وقَبُحَ المَدخلُ الذي يدخُلونَه! وأتبَعَهم اللهُ في هذه الدُّنيا طردًا وبُعدًا عن الرَّحمةِ، وكذلك يومَ القيامةِ، وبِئسَ العطاءُ المُعطَى؛ حيث ترادَف عليهم لعنةٌ في الدُّنيا، ولعنةٌ في الآخرةِ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96).
أي: ولقد أرسَلْنا نبيَّنا موسى بمُعجِزاتِنا الدَّالةِ على صِدقِه- كالعصا، واليدِ ونحوِهما من الآياتِ- وبحُجَّةٍ ظاهرةٍ؛ ليؤمِنوا بالله وحدَه .
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97).
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ.
أي: أرسَلْناه إلى فِرعونَ وأشرافِ قَومِه، فاتَّبعوا مَنهجَ فِرعونَ وطَريقتَه في الغَيِّ والضَّلالِ، وكفَروا باللهِ ورَسولِه .
وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.
أي: وما مَنهَجُ فِرعونَ بصوابٍ يهدي النَّاسَ إلى الهُدى والخيرِ والصَّلاحِ، وإنَّما هو جَهلٌ وضَلالٌ، وكُفرٌ وعِنادٌ .
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98).
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ.
أي: يتقدَّمُ فِرعونُ قَومَه يومَ القيامةِ، فيَمضي بهم إلى النَّارِ فيَدخُلونَها معه .
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ.
أي: وبئسَ المَدخَلُ الذي يدخُلونَه .
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ.
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: وأتبَعَهم اللهُ في هذه الدُّنيا- مع غَرقِهم في البحرِ- لعنةً، ويومَ القيامةِ يُلعَنونَ لَعنةً أخرى .
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ.
أي: بئسَ ما اجتَمع لهم، وترادَف عليهم؛ حيث ترافَدَت عليهم لعنتانِ مِن اللهِ؛ لعنةُ الدُّنيا، ولَعنةُ الآخرةِ .

الفوائد التربوية :

- قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ العِبرةُ في هذه الآياتِ: أنَّه لا يزالُ يوجَدُ في البشَرِ فَراعنةٌ يَغوونَ النَّاسَ ويستخِفُّونَهم ويَستعبِدونَهم، فيُطيعونَهم، ويَذِلُّونَ لهم ذُلَّ العبدِ لسَيِّده، والحيوانِ لمالِكِه، ولم يَستفيدوا شيئًا من هدايةِ القرآنِ ورُشدِه، وتجهيلِه لقومِ فِرعونَ في اتِّباعِ أمْرِه، مع وَصفِه بقَولِه تعالى: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ وبيانِ أنَّه كان سببًا لإتْباعِهم لعنةً في الدُّنيا ولعنةً يومَ القيامةِ، وأنَّه سيقودُهم في الآخرةِ إلى النَّارِ، كما قادهم في الدُّنيا إلى الغَيِّ والفَسادِ، ومنهم من يدَّعونَ الإسلامَ، ولم يفقَهوا قولَ الله تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في آيةِ مُبايعةِ النِّساءِ: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة: 12] ، وقولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا طاعةَ في معصيةِ اللهِ، إنَّما الطاعةُ في المعروفِ )) .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ دَلالةٌ على أنَّ فرعونَ مات كافرًا، ووجهُ ذلك: إخبارُه سبحانَه عن فرعونَ أنَّه يَقدُمُ قومَه- ولم يقُلْ: يَسوقُهم- وأنَّه أورَدَهم النَّارَ، ومعلومٌ أنَّ المتقَدِّمَ إذا أَوردَ المتأخِّرينَ النَّارَ، كان هو أوَّلَ مَن يَرِدُها، وإلَّا لم يكُنْ قادِمًا، بل كان سائِقًا؛ يوضِّحُ ذلك أنَّه قال سُبحانَه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ فعُلِمَ أنَّه وهُم يَرِدونَ النَّارَ؛ وأنَّهم جميعًا ملعونونَ في الدُّنيا والآخرةِ .
2- قَولُ الله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً لَمَّا كان فِرعونُ مَوصوفًا بعِظَمِ الحالِ وكَثرةِ الجُنودِ والأموالِ، وضَخامةِ المَملكةِ؛ حقَّرَ تعالى دُنياه بتَحقيرِ جميعِ الدُّنيا التي هي منها، بإسقاطِها في الذِّكرِ؛ اكتفاءً بالإشارةِ إليها

بلاغة الآيات:

1- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ
- قولُه: وَلَقَدْ فيه تأكيدُ الخبَرِ بـ (قَدْ) .
- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فيه مُناسَبَةٌ حسَنةٌ، حيث قال في سورةِ (غافرٍ): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر: 23- 24] ، وقال في سورةِ (الزُّخرُفِ): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزخرف: 46] ، وقال في سورةِ (المؤمِنون): ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 45 - 47] ، وفي سورةِ (الأعرافِ): ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا [الأعراف: 103] ، وفي سورةِ (يونُسَ): ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [يونس: 75] ؛ فورَد في سورةِ (هودٍ) وفي سورةِ (المؤمِنون) وسورةِ (غافِر) زيادةُ قولِه: وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، ولم تَرِدْ هذه الزِّيادةُ في السُّوَرِ الثَّلاثِ الأُخَرِ، وورَد في سُورةِ (يونُسَ) وسورةِ (المؤمِنون) ذِكْرُ تأييدِ موسى بأخيه هارونَ عليهما السَّلامُ، ولم يَرِدْ ذلك في غيرِهما، وانفرَدَت سورةُ (المؤمِنون) بالجَمْعِ بينَ تأييدِه عليه السَّلامُ بأخيه وسُلطانٍ مُبينٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه حيث يُذكَرُ سُوءُ ردِّ المرسَلِ إليهم، وقُبْحُ جَوابِهم، يُقابَلُ أبَدًا بتأييدِه بأخيه أو تَعضيدِه بالآياتِ؛ ممَّا يَقتَضي القَهْرَ والإرغامَ، وهو المعبَّرُ عنه بـ (السُّلطانِ المبينِ)؛ فيَكونُ ذلك مُقابَلةً لِشَنيعِ مُجاوَبتِهم وسوءِ رَدِّهم بالجملةِ، فإذا اجتمَع إفصاحُهم بالتَّكذيبِ واستكبارُهم، جَمَع في التَّهديدِ المتقدِّمِ بينَ التَّأييدِ بهارونَ وسلطانٍ مبينٍ، وحيث يُصرِّحُ بالتَّكذيبِ أو ما يُعْطيه بَيانًا كقولِه في سورةِ هودٍ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ يُقدَّمُ ذلك التَّأييدُ بـ (السُّلطانِ المبينِ)، وحيثُ تُذكَرُ صِفَتانِ مُحتوِيتَانِ على تَكذيبٍ مِن غيرِ إفصاحٍ، يُقدَّمُ ذِكْرُ التَّأييدِ بهارونَ عليه السَّلامُ، وما كان دونَ ما ذُكِر لم يُذكَرْ هارونُ ولا السُّلطانُ المبينُ. أمَّا حيثُ لم يَرِدْ ذِكرُ السُّلطانِ، فنَجِدُ جَوابَهم في ذلك دونَ ما تقدَّم مِن التَّشديدِ، كقَولِهم في سورةِ الأعرافِ: فَظَلَمُوا بِهَا [الأعراف: 103] ، وقولِه في سورةِ (الزُّخرُفِ): فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف: 47] ؛ فليس موقِعُ جَوابِهم في هاتَين السُّورتَينِ كمَوقِعِ ما تَقدَّم في الآيتينِ؛ فنُوسِبَ بينَ طرَفَيِ الادِّعاءِ والجوابِ .
وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه لَمَّا قال في سُورةِ (هود): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، وقال في سورةِ غافرٍ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر: 23-24] ، وقال في سورةِ (الزخرف): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزخرف: 46] ، جاء في الآيتَينِ المتقدِّمَتين مع ذِكْرِ السُّلطانِ المبينِ، ولم يَجِئْ في الآيةِ الأخيرةِ إلَّا الآياتُ وحْدَها؛ لأنَّ الآياتِ هي الأَماراتُ الَّتي يُكتَفى بها في صِدْقِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وبها تَقومُ الحُجَّةُ على مَن تُبعَثُ إليهم، والسُّلطانُ المبينُ هو الحُججُ القاهرةُ التي تَقهَرُ القومَ، كأنواعِ العذابِ الَّتي أُنزِلَت على قومِ موسى عليه السَّلامُ وكانت عندَ قولِه؛ فلمَّا كان القصدُ في الآيتَينِ المتقدِّمتَين ذِكْرَ جُملَةِ أمْرِهم إلى مُنتَهى حالِهم مِن هلاكِ الأبَدِ، انطَوَتْ تلك الجملةُ على جَميعِ ما احتَجَّ به عليهم إلى أنْ زال التَّكليفُ عنهم، وأخبَر عن مُستقَرِّهم مِن العقابِ الدَّائمِ عليهم؛ فذكَر في الآيتَين جَميعَ ما احتجَّ به عليهم مِن الآياتِ الَّتي سَخِروا بِها عندَ رؤيتِها، والآياتِ الَّتي فَزِعوا إلى مَسألتِه عندَ مُشاهَدتِها في كَشْفِها. وأمَّا الآيةُ الثَّالثةُ الَّتي اقتصَر فيها على ذِكْرِ (آيَاتِنَا) دونَ (السُّلْطَانِ الْمُبِينِ) وهي قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف: 46- 47] ، فلم يَكُنِ القَصدُ إلى ذِكْرِ جُملَةٍ ممَّا عُومِلوا به في الدُّنيا وانتهائِه بهم إلى عذابِ الأخرى، بل كان بعدَه: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 48] ؛ فاقتَصَّ ما عُومِلوا به حالًا بعدَ حالٍ إلى أن أُهلِكوا في الدُّنيا، حيث قال: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف: 55- 56] .
2- قولُه تعالى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
- عقَّب ذِكْرَ إرسالِ موسى عليه السَّلامُ بذِكْرِ اتِّباعِ الملَأِ أمْرَ فِرعونَ؛ لأنَّ اتِّباعَهم أمْرَ فِرعَونَ حصَل بأثَرِ الإرسالِ؛ ففُهِم منه أنَّ فِرعونَ أمَرَهم بتَكْذيبِ تلك الرِّسالةِ .
- قولُه: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فيه تَخصيصُ مَلأِ فِرعونَ بالذِّكرِ، مع عُمومِ رِسالةِ مُوسَى عليه السَّلامِ لقَومِه كافَّةً؛ لأصالةِ هؤلاءِ الملأِ في الرأيِ، وتَدبيرِ الأمورِ واتِّباعِ غيرِهم لهم في الوُرودِ والصُّدورِ .
- واقتُصِرَ هنا على ذِكْرِ شَأنِ ملَأِ فِرعونَ- حيثُ قال: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ...- ولم يُصرِّحْ بكُفرِ فِرْعونَ بآياتِ اللهِ تعالى، وانهِماكِه فيما كان عليه مِن الضَّلالِ والإضلالِ؛ للإيذانِ بوُضوحِ حالِه؛ فكأنَّ كُفرَه وأمْرَ ملَئِه بذلك أمرٌ محقَّقُ الوُجودِ غيرُ مُحتاجٍ إلى الذِّكرِ صَريحًا، وإنَّما المحتاجُ إلى ذلك شأنُ مَلئِه المتردِّدين بينَ هادٍ إلى الحقِّ وداعٍ إلى الضَّلالِ، فنَعى عليهم سوءَ اختيارِهم .
- وفي قولِه: فَاتَّبَعُوا إيرادُ الفاءِ في اتِّباعِهم المترتِّبِ على أمرِ فِرعونَ المبنيِّ على كفرِه المسبوقِ بتَبليغِ الرِّسالةِ؛ للإشعارِ بمُفاجأَتِهم في الاتِّباعِ، ومُسارَعةِ فِرعونَ إلى الكُفرِ وأمْرِهم به؛ فكأنَّ ذلك كلَّه لم يتَراخَ عن الإرسالِ والتَّبليغِ، بل وقَع جميعُ ذلك في وقتٍ واحدٍ، فوقَع إثرَ ذلك اتِّباعُهم .
- قولُه: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيث لم يَقُلْ: و(أَمْرُه)- فأظهَر اسْمَ فِرعونَ في المرَّةِ الثَّانيةِ والمرَّةِ الثَّالثةِ دونَ الضَّميرِ؛ للتَّشهيرِ بهِم، والإعلانِ بذَمِّه، وهو انتفاءُ الرُّشدِ عن أمرِه، ولزيادةِ تَقْبيحِ حالِ المتَّبِعين؛ فإنَّ فرعونَ عَلَمٌ في الفسادِ والإفسادِ، والضَّلالِ والإضلالِ؛ فاتِّباعُه لِفَرْطِ الجَهالةِ، وعدَمِ الاستبصارِ .
- قولُه: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فيه إجراءُ وصْفِ (رَشِيدٍ) مُبالَغةً في اشتمالِ الأمرِ على ما يَقتَضي انتفاءَ الرُّشدِ؛ فكأنَّ الأمرَ هو الموصوفُ بعدَمِ الرُّشدِ، وعَدَلَ عن وصْفِ أمرِه بالسَّفيهِ إلى نَفْيِ الرُّشدِ عنه؛ تَجهيلًا للَّذين اتَّبَعوا أمرَه؛ لأنَّ شأنَ العُقلاءِ أن يتَطلَّبوا الاقتداءَ بما فيه صلاحٌ، وأنَّهم اتَّبَعوا ما ليس فيه أَمارةٌ على سَدادِه واستحقاقِه لأن يُتَّبَعَ، فماذا غرَّهم باتِّباعِه ؟!
3- قولُه تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ
- قولُه: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ فيه تهَكُّمٌ؛ حيث عبَّر بالإيرادِ عن التَّقدُّمِ بالنَّاسِ إلى العذابِ، وهو تَهكُّمٌ؛ لأنَّ الإيرادَ يَكونُ لأجلِ الانتفاعِ بالسَّقْيِ، وأمَّا التَّقدُّمُ بقومِه إلى النَّارِ؛ فهو ضدُّ ذلك .
- وجاء فَأَوْرَدَهُمْ بصيغةِ الماضي؛ للتَّنبيهِ على تَحْقيقِ وُقوعِ ذلك الإيرادِ، وإلَّا فقَرينةُ قولِه: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدُلُّ على أنَّه لم يقَعْ في الماضي .
- وقولُه أيضًا: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ فيه تشبيهٌ لفِرعونَ بالفارِطِ الَّذي يتَقدَّمُ الوارِدةَ إلى الماءِ، وتَشبيهُ أتباعِه بالواردةِ، وتشبيهُ النَّارِ بالماءِ الَّذي يَرِدونه .
4- قوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ
- قولُه: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ جملةٌ مُستأنَفةٌ لإنشاءِ ذَمِّ اللَّعنةِ .
- وأيضًا في قولِه: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ حَذْفُ المخصوصِ بالذَّمِّ، وهو إيجازٌ؛ لِيَكونَ الذَّمُّ متوجِّهًا لإحدى اللَّعنتَينِ لا على التَّعْيينِ؛ لأنَّ كِلتَيهِما بَئيسٌ .