موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (46-50)

ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

وَمَلَئِهِ: الملأُ: أشرافُ النَّاسِ ووُجوهُهم ورُؤَساؤُهم، والجماعةُ يَجتمِعونَ على رأيٍ، فيَملوؤنَ العُيونَ منظرًا، والنُّفوسَ بهاءً وجلالًا، ويُقالُ: فلانٌ مِلْءُ العُيونِ، أي: مُعَظَّمٌ عندَ مَن رآه، وقيل: وُصِفوا بذلك؛ لأنَّهم يَتمالَؤونَ، أي: يَتظاهرونَ عليه، وأصلُ (ملأ): يدُلُّ على الكَمالِ .
يَنْكُثُونَ: يَنقُضونَ عَهدَهم، وأصلُ (نكث): يدُلُّ على نَقضِ شَيءٍ .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصَّةِ موسَى عليه السَّلامُ معَ فِرعونَ؛ مُثَبِّتًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنينَ، فيقولُ: ولقد أرسَلْنا موسى بمُعجِزاتِنا الدَّالَّةِ على صِدْقِه إلى فِرعَونَ وأشرافِ قَومِه، فقال لهم موسى: إنِّي رَسولٌ إليكم مِن رَبِّ العالَمينَ، فلمَّا جاءهم موسى بمُعجِزاتِنا إذا فِرعَونُ وقَومُه يَضحَكونَ منها مُستَهزِئينَ! وما نُرِي فِرعَونَ وقَومَه مُعجِزةً إلَّا هي أكبَرُ مِن الَّتي قبْلَها، ومع ذلك كذَّبوا فأخَذْناهم بعَذابٍ شَديدٍ مِن قَحطٍ ونَقصٍ في الثَّمَراتِ وغيرِ ذلك؛ لعَلَّهم يَتوبونَ إلى اللهِ فيَرجِعونَ عن كُفرِهم.
وقال فِرعَونُ ومَلَؤُه لِموسى حينَ نَزَل بهم العَذابُ: يا أيُّها السَّاحِرُ ادْعُ لنا رَبَّك بما عَهِدَ عندَك؛ لِيَكشِفَ عنَّا العذابَ، إنَّنا لَمُهتَدونَ ومُتَّبِعوك إنْ كشَفَه عنَّا. فلمَّا رفَعْنا عنهم العذابَ نَقَضوا عَهدَهم، وأصَرُّوا على كُفرِهم!

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تقَدَّم طَعنُ قُرَيشٍ على الرَّسولِ، واختيارُهم أن يُنَزَّلَ القُرآنُ على رجُلٍ مِن القَريتَينِ عَظيمٍ، أي: في الجاهِ والمالِ؛ ذكَرَ أنَّ مِثلَ ذلك سَبَقَهم إليه فِرعَونُ في قَولِه: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف: 51] إلى آخِرِ الآيةِ، افتَخَرَ بالمُلْكِ والمالِ والجاهِ؛ ففِرْعَونُ قُدوتُهم في ذلك، ومع ذلك فصار فِرعَونُ مَقهورًا مع موسى مُنتَقَمًا منه، فكذلك قُرَيشٌ .
وأيضًا لَمَّا قال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] ؛ بيَّن تعالى حالَ موسى ودعوتِه، الَّتي هي أشهرُ ما يكونُ مِن دعواتِ الرُّسُلِ، ولأنَّ اللهَ تعالى أكثرَ مِن ذِكرِها في كتابِه .
وأيضًا لَمَّا قال الله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا [الزخرف: 45] الآيةَ؛ ذكَرَ قصَّةَ موسى وعيسى، وهما أكبَرُ أتْباعًا مِمَّن سَبَقَهم من الأنبياءِ، وكُلٌّ جاء بالدُّعاءِ إلى اللهِ، وإفرادِه بالعِبادةِ، فلم يكُنْ فيما جاءَا به إباحةُ اتِّخاذِ آلهةٍ مِن دونِ اللهِ، كما اتَّخَذَت قُرَيشٌ؛ فناسَبَ ذِكرُ قِصَّتِهما؛ للآيةِ الَّتي قَبْلَها .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.
أي: ولقد أرسَلْنا موسى بمُعجِزاتِنا الدَّالَّةِ على صِدقِه إلى فِرعَونَ وأشرافِ قَومِه .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101] .
فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أي: فقال لهم موسى: إنِّي رَسولٌ إليكم مِنَ الخالِقِ المالِكِ، الرَّازِقِ المدَبِّرِ لجَميعِ العالَمينَ .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47).
أي: فلمَّا جاءهم موسى بمُعجِزاتِنا إذا فِرعَونُ وقَومُه يَضحَكونَ منها؛ سُخْريةً واستِهزاءً !
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48).
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا.
أي: وما نُرِي فِرعَونَ وقَومَه مُعجِزةً إلَّا هي أعظَمُ مِن الَّتي قَبْلَها، ومع ذلك كذَّبوا بجَميعِ الآياتِ واستَخَفُّوا بها؛ استِكبارًا وعِنادًا !
وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
أي: وابتَلَيْناهم بنِقَمٍ ومِحَنٍ -كالقَحطِ ونَقصِ الثَّمَراتِ-؛ لعَلَّهم يَتوبونَ إلى الله، فيَرجِعونَ مِن كُفرِهم باللهِ ومَعصيتِه، إلى تَوحيدِه وطاعتِه .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130] .
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49).
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ.
أي: وقال فِرعَونُ ومَلَؤُه لموسى حينَ نَزَل بهم العَذابُ: يا أيُّها السَّاحِرُ ادعُ لنا رَبَّك بما عَهِدَ عندَك ؛ لِيَكشِفَ عنَّا العَذابَ .
إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ.
أي: إنَّنا لَمُتَّبِعوك -يا موسى- إنْ كَشَف رَبُّك عنَّا العذابَ، فنُؤمِنُ به ونُوَحِّدُه !
كما قال تعالى: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف: 132 - 134] .
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50).
أي: فلمَّا رفَعْنا العذابَ عن فِرعَونَ وقَومِه؛ لِيَهتَدوا إلى الحَقِّ كما وَعَدوا موسى، نَكَثوا فنَقَضوا عَهْدَهم، وأصَرُّوا على كُفرِهم وضَلالِهم !
كما قال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف: 135] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَمَّا كان الإحسانُ سببًا للإذعانِ قال: رَبِّ الْعَالَمِينَ، أي: مالِكِهم ومُرَبِّيهم ومُدَبِّرِهم .
2- قَولُ الله تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فيه سؤالٌ: كيف سَمَّوه بالسَّاحِرِ -الصَّريحِ في نسبتِه إلى الباطلِ-، وهو مُنافٍ لِما بَعْدَه مِن طلبِ الدُّعاءِ منه، وقَولِهم: إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ، وفيه إعلامٌ بأنَّه هادٍ مُهتَدٍ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّهم كانوا يقولونَ للعالِمِ الماهِرِ: (ساحِرٌ)؛ لأنَّهم كانوا يَستَعظِمونَ السِّحرَ، وكما يُقالُ في العامِلِ العَجيبِ الكامِلِ: إنَّه أتى بالسِّحرِ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ المعنى: يا أيُّها السَّاحِرُ في زَعمِ النَّاسِ ومُتعارَفِ قَومِ فِرعَونَ، كقَولِه: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] ، أي: نُزِّلَ عليه الذِّكرُ في اعتِقادِه وزَعْمِه!
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ قَولَهم: إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ وقد كانوا عازِمينَ على خِلافِه؛ قال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ، فتَسميتُهم إيَّاه بالسِّحرِ لا يُنافي قَولَهم: إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّه لَمَّا كَشَف عنهم العذابَ نكَثوا ذلك العَهدَ .
الوجه الرَّابعُ: أن ذلك جارٍ على مُقتضى ما جُبِلوا عليه مِن الشِّدَّةِ والحِدَّةِ، وعلى نَهجِ ما أَلِفوه مِن تحقيرِه؛ ولذا سَبَقَ لسانُهم له .
الوَجهُ الخامِسُ: أنَّهم نادَوه بذلك في تلك الحالةِ؛ لشِدَّةِ شَكيمتِهم، وفَرطِ حَماقتِهم .
الوَجهُ السَّادسُ: أنَّ هذا مِن بابِ التَّهَكُّمِ به .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ذكَرَ اللهُ في أوَّلِ السُّورةِ قولَه: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 6 - 8] ، وساق بعْدَ ذلك تَذكرةً بإبراهيمَ عليه السَّلامُ مع قَومِه، وما تَفرَّعَ على ذلك مِن أحوالِ أهْلِ الشِّركِ، فلمَّا تَقضَّى، أُتْبِعَ بتَنظيرِ حالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع طُغاةِ قَومِه واستِهزائِهم، بحالِ مُوسى عليه السَّلامُ مع فِرعونَ ومَلئِه؛ فإنَّ للمُثُلِ والنَّظائِرِ شَأنًا في إبرازِ الحَقائِقِ وتَصويرِ الحالَينِ تَصويرًا يُفضِي إلى تَرَقُّبِ ما كان لإحدَى الحالَتَينِ مِن عَواقِبَ أن تَلحَقَ أهلَ الحَالةِ الأُخرَى؛ فإنَّ فِرعَونَ ومَلَأَهُ تَلَقَّوا موسى عليه السَّلامُ بالإسرافِ في الكُفرِ، وبالاستِهزاءِ به، وباستِضعافِه؛ إذ لم يَكُن ذا بَذَخَةٍ ولا مُحَلًّى بحِلْيةِ الثَّراءِ، وكانتْ مُناسَبةُ قَولِه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا [الزخرف: 45] الآيةَ، هيَّأَت المَقامَ لضَربِ المَثَلِ بحالِ بَعضِ الرُّسُلِ الَّذِين جاؤُوا بشَريعةٍ عُظمَى قبْلَ الإسلامِ .
- والمُرادُ باقتِصاصِ قِصَّةِ موسَى عليه السَّلامُ تَسلِيةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُناقَضةُ قَولِهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، والاستِشهادُ بدَعوةِ مُوسى عليه السَّلامُ إلى التَّوحيدِ إثرَ ما أُشيرَ إلى إجماعِ جَميعِ الرُّسُلِ -عليهم السَّلامُ- عليه؛ لِيَتأَمَّلوا فيها .
- قَولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لَمَّا كان السِّياقُ لسُؤالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرُّسُلَ عن أمْرِ التَّوحيدِ؛ كانتِ الآياتُ كافِيَةً؛ فلمْ يَذكُرِ السُّلطانَ؛ لأنَّه للقَهرِ والغَلَبةِ .
- وخصَّ الملأَ بالذِّكرِ -وهم الأشرافُ-؛ لأنَّ غَيرَهم مِن النَّاسِ تَبَعٌ لَهُم .
- وما أجابُوه به عِندَ قَولِه: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَحذوفٌ، دلَّ عليه قَولُه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا؛ وهو مُطالَبَتُهم إيَّاهُ بإحضارِ البَيِّنَةِ على دَعواهُ، وإبرازِ الآيةِ .
2- قولُه تعالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (إذا) حَرفُ مُفاجَأَةٍ، أي: يدُلُّ على أنَّ ما بَعْدَه حَصَل عن غَيرِ تَرَقُّبٍ؛ فتُفتَتَحُ به الجُملةُ الَّتي يُفادُ منها حُصولُ حادِثٍ على وَجهِ المُفاجَأَةِ .
- والضَّحِكُ: قيل: هو كِنايةٌ عن الاستِخفافِ بالآياتِ والتَّكذيبِ؛ فلا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكونَ كلُّ الحاضِرينَ صَدَرَ منهم ضَحِكٌ، ولا أنَّ ذلك وَقَع عندَ رُؤيةِ آيةٍ؛ إذ لعَلَّ بَعضَها لا يَقتَضي الضَّحِكَ .
3- قولُه تعالَى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- قولُه: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا صَوغُ نُرِيهِمْ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ لاستِحضارِ الحالَةِ .
- والمُرادُ بقولِه: إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا أنَّها بالِغةٌ أقصَى دَرَجاتِ الإعجازِ؛ بحيثُ يَحسَبُ النَّاظِرُ فيها أنَّها أكبَرُ مِمَّا يُقاسُ إليها مِن الآياتِ. ووَصْفُ الآياتِ بأنَّ كلَّ واحِدةٍ أكبَرُ من أُختِها كَلامٌ جامِعٌ مانِعٌ؛ يَعني: أنَّهنَّ مَوصوفاتٌ بالكِبَرِ، لا يَكَدْنَ يَتَفاوَتْنَ فيه، وكذلك العادةُ في الأشياءِ الَّتي تَتَلاقَى في الفَضلِ، وتَتَفاوَتُ مَنازِلُها فيه التُّفاوُتَ اليَسيرَ: أن تَختَلِفَ آراءُ النَّاسِ في تَفضيلِها؛ فيُفَضِّلُ بَعضُهم هذا، وبَعضُهم ذاك، فعلى ذلك بَنَى النَّاسُ كَلامَهم، فقالوا: رأيْتُ رِجالًا بَعضُهُم أفضَلُ مِن بَعضٍ، ورُبَّما اختَلَفت آراءُ الرَّجُلِ الواحِدِ فيها؛ فتارَةً يُفَضِّلُ هذا، وتارةً يُفضِّلُ ذاك. ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ به: أنَّ كلَّ آيةٍ تأتي تكونُ أعظَمَ مِن الَّتي قَبْلَها؛ فيَكونَ هُنالِكَ صِفةٌ مَحذوفةٌ؛ لِدَلالةِ المَقامِ، أي: مِن أُختِها السَّابِقةِ، وهذا يَستَلزِمُ أن تكونَ الآياتُ مُتَرَتِّبةً في العِظَمِ بحَسَبِ تأخُّرِ أوقاتِ ظُهورِها؛ لأنَّ الإتيانَ بآيةٍ بعْدَ أُخرَى ناشِئٌ عن عَدَمِ الارتِداعِ مِن الآيةِ السَّابِقةِ . وقيل: هذا عِبارةٌ عن شِدَّةِ مَوقِعِها في نُفوسِهم بجِدَّةِ أمْرِها وحُدوثِه؛ وذلك أنَّ أوَّلَ آيةٍ عَرَضَها موسى هي العصا واليَدُ، وكانت أكبَرَ آياتِه، ثمَّ كُلُّ آيةٍ بعدَ ذلك كانت تقَعُ فيَعظُمُ عِندَهم مجيئُها وتَكبُرُ؛ لأنَّهم كانوا أَنِسُوا الَّتي قَبْلَها، فهذا كما قال الشَّاعِرُ :
على أنَّها تَعفو الكُلومُ وإنَّما                نُوَكَّلُ بالأدنَى وإنْ جَلَّ ما يَمضي
وقيل غيرُ ذلك .
- وعَطَف وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ على جُملةِ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ؛ لأنَّ العَذابَ كان مِن الآياتِ. والأخْذُ بمعنى: الإصابةِ. والباءُ في بِالْعَذَابِ للاستِعانةِ، كما تقولُ: خُذِ الكِتابَ بقُوَّةٍ، أي: ابتَدَأْناهُم بالعَذابِ قبْلَ الاستِئصالِ؛ لَعَلَّ ذلك يُفِيقُهم مِن غَفلَتِهم، وفي هذا تَعريضٌ بأهلِ مَكَّةَ؛ إذ أُصيبُوا بسِنِي القَحطِ .
4- قولُه تعالَى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ
- مُخاطَبتُهم مُوسى عليه السَّلامُ بوَصْفِ السَّاحرِ يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ قيل: هي مُخاطَبةُ تَعظيمٍ؛ تَزَلُّفًا إليه. وقيل: بلْ خِطابُ استِهزاءٍ وانتِقاصٍ .
- قولُهم: بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ العهدُ: هو الائتِمانُ على أمْرٍ مُهِمٍّ، قيل: وليس مُرادُهم به النُّبوَّةَ؛ لأنَّهم لم يُؤمِنوا به، وإذ لم يَعرِفوا كُنْهَ العَهدِ عَبَّروا عنه بالمَوصولِ وصِلَتِه، والباءُ في قَولِه: بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ مُتَعَلِّقةٌ بـ ادْعُ، وهي للاستِعانةِ، ولَمَّا رَأَوُا الآياتِ عَلِموا أنَّ رَبَّ موسى قادِرٌ، وأنَّ بيْنَه وبيْن مُوسَى عَهدًا يَقتَضِي استِجابةَ سُؤلِه .
- قَولُه: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لا يُنافي ما في سُورةِ (الأعرافِ): قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [الأعراف: 134] ؛ لأنَّ الخِطابَ خِطابُ إِلحاحٍ، فهو يتَكَرَّرُ ويُعادُ بطُرُقٍ مُختلِفةٍ .
- وجُملةُ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ جَوابٌ لِكلامٍ مُقدَّرٍ دلَّ عليه ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، أي: فإنْ دَعَوْتَ لنا وكشفْتَ عنَّا العذابَ لَنُؤمِنَنَّ لك، كما في آيةِ (الأعرافِ) [134]: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ الآيةَ. فـ (مُهْتَدون) اسمُ فاعلٍ مُستعمَلٌ في معنى الوعْدِ، وهو مُنصرِفٌ للمُستقبَلِ بالقرينةِ، كما دلَّ عليه قولُه: يَنْكُثُونَ [الزخرف: 50] .
- وسَمَّوا تَصديقَهم إيَّاهُ اهتِداءً؛ لأنَّ مُوسى سمَّى ما دَعاهم إليه هدْيًا، كما في آيةِ (النَّازعاتِ): وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 19] .