موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (26-32)

ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات:

بَرَاءٌ: أي: بريءٌ، وأصلُ البُرْءِ والبَراءِ والتَبَرِّي: التَّفصِّي مما يُكرهُ مُجاوَرتُه، وأصلُ (برأ) هنا: التَّباعُدُ مِن الشَّيءِ ومُزايَلَتُه [302] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/ 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/ 236)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/ 160)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 121)، ((التبيان في تفسير غريب القرآن)) لابن الهائم (ص: 290). والبَراءُ لا يُثنَّى ولا يُجمعُ ولا يؤنَّثُ؛ لأنَّه مَصدَرٌ وُضِع مَوضِعَ النَّعتِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 575). .
فَطَرَنِي: أي: خَلَقَني، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه [303] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 341)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 371)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((المفردات)) للراغب (ص: 640). .
عَقِبِهِ: العَقِبُ: الذُّرِّيَّةُ ووَلَدُ الوَلَدِ ما امتَدَّ فَرعُهم، وأصلُ (عقب): يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بعدَ غيرِه [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/578)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 575)، ((تفسير ابن عطية)) (5/52). .
مَتَّعْتُ: أي: أبقيتُ وعَمَّرْتُ. والمَتاعُ والمُتعةُ: ما يُنتفَعُ به انتفاعًا قليلًا غيرَ باقٍ، ثمَّ يَنقضي عن قَريبٍ، وأصلُ (متع): يدُلُّ على مَنفعةٍ وامتدادِ مُدَّةٍ في خَيرٍ [305] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 46)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/293)، ((الغريبين)) للهروي (6/1723)، ((المفردات)) للراغب (ص: 757)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 69). .
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا: أي: لِيَخدُمَ بعضُهم بعضًا، ويعمَلَ بعضُهم لبعضٍ، مِن التَّسخيرِ، وهو: التَّهيئةُ. وقيل: هو سياقةُ الشَّيءِ إلى الغرضِ المختصِّ به قهرًا، والسُّخْرىُّ: هو الَّذى يُقهَرُ فيَتسَخَّرُ بإرادتِه، وأصلُ (سخر): يدُلُّ على استِذلالٍ [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/586)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 282)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/144)، ((المفردات)) للراغب (ص: 402)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 345)، ((تفسير القرطبي)) (16/83)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/181)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 373)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/112). .

المعنى الإجمالي:

يَذكُرُ الله تعالى جانبًا مِن قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فيقولُ: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- إذ قال إبراهيمُ لأبيه وقَومِه: إنَّني بَريءٌ مِمَّا تَعبُدونَه مِن دُونِ اللهِ تعالى، فلا أعبُدُ إلَّا اللهَ الَّذي خلَقَني فهو يُرشِدُني إلى الحَقِّ. وجَعَل إبراهيمُ تلك الكَلِمةَ -كَلِمةَ التَّوحيدِ- كَلِمةً باقيةً مُستَمِرَّةً في ذرِّيَّتِه؛ لعَلَّهم يَرجِعونَ إلى الحَقِّ.
لكِنَّ هؤلاء الكُفَّارَ مِن قَومِك -يا مُحمَّدُ- ليسوا ممَّن بَقِيَت الكَلِمةُ فيهم، بل مَتَّعتُهم وآباءَهم بالمَدِّ في العُمُرِ والنِّعمةِ والمُهلةِ، فاغترُّوا وشُغِلوا عن كَلِمةِ التَّوحيدِ، حتَّى جاءهم القُرآنُ ورسولٌ مُظهِرٌ للحَقِّ.
ثمَّ يقولُ تعالى مبيِّنًا موقفَ المشركينَ مِن القرآنِ: ولَمَّا جاءهم القُرآنُ قالوا: هذا سِحرٌ ولن نُؤمِنَ به، وقالوا اعتِراضًا على إنزالِ القُرآنِ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إن كان هذا القُرآنُ حَقًّا فهلَّا نُزِّلَ على رجُلٍ ذي ثَروةٍ وجاهٍ مِن وُجَهاءِ مكَّةَ أو الطَّائِفِ!
ثمَّ يقولُ الله تعالَى رادًّا عليهم: أهؤلاء المُشِركونَ مَن يَضَعونَ النُّبُوَّةَ حيث شاؤُوا أمِ اللهُ وَحْدَه هو الَّذي يختصُّ بذلك؟! نحن قَسَمْنا الأرزاقَ بيْنَهم في الحياةِ الدُّنيا، ورَفَعْنا بعضَهم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ -فمِنهم الغنيُّ، ومنهم الفَقيرُ إلى غيرِ ذلك-؛ لِيَستخدِمَ النَّاسُ بَعضُهم بَعضًا في الأعمالِ لحاجتِهم لذلك، ويَرزُقَ اللهُ بعضَهم مِن بَعضٍ؛ فإذا كان أمرُ الدُّنيا لم يُفَوَّضْ إليهم، فكيف بأمرِ النُّبُوَّةِ؟! ورحمةُ رَبِّك -يا محمَّدُ- خيرٌ مِمَّا يَجمَعُه أولئك المُشرِكونَ في الدُّنيا مِن مَتاعِها الزَّائِلِ!

تفسير الآيات:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى في الآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّه ليس لأولئك الكُفَّارِ داعٍ يَدعوهم إلى تلك الأقاويلِ الباطِلةِ إلَّا تقليدُ الآباءِ والأسلافِ، ثمَّ بَيَّن أنَّه طَريقٌ باطِلٌ ومَنهَجٌ فاسِدٌ، وأنَّ الرُّجوعَ إلى الدَّليلِ أَولَى مِن الاعتِمادِ على التَّقليدِ؛ أردَفَه بهذه الآيةِ، والمقصودُ منها ذِكرُ وَجهٍ آخَرَ يدُلُّ على فَسادِ القَولِ بالتَّقليدِ، وتَقريرُه مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه تعالى حكَى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه تبَرَّأَ عن دينِ آبائِه بِناءً على الدَّليلِ، فنَقولُ: إمَّا أن يكونَ تَقليدُ الآباءِ في الأديانِ مُحَرَّمًا أو جائِزًا، فإن كان مُحَرَّمًا فقد بطَلَ القَولُ بالتَّقليدِ، وإن كان جائِزًا فمَعلومٌ أنَّ أشرَفَ آباءِ العَرَبِ هو إبراهيمُ عليه السَّلامُ؛ وذلك لأنَّهم ليس لهم فَخرٌ ولا شَرَفٌ إلَّا بأنَّهم مِن أولادِه، وإذا كان كذلك فتقليدُ هذا الأبِ الَّذي هو أشرَفُ الآباءِ أَولى مِن تقليدِ سائِرِ الآباءِ، وإذا ثَبَت أنَّ تقليدَه أَولى مِن تقليدِ غَيرِه فنَقولُ: إنَّه تَرَك دينَ الآباءِ وحَكَم بأنَّ اتِّباعَ الدَّليلِ أَولى مِن مُتابَعةِ الآباءِ، وإذا كان كذلك وَجَب تقليدُه في تَركِ تقليدِ الآباءِ، ووَجَب تقليدُه في ترجيحِ الدَّليلِ على التَّقليدِ.
الوَجهُ الثَّاني: في بيانِ أنَّ تَرْكَ التَّقليدِ والرُّجوعَ إلى مُتابَعةِ الدَّليلِ أَولى في الدُّنيا وفي الدِّينِ: أنَّه تعالى بَيَّنَ أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لَمَّا عَدَل عن طريقةِ أبيه إلى مُتابَعةِ الدَّليلِ لا جَرَمَ جَعَل اللهُ دينَه ومَذهَبَه باقيًا في عَقِبِه إلى يومِ القيامةِ، وأمَّا أديانُ آبائِه فقد اندَرَست وبَطَلَت؛ فثَبَت أنَّ الرُّجوعَ إلى مُتابَعةِ الدَّليلِ يَبقى محمودَ الأثَرِ إلى قيامِ السَّاعةِ، وأنَّ التَّقليدَ والإصرارَ يَنقَطِعُ أثَرُه، ولا يبقَى منه في الدُّنيا خبرٌ ولا أثَرٌ؛ فثَبَت مِن هذينِ الوَجهَينِ أنَّ مُتابعةَ الدَّليلِ وتَرْكَ التَّقليدِ أَولى، فهذا بيانُ المقصودِ الأصليِّ مِن هذه الآيةِ [307] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/628). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَّرَهم اللهُ بالأُمَمِ الماضِيةِ، وشَبَّه حالَهم بحالِهم؛ ساقَ لهم أمثالًا في ذلك مِن مَواقِفِ الرُّسُلِ مع أُمَمِهِم؛ منها قِصَّةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع قَومِه [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/191). .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26).
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حينَ قال إبراهيمُ لأبيه وقَومِه المُشرِكينَ: إنَّني بَريءٌ مِنَ الآلِهةِ الَّتي تَعبُدونَها مِن دُونِ اللهِ، فأُبغِضُها ولا أعبُدُها [309] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/575)، ((تفسير ابن كثير)) (7/225)، ((تفسير السعدي)) (ص: 764)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/192)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/101)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص 112). .
كما قال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 78، 79].
وقال سُبحانَه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4].
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27).
أي: أنا بَريءٌ مِنَ الَّذين تَعبُدونَهم إلَّا الَّذي خلَقَني، فهو المُستَحِقُّ وَحْدَه للعِبادةِ، فأنا أعبُدُه ولا أتبَرَّأُ منه؛ فإنَّه سيُرشِدُني ويُوَفِّقُني للحَقِّ [310] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/793)، ((تفسير ابن جرير)) (20/575)، ((تفسير السعدي)) (ص: 764)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/101). قال السمعاني: (قَولُه: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّه على حقيقةِ الاستِثناءِ -يعني: أنَّه استِثناءٌ مُتَّصِلٌ- لأنَّهم كانوا يَعبُدونَ اللهَ وما دُونَه، فيَستقيمُ الاستِثناءُ على هذا. والثَّاني: أنَّه استِثناءٌ مُنقَطِعٌ، ومعناه: لَكِن الَّذي فَطَرني). ((تفسير السمعاني)) (5/98). ويُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/582، 583)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 116). وممَّن قال بأنَّ الاستثناءَ مُتَّصِلٌ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/793)، ((تفسير القرطبي)) (16/76). وممَّن ذهب إلى أنَّ الاستِثناءَ مُنقَطِعٌ: الماوَرْديُّ، وجَوَّزه الزَّجَّاجُ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/222)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/409)، ((تفسير القرطبي)) (16/76). .
كما قال تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 75 - 78] .
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28).
أي: وجَعَل إبراهيمُ كَلِمةَ التَّوحيدِ [311] قال ابنُ عطية: (قالت فِرقةٌ: ذلك عائِدٌ على كَلِمتِه بالتَّوحيدِ في قَولِه: إِنَّنِي بَرَاءٌ، وقال مجاهِدٌ وقَتادةُ والسُّدِّيُّ: ذلك مُرادٌ به: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وعاد الضَّميرُ عليها وإن كانت لم يَجْرِ لها ذِكرٌ؛ لأنَّ اللَّفظَ يَتضَمَّنُها. وقال ابنُ زَيدٍ: المرادُ بذلك: الإسلامُ ولَفْظتُه، وذلك قولُه عليه السَّلامُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] ، وقَولُه: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة: 131] ، وقَولُ الله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78] ). ((تفسير ابن عطية)) (5/52). وممَّن قال بأنَّ الضَّميرَ في قَولِه تعالى: وَجَعَلَهَا: يَعودُ إلى كَلِمةِ التَّوحيدِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ: ابن جرير، والزجاج، والسمرقندي، وابن أبي زَمَنين، والواحدي، والخازن، وابن كثير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/576)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/409)، ((تفسير السمرقندي)) (3/255)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/182)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 973)، ((تفسير الخازن)) (4/108)، ((تفسير ابن كثير)) (7/225)، ((تفسير العليمي)) (6/ 216). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، ومُجاهِدٌ، والضَّحَّاكُ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/576)، ((تفسير ابن كثير)) (7/225)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/373). قال الرازي: (وجعَلَ إبراهيمُ كَلِمةَ التَّوحيدِ الَّتي تَكَلَّمَ بها وهي قَولُه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ جاريًا مَجْرَى لا إلهَ، وقولَه: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جاريًا مَجْرَى قَولِه: إلَّا اللهُ؛ فكان مجموعُ قَولِه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جاريًا مَجْرَى قَولِه: لا إلهَ إلَّا اللهُ). ((تفسير الرازي)) (27/629). وقال الشنقيطي: (الضَّميرُ المنصوبُ في «جَعَلَهَا» على التَّحقيقِ راجِعٌ إلى كَلِمةِ الإيمانِ المُشتَمِلةِ على معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ، المذكورةِ في قَولِه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي؛ لأنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ نفْيٌ وإثباتٌ، فمعنى النَّفيِ منها هو البَراءةُ مِن جميعِ المعبوداتِ غيرِ اللهِ في جميعِ أنواعِ العباداتِ، وهذا المعنى جاء مُوضَّحًا في قَولِه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. ومعنى الإثباتِ منها هو إفرادُ اللهِ وَحْدَه بجميعِ أنواعِ العباداتِ على الوَجهِ الَّذي شَرَعه على ألْسِنةِ رُسُلِه، وهذا المعنى جاء مُوضَّحًا في قَولِه: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ). ((أضواء البيان)) (7/102). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/114). وممَّن اختار أنَّ ضميرَ الفاعِلِ في (جَعَلَها) يعودُ على إبراهيمَ عليه السَّلامُ: ابنُ جرير، والرَّازي، والرَّسْعَني، والخازن، وابنُ جُزَي، والعُلَيمي، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/576)، ((تفسير الرازي)) (27/629)، ((تفسير الرسعني)) (7/114)، ((تفسير الخازن)) (4/108)، ((تفسير ابن جزي)) (2/257)، ((تفسير العليمي)) (6/216)، ((تفسير الشوكاني)) (4/633)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/102). وقيلَ: الفاعلُ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، أي: وجَعَل اللهُ عزَّ وجلَّ كلمةَ التَّوحيدِ باقيةً في عَقِبِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ. وممَّن اختاره: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/77). كَلِمةً باقيةً في ذُرِّيَّتِه [312] وجَعْلُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كَلِمةَ التَّوحيدِ باقيةً في عَقِبِه، قيل: المرادُ أنَّه وصَّاهم بها، كما قال تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ... الآيةَ [البقرة: 132] . وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: أبو السعود، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/ 194). وقيل: المرادُ أنَّه دعا اللهَ تعالى -وهو مُجابُ الدَّعوةِ- كما في قَولِه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35] ، وفي قَولِه: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] . قاله البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/416). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ: الشنقيطي، فقال: (وإنَّما جعَلَها إبراهيمُ باقيةً فيهم؛ لأنَّه تسَبَّب لذلك بأمْرَينِ: أحدُهما: وصيَّتُه لأولادِه بذلك، وصاروا يَتوارَثون الوَصيَّةَ بذلك عنه، فيُوصي به السَّلَفُ منهم الخَلَفَ، كما أشار تعالى إلى ذلك بقَولِه تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة: 130 - 132] . والأمرُ الثاني: هو سؤالُه ربَّه تعالى لِذُرِّيَّتِه الإيمانَ والصَّلاحَ، كقَولِه تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: 124] ... وقَولِه تعالى عنه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40]، وقولِه عنه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، وقَولِه عنه هو وإسماعيلَ: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] إلى قَولِه: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] ). ((أضواء البيان)) (7/102، 103). وقال ابن كثير: (جعَلَها دائِمةً في ذُرِّيَّتِه يَقتدي به فيها مَن هداه اللهُ مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/225). وقال ابنُ عاشور: (فالمعنى: جَعَل إبراهيمُ قَولَه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26، 27] شِعارًا لعَقِبِه، أي: جعَلَها هي وما يُرادِفُها قَولًا باقيًا في عَقِبِه على مَرِّ الزَّمانِ، فلا يخلو عَقِبُ إبراهيمَ مِن مُوَحِّدينَ لله، نابِذينَ للأصنامِ...، فإنْ أُريدَ بالعَقِبِ مَجموعُ أعقابِه فإنَّ كَلِمةَ التَّوحيدِ لم تَنقَطِعْ مِن اليهودِ، وانقطَعَت مِنَ العَرَبِ بعدَ أن تقَلَّدوا عبادةَ الأصنامِ إلَّا مَن تهَوَّدَ منهم أو تنَصَّرَ. وإن أُريدَ مِن كُلِّ عَقِبٍ فإنَّ العَرَبَ لم يَخلوا مِن قائمٍ بكَلِمةِ التَّوحيدِ؛ مِثلُ المتنَصِّرينَ منهم، كالقبائِلِ المتنَصِّرةِ، ووَرَقةَ بنِ نَوفَلٍ، ومِثلُ المتحَنِّفينَ، كزَيدِ بنِ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ، وأُمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/194). ؛ رجاءَ أن يَرجِعوا إلى الحَقِّ [313] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/576، 578)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 973)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/52)، ((تفسير ابن كثير)) (7/225)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/ 416، 417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 764)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/102- 104). قال الألوسي: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تعليلٌ للجَعْلِ، أي: جَعَلَها باقيةً في عَقِبِه؛ كي يَرجِعَ مَن أشرَكَ منهم بدُعاءِ مَن وَحَّد، أو بسَبَبِ بقائِها فيهم). ((تفسير الألوسي)) (13/77). وقال الشنقيطي: (وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أي: جَعَل الكَلِمةَ باقيةً فيهم؛ لعَلَّ الزَّائِغينَ الضَّالِّينَ منهم يَرجِعونَ إلى الحَقِّ بإرشادِ المُؤمِنينَ المُهتَدينَ منهم؛ لأنَّ الحَقَّ ما دام قائِمًا في جُملتِهم فرُجوعُ الزَّائِغينَ عنه إليه مَرجُوٌّ مأمولٌ، كما دَلَّ عليه قَولُه: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، والرَّجاءُ المذكورُ: بالنِّسبةِ إلى بني آدَمَ؛ لأنَّهم لا يَعرِفونَ مَن يَصيرُ إلى الهُدى، ومَن يصيرُ إلى الضَّلالِ). ((أضواء البيان)) (7/104). وقال الشوكاني: (وقيل: الضَّميرُ في لَعَلَّهُمْ راجِعٌ إلى أهلِ مكَّةَ، أي: لعَلَّ أهلَ مكَّةَ يَرجِعونَ إلى دينِك الَّذي هو دينُ إبراهيمَ. وقيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والتَّقديرُ: فإنَّه سيَهدينِ لعَلَّهم يَرجِعونَ، وجعَلَها ... إلخ. قال السُّدِّيُّ: لعلَّهم يَتوبونَ فيَرجِعونَ عمَّا هم عليه إلى عبادةِ اللهِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/634). وقال الشنقيطي: (الضَّميرُ [أي: في قولِه: لَعَلَّهُمْ] راجعٌ إلى مَن ضَلَّ مِن عَقِبِه؛ لأنَّ الضَّالِّينَ منهم داخِلونَ في لفظِ العَقِبِ، فرُجوعُ ضميرِهم إلى العقِبِ لا إشكالَ فيه، وهذا القولُ هو ظاهِرُ السِّياقِ، والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى). ((أضواء البيان)) (7/105). وتنوَّعت عباراتُ المفسِّرينَ فيما يُرجى رُجوعُهم إليه؛ فمِنهم مَن قال: يَرجِعون إليها، أي: إلى الكلمةِ، ومنهم مَن قال: إلى التَّوحيدِ، ومنهم مَن قال: إلى الإيمانِ، ومنهم مَن قال: إلى الهُدى بعدَ الضَّلالةِ، ومنهم مَن قال: إلى الحقِّ، ومنهم مَن قال: إلى دينِ إبراهيمَ. وهي مُتقارِبةٌ. .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 131، 132].
وقال سُبحانَه حكايةً لِقَولِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [يوسف: 38].
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ المُشرِكينَ لَمَّا عَوَّلوا على تقليدِ الآباءِ، ولم يَتفَكَّروا في الحُجَّةِ؛ اغتَرُّوا بطُولِ الإمهالِ، وإمتاعِ اللهِ إيَّاهم بنَعيمِ الدُّنيا؛ فأعرَضوا عن الحَقِّ [314] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/629). .
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29).
أي: لم يَحصُلْ ما رجاه إبراهيمُ مِن رُجوعِ جَميعِ عَقِبِه إلى كَلِمةِ التَّوحيدِ الَّتي جعَلَها فيهم -ومنهم كُفَّارُ قُريشٍ وآباؤُهم مِن قَبلِهم-؛ فقد مَتَّع اللهُ هؤلاء القَومَ، فأسبَغَ عليهم مِنَ النِّعَمِ، وعافاهم مِن العُقوباتِ والنِّقَمِ؛ فأبطَرَهم ذلك وزهَّدَهم في اتِّباعِ الحَقِّ، وتمادَوا في باطِلِهم حتَّى جاءَهم القُرآنُ المُشتَمِلُ على الحَقِّ، وجاءهم مِنَ الله تعالى رَسولٌ ظاهرٌ أمرُه، ومُبَيِّنٌ لرسالتِه وأحكامِ دينِه، مُظهِرٌ للحَقِّ وحُجَجِه، وهو محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/579)، ((الوسيط)) للواحدي (4/70)، ((تفسير القرطبي)) (16/82)، ((تفسير ابن كثير)) (7/225)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/417، 418)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/196)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/103). قال ابن عطية: (مُبِينٌ في هذه الآيةِ يحتملُ التَّعدِّيَ وتَرْكَ التَّعدِّي). ((تفسير ابن عطية)) (5/52). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ مُبِينٌ لازِمٌ غيرُ مُتَعَدٍّ، بمعنَى: بَيِّنٍ، أي: واضحٍ وظاهرٍ أمْرُه ورسالتُه ونِذارتُه بما معه مِن الآياتِ البَيِّنةِ والدَّلائلِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والزمخشري، والنسفي، وابن كثير، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/793)، ((تفسير السمرقندي)) (3/256)، ((تفسير الزمخشري)) (4/246)، ((تفسير النسفي)) (3/ 271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/225)، ((تفسير القاسمي)) (8/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 765). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّه مُتَعَدٍّ، بمعنى أنَّه يُبيِّنُ الحقَّ مِن الباطِلِ، ويُبيِّنُ الدِّينَ والأحكامَ: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، والرَّسْعَني، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/579)، ((تفسير الثعلبي)) (8/ 332)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6652)، ((الوسيط)) للواحدي (4/70)، ((تفسير البغوي)) (4/158)، ((تفسير القرطبي)) (16/82)، ((تفسير الرسعني)) (7/114)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 650)، ((تفسير العليمي)) (6/216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 123). وقال البِقاعي: (وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي: أمرُه ظاهِرٌ في نَفْسِه...، وهو مع ظُهورِه في نَفْسِه مُظهِرٌ لِكُلِّ مَعنًى يُحتاجُ إليه). ((نظم الدرر)) (17/418). .
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30).
أي: ولَمَّا جاء القُرآنُ إلى المُشرِكينَ قالوا: هذا سِحرٌ يَسحَرُ محمَّدٌ به النَّاسَ، ولن نُؤمِنَ به [316] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/579)، ((تفسير القرطبي)) (16/82)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 126). !
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَر عن طعنِ المشركين في القرآنِ؛ أتْبَعه الإخبارَ عن طعنِهم فيمَنْ جاء به؛ تغطيةً لأمرِه عمَلًا بإخبارِهم في ختامِ ما قبْلَها عن أنفُسِهم بالكفرِ، زيادةً وإمعانًا فيما كانت النِّعَمُ أدَّتْهُم إليه مِن البَطَرِ [317] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/419). .
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31).
أي: وقال مُشرِكو قُرَيشٍ أيضًا اعتِراضًا منهم على إنزالِ القُرآنِ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنْ كان هذا القُرآنُ حَقًّا فِلمَ لمْ يُنزَّلْ على رَجُلٍ مِن وُجَهاءِ وأغنياءِ مَكَّةَ أو الطَّائِفِ [318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/580)، ((تفسير القرطبي)) (16/82، 83)، ((تفسير ابن كثير)) (7/225)، ((اختيار الأَولى)) لابن رجب (ص: 103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 765)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/200)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/110، 111). قال ابنُ عاشور: (كان الرَّجُلانِ اللَّذانِ عَنَوْهما ذَوَيْ مالٍ؛ لأنَّ سَعةَ المالِ كانت مِن مُقَوِّماتِ وَصفِ السُّؤدُدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/200). وقال الرَّسْعَني: (وعظيمُ مَكَّةَ: الوَليدُ بنُ المُغيرةِ. في قَولِ ابنِ عبَّاسٍ، وقَتادةَ، والأكثَرينَ؛ وعُتبةُ ابنُ رَبيعةَ. في قَولِ مُجاهِدٍ. وأمَّا عَظيمُ الطَّائِفِ ففيه أربعةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه حبيبُ بنُ عَمرِو بنِ عُمَيرٍ الثَّقَفيُّ. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: أبو مسعودٍ عُروةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفيُّ. قاله قَتادةُ... الثَّالِثُ: أنَّه كِنانةُ بنُ عبدِ عَمرٍو الطَّائفيُّ. قاله السُّدِّيُّ. الرَّابعُ: أنَّه ابنُ عبدِ يالِيلَ. قاله مجاهِدٌ). ((تفسير الرسعني)) (7/116). ؟
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32).
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ.
أي: هل هؤلاء المُشرِكونَ المُقتَرِحونَ إنزالَ القُرآنِ على رَجُلٍ عَظيمٍ مِن القَريتَينِ هم مَن يَضَعونَ النُّبُوَّةَ وإنزالَ الوَحيِ حيث شاؤُوا، أمِ اللهُ وَحْدَه هو الَّذي يختَصُّ بذلك [319] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/83)، ((تفسير ابن كثير)) (7/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 765)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/111). قال الواحدي: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ لم يختَلِفوا أنَّها بمعنى النُّبُوَّةِ). ((البسيط)) (20/36). ؟!
كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] .
وقال سُبحانَه: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86] .
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: نحن توَلَّيْنا قِسمةَ الأرزاقِ بيْنَهم في الحياةِ الدُّنيا؛ فيَبسُطُ اللهُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ، ويُضَيِّقُه على مَن يشاءُ بحَسَبِ حِكمتِه سُبحانَه وتعالى [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/584)، ((الوسيط)) للواحدي (4/70)، ((تفسير القرطبي)) (16/83)، ((تفسير ابن كثير)) (7/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 765)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/112). .
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.
أي: ورفَعْنا في الدُّنيا بَعضَهم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ؛ فمنهم الغَنيُّ والفَقيرُ، وغَيرُ ذلك [321] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/584)، ((تفسير السعدي)) (ص: 765)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/201). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل: 71] .
وقال سُبحانَه: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء: 21] .
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا.
أي: لِيَستخدِمَ النَّاسُ بَعضُهم بَعضًا في الأعمالِ لحاجتِهم لذلك، ويَرزُقَ اللهُ بَعضَهم مِن بعضٍ، فكما توَلَّيْنا قَسْمَ مَعايشِهم، وفضَّلْنا بَعضَهم على بَعضٍ، ولم يكُنْ أمرُ الدُّنيا إليهم؛ فكذلك لم يُفَوِّضِ اللهُ تعالى إليهم أمرَ النُّبُوَّةِ؛ فهو وَحْدَه مَن يَصطفي مَن يَشاءُ لرِسالتِه ونُزولِ الوَحيِ عليه؛ فلا وَجهَ لاعتراضِهم [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/585)، ((الوسيط)) للواحدي (4/71)، ((تفسير القرطبي)) (16/83)، ((تفسير ابن كثير)) (7/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 765)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/112). قال البِقاعي: (لَمَّا كان المرادُ هنا الاستِخدامَ دونَ الهُزءِ؛ لأنَّه لا يَليقُ التَّعليلُ به، أجمَع القُرَّاءُ على ضَمِّ هذا الحَرفِ هنا سُخْرِيًّا، أي: أن يَستَعمِلَه فيما يَنوبُه أو يَتعَسَّرُ أو يتعذَّرُ عليه مُباشرتُه، ويأخُذَ للآخَرِ منه مِن المالِ ما هو مُفتَقِرٌ إليه؛ فهذا بماله، وهذا بأعمالِه، وقد يكون الفقيرُ أكمَلَ مِن الغَنيِّ؛ لِيَكمُلَ بذلك نظامُ العالَمِ؛ لأنَّه لو تساوت المقاديرُ لتعَطَّلَت المعايِشُ؛ فلم يَقدِرْ أحَدٌ أن ينفَكَّ عما جعَلْناه إليه مِن هذا الأمرِ الدَّنيءِ، فكيف يَطمَعونَ في الاعتراضِ في أمرِ النُّبُوَّةِ، أيتَصوَّرُ عاقِلٌ أن نَتوَّلى قَسْمَ النَّاقِصِ، ونَكِلَ العاليَ إلى غيرِنا؟!). ((نظم الدرر)) (17/423). .
وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
أي: ورَحمةُ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُه المُشرِكونَ في الدُّنيا مِن أموالِها الفانيةِ ومَتاعِها الزَّائِلِ [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/586)، ((تفسير ابن عطية)) (5/53)، ((تفسير القرطبي)) (16/84)، ((اختيار الأولى)) لابن رجب (ص: 103)، ((تفسير الشوكاني)) (4/635)، ((تفسير السعدي)) (ص: 765)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/114). قيل: المرادُ بالرَّحمةِ هنا: النُّبُوَّةُ. وممَّن ذهب إلى هذا: الواحدي، والسمعاني، وابن جُزَي، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/36)، ((تفسير السمعاني)) (5/100)، ((تفسير ابن جزي)) (2/258)، ((تفسير القاسمي)) (8/388)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/ 202). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/76، 77). قال ابن رجب: (رَحمتُه بالنُّبُوَّةِ والعِلمِ والإيمانِ خَيرٌ ممَّا يَجمَعونَه مِن الأموالِ الَّتي تفنى، فهو يَخُصُّ بهذه الرَّحمةِ الدِّينيَّةِ مَن يشاءُ، ويَرفَعُه على أهلِ النِّعَمِ الدُّنيويَّةِ). ((اختيار الأَولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) (ص: 103). وقيل: المرادُ بالرَّحمةِ: الجنَّةُ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/794)، ((تفسير ابن جرير)) (20/586)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6656). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/586)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/77). ونقل ابنُ عطيَّةَ عن قَتادةَ والسُّدِّيِّ أنَّ المرادَ: الجنَّةُ. ثمَّ قال: (لا شَكَّ أنَّ الجنَّةَ هي الغايةُ، ورحمةَ اللهِ في الدُّنيا بالهدايةِ والإيمانِ خَيرٌ مِن كُلِّ مالٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/53). وممَّن جمَع بيْنَ هذه المعاني: الشنقيطي، فقال: (يعني: أنَّ النُّبُوَّةَ والاهتِداءَ بهُدى الأنبياءِ، وما يَنالُه المُهتَدونَ يومَ القيامةِ: خيرٌ مِمَّا يَجمَعُه النَّاسُ في الدُّنيا مِن حُطامِها). ((أضواء البيان)) (7/114). !
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57، 58].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ تَقريعٌ شَديدٌ، وغِلظةٌ للحاسدِ ألَّا يَحسُدَ مَن فَضَّلَه اللهُ في المعيشةِ عليه؛ لأنَّ في حَسَدِه تَسَخُّطَ قضاءِ ربِّه، والازْدِراءَ بنِعمةِ اللهِ عليه [324] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/127). .
2- قَولُه تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عن قَتادةَ قال: (تَلْقَى الرَّجُلَ ضَعيفَ الحِيلةِ، عَيِيَّ اللِّسانِ، وهو مَبسوطٌ له في الرِّزقِ، وتَلْقاه شَديدَ الحِيلةِ، سَليطَ اللِّسانِ، وهو مَقتورٌ عليه! قال الله جلَّ ثناؤُه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كما قَسَم بيْنَهم صُوَرَهم وأخلاقَهم، تبارك رَبُّنا وتعالى) [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 584، 585). .
3- في قَولِه تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَزهيدٌ في الإكبابِ على طَلبِ الدُّنيا، وعونٌ على التَّوكُّلِ على اللهِ [326] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/370). .
4- قَولُ الله تعالى: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فيه تحقيرٌ للدُّنيا وما جُمِعَ فيها مِن مَتاعِها [327] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/370). ، وإشارةٌ إلى خطورةِ جمعِ الأموالِ؛ وأنَّ ذلك قد يُنسي الآخرةَ -إلَّا مَن رَحِم ربِّي-، ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فواللهِ؛ لا الفقرَ أخشَى عليكم؛ ولكنْ أخشَى عليكم أنْ تُبسَطَ عليكم الدُّنيا، كما بُسِطَتْ على مَن كان قبْلَكم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتُهْلِكَكم كما أهلكَتْهم )) [328] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 137). والحديث أخرجه البخاري (3158) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2961) من حديث عَمرِو بنِ عَوفٍ المُزَنيِّ رضي الله عنه. .
5- قَولُ الله تعالى: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فيه دَليلٌ على أنَّ نِعمةَ اللهِ الدِّينيَّةَ خَيرٌ مِن النِّعمةِ الدُّنيويَّةِ [329] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 764). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ذكَّرَ العَرَبَ بحالِ جَدِّهم الأعلَى، ونَهْيِه عن عبادةِ غيرِ اللهِ، وإفرادِه بالتَّوحيدِ والعبادةِ؛ هزًّا لهم؛ لِيَكونَ لهم رُجوعٌ إلى دينِ جَدِّهم؛ إذ كان أشرَفَ آبائِهم، والمُجمَعَ على محبَّتِه، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُقَلِّدْ أباه في عبادةِ الأصنامِ؛ فينبغي أن تَقتَدوا به في تَركِ تَقليدِ آبائِكم الأقرَبينَ، وتَرجِعوا إلى النَّظَرِ واتِّباعِ الحَقِّ [330] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/367). !
2- في قَولِ إبراهيمَ صلَّى الله عليه وسلَّم: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي، ولم يَقُلْ (إلَّا اللهَ): فائدتانِ:
الأولى: الإشارةُ إلى عِلَّةِ إفرادِ اللهِ تعالى بالعبادةِ؛ لأنَّه كما أنَّه مُنفَرِدٌ بالخَلقِ فيَجِبُ أن يُفرَدَ بالعِبادةِ.
الثَّانيةُ: الإشارةُ إلى بُطلانِ عِبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّها لم تَفطُرْكم حتَّى تَعبُدوها؛ ففيها تعليلٌ للتَّوحيدِ الجامِعِ بيْنَ النَّفيِ والإثباتِ، وهذه مِن البلاغةِ التَّامَّةِ في تعبيرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ [331] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/150). . وأيضًا ففي قَولِه تعالى: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يَقْرِنَ الحُكمَ بالدَّليلِ؛ لأنَّه أبْلَغُ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 120). .
3- قال الله تعالى: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ حكى الله سبحانه عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ في آيةٍ أُخرى أنَّه قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] ، وحكى عنه هاهنا أنَّه قال: سَيَهْدِينِ، فاجمَعْ بيْنَهما وقَدِّرْ، كأنَّه قال: فهو يَهدينِ وسيَهدينِ؛ فيَدُلَّانِ على استِمرارِ الهدايةِ في الحالِ والاستِقبالِ [333] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/ 246)، ((تفسير الرازي)) (27/629). .
4- قولُه تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أخَذ منه بعضُهم أنَّ فيه إشعارًا بأنَّ وَحدانِيَّةَ اللهِ كانتْ غيرَ مَجهولةٍ للمُشرِكين؛ فيَتَّجِهُ أنَّ الدَّعوةَ إلى العِلْمِ بوُجودِ اللهِ ووَحدانِيَّتِه كانتْ بالِغةً لِأكثَرِ الأُمَمِ بما تَناقَلوه مِن أقوالِ الرُّسُلِ السَّابِقينَ، ومِن تِلكَ الأُمَمِ العَرَبُ؛ فيَتَّجِهُ مُؤاخَذةُ المُشرِكين على الإشراكِ قبْلَ بَعثةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّهُم أَهمَلوا النَّظَرَ فيما هو شائِعٌ بيْنَهم، أو تَغافَلوا عنه، أو أعرَضوا؛ فيَكونُ أهلُ الفَترةِ مُؤاخَذينَ على نَبذِ التَّوحيدِ في الدُّنيا، ومُعاقَبينَ عليه في الآخرةِ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/195، 196). ووقع الخلافُ في أهلِ الفترةِ: هل يَدخُلونَ النَّارَ بكُفرِهم، أو يُعْذَرونَ بالفترةِ، أو يُمتحَنون يومَ القيامةِ؟ قال ابنُ تيميَّةَ: (ومَن لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ في الدُّنيا بالرِّسالةِ، كالأطفالِ، والمجانينِ، وأهلِ الفَتَراتِ؛ فهؤلاء فيهم أقوالٌ، أظهَرُها ما جاءت به الآثارُ أنَّهم يُمتَحَنونَ يومَ القيامةِ، فيُبعَثُ إليهم مَن يأمُرُهم بطاعتِه؛ فإنْ أطاعوه استحَقُّوا الثَّوابَ، وإنْ عَصَوْه استحَقُّوا العذابَ). ((الجواب الصحيح)) (1/312). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/53- 58)، ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 137). .
5- قولُه تعالى: حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ الرَّسولُ المُبينُ: مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَصْفُه بـ مُبِينٌ؛ لأنَّه أوضَحَ الهُدَى، ونَصَب الأدِلَّةَ، وجاء بأفصَحِ كَلامٍ؛ فالإبانةُ راجِعةٌ إلى معانِي دِينِه وألفاظِ كِتابِه، والحِكمةُ في ذلك: أنَّ اللهَ أراد أنْ يُشَرِّفَ هذا الفَريقَ مِن عَقِبِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ بالانتِشالِ مِن أوحالِ الشِّركِ والضَّلالِ إلى مَناهِجِ الإيمانِ والإسلامِ، واتِّباعِ أفضَلِ الرُّسُلِ وأفضَلِ الشَّرائِعِ، فيَجبُرُ لأُمَّةٍ مِن عَقِبِ إبراهيمَ ما فَرَّطوا فيه مِن الاقتداءِ بأبيهم حتَّى يَكمُلَ لدَعوَتِه شَرَفُ الاستِجابةِ، والمَقصودُ مِن هذا: زِيادةُ الإمهالِ لهم لَعلَّهم يَتذَكَّرون [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/197، 198). .
6- قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ إنَّما جَعَلوه بزَعْمِهم سِحرًا؛ مِن حيثُ كان عِندَهم يُفَرِّقُ بيْنَ المرءِ ووَلَدِه وزَوجِه، فجَعَلوه لذلك كالسِّحرِ، ولم يَنظُروا إلى الفَرقِ في أنَّ المُفارِقَ بالقُرآنِ يُفارِقُ عن بَصيرةٍ في الدِّينِ، والمُفارِقَ بالسِّحرِ يُفارِقُ عن خَلَلٍ في ذِهنِه [336] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/52). !
7- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ دَليلٌ على أنَّ تَعظيمَ الأغنياءِ والمُتَرَيِّسينَ بالثَّراءِ قديمٌ في أطباعِ مَن لم يَعْصِمْه اللهُ بالإيمانِ ويُبَصِّرْه رُشدَه، ألَا ترَى المساكينَ كيف ظنُّوا أنَّ مَن كان عِندَهم عظيمًا رئيسًا أحقُّ بالنُّبُوَّةِ مِن محمَّدٍ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم؟! فأخبَرَهم اللهُ أنَّ النُّبُوَّةَ رَحمةٌ منه على مَن يُنبِيه، ليست هي بأيديهم؛ فيَقسِموها لِمَن أحبُّوا [337] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/127). !
8- في قَولِه تعالى: مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أنَّ القريةَ تُطلَقُ على المدنِ الكبيرةِ -بل على أُمِّ المُدُنِ-، ولقولِه تعالى في آيةٍ أُخرَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] ، فقريتُه الَّتي أخرجَتْه هي مكَّةُ، في عُرْفِنا الآنَ تُطلقُ القريةُ على المدينةِ الصَّغيرةِ، ولكنَّ القرآنَ دلَّ على أنَّ القريةَ تُطلَقُ حتَّى على المدينةِ الكبيرةِ؛ لأنَّها مأخوذةٌ مِن القَرْيِ، وهو الاجتِماعُ [338] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 134). .
9- قَولُه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ هذا مِن كُفْريَّاتِ المُشرِكينَ الَّتي حكاها اللهُ تعالى عنهم في هذه السُّورةِ، وهؤلاء المساكينُ قالوا: مَنصِبُ رسالةِ اللهِ مَنصِبٌ شَريفٌ فلا يليقُ إلَّا برجُلٍ شَريفٍ، وقد صَدَقوا في ذلك إلَّا أنَّهم ضَمُّوا إليه مُقَدِّمةً فاسِدةً: وهي أنَّ الرَّجُلَ الشَّريفَ هو الَّذي يكونُ كثيرَ المالِ والجاهِ، ومحمَّدٌ ليس كذلك، فلا تليقُ رِسالةُ اللهِ به! وإنَّما يَليقُ هذا المَنصِبُ برَجُلٍ عَظيمِ الجاهِ كثيرِ المالِ في إحدى القريتَينِ، وهي مكَّةُ والطَّائِفُ. ثمَّ أبطَل اللهُ تعالى هذه الشُّبهةَ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: قَولُه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] ، وتقريرُ هذا الجَوابِ مِن وُجوهٍ:
أحدُها: أنَّا أوقَعْنا التَّفاوُتَ في مَناصِبِ الدُّنيا، ولم يَقدِرْ أحَدٌ مِن الخَلْقِ على تغييرِه؛ فالتَّفاوُتُ الَّذي أوقَعْناه في مناصِبِ الدِّينِ والنُّبُوَّةِ بألَّا يَقدِروا على التَّصريفِ فيه كان أَولى.
 وثانيها: أن يكونَ المرادُ أنَّ اختِصاصَ ذلك الغَنيِّ بذلك المالِ الكثيرِ إنَّما كان مِن أجْلِ حُكْمِنا وفَضْلِنا وإحسانِنا إليه، فكيف يَليقُ بالعَقلِ أن نجعَلَ إحسانَنا إليه بكَثرةِ المالِ حُجَّةً علينا في أن نُحسِنَ إليه أيضًا بالنُّبُوَّةِ؟
 وثالِثُها: أنَّا لَمَّا أوقَعْنا التَّفاوُتَ في الإحسانِ بمناصِبِ الدُّنيا لا لسَبَبٍ سابقٍ، فلِمَ لا يجوزُ أيضًا أن نُوقِعَ التَّفاوُتَ في الإحسانِ بمناصِبِ الدِّينِ والنُّبُوَّةِ لا لسَبَبٍ سابقٍ؟ فهذا تقريرُ الجوابِ.
والوَجهُ الثَّاني في الجوابِ: ما المرادُ مِن قَولِه: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ؟ وتقريرُه: أنَّ اللهَ تعالى إذا خَصَّ بَعضَ عَبيدِه بنَوعِ فَضْلِه ورَحمتِه في الدِّينِ فهذه الرَّحمةُ خَيرٌ مِن الأموالِ الَّتي يَجمَعُها؛ لأنَّ الدُّنيا على شَرَفِ الانقضاءِ والانقراضِ، وفَضْلَ الله ورَحمَتَه تبقَى أبدَ الآبادِ [339] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/630). .
10- قَولُ الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ يدُلُّ على أنَّ تَفاوُتَ النَّاسِ في الأرزاقِ والحُظوظِ سُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ السَّماويَّةِ الكَونيَّةِ القَدَريَّةِ، لا يستطيعُ أحَدٌ مِن أهلِ الأرضِ البتَّةَ تَبديلَها ولا تحويلَها بوَجهٍ مِن الوُجوهِ؛ فلن تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبديلًا، ولن تجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحويلًا. وبذلك تَحقَّقَ أنَّ ما يَتذَرَّعُ به الملاحِدةُ المُنكِرونَ لوُجودِ اللهِ ولجَميعِ النُّبُوَّاتِ والرَّسائِلِ السَّماويَّةِ، إلى ابتزازِ ثَرَواتِ النَّاسِ، ونَزْعِ مُلْكِهم الخاصِّ عن أملاكِهم؛ بدعوَى المُساواةِ بيْنَ النَّاسِ في مَعايِشِهم: أمرٌ باطِلٌ لا يُمكِنُ بحالٍ مِن الأحوالِ، مع أنَّهم لا يَقصِدونَ ذلك الَّذي يَزعُمونَ، وإنَّما يَقصِدونَ استِئثارَهم بأملاكِ جَميعِ النَّاسِ؛ لِيَتمتَّعوا بها، ويَتصَرَّفوا فيها كيف شاؤوا تحتَ ستارِ كثيرٍ مِن أنواعِ الكَذِبِ والغُرورِ والخِداعِ، كما يَتحَقَّقُه كُلُّ عاقِلٍ مُطَّلِعٍ على سِيرتِهم وأحوالِهم مع المجتَمَعِ في بلادِهم! فالطُّغمةُ القَليلةُ الحاكِمةُ ومَن يَنضَمُّ إليها هم المتمَتِّعونَ بجَميعِ خَيراتِ البلادِ، وغَيرُهم مِن عامَّةِ الشَّعبِ مَحرومونَ مِن كُلِّ خَيرٍ، مَظلومونَ في كُلِّ شَيءٍ حتَّى ما كَسَبوه بأيديهم، يُعلَفونَ ببِطاقةٍ كما تُعلَفُ البِغالُ والحَميرُ! وقد عَلِمَ اللهُ جلَّ وعلا في سابِقِ عِلمِه أنَّه يأتي ناسٌ يَغتَصِبونَ أموالَ النَّاسِ بدعوى أنَّ هذا فقيرٌ، وهذا غنيٌّ، وقد نهَى جلَّ وعلا عن اتِّباعِ الهَوى بتلك الدَّعوى، وأوعَدَ مَن لم يَنْتَهِ عن ذلك بقَولِه تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 135] ، وقَولُه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا فيه وَعيدٌ شَديدٌ لِمَن فَعَل ذلك [340] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/114، 115). .
11- قَولُ الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَقتَضي أن تكونَ كُلُّ أقسامِ مَعايِشِهم إنَّما تَحصُلُ بحُكمِ اللهِ وتَقديرِه، وهذا يَقتَضي أن يكونَ الرِّزقُ الحرامُ والحَلالُ كُلُّه مِنَ الله تعالى [341] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/630). قال القرطبي: (خِلافًا للمُعتَزِلةِ في قَولِهم: إنَّ الحرامَ ليس برِزقٍ؛ لأنَّه لا يَصِحُّ تمَلُّكُه، وإنَّ اللهَ لا يَرزُقُ الحرامَ، وإنَّما يَرزُقُ الحلالَ، والرِّزقُ لا يكونُ إلَّا بمعنى المِلْكِ). ((تفسير القرطبي)) (1/177). وقال ابنُ تيميَّةَ: (والرِّزقُ يُرادُ به شَيئانِ: أحدُهما ما ينتفِعُ به العبدُ. والثَّاني: ما يَملِكُه العبدُ. فهذا الثَّاني هو المذكورُ في قَولِه تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ، وقولِه: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون: 10] ، وهذا هو الحلالُ الَّذي مَلَّكه اللهُ إيَّاه. وأمَّا الأوَّلُ: فهو المذكورُ في قَولِه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6] ، وقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ نَفسًا لن تموتَ حتى تَستكمِلَ رِزقَها»، ونحوِ ذلك. والعبدُ قد يأكُلُ الحلالَ والحرامُ فهو رِزقٌ بهذا الاعتبارِ، لا بالاعتِبارِ الثَّاني، وما اكتَسَبه ولم يَنتفِعْ به هو رِزقٌ بالاعتبارِ الثَّاني دونَ الأوَّلِ؛ فإنَّ هذا في الحقيقةِ مالُ وارِثِه لا مالُه. واللهُ أعلَمُ). ((مجموع الفتاوى)) (8/541). .
12- قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إنَّ اللهَ عزَّ وعلَا هو الَّذي قَسَم بيْنَهم مَعيشَتَهم وقَدَّرَها، ودبَّر أحوالَهُم تَدبيرَ العالِمِ بها، فلم يُسَوِّ بيْنَهم، ولَكِنْ فاوَتَ بيْنَهم في أسبابِ العَيشِ؛ حتَّى يَتعايَشوا ويَترافَدوا ويَصِلوا إلى مَنافِعِهم، ويَحصُلوا على مَرافِقِهم، ولو وَكَلَهم إلى أنفُسِهم ووَلَّاهُم تَدبيرَ أمرِهِم، لَضاعُوا وهَلَكوا، وإذا كانوا في تَدبيرِ المَعيشةِ الدَّنِيَّةِ في الحَياةِ الدُّنيا على هذه الصِّفَةِ؛ فما ظَنُّكَ بهم في تَدبيرِ أُمورِ الدِّينِ الَّذي هو رَحمةُ اللهِ الكُبرَى، ورَأفَتُه العُظمَى، وهو الطَّريقُ إلى حِيازةِ حُظوظِ الآخِرةِ، والسُّلَّمُ إلى حُلولِ دارِ السَّلامِ [342] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/248)، ((تفسير البيضاوي)) (5/90)، ((تفسير أبي حيان)) (9/370)، ((تفسير أبي السعود)) (8/46). ؟!
13- قَولُ الله تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا فيه إباحةُ استِخدامِ الحُرِّ برِضاه واستِئجارِه [343] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 232). ، واستخدامِ العمالِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 136). .
14- قَولُ الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا في هذه الآيةِ تَنبيهٌ على حِكمةِ الله تعالى في تَفضيلِ اللهِ بَعضَ العِبادِ على بَعضٍ في الدُّنيا: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، أي: لِيُسَخِّرَ بَعضُهم بعضًا في الأعمالِ والحِرَفِ والصَّنائِعِ، فلو تساوى النَّاسُ في الغِنى، ولم يَحتَجْ بَعضُهم إلى بعضٍ؛ لَتعَطَّلَت كَثيرٌ مِن مَصالحِهم ومَنافِعِهم [345] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 764). ؛ فإنَّ كُلَّ صِناعةٍ دُنيويَّةٍ يُحسِنُها قَومٌ دونَ آخَرينَ، فجُعِل البَعضُ مُحتاجًا إلى البَعضِ؛ لِتَحصُلَ المواساةُ بيْنَهم في مَتاعِ الدُّنيا، ويحتاجَ هذا إلى هذا، ويَصنَعَ هذا لهذا، ويُعطيَ هذا هذا؛ فتَتِمَّ بذلك مَصالِحُهم، ويَنتَظِمَ مَعاشُهم، ويَصِلَ كُلُّ واحدٍ منهم إلى مَطلوبِه [346] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/634). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/112). .
15- قولُه تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا فيه إثباتُ التَّعليلِ والحكمةِ لأفعالِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ لأنَّ اللَّامَ هنا للتَّعليلِ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 135). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ابتَدَأَ بذِكرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وقَومِه إبطالًا لقَولِ المُشرِكين: إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ؛ بأنَّ أَولى آبائِهم بأنْ يَقتَدوا به هو أبوهُم الَّذي يَفتَخِرون بنِسبَتِه؛ إبراهيمُ عليه السلامُ [348] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/89)، ((تفسير أبي حيان)) (9/367)، ((تفسير أبي السعود)) (8/44)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/191). .
- قولُه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ... (إذ) ظَرفٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، تَقديرُه: واذكُرْ إذ قال إبراهيمُ، والمعنى: واذكُرْ زَمانَ قَولِ إبراهيمَ لأبيهِ وقَومِه قَولًا صَريحًا في التَّبَرُّؤِ مِن عِبادةِ الأصنامِ [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/192). .
- وخُصَّ أبو إبراهيمَ بالذِّكرِ قبْلَ ذِكْرِ قَومِه -وما هو إلَّا واحِدٌ منهم- اهتِمامًا بذِكْرِه؛ لأنَّ بَراءةَ إبراهيمَ مِمَّا يَعبُدُ أبوه أدَلُّ على تَجَنُّبِ عِبادةِ الأصنامِ؛ بحيثُ لا يَتسامَحُ فيها، ولو كان الَّذي يَعبُدُها أقرَبَ النَّاسِ إلى مُوَحِّدِ اللهِ بالعِبادةِ مِثلَ الأبِ، ولِتَكُونَ حكايةُ كَلامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ قُدوَةً لإبطالِ قَولِ المُشرِكينَ: وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/192). [الزخرف: 22] .
- وقولُه: بَرَاءٌ مَصدرٌ نُعِتَ به مُبالَغةً [351] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/44). . أو صِفةٌ مُشبَّهةٌ، و(بَريءٌ) اسمُ فاعلٍ، والصِّفةُ المُشبَّهةُ أعظَمُ؛ لأنَّها تدُلُّ على الدَّوامِ والثَّباتِ والاستمرارِ [352] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 115). .
2- قولُه تعالَى: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ
- الاستِثناءُ في قَولِه: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استِثناءٌ مِن (ما تَعبُدون)، و(ما) مَوصولةٌ، أي: مِن الَّذين تَعبدونَهُم؛ فإنَّ قومَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كانوا مُشرِكين مِثلَ مُشرِكي العَرَبِ. وفَرَّع على هذا قَولَه: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ؛ لأنَّ قَولَه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ يَتضَمَّن معنى: إنَّني اهتَدَيتُ إلى بُطلانِ عِبادَتِكم الأصنامَ بهَديٍ مِن اللهِ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/192). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وقال في سُورَةِ (الشُّعراءِ): فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] ؛ فأفاد بالآيةِ المُقتَرِنةِ بالسِّينِ: هِدايَتَه في الاستِقبالِ، بعْدَ أنْ أفاد بقَولِه المَحكِيِّ في (الشُّعراءِ) الهِدايةَ في الحالِ [354] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/416). ويُنظر ما تقدم في الفوائد العلمية واللطائف. .
- وتَوكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) مَنظورٌ فيه إلى حالِ أبيهِ وقَومِه؛ لأنَّهم يُنكِرون أنَّه الآنَ على هُدًى، فهُم يُنكِرون أنَّه سيَكونُ على هُدًى في المستقبَلِ [355] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/193). .
3- قولُه تعالَى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- قولُه: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أشْعَرَ حَرفُ الظَّرفيَّةِ (في) بأنَّ هاتِه الكَلِمةَ -وهي كَلِمةُ التَّوحيدِ- لم تَنقَطِعْ بيْن عَقِبِ إبراهيمَ دُونَ أنْ تَعُمَّ العَقِبَ [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/194). .
- وقولُه: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تَعليلٌ لجَعْلِ الكَلِمةِ باقِيةً في عَقِبِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ ليَدعُوَ المُوَحِّدُ المُشرِكَ نَسلًا بعْدَ نَسلٍ إلى المِلَّةِ الحَنيفيَّةِ؛ رَجاءَ أنْ يَرجِعَ إليها مَنْ أشرَكَ منهم بدُعاءِ المُوَحِّدِ [357] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/127)، ((تفسير أبي السعود)) (8/45). .
- وحَرفُ (لَعَلَّ) لإنشاءِ الرَّجاءِ، والرَّجاءُ هنا رَجاءُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لا مَحالةَ؛ فتَعَيَّنَ أنْ يُقَدَّرَ مَعنَى قَولٍ صادِرٍ مِن إبراهيمَ بإنشاءِ رَجائِه، بأنْ يُقَدَّرَ: قال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أو: قائِلًا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/195). .
4- قولُه تعالَى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ إضرابٌ عن قَولِه: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 28] ، وهو إضْرابُ إبطالٍ، أي: لم يَحصُلْ ما رَجاهُ إبراهيمُ مِن رُجوعِ بَعضِ عَقِبِه إلى الكَلِمةِ الَّتي أوصاهُم برَعيِها؛ فإنَّ أقدَمَ أُمَّةٍ مِن عَقِبِه لم يَرجِعوا إلى كَلِمَتِه، وهؤلاء همُ العَرَبُ الَّذين أشْرَكوا وعَبَدوا الأصنامَ. وبَعْدَ (بَلْ) كلامٌ مَحذوفٌ دلَّ عليه الإبطالُ وما بعْدَ الإبطالِ، وتَقديرُ المَحذوفِ: بلْ لمْ يَرجِعْ هؤلاء وآباؤُهُم الأوَّلون إلى التَّوحيدِ، ولم يَتَبَرَّؤُوا مِن عِبادةِ الأصنامِ، ولا أخَذوا بوِصايةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/196). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي السعود)) (8/45)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/80). .
- وجُملةُ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانِيًّا لسائِلٍ يَسأَلُ عمَّا عامَلَهم اللهُ به جَزاءً على تَفريطِهم في وِصايةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وهلَّا استَأصَلَهم؟ فأُجيبَ: بأنَّ اللهَ مَتَّعَهم بالبَقاءِ إلى أنْ يَجِيئَهم رَسولٌ بالحَقِّ، وذلك لحِكمةٍ عَلِمها اللهُ يَرتَبِطُ بها وُجودُ العَرَبِ زَمنًا طويلًا بدُونِ رَسولٍ، وتأخُّرُ مَجيءِ الرَّسولِ إلى الإِبَّانِ الَّذي ظَهَر فيه، وبهذا الاستِئنافُ حَصَل التَّخَلُّصُ إلى ما بَدَا مِن المُشرِكين بعْدَ مَجيءِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن فَظيعِ تَوَغُّلِهم في الإعراضِ عن التَّوحيدِ الَّذي كان عليه أبوهُم [360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/196، 197). .
- وفي مَجيءِ الإضرابِ بقَولِه: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ... الآيةَ، وجَعْلِ الغايةِ للتَّمَتُّعِ مَجيءَ الحَقِّ: نُكتَةٌ بَديعةٌ؛ لأنَّه ليس المَقصودُ مِن الإضرابِ ردَّ الكَلامِ السَّابِقِ، ولكنَّ المَقصودَ هو التَّأكيدُ والاستِمرارُ؛ لِيُبيِّنَ أنَّهم شُغِلوا عمَّا جاءَهم مِن الحقِّ؛ إذ لا مُناسَبةَ بيْنَ مَجيءِ الحَقِّ والتَّمتِيعِ، والمَعنَى: أنَّهم شُغِلوا عن شُكرِ المُنعِمِ؛ فإنَّهم بَدلًا مِن أنْ يَنصاعُوا إلى الحقِّ، ويأخُذوا بأسبابِه، ويَعكُفوا عليه؛ جَاؤُوا بما هو شَرٌّ مِن غَفلَتِهم الَّتي كانوا عليها [361] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/81، 82). .
- قَولُه: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ المُرادُ بآبائِهِم: آباؤُهُم الَّذين سَنُّوا عِبادةَ الأصنامِ، مِثلُ عَمرِو بنِ لُحَيٍّ والَّذين عَبَدوها مِن بَعدِه، وتَمتيعُ آبائِهم تَمهيدٌ لتَمتيعِ هؤلاءِ؛ ولذلك كانت غايةُ التَّمتيعِ مَجيءَ الرَّسولِ؛ فإنَّ مَجيئَه لهؤلاءِ، والتَّمتيعُ هنا التَّمتيعُ بالإمهالِ وعَدَمِ الاستِئصالِ، كما تدُلُّ عليه الغايةُ في قَولِه: حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، والمُرادُ بالحَقِّ هنا القُرآنُ، وهذه الآيةُ ثَناءٌ راجِعٌ على القُرآنِ مُتَّصِلٌ بالثَّناءِ عليه الَّذي افتُتِحَت به السُّورَةُ [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/197). .
5- قولُه تعالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ تَعجُّبٌ مِن حالِ تَغافُلِهم، أي: قد كان لهم بَعضُ العُذرِ قبْلَ مَجيءِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والقُرآنِ؛ لأنَّ لِلغَفَلاتِ المُتَقادِمةِ غِشاوَةً تُصَيِّرُ الغَفلةَ جَهالةً؛ فكان الشَّأنُ أنْ يَستَيقِظوا لَمَّا جاءَهُم الحَقُّ ورَسولٌ مُبينٌ، فيَتَذَكَّروا كَلِمةَ أبيهِم إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ولَكِنَّهم لَمَّا جاءَهُم الحَقُّ قالوا: هَذَا سِحْرٌ، أي: قالوا للرَّسولِ: هذا ساحِرٌ، فازْدادوا رَيْنًا على رَيْنٍ؛ فالخَبرُ مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ، لا في إفادةِ صُدورِ هذا القولِ منهم؛ لأنَّ ذلك مَعلومٌ لهم وللمُسلِمينَ [363] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/198). .
- وجَعَل مَجيءَ الحَقِّ والرَّسولِ غايةَ التَّمتيعِ، ثمَّ أردَفَه بقَولِه: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ، والمَرادُ التَّنبيهُ على غَفلَتِهم، فقال: بلِ اشتَغَلوا عن التَّوحيدِ حتَّى جاءَهُم الحَقُّ ورَسولٌ مُبينٌ؛ فخَيَّلَ بهذه الغايةِ أنَّهم تَنَبَّهوا عندَها عن غَفلَتِهم؛ لاقتِضائِها التَّنَبُّهَ، ثمَّ ابتَدَأَ قِصَّتَهم عندَ مَجيءِ الحقِّ فقال: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ جَاؤُوا بما هو شَرٌّ مِن غَفلَتِهم الَّتي كانوا عليها: وهو أنْ ضَمُّوا إلى شِركِهم مُعانَدَةَ الحَقِّ، ومُكابَرَةَ الرَّسولِ، ومُعاداتَه، والاستِخفافَ بكتابِ اللهِ وشَرائِعِه، والإصرارَ على أفعالِ الكَفَرةِ، والاحتِكامَ على حِكمةِ اللهِ في تَخَيُّرِ مُحمَّدٍ مِن أهلِ زَمانِه، ثمَّ قالوا على سَبيلِ التَّنَزُّلِ: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، وهي الغايَةُ في تَشويهِ صُورَةِ أمرِهِم [364] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/247)، ((تفسير أبي حيان)) (9/369). .
- وفي تَعقيبِ الغايةِ بهذا الكَلامِ إيذانٌ بأنَّ تَمتيعَهم أصبَحَ على وَشْكِ الانتِهاءِ؛ فجُملَةُ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مَعطوفَةٌ على جُملَةِ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ [الزخرف: 29] ؛ فإنَّ (لَمَّا) تَوقيتِيَّةٌ؛ فهي في قُوَّةِ (حتَّى) الغائِيَّةِ؛ كأنَّه قيلَ: مَتَّعتُ هؤلاءِ وآباءَهم، فلمَّا جاءَهُم الحقُّ عَقِبَ ذلك التَّمتيعِ، لم يَستَفيقُوا مِن غَفلَتِهم، وقالوا: هذا سِحرٌ، أي: كانوا قبلَ مَجيءِ الحقِّ مُشرِكين عن غَفلَةٍ وتَساهُلٍ، فلمَّا جاءَهُم الحقُّ صاروا مُشرِكين عن عِنادٍ ومُكابَرةٍ [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/199). .
- وجُملةُ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ مَقُولٌ ثانٍ، أي: قالوا: هذا سِحرٌ فلا نَلتَفِتُ إليه، وقالوا: إنَّا به -أي: بالقُرآنِ- كافِرون، أي: سواءٌ كان سِحرًا أم غَيرَه، أي: فَرَضوا أنَّه سِحرٌ، ثمَّ ارتَقَوا فقالوا: إنَّا به كافِرون، أي: كافِرون بأنَّه مِن عندِ اللهِ، سواءٌ كان سِحرًا، أم شِعرًا، أمْ أساطيرَ الأوَّلينَ، ولهذا المَعنَى أكَّدوا الخَبَرَ بحَرفِ التَّأكيدِ؛ ليُؤْيِسوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إيمانِهِم به [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/199). .
6- قولُه تعالَى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ عَطفٌ على جُملةِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: 30] ؛ فهو في حيِّزِ جَوابِ (لَمَّا) [الزخرف: 30] التَّوقيتِيَّةِ، واقِعٌ مَوقِعَ التَّعجيبِ أيضًا، أي: بعْدَ أنْ أخَذوا يَتَعَلَّلون بالعِلَلِ لإنكارِ الحقِّ؛ إذ قالوا للقُرآنِ: هذا سِحرٌ، وإذ كان قَولُهم ذلك يَقْتضي أنَّ الَّذي جاء بالقُرآنِ ساحِرٌ؛ انتَقَل إلى ذِكْرِ طَعنٍ آخَرَ منهم في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه لم يَكُنْ مِن عُظَماءِ أهلِ القَريَتَينِ [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/199). .
- و(لولا) أصْلُه حَرفُ تَحضيضٍ، استُعْمِلَ هنا في معنى إبطالِ كَونِه رسولًا؛ لأنَّ التَّحضيضَ على تَحصيلِ ما هو مَقطوعٌ بانتفاءِ حُصولِه يَستلزِمُ الجزْمَ بانتفائِه [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/199). .
- ويَحتمِلُ أنَّهم قالوا هذا اللَّفظَ المَحكِيَّ عنهم في القُرآنِ، ولم يُسَمُّوا شَخصَينِ مُعَيَّنَينِ، ويَحتمِلُ أنَّهم سَمَّوا شَخصَينِ ووَصَفوهُما بهَذَينِ الوَصفَينِ، واقتَصَر القُرآنُ على ذِكْرِ هَذَينِ الوَصفَين أنَّه رَجلٌ وعَظيمٌ؛ إيجازًا، مع التَّنبيهِ على ما كانوا يُؤَهِّلون به الاختِيارَ للرِّسالةِ؛ تَحميقًا لرَأيِهِم [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/200). .
- وقَولُهم: هَذَا الْقُرْءانُ ذِكرٌ له على وَجهِ الاستِهانةِ به؛ لأنَّهم لم يقولوا هذه المقالةَ تسليمًا، بل إنكارًا [370] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/248)، ((تفسير الألوسي)) (13/78). .
- وتعريفُ الْقَرْيَتَيْنِ في قولِهم: عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ للعَهدِ، جَعَلوا عِمادَ التَّأهُّلِ لسِيادَةِ الأقوامِ أمْرَينِ: عَظَمةَ المُسَوَّدِ، وعَظَمةَ قَريَتِه؛ فهمْ لا يَدينون إلَّا مَن هو مِن أشهَرِ القَبائِلِ في أشهَرِ القُرَى؛ لأنَّ القُرى هي مَأوَى شُؤونِ القَبائِلِ وتَموينِهِم وتِجارَتِهم [371] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/200). .
7- قولُه تعالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
- قولُه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ إنكارٌ عليهم قولَهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ فإنهم لَمَّا نَصَبوا أنفُسَهم مَنصِبَ مَن يَتَخَيَّرُ أصنافَ النَّاسِ للرِّسالةِ عن اللهِ؛ فقد جَعَلوا لأنفُسِهم ذلك لا لِلَّهِ؛ فكان مِن مُقتَضَى قَولِهم أنَّ الاصطِفاءَ للرِّسالةِ بيَدِهم؛ فلذلك قُدِّم ضَميرُ (هُم) المجعولُ مُسنَدًا إليه، على مُسنَدٍ فِعلِيٍّ؛ ليُفِيدَ معنَى الاختِصاصِ؛ فسَلَّط الإنكارَ على هذا الحَصرِ إبطالًا لقَولِهم، وتَخطِئَةً لهم في تَحَكُّمِهِم، ولَمَّا كان الاصطِفاءُ للرِّسالةِ رَحمةً لِمَن يُصطَفَى لها، ورَحمةً للنَّاسِ المُرسَلِ إليهم؛ جَعَل تَحَكُّمَهم في ذلك قِسمَةً منهم لِرَحمةِ اللهِ باختِيارِهِم مَن يُختارُ لها، وتَعيينِ المُتأَهِّلِ لإبلاغِها إلى المَرحُومينَ [372] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/248)، ((تفسير البيضاوي)) (5/90)، ((تفسير أبي حيان)) (9/370)، ((تفسير أبي السعود)) (8/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/200، 201)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/81). .
- وفي قَولِه: رَحْمَةَ رَبِّكَ وُجِّهَ الخِطابُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأُضِيفَ لَفظُ (الرَّبِّ) إلى ضَميرِه؛ إيماءً إلى أنَّ اللهَ مُؤَيِّدُه تَأنيسًا له؛ لأنَّ قَولَهم: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] قَصَدوا منه الاستِخفافَ به؛ فرَفَع اللهُ شَأنَه بإبلاغِ الإنكارِ عليهم؛ بالإقبالِ عليه بالخِطابِ، وبإظهارِ أنَّ اللهَ رَبُّه، أي: مُتَوَلِّي أمرِهِ وتَدبيرِه [373] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/201). .
- قَولُه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... تَعليلٌ للإنكارِ والنَّفيِ المُستفادِ منه، واستِدلالٌ عليه، أي: لَمَّا قَسَمْنا بيْنَ النَّاسِ مَعيشتَهم، فكانوا مُسَيَّرينَ في أمُورِهم على نَحوِ ما هَيَّأْنا لهم مِن نِظامِ الحَياةِ، وكان تَدبيرُ ذلك للهِ تعالى ببالِغِ حِكمَتِه، فسَخَّر بَعضَهم لبَعضٍ في أشغالِهم على حِسابِ دَواعِي حاجةِ الحَياةِ؛ فإذا كانوا بهذه المَثابةِ في تَدبيرِ المَعيشةِ الدُّنيا؛ فكذلك الحالُ في إقامةِ بَعضِهِم دُونَ بَعضٍ للتَّبليغِ؛ فإنَّ ذلك أعظَمُ شُؤونِ البَشَرِ؛ فهذا وَجهُ الاستِدلالِ [374] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/201). .
- وجُملَةُ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تَذيِيلٌ للرَّدِّ عليهم، وفي هذا التَّذيِيلِ ردٌّ ثانٍ عليهم بأنَّ المالَ الَّذي جَعَلوه عِمادَ الاصِطفاءِ للرِّسالةِ، هو أقَلُّ مِن رَحمةِ الله؛ فهي خَيرٌ ممَّا يَجمَعون مِن المالِ الَّذي جَعَلوه سَببَ التَّفضيلِ حينَ قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ فإنَّ المالَ شَيءٌ جَمَعه صاحبُه لِنَفْسِه، فلا يكونُ مِثلَ اصطفاءِ اللهِ العبْدَ لِيُرْسِلَه إلى النَّاسِ [375] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/201). .