موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (70-72)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ

غريب الكلمات :

أَرْذَلِ الْعُمُرِ: أي: أردَئِه وأوضَعِه. والرَّذْلُ: المَرغوبُ عنه لِرَداءتِه، والدُّونُ مِن كُلِّ شَيءٍ [821] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 290)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/509)، ((المفردات)) للراغب (ص: 351)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 196)، ((تفسير القرطبي)) (10/140). .
بِرَادِّي: أي: بمُعْطِي، وأصلُ (رد): يدلُّ على رَجعِ الشَّيءِ [822] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 246)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/386)، ((تفسير الألوسي)) (7/426)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/215). .
وَحَفَدَةً: أي: ولَدَ ولَدِ الرَّجُلِ، الذين يُعينونَه ويَخدُمونَه. وقيل: هم الأنصارُ والأعوانُ والخَدَمُ، وأصلُ (حفد): يدُلُّ على الخِفَّةِ في الخِدمةِ والعَمَلِ، والتجمُّعِ [823] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/364)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 246)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 192)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/84)، ((البسيط)) للواحدي (13/137). .

المعنى الإجمالي:

يخاطبُ الله تعالى عبادَه قائلًا: واللهُ وحدَه خلَقَكم- أيُّها النَّاسُ- من العَدَمِ، ثمَّ يُميتُكم، ومِنكم مَن يصيرُ إلى أردأِ العُمُرِ، وهو الهَرَمُ، فيَضعُفُ، وتَنقُصُ قُوَّتُه وعَقلُه، ليصيرَ لا يعلَمُ شيئًا ممَّا كان يَعلَمُه. ثم ختم الله الآيةَ بما يدلُّ على كمالِ علمِه، وتمامِ قدرتِه فقال: إنَّ اللهَ عَليمٌ قَديرٌ.
ثمَّ ذكَر الله تعالى التفاوُتَ بينَ الناسِ في أرزاقِهم، فقال: واللهُ فَضَّل بَعضَكم على بَعضٍ فيما أعطاكم مِن الرِّزقِ في الدُّنيا؛ فمنكم غنيٌّ ومنكم فقيرٌ، ومِنكم مالِكٌ ومنكم مَملوكٌ، فلا يُعطي المالِكونَ مَملوكِيهم ممَّا أعطاهم اللهُ ما يَصيرونَ به شُرَكاءَ لهم، مُتَساوينَ معهم في المالِ، فإذا لم يَرْضَوا أن يُشرِكوا معهم بعضَ خَلقِ اللهِ فيما رزقَهم سبحانَه، فلماذا رَضُوا أن يُشرِكوا مع ربِّهم في العبادةِ بَعضَ خَلقِه، وهو أعظم؟! إنَّ هذا لَمِن أعظَمِ الظُّلمِ والجُحودِ لحَقِّ اللهِ ونِعَمِه.
ثمَّ ذكَر الله تعالى نعمةً أُخرَى مِن نِعمِه على الناسِ، فقال: واللهُ سُبحانَه خلقَ لكم- أيُّها النَّاسُ- مِن جِنسِكم أزواجًا؛ لِتَسكنوا إليهنَّ، وجعل لكم مِنهنَّ الأبناءَ، ومِن نَسلِهنَّ الأحفادَ المُسرِعين في عَونِكم وخِدمتِكم، ورَزَقَكم مِن الأموالِ الحلالِ، والأطعمةِ الطَّيِّبةِ، أفبالباطِلِ مِن ألوهيَّةِ شُرَكائِهم يُؤمِنونَ، وبنِعَمِ اللهِ التي لا تُحصَى يَجحَدونَ؟!

تفسير الآيات:

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الآياتِ التي في الأنعامِ والثَّمَراتِ والنَّحْلِ؛ ذكَرَ ما نبَّهَنا به على قُدرتِه التَّامَّةِ في إنشائِنا مِن العَدَمِ وإماتَتِنا، وتنَقُّلِنا في حالِ الحياةِ مِن حالةِ الجَهلِ إلى حالةِ العِلمِ، وذلك كُلُّه دليلٌ على القُدرةِ التَّامَّةِ، والعِلمِ الواسِعِ [824] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/562). .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ.
أي: واللهُ وَحْدَه أوجَدَكم- أيُّها النَّاسُ- من العَدَمِ، ثمَّ يُميتُكم عندَ انتهاءِ آجالِكم [825] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/291)، ((تفسير ابن كثير)) (4/585)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444). قال ابن عاشور: (لَمَّا قُوبِلَ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ بقَولِه تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عُلِمَ أنَّ المعنى: ثمَّ يتوفَّاكم في إبَّانِ الوَفاةِ، وهو السِّنُّ المعتادةُ الغالِبةُ؛ لأنَّ الوصولَ إلى أرذَلِ العُمُرِ نادِرٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/211). .
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
أي: ومِنكم مَن يُؤخِّرُ اللهُ مَوتَه، ويُترَكُ إلى أخَسِّ العُمُرِ وأردَئِه، وهو الذي يَهرَمُ فيه، فيَضعُفُ وتَنقُصُ قُوَّتُه وعَقلُه [826] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/291)، ((تفسير القرطبي)) (10/140)، ((تفسير ابن كثير)) (4/585)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/409). قال ابن عاشور: (الهَرَمُ لا ينضَبِطُ حُصولُه بعدَدٍ مِن السِّنينَ؛ لأنَّه يختَلِفُ باختلافِ الأبدانِ والبُلدانِ والصِّحَّةِ والاعتدالِ، على تفاوُتِ الأمزِجةِ المعتدلة، وهذه الرَّذالةُ رَذالةٌ في الصِّحَّةِ لا تعلُّقَ لها بحالةِ النَّفسِ، فهي ممَّا يَعرِضُ للمُسلِمِ والكافِرِ، فتُسمَّى أرذَلَ العُمُرِ فيهما، وقد استعاذ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أن يُرَدَّ إلى أرذَلِ العُمُرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/212). وقال الشنقيطي: (عن عليٍّ رَضِيَ الله تعالى عنه: أنَّ أرذَلَ العُمُرِ خَمسٌ وسَبعون سنة. وعن قتادة: تسعونَ سنة. والظَّاهِرُ أنَّه لا تحديدَ له بالسِّنينَ، وإنَّما هو باعتبار تفاوتِ حالِ الأشخاصِ؛ فقد يكونُ ابنُ خمس وسبعين أضعَفَ بدنًا وعقلًا، وأشدَّ خَرَفًا مِن آخَرَ ابنِ تسعينَ سنةً). ((أضواء البيان)) (2/410). .
كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] .
وقال سُبحانَه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَدعو: ((أعوذُ بك مِن البُخلِ والكَسَلِ، وأرذَلِ العُمُرِ، وعذابِ القَبرِ، وفِتنةِ الدَّجَّالِ، وفِتنةِ المَحْيا والمَماتِ [827] فِتنةُ المحيا: ما يَعرِضُ للإنسانِ مُدَّةَ حياتِه من الافتتانِ بالدُّنيا والشَّهواتِ والجهالاتِ، وفتنةُ المماتِ: الفِتنةُ عند الموتِ، ويجوزُ أن يرادَ بها فِتنةُ القبرِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/319). ) [828] رواه البخاري (4707) واللفظ له، ومسلم (2706). .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((تعوَّذُوا بكَلِماتٍ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعَوَّذُ بهنَّ: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن الجُبنِ، وأعوذُ بك مِن البُخلِ، وأعوذُ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذَلِ العُمُرِ، وأعوذُ بك مِن فِتنةِ الدُّنيا، وعذابِ القَبرِ) ) [829] رواه البخاري (6374). .
لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا.
أي: نَرُدُّ مَن نشاءُ إلى أرذَلِ العُمُرِ؛ لِيَصيرَ [830] قال ابنُ جزي: (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا اللامُ لامُ الصيرورةِ، أي: يصيرُ إذا هرِم لا يعلمُ شيئًا، بعدَ أن كان يعلمُ قبلَ الهرمِ). ((تفسير ابن جزي)) (1/431). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/619)، ((تفسير القاسمي)) (6/388-389)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/212). جاهِلًا لا يعلَمُ بعد عِلمِه بالأمورِ شَيئًا، فيَنسى ما كان يَعلَمُه مِن قبلُ، فالذي ردَّه إلى هذه الحالِ قادرٌ- سُبحانَه- على أن يُميتَه ثُمَّ يُحيِيَه ويَبعَثَه للحِسابِ والجزاءِ يومَ القيامةِ [831] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 246)، ((تفسير ابن جرير)) (14/292)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/211)، ((تفسير القرطبي)) (10/141)، ((تفسير ابن كثير)) (4/585)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/212)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/410). قال ابن جزي: (وليس المرادُ نفيَ العلمِ بالكليةِ، بل ذلك عبارةٌ عن قلةِ العلمِ؛ لغلبةِ النسيانِ. وقيل: المعنَى: لئلَّا يعلمَ زيادةً على علمِه شيئًا). ((تفسير ابن جزي)) (1/431). وقال أبو حيان: (الظاهرُ أنَّ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عامٌّ، فيمَن يلحقُه الخرفُ والهرمُ. وقيل: هذا في الكافرِ؛ لأنَّ المسلمَ لا يزدادُ بطولِ عمرِه إلا كرامةً على الله؛ ولذلك قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: لم يُردُّوا إلى أسفلِ سافلينَ. وقال قتادةُ: «مَن قرأ القرآنَ لم يُردَّ إلى أرذلِ العمرِ). ((تفسير أبي حيان)) (6/562). .
كما قال تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] .
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَر ما يَعرِضُ في الهَرَمِ من ضعفِ القُوى والقُدرةِ، وانتفاءِ العِلمِ؛ ذكَرَ عِلمَه وقدرتَه اللَّذَينِ لا يتبدَّلانِ ولا يتغيَّرانِ، ولا يدخُلُهما الحوادثُ، وولِيَت صفةُ العلمِ ما جاورَها مِن انتفاءِ العلمِ [832] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/563). .
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بكُلِّ ما كان ويكونُ، فلا يَنسى ولا يتغيَّرُ عِلمُه، ولا يَجهَلُ شَيئًا، قديرٌ على كلِّ شيءٍ سُبحانَه [833] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/292)، ((الوسيط)) للواحدي (3/73). .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا مِن الاستدلالِ على أنَّ التصَرُّفَ القاهِرَ لله تعالى؛ وذلك أنَّه أعقَبَ الاستِدلالَ بالإحياءِ والإماتةِ وما بينهما مِن هَرَمٍ، بالاستدلالِ بالرِّزقِ، ولَمَّا كان الرِّزقُ حاصِلًا لكُلِّ مَوجودٍ، بُنِيَ الاستدلالُ على التَّفاوُتِ فيه بخِلافِ الاستدلالِ بقَولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [834] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/213). [النحل: 70] .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى خَلْقَنا ثمَّ إماتَتَنا وتفاوُتَنا في السِّنِّ، ذكَرَ تفاوُتَنا في الرِّزق، وأنَّ رِزقَنا أفضَلُ مِن رِزقِ المماليكِ، وهم بشَرٌ مِثلُنا [835] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/563). .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.
أي: واللهُ فضَّل بَعضَكم- أيُّها النَّاسُ- على بَعضٍ فيما رزَقَكم مِن الأموالِ، فجعَلَ بَعضَكم غنيًّا، وبَعضَكم فَقيرًا، وبَعضَكم حُرًّا له مالٌ، وبَعضَكم مملوكًا لا مالَ له [836] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/292)، ((الوسيط)) للواحدي (3/73)، ((تفسير القرطبي)) (10/141). قال الشوكاني: (فوسَّعَ على بعضِ عبادِه حتى جعَل له مِن الرِّزقِ ما يكفي ألوفًا مُؤَلَّفةً مِن بني آدمَ، وضَيَّقَه على بعضِ عِبادِه حتى صار لا يجِدُ القُوتَ إلَّا بسُؤالِ النَّاسِ، والتكَفُّفِ لهم؛ وذلك لحِكمةٍ بالغةٍ تقصُرُ عُقولُ العبادِ عن تعقُّلِها، والاطِّلاعِ على حقيقةِ أسبابِها. وكما جعَلَ التَّفاوُتَ بين عبادِه في المالِ، جعَلَه بينهم في العَقلِ والعِلمِ والفَهمِ، وقُوَّةِ البدَنِ وضَعفِه، والحُسنِ والقُبحِ، والصِّحَّة والسَّقَم، وغيرِ ذلك من الأحوالِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/213). .
فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ.
أي: فليس الذين فضَّلهم الله على غَيرِهم بالرِّزقِ بجاعِلي رِزْقِهم لعَبيدِهم، فيَكونوا هم وعبيدُهم شُرَكاءَ فيه بالسَّوِيَّة؛ فإذا لم يكُنْ عَبيدُكم معكم سواءً في أموالِكم، ولا تَرضَونَ هذه الحالَ لأنفُسِكم، فكيف تجعَلونَ مع اللهِ شُرَكاءَ له في العبادةِ وهم عبيدٌ له، ليس لهم من المُلْك مِثقالُ ذَرَّةٍ [837] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/292، 293)، ((البسيط)) للواحدي (13/131، 132)، ((تفسير السمعاني)) (3/187)، ((تفسير القرطبي)) (10/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/410، 411). ؟!
كما قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .
أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
أي: أفبِنعمَةِ اللهِ التي أنعَمَ بها مِن الرِّزقِ يَجحَدُ هؤلاء الكافِرونَ، بإشراكِهم غَيرَه في عبادتِه، واستعمالِ نِعَمِه في مَعصِيَتِه [838] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/293)، ((تفسير ابن كثير)) (4/586)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/412). ؟!
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن أحوالِ النَّاسِ، ذكَرَه اللهُ تعالى ليُستَدَلَّ به على وجودِ الإلهِ المُختارِ الحَكيمِ، وليكونَ ذلك تنبيهًا على إنعامِ اللهِ تعالى على عَبيدِه بمِثلِ هذه النِّعَمِ [839] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/244). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى امتِنانَه بالإيجادِ ثُمَّ بالرِّزقِ المُفَضَّلِ فيه؛ ذكَرَ امتِنانَه بما يقومُ بمصالحِ الإنسانِ ممَّا يأنَسُ به ويَستنصِرُ به ويَخدُمُه [840] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/564). .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا.
أي: واللهُ خلَقَ لكم- أيُّها النَّاسُ- مِن جِنسِكم البَشَريِّ وعلى هَيئتِكم [841] ممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/586)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/412). وممن قال بهذا القول من السلف: ابن زيد. ((تفسير ابن الجوزي)) (2/571). وقيل: المعنى: خلَقَ حوَّاءَ مِن آدَمَ. وممَّن ذهب إليه: ابنُ جريرٍ، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/295)، ((تفسير القرطبي)) (10/142). ونسَبه الرسعني إلى أكثرِ المفسرينَ. ((تفسير الرسعني )) (4/63). وممن قال بهذا القول من السلف: قتادة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/295). قال السمعاني: (قولُه تعالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا فيه قولانِ: أَحدهما: أنَّ هذا في آدمَ- عليه السَّلامُ- فإنَّ الله تعالى خلَق حَوَّاءَ مِن بعضِ أضلاعِه. والقولُ الثَّاني: خلَق مِن أنفسِكم أزواجًا، أَي: مِن جنسِكم أزواجًا). ((تفسير السمعاني)) (3/188). أزواجًا، فتَسكنونَ إليها، ويحصُلُ الائتلافُ والمودَّةُ بينكم [842] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/295)، ((تفسير القرطبي)) (10/142)، ((تفسير ابن كثير)) (4/586)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/412). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً.
أي: وخلَقَ لكم مِن نسائِكم أبناءً، وأبناءً لأبنائِكم، يُسرِعونَ في خِدمتِكم، ويَقضُونَ حَوائِجَكم، وتَنتَفِعونَ بهم [843] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/144)، ((تفسير ابن كثير)) (4/586، 587)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/218)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/413). قال ابنُ عطيةَ: (ولا خِلافَ أنَّ معنى الحَفْدِ: الخِدمةُ والبِرُّ، والمشيُ مُسرِعًا في الطاعةِ، ومنه في القُنوتِ: «وإليك نَسعى ونَحفِدُ»). ((تفسير ابن عطية)) (3/408). .
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى إنعامَه على عَبيدِه بالمَنكوحِ، وما فيه مِن المنافِعِ والمَصالحِ؛ ذكَرَ إنعامَه عليهم بالمَطعوماتِ الطَّيِّبةِ، فقال [844] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/245). :
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
أي: ورزَقَكم اللهُ- أيُّها النَّاسُ- مِن حلالِ الأموالِ والأطعِمةِ والأشرِبةِ اللَّذيذةِ الصَّالحةِ [845] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/304)، ((تفسير ابن كثير)) (4/587)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/219، 220). وقال البقاعي: (مِنَ الطَّيِّبَاتِ بجَعْلِه مُلائمًا للطِّباعِ، شَهِيًّا للأرواحِ، نافعًا للإشباعِ). ((نظم الدرر)) (11/212). .
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
أي: أفَبِالباطِلِ [846] قيل: المرادُ به: الأصنامُ. وممن قال بذلك: الواحدي، والبغوي، وابنُ كثير. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/74)، ((تفسير البغوي)) (3/88)، (تفسير ابن كثير)) (4/587-588). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/572). قال السعدي: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أي: أيؤمِنونَ بالباطِلِ الذي لم يكن شيئًا مذكورًا ثمَّ أوجده اللهُ، وليس له من وجودِه سوى العدَمِ، فلا تخلقُ ولا ترزُقُ ولا تدبِّرُ مِن الأمر شيئًا، وهذا عامٌّ لكُلِّ ما عُبِدَ مِن دون الله؛ فإنها باطلةٌ، فكيف يتَّخِذُها المشركونَ مِن دون الله؟!!). ((تفسير السعدي)) (ص: 444). وقيل: المرادُ: يصدِّقون بتحريمِ ما أحلَّ الله مِن البحائرِ والسوائبِ والوصائلِ مِن الأنعامِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/304)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/572). يُؤمنُ هؤلاء المُشرِكونَ، وبِنِعَمِ اللهِ التي أنعَمَ بها عليهم يَكفُرونَ، فلا يَشكُرونَ اللهَ عليها، ولا يُوَحِّدونَه، ويَنسُبونَ نِعَمَه إلى غيرِه، ويَستَعمِلونَها في مَعصِيَتِه، والكُفرِ به [847] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/74)، ((تفسير البغوي)) (3/88)، ((تفسير ابن كثير)) (4/587)، ((تفسير الشوكاني)) (3/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 444). قال ابن جرير: (وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ يقول: وبما أحَلَّ اللهُ لهم من ذلك، وأنعم عليهم بإحلالِه يَكْفُرُونَ يقولُ: يُنكِرونَ تحليلَه، ويجحدون أن يكونَ الله أحَلَّه). ((تفسير ابن جرير)) (14/304). ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ انتقالٌ مِن الاستدلالِ بدَقائقِ صُنعِ اللهِ على وَحْدانيَّتِه إلى الاستدلالِ بتَصرُّفِه في الخَلْقِ التَّصرُّفَ الغالِبَ لهم الَّذي لا يَستطيعونَ دَفْعَه، على انفِرادِه برُبوبيَّتِهم، وعلى عَظيمِ قُدرتِه، كما دلَّ عليه تَذييلُها بجُملةِ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ فهو خَلَقَهم بدونِ اختِيارٍ مِنهم، ثمَّ يتَوفَّاهم كُرْهًا علَيهم، أو يَرُدُّهم إلى حالةٍ يَكرَهونها، فلا يَستَطيعون ردًّا لذلك، ولا خَلاصًا منه، وبذلك يتَحقَّقُ معنى العبوديَّةِ بأوضَحِ مَظهَرٍ [848] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/211). .
2- قال الله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ نَصٌّ صَريحٌ في إبطالِ مَذهَبِ الاشتراكِيَّةِ القائِلِ: بأنَّه لا يكونُ أحَدٌ أفضَلَ مِن أحدٍ في الرِّزقِ، ولله في تفضيلِ بَعضِهم على بعضٍ في الرِّزقِ حِكمةٌ؛ قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: 32] ، وقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] ، وقال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ [849] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/411). .
3- قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ممتنًّا على بني آدمَ بأنَّ أزواجَهم مِن نوعِهم وجنسِهم، يُفهمُ منه عدمُ جوازِ مناكحةِ الإنسِ الجنَّ؛ لأنَّه ما جعَل لهم أزواجًا تُباينُهم [850] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/415). .
4- الجَعْلُ المذكورُ في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا هو جَعْلٌ كونيٌّ، ويُقابِلُه: الجَعلُ الدِّينيُّ، كما في قَولِه تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103] أي: ما شَرَعَ ذلك ولا أمَرَ به، وإلَّا فهو مَخلوقٌ له، واقِعٌ بقدَرِه ومَشيئَتِه [851] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 282). .
5- قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الوَصفُ بالزَّوجِ يُؤذِنُ بمُلازمتِه لآخَرَ؛ فلذا سُمِّيَ بالزَّوجِ قَرينُ المرأةِ وقَرينةُ الرَّجُلِ، وهذه نِعمةٌ اختَصَّ بها الإنسانُ؛ إذ ألهَمَه اللهُ جَعْلَ قَرينٍ له، وجَبَله على نظامِ مَحبَّةٍ وغَيرَةٍ، لا يَسمَحانِ له بإهمالِ زَوجِه، كما تُهمِلُ العَجْماواتُ إناثَها، وتَنصَرِفُ إناثُها عن ذكورِها [852] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/218). .
6- قولُه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فيه استدلالٌ ببديعِ الصُّنعِ فِي خلقِ النَّسْلِ؛ إذ جُعِل مُقارِنًا للتَّأنُّسِ بينَ الزَّوجينِ؛ إذْ جُعِل النَّسلُ مِنهُما، ولم يجعَلْه مُفارِقًا لأحدِ الأبوَينِ أو كِلَيهما [853] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/217). .
7- قال الله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً أُطلِقَ الحَفيدُ على ابنِ الابنِ؛ لأنَّه يَكثُرُ أن يَخدُمَ جَدَّه؛ لِضَعفِ الجَدِّ بسَبَبِ الكِبَر، فأنعم اللهُ على الإنسانِ بحِفظِ سِلسلةِ نَسَبِه بسَبَبِ ضَبطِ الحَلقةِ الأولى منها، وهي كَونُ أبنائِه مِن زَوجِه، ثمَّ كَونِ أبناءِ أبنائِه مِن أزواجِهم، فانضبَطَت سِلسلةُ الأنسابِ بهذا النِّظامِ المُحكَمِ البَديعِ. وغيرُ الإنسانِ مِن الحَيوانِ لا يَشعُرُ بحَفَدتِه أصلًا، لا يَشعُرُ بالبُنُوَّةِ إلَّا أُنثَى الحيوانِ مُدَّةً قليلةً، قَريبةً مِن الإرضاعِ [854] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/218-219). !
8- كَلِمةُ (مِنْ) في قَولِ الله تعالى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ للتَّبعيضِ؛ لأنَّ كُلَّ الطَّيِّباتِ في الجنَّةِ، وما طَيِّباتُ الدُّنيا إلَّا أُنموذَجٌ منها [855] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/249). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
- قولُه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ...: فيه ابتِداءُ الجُملةِ باسْمِ الجَلالةِ، كما في قولِه تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النحل: 65] ؛ لأنَّ دلالةَ الاسْمِ العلَمِ أوضَحُ وأصرَحُ؛ فهو مُقتَضَى مَقامِ تحقيقِ الانفِرادِ بالخَلْقِ والتَّوفِّي دونَ غيرِه مِن شُرَكائِهم؛ لأنَّ المشرِكين يُقِرُّون بأنَّ اللهَ هو فاعِلُ هذه الأشياءِ. وأمَّا إعادةُ اسْمِ الجَلالَةِ هنا دونَ الإضمارِ؛ فلأنَّ مَقامَ الاستدلالِ يَقْتضي تَكريرَ اسمِ المستدَلِّ على إثباتِ صفاتِه تَصريحًا واضِحًا، ولِقَصدِ التَّنويهِ بالخبَرِ إذ افتُتِح بهذا الاسمِ. وجيء بالمسنَدِ فِعليًّا خَلَقَكُمْ؛ لإفادةِ تَخصيصِ المسنَدِ إليه بالمسنَدِ الفِعليِّ في الإثباتِ [856] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/211). .
- قولُه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ فيه خُصَّ آخِرُ العُمُرِ بالرَّذيلةِ، وإن كانت حالُ الطُّفُوليَّةِ كذلك؛ مِن حيثُ كانت هذه لا رجاءَ بعدها لإصلاحِ ما فسدَ، والطُّفُوليَّةُ حالةٌ يُنتَقَلُ منها إلى القُوَّةِ، وإدراكِ الأشياءِ [857] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/407)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/409). .
- قولُه: بَعْدَ عِلْمٍ تَنكيرُ (عِلْمٍ) هنا تنكيرُ الجنسِ، أي: لِكَيلا يَعلَمَ شَيئًا بعدَ أن كان له عِلمٌ، أي: لِيَزولَ منه قَبولُ العِلمِ [858] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/212). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ تذييلٌ؛ تنبيهًا على أنَّ المقصودَ مِن الجملةِ الدَّلالةُ على عِظَمِ قُدرةِ اللهِ وعِظَمِ عِلمِه، وقدَّم وصْفَ (العَليمِ)؛ لأنَّ القُدرَةَ تتَعلَّقُ على وَفْقِ العِلمِ، وبمِقْدارِ سَعةِ العلمِ يَكونُ عِظمُ القُدرةِ؛ فضَعيفُ القُدرةِ يَنالُه تعَبٌ مِن قوَّةِ عِلمِه؛ لأنَّ هِمَّتَه تَدْعوه إلى ما لَيس بالنَّائلِ [859] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/213). .
- وقال هنا في سورةِ (النَّحلِ): وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا، وقال في سورةِ (الحجِّ): ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] ، فاختَصَّتِ الآيةُ الَّتي في سورةِ (الحجِّ) بـ (من)، وخَلَتْ منها الآيةُ في سورةِ (النَّحلِ)، وفي ذلك مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ ووَجهُها: أنَّه حذف (من) فى قوله: بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا؛ لأَنه أَجملَ الكلامَ فى هذه السورةِ، فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ، وفصَّله فى (الحجِّ) فقال: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ إلى قوله: وَمِنكُمْ مَّنْ يُتَوَفَّى فاقتضى الإِجمالُ الحذفَ، والتفصيلُ الإِثباتَ، فجاءَ فى كلِّ سورةٍ ما اقتضاه الحالُ [860] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/285)، ويُنظر أيضًا: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 854-856)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 161-162)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/302-303)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 308). .
2- قوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
- أسنَد التَّفضيلَ في الرِّزقِ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّ أسبابَه خارِجةٌ عن إحاطةِ عُقولِ البشَرِ. وتُفيدُ وَراءَ الاستِدْلالِ مَعْنى الامْتِنانِ؛ لاقتِضائِها حُصولَ الرِّزقِ للجَميعِ؛ فجُملةُ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ مُقدِّمةٌ للدَّليلِ، ومِنَّةٌ مِن المننِ، وقد تمَّ الاستدلالُ عندَ قولِه تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بطَريقةِ الإيجازِ، وفُرِّع على هذه الجملةِ بالفاءِ على وجهِ الإدماجِ قولُه تعالى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وهو إدماجٌ جاء على وجهِ التَّمثيلِ؛ لِتِبيانِ ضَلالِ أهلِ الشِّركِ حينَ سَوَّوْا بعضَ المخلوقاتِ بالخالقِ، فأشرَكوها في الإلهيَّةِ فَسادًا في تَفكيرِهم، فمَثَّل بُطلانَ عَقيدةِ الإشراكِ باللهِ بعضَ مَخلوقاتِه بحالةِ أهلِ النِّعمةِ المرزوقينَ؛ لأنَّهم لا يَرضَون أن يُشرِكوا عَبيدَهم معَهم في فَضلِ رِزقِهم، فكيف يُسوُّون باللهِ عَبيدَه في صِفَتِه العُظْمى، وهي الإلهيَّةُ؟! ورَشاقةُ هذا الاستِدْلالِ أنَّ الحالَتَينِ المشبَّهَتينِ والمشبَّهَ بهِما حالَتا مَولًى وعَبدٍ. والغرَضُ مِن التَّمثيلِ تَشنيعُ مَقالتِهم واستِحالةُ صِدقِها بحسَبِ العُرفِ، ثمَّ زيادةُ التَّشنيعِ بأنَّهم رضُوا للهِ ما لا يَرضَونه لأنفُسِهم. وقَرينةُ التَّمثيلِ والمقصِدُ منه دَلالةُ المقامِ [861] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/214- 215). .
- قولُه: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ في إيثارِ الجملةِ الاسميَّةِ: دَلالةٌ على استِمْرارِهم على عدَمِ الرَّدِّ [862] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/127). .
- والفاءُ في قولِه: فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ؛ للدَّلالةِ على تَرتيبِ التَّساوي على الرَّدِّ، أي: لا يَرُدُّونه عليهم ردًّا مُستتبِعًا للتَّساوي، وإنَّما يَرُدُّون عليهم مِنه شيئًا يسيرًا [863] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/127). .
- وفُرِّعَت جملةُ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ على جُملةِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ، أي: لا يُشاطِرون عَبيدَهم رِزقَهم فيَستَوُوا فيه، أي: لا يقَعُ ذلك فيقَعَ هذا؛ فمَوقِعُ هذه الجملةِ الاسميَّةِ شَبيهٌ بمَوقِعِ الفعلِ بعدَ فاءِ السَّببيَّةِ في جوابِ النَّفيِ [864] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/215- 216). .
- وفي قولِه: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ عُدِّي فِعلُ يَجْحَدُونَ بالباءِ؛ لِتَضَمُّنِه مَعنى (يَكْفُرون)، وتَكونُ الباءُ لِتَوكيدِ تَعلُّقِ الفعلِ بالمفعولِ، كقولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ [المائدة: 6] . وتقديمُ (بنِعْمةِ اللهِ) على مُتعلَّقِه وهو يَجْحَدُونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ [865] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/217). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (20/244). .
3- قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
- قولُه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فيه وضعُ الظَّاهرِ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ موضِعَ المضمَرِ (مِنهنَّ)؛ للإيذانِ بأنَّ المرادَ: جَعَلَ لكلٍّ منكم مِن زوجِه لا مِن زوجِ غيرِه [866] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/128). .
- قولُه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فيه تأخيرُ المنصوبِ في الموضِعَينِ (أزواجًا - بَنينَ) عن المجرورِ (مِنْ أَنْفُسِكُمْ - مِنْ أَزْواجِكُمْ)؛ للتَّشويقِ وللاهتمامِ. وتَقديمُ المجرورِ باللَّامِ على المجرورِ بـ (مِن)؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بعَودِ مَنفَعةِ الجَعْلِ إليهِم، إمدادًا للتَّشويقِ، وتَقْويةً له [867] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/128). .
- قولُه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ استِفهامُ تَوبيخٍ على إيمانِهم بالباطِلِ [868] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/234)، ((تفسير أبي السعود)) (5/128). .
- وفيه تقديمُ الصِّلةِ أَفَبِالْبَاطِلِ على الفعلِ يُؤْمِنُونَ؛ للاهتِمامِ، أو لإيهامِ الاختِصاصِ؛ مُبالَغةً، أو لِرِعايةِ الفَواصِلِ [869] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/234)، ((تفسير أبي السعود)) (5/128). .
- وقولُه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ فيه الْتِفاتٌ عن الخطابِ السَّابقِ إلى الغَيبةِ؛ للإيذانِ بأنَّ حالَهم استَوْجَبت الإعراضَ عنهم، وصَرَفَ الخِطابَ إلى غيرِهم مِن السَّامِعينَ؛ تَعجُّبًا لهم ممَّا فعَلوه؛ فإنَّه لَمَّا كان المقصودُ مِن الاستدلالِ المشرِكين، فكانوا مَوضِعَ التَّوبيخِ: ناسَب أن يُعرِضَ عن خِطابِهم، ويَنالَهم المقصودُ مِن التَّوبيخِ بالتَّعريضِ [870] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/234)، ((تفسير أبي السعود)) (5/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/216، 220). . وعلى قراءةِ تُؤْمِنُونَ بالتَّاءِ؛ فهو خِطابُ إنكارٍ وتقريعٍ لهم، والجملةُ بعدَ ذلك مُجرَّدُ إخبارٍ عنهم [871] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/565). .
- وقولُه تعالى: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ عَطفٌ على جُملةِ التَّوبيخِ، وهو توبيخٌ مُتوجِّهٌ على ما تَضمَّنَه قولُه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا إلى قولِه: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مِن الامْتِنانِ بذَلك الخَلْقِ والرِّزقِ بعدَ كونِهما دَليلًا على انفرادِ اللهِ بالإلهيَّةِ [872] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/220). .
- وضميرُ الغَيبةِ هُمْ في قولِه: هُمْ يَكْفُرُونَ ضميرُ فَصلٍ؛ لتأكيدِ الحُكمِ بكُفرانِهم النِّعمةَ؛ لأنَّ كُفْرانَ النِّعمةِ أخْفَى مِن الإيمانِ بالباطلِ؛ لأنَّ الكُفْرانَ يتَعلَّقُ بحالاتِ القلبِ، فاجتَمَع في هذه الجملةِ تَأكيدانِ: التَّأكيدُ الَّذي أفادَه التَّقديمُ، والتَّأكيدُ الَّذي أفادَه ضميرُ الفصلِ [873] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/220). .
- والإتيانُ بالمضارِعِ يُؤْمِنُونَ ويَكْفُرُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والتَّكريرِ [874] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/221). .
- وفي قولِه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال في سورةِ (العنكبوتِ): أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67] ؛ فزِيدَ في الآيةِ مِن سورةِ (النَّحلِ) هُمْ، وخَلَتْ مِنها الآيةُ مِن سورةِ (العنكَبوتِ)؛ ووجهُ ذلك: أَنَّ فى هذه السورةِ اتَّصل الخطابُ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ثم عاد إلى الغَيبةِ فقال: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ فلا بدَّ مِن تقييده بهم؛ لئلا يلتبسَ الغَيْبَةُ بالخطابِ والتاءُ بالياءِ، وما فى العنكبوت اتَّصل بآياتٍ استمرَّت على الغَيبةِ، فلم يحتجْ إلى تقييدِه بالضميرِ [875] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/286). ويُنظر أيضًا: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 857-858)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:162)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/303-304)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 309). .