موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (189-193)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غريب الكلمات:

لِيَسْكُنَ: أي: ليأوِيَ. وأصلُ (سكن): يدلُّ على خلافِ الاضْطرابِ والحَركةِ .
تَغَشَّاهَا: أي: جامَعَها، وأصلُ (غشي): يدلُّ على تغطيةِ شَيءٍ بِشَيءٍ .
حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا: وذلك أوَّل الحَمْلِ، لا تجِدُ المرأةُ له ألَمًا، والخَفِيفُ: بإزاءِ الثَّقيلِ .
فَمَرَّتْ بِهِ: أي: استمَرَّت به، وقعَدَت وقامَت، ولم يُثقِلْها الحَملُ .
أَثْقَلَتْ: أَيْ: صارت ذات ثِقلٍ بكِبَرِ الولَدِ في بَطنِها، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ .

المعنى الإجمالي:

اللهُ الذي خَلَقكم- أيُّها النَّاسُ- مِن نَفسٍ واحدةٍ: هي آدَمُ، وخلقَ مِن آدَمَ زَوجَه حَوَّاءَ- عليهما السَّلامُ؛ ليأوِيَ إليها، فلما جامَعَها حمَلَت في رَحِمِها حملًا خفيفًا عليها، وذلك في أوَّلِه، فاستمَرَّتْ بذلك الحَملِ الخفيفِ تقومُ وتقعدُ مِن دُونِ أن يُثقِلَها الحَملُ، فلمَّا كبِرَ الجنينُ في بَطنِها وصار حَمْلُها ثقيلًا، دعا آدمُ وحوَّاءُ ربَّهما لَئِن آتيتَنا ولدًا سَوِيَّ الخِلقةِ لنكوننَّ ممَّن يشكُرُ نِعمَك، فلما آتاهما ما طلبَا جعَل أولادُهما لله شُركاءَ، فتنَزَّه جل وعلا عمَّا يُشركونَ.
أيعبُدُ المُشركونَ مع اللهِ ما لا يقدِرُ على خَلْقِ شَيءٍ، وهم مخلوقونَ مَصنوعونَ، ولا يستطيعونَ نصْرَ مَن يعبُدُهم، ولا أن ينصُروا أنفُسَهم ممَّن أراد بهم سُوءًا.
وإن تدْعُوا- أيُّها المُشركونَ- هذه الأصنامَ إلى طريقِ الحَقِّ، لا يستجيبوا لكم؛ لأنَّها جماداتٌ لا تعقِلُ، ولا تسمَعُ الدُّعاءَ، وسواءٌ عليكم أدعَوْتُموهم أم صَمَتُّم عن ذلك، فإنَّها لا تتَّبِعُكم ولا تسمَعُكم، فكيف تعبدونَ مَن هذه صِفَتُه.

تفسير الآيات:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تقدَّمَ سؤالُ الكُفَّارِ عن السَّاعةِ ووَقتِها، وكان فيهم من لا يُؤمِنُ بالبعثِ، ذكَرَ ابتداءَ خَلقِ الإنسانِ وإنشائِه؛ تنبيهًا على أنَّ الإعادةَ مُمكِنةٌ، كما أنَّ الإنشاءَ كان مُمكِنًا، وإذا كان إبرازُه مِن العَدَمِ الصِّرْفِ إلى الوجودِ واقعًا بالفِعلِ، فإعادَتُه أحرى أن تكونَ واقعةً بالفِعلِ .
وأيضًا لَمَّا أمرَ تعالى بالنَّظَرِ في الملكوتِ الدَّالِّ على الوحدانيَّة، وقسَّمَ خَلْقَه إلى مؤمنٍ وكافرٍ، ونفى قُدرةَ أحدٍ مِن خَلْقِه على نَفعِ نَفسِه أو ضَرِّها؛ رجع إلى تقريرِ التَّوحيدِ ، فقال تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
أي: اللهُ هو الذي خَلَقكم- أيُّها النَّاسُ- من آدَمَ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأنعام: 98] .
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
أي: وخلقَ اللهُ- عزَّ وجلَّ- حوَّاءَ مِن آدَمَ، عليهما السَّلامُ .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1] .
وقال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر: 6] .
وعن أبي هُريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اسْتَوْصوا بالنِّساءِ، فإنَّ المرأةَ خُلقت من ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلعِ أعلاه، فإن ذهبْتَ تُقيمه كسرْتَه، وإن تركتَه لم يزلْ أعوجَ، فاستوصوا بالنِّساءِ )) .
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا
أي: خلَقَ اللهُ حوَّاءَ؛ لأجْلِ أن يأوِيَ إليها آدَمُ، ليقضِيَ وطَرَه ولَذَّتَه، ويأنَسَ بها، ويطمَئِنَّ إليها .
كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .
فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا
أي: فلمَّا جامَعَها حَمَلت في رَحِمِها حملًا يخِفُّ عليها، وذلك في أوَّلِه .
فَمَرَّتْ بِهِ
أي: فاستمَرَّتْ بذلك الحَملِ الخَفيفِ تقومُ وتقعُدُ، مِن غَيرِ أن يُثقِلَها الحَملُ .
فَلَمَّا أَثْقَلَتْ
أي: فلما صار حَملُها ثقيلًا؛ لِكِبَر الجَنينِ في بطنِها، ودُنُوِّ وِلادَتِها .
دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
أي: نادى آدَمُ وحوَّاءُ إلهَهما وربَّهما قائِلَينِ: نُقسِمُ بك- يا ربَّنا- لئِنْ رَزَقْتَنا ولدًا سَوِيَّ الخِلقةِ صحيحًا لا عيبَ فيه لنكونَنَّ ممَّن يشكُرُك على نِعَمِك .
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا
أي: فلمَّا رزَقَهما اللهُ ولدًا صالحًا كمَا سألاه، جعَلَ أهلُ الكُفرِ مِن بني آدمَ لله شُرَكاءَ فيما رزَقَهم ، سبحانَه .
فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
أي: فتنزَّه اللهُ وتعاظَمَ عن شِركِ الذين يُشرِكونَ باللهِ، بأقوالِهم أو أفعالِهم !!
كما قال تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .
وقال سبحانه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 43] .
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا
أي: أيعبُدُ المُشركونَ مع اللهِ ما لا يقدِرُ على خلْقِ شَيءٍ ؟!
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] .
وَهُمْ يُخْلَقُونَ
أي: وهؤلاءِ الذينَ يعبدونَهم مع اللهِ- مِن الأصنامِ وغَيرِها- مخلوقونَ مَصنوعونَ .
كما قال الله تعالى حاكيًا قولَ إبراهيمَ الخليلِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95-96] .
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا
أي: ولا يستطيعُ هؤلاءِ الذين يعبدونَهم مع اللهِ، أن ينصرُوا عابِدِيهم .
كما قال تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء: 92-93] .
وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
أي: ولا هؤلاءِ المعبودونَ مع اللهِ، يستطيعونَ أن ينصُروا أنفُسَهم ممَّن أرادَهم بسُوءٍ، فكيف يكونونَ آلهةً، وهم لا يملِكونَ لأنفُسِهم جلبَ نفْعٍ، ولا دفْعَ ضُرٍّ؟! ومَن عجَز عن نَصرِ نَفسِه فهو عن نَصرِ غَيرِه أعجَزُ .
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أثبتَ اللهُ تعالى بالآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّه لا قُدرةَ لهذه الأصنامِ على أمْرٍ مِن الأمورِ؛ بيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّه لا عِلمَ لها بشيءٍ مِن الأشياءِ ، فقال:
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ
أي: وإن تَدْعُوا- أيُّها المُشركون- هذه الأصنامَ إلى طَريقِ الحقِّ، لا يستجيبوا لكم؛ لأنَّها جماداتٌ لا تعقِلُ، ولا تسمَعُ دعاءَ مَن دعاها .
كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا [الأعراف: 198] .
سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ
أي: سواءٌ عليكم- أيُّها المُشركونَ- أدعوتُم هذه الأصنامَ، أم أنتم ساكتونَ عن دُعائِها؛ فإنَّها لا تتَّبِعُكم ولا تسمَعُكم، فكيف تعبدونَ مَن هذه صِفتُه وحالُه ؟!

الفوائد التربوية:

قولُه تعالى: تَغَشَّاهَا أي: أتاها، كغَشِيَها، ويزيدُ ما تُعطيه صيغةُ التَّفعُّل مِن جُهدٍ، وهو كنايةٌ نزيهةٌ عن أداءِ وظيفةِ الزَّوجيَّة، تشيرُ إلى أنَّ مُقتضى الفِطرةِ وأدبَ الشَّريعةِ فيها، السَّترُ .
إيتاءُ الصَّالِحِ مِن الوَلدِ نِعمةٌ مِن اللهِ على والِدَيه، فينبغي الشُّكرُ عليها؛ إذ هي مِن أجَلِّ النِّعَم؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فأقسَمَا على أنَّهما يكونانِ مِن الشَّاكرينَ إنْ آتاهما صالحًا .

الفوائد العلمية واللطائف:

عِلَّةُ سُكونِ الرَّجُلِ إلى امرأتِه كَونُها مِن جِنسِه وجوهَرِه؛ قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فالجِنسُ إلى الجِنسِ أميَلُ، وبه آنَسُ .
قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ احتُجَّ به على أنَّ العَبدَ غَيرُ مُوجِدٍ ولا خالقٍ لأفعالِه، خلافًا للمعتزلةِ القائلينَ بخلقِ الإنسانِ أفعالَ نفسِه؛ وذلك لأنَّ الله تعالى طعنَ في إلهيَّةِ الأجسامِ؛ بسببِ أنَّها لا تخلقُ شَيئًا، وهذا يقتضي أنَّ كلَّ مَن كان خالقًا كان إلهًا، فلو كان العبدُ خالقًا لأفعالِ نَفسِه، كان إلهًا، ولَمَّا كان ذلك باطلًا، عَلِمْنا أنَّ العبدَ غَيرُ خالقٍ لأفعالِ نَفسِه .
قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أشار إلى الأصنامِ في يُخْلَقُونَ بضميرِ العُقَلاءِ مِن قَبيلِ الحكايةِ؛ لاعتقادِ المُشركينَ فيها ما يعتَقِدونَه في العُقَلاءِ، أو لأنَّهم مُختَلِطونَ بمَن عُبِدَ مِن العقلاءِ؛ كالمَسيحِ وعُزيرٍ .
قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ لَمَّا كان المصنوعُ لا يكونُ صانعًا، اكتفى بالبناءِ للمَفعولِ، فقال: يُخْلَقُونَ ، والتعبيرُ بالفِعلِ المُضارعِ يُخْلَقُونَ؛ لِتصويرِ حُدوثِ خَلْقِهم، وكونِ مِثلِه ممَّا يتجَدَّدُ فيهم وفي أمثالِهم مِن المُشركين، وهذا أسوأُ فضائِحِهم في الشِّركِ .
قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ لعلَّه عبَّرَ بصيغةِ العاقِلِ عن الأصنامِ؛ إشارةً إلى أنَّهم لو كانوا يَعقِلونَ، وكانوا بهذه الصِّفاتِ الخَسيسةِ؛ ما أهَّلُوهم لِأنْ يكونوا أحبابَهم، فضلًا عن أن يجعَلوهم أربابَهم .
قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ الظَّاهِرُ أنَّ تَخصيصَ النَّصرِ مِن بين الأعمالِ التي يتخيَّلونَ أن تقومَ بها الأصنامُ؛ مقصودٌ منه تنبيهُ المُشركينَ على انتفاءِ مَقدرةِ الأصنامِ على نَفعِهم؛ إذ كان النَّصرُ أشَدَّ مرغوبٍ لهم، لأنَّ العَربَ كانوا أهلَ غاراتٍ وقتالٍ وَتِراتٍ، فالانتصارُ مِن أهَمِّ الأمورِ لَدَيهم، وأنَّ اللهَ أعلَمَ المسلمينَ بذلك؛ تعريضًا بالبشارةِ بأنَّ المُشركينَ سيُغلبونَ .
قَولُ اللهِ تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ جُعِلَ الأمرانِ سواءً على المُخاطَبينَ، ولم يُجعَلا سواءً على المدْعُوِّينَ: فلم يقُل (سواءٌ عليهم)، وإن كان ذلك أيضًا سواءً عليهم؛ لأنَّ المقصودَ مِن الكلامِ هو تأيِيسُ المُخاطبينَ مِن استجابةِ المَدعُوِّينَ إلى ما يَدعُونَهم إليه، لا الإخبارُ، وإن كان المعْنَيانِ مُتَلازِمَينِ .

بلاغة الآيات:

قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ... جملةٌ مُستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، عاد بها الكلامُ إلى تقريرِ دليلِ التَّوحيدِ، وإبطالِ الشِّركِ .
وإيقاعُ الموصولِ خبَرًا في قَولِه: هُوَ الَّذِي لِتَفخيمِ شأنِ المبتدأِ، أي: هو ذلك العظيمُ الشَّأنِ الذي خلقَكم جميعًا وحدَه مِن غَيرِ أن يكونَ لِغيرِه مدخلٌ في ذلك بوجهٍ مِن الوجوهِ .
قولُه: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا تعليلٌ لِما أفادَتْه (مِن) التبعيضيَّة، أي: جعَلَ مِن نوعِ الرَّجُلِ زَوجَه ليألَفَها، ولا يجفُوَ قُربَها، ففي ذلك منَّةُ الإيناسِ بها، وكثرةُ ممارَستِها؛ لينساقَ إلى غِشْيانِها .
قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا التغشِّي: كنايةٌ عن الجِماعِ، وصِيغَت هذه الكنايةُ بالفِعلِ (تغشَّى) الدَّالِّ على التكَلُّفِ- لأنَّه بزِنةِ تفعَّلَ- لإفادةِ قُوَّةِ التمَكُّنِ مِن ذلك؛ لأنَّ التكَلُّفَ يقتضي الرَّغبةَ .
وقد سلَكَ في وصفِ تَكوينِ النَّسلِ مَسلَكَ الإطنابِ؛ لِما فيه من التَّذكيرِ بتلك الأطوارِ الدَّالةِ على دقيقِ حِكمةِ اللهِ وقُدرتِه، وبِلُطفِه بالإنسانِ .
وإجراءُ صِفةِ رَبَّهُمَا المؤذِنةِ بالرِّفقِ والإيجادِ، في قَولِه: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا؛ للإشارةِ إلى استحضارِ الأبوَينِ هذا الوَصفَ عند دُعائِهما اللهَ، أي: يذكُرُ أنَّه باللَّفظِ أو ما يُفيدُ مَفادَه
قوله: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا مرادٌ منه مع الإخبارِ التَّعجيبُ مِن سَفَهِ آرائِهم؛ إذ لا يَجعَلُ رشيدُ الرَّأيِ شريكًا لأحدٍ في مُلكِه وصُنعِه بدونِ حَقٍّ؛ فلذلك عُرِّفَ المشروكُ فيه بالموصوليَّةِ، فقيل فِيمَا آتَاهُمَا دونَ الإضمارِ، بأن يقال: (جعَلا له شُركاءَ فيه)؛ لِما تؤذِنُ به الصِّلةُ مِن فَسادِ ذلك الجَعلِ، وظُلْمِ جاعِلِه، وعدمِ استحقاقِ المَجعولِ شَريكًا لِما جُعِلَ له، وكُفرانِ نِعمةِ ذلك الجاعِلِ؛ إذ شكَرَ لِمَن لم يُعطِه، وكفَرَ مَن أعطاه، وإخلافِ الوَعدِ المؤَكَّدِ. وجعْلُ الموصولِ (ما) دون (مَن) باعتبارِ أنَّه عطيَّةٌ، أو لأنَّ حالةَ الطُّفولةِ أشبَهُ بغَيرِ العاقِلِ .
قوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتوبيخِ المُشركينَ، واستقباحِ إشراكِهم على الإطلاقِ، وإبطالِه بالكُليَّةِ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ والإنكارِ، وصيغةُ المُضارِعِ في (يُشْرِكُونَ) دالَّةٌ على تجدُّدِ هذا الإشراكِ منهم. ونفيُ المضارعِ في قَولِه: مَا لَا يَخْلُقُ للدَّلالةِ على تجدُّدِ نفيِ الخالقيَّةِ عنهم .
و (ما) في قَولِه تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ لِما لا يَعقِلُ، ولَفظُها مفردٌ، وهو مِن صِيَغِ العُمومِ، فأُفرِدَ الضَّميرُ في يَخْلُقُ مراعاةً لِلَّفظِ، ثمَّ جُمِعَ في يُخْلَقُونَ مُراعاةً للمَعنى .
وتقديمُ المَفعولِ في وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ للاهتمامِ بنَفيِ هذا النَّصرِ عنهم؛ لأنَّه أدَلُّ على عجزِ تلك الآلهةِ؛ لأنَّ مَن يُقصِّرُ في نَصرِ غَيرِه لا يُقصِّرُ في نَصرِ نَفسِه لو قَدَر .
قولُه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ
الخطابُ للمُشركينَ، بطريقِ الالتفاتِ المُنبِئِ عَن مَزيدِ الاعتناءِ بأمْرِ التَّوبيخِ والتَّبكيتِ .
قوله: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَه، ومُبَيِّنٌ لكيفيَّةِ عدمِ الاتِّباعِ؛ فهو مؤكِّدُ لجُملةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ فلذلك فُصِلَ .
وعَطْفُ الجُملةِ الاسميَّةِ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ على الفِعليَّةِ أَدَعَوْتُمُوهُمْ لفائدةٍ وحِكمةٍ، وهي أنَّ صيغةَ الفِعلِ مُشعِرةٌ بالتجَدُّدِ والحُدوثِ حالًا بعد حالٍ، وصيغةُ الاسمِ مُشعِرةٌ بالدَّوامِ والثَّباتِ والاستمرارِ، فهؤلاءِ المُشركونَ كانوا إذا وقَعوا في مُهِمٍّ وفي معضلةٍ تضرَّعوا إلى تلك الأصنامِ، وإذا لم تَحدُثْ تلك الواقعةُ بَقُوا ساكِتينَ صامِتينَ، فقِيل لهم: لا فرقَ بينَ إحداثِكم دعاءَهم، وبينَ أن تستمرُّوا على صَمتِكم وسُكوتِكم .