موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (83-98)

ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ

غَريبُ الكَلِماتِ:

شِيعَتِهِ: أي: أتْباعِه وأهلِ مِلَّتِه ودِينِه ومِنهاجِه، مأخوذٌ مِن الشَّياعِ: وهو الانتِشارُ والتَّقْويةُ، وأصلُ (شيع): يَدُلُّ على مُعاضَدةٍ [570] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 329)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 293)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/235)، ((البسيط)) للواحدي (19/68)، ((المفردات)) للراغب (ص: 470)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 327). وقيل: مأخوذٌ مِن الشِّياعِ، وهو الحطبُ الصِّغارُ الَّذِي تُشعَلُ به النَّارُ، ويُعينُ الحطبَ الكبارَ على اتِّقادِ النَّارِ. يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 293). .
أَئِفْكًا: أي: كَذِبًا، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ وصَرفِه عن جِهتِه [571] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 337)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 152)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 332)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 430). .
سَقِيمٌ: أي: وَجِعٌ مَريضٌ، وأصلُ (سقم): يدُلُّ على مَرَضٍ [572] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/84)، ((المفردات)) للراغب (ص: 415)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 321)، ((تفسير القرطبي)) (15/131)، ((تفسير ابن كثير)) (7/40). .
فَرَاغَ: أي: مال في خُفيةٍ، وأصلُ (روغ): يدُلُّ على مَيلٍ [573] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((تفسير ابن جرير)) (19/570)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/460)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 321)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 352). .
يَزِفُّونَ: أي: يُسرِعونَ، وأصلُ (زفف): يدُلُّ على خِفَّةٍ في كُلِّ شَيءٍ [574] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((تفسير ابن جرير)) (19/574)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 521)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/4)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 321)، ((تفسير ابن كثير)) (7/26)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 352). .
تَنْحِتُونَ: أي: تَصنَعونَ، والنَّحتُ: النَّجْرُ والبَرْيُ، وأصل (نحت): يدُلُّ على نَجرِ شَيءٍ وتَسويتِه [575] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/404)، ((تفسير القرطبي)) (10/53)، ((تفسير ابن كثير)) (7/26). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ
قوله: أَئِفْكًا: في نصْبِه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنه مفعولٌ مِن أجْلِه، قُدِّمَ على المفعولِ به آَلِهَةً؛ اهتمامًا، أي: أتُريدون آلهةً دونَ اللَّهِ إفكًا؟! الثَّاني: أن يكونَ مفعولًا به بـ تُرِيدُونَ، ويكونَ آَلِهَةً بدَلًا منه؛ جعَلَ الآلهةَ نفْسَ الإفكِ مُبالَغةً، فأبدلَها منه. الثَّالثُ: أنَّه حالٌ مِن فاعلِ تُرِيدُونَ، أي: أتُريدونَ آلهةً آفِكينَ [576] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/114)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1091)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/319). ؟!

المعنى الإجماليُّ:

يَحكي الله تعالى جانبًا مِن قصَّةِ نبيِّه إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فيقولُ: وإنَّ مِن أتْباعِ نُوحٍ وعلى طريقتِه ومِنهاجِه لَإبراهيمَ -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ- إذ جاء إبراهيمُ ربَّه بقَلبٍ مُخلِصٍ، سَليمٍ مِنَ الشِّركِ؛ إذ قال إبراهيمُ لأبيه وقَومِه: ما هذا الَّذي تَعبُدونَه مِن دونِ اللهِ، أتُريدونَ صَرْفَ الحَقِّ عن وَجهِه الصَّحيحِ باتِّخاذِكم مَعبودًا مِن دونِ اللهِ؟! فما ظنُّكم برَبِّكم رَبِّ العالَمينَ؟!
فنَظَر إبراهيمُ نَظرةً في النُّجومِ إيهامًا لهم أنَّه يَجري على عادتِهم بالنَّظَرِ في النُّجومِ، واعتقادِ تأثيرِها، ثمَّ قال لِقَومِه بعدَ أن نظَرَ في النُّجومِ: إنِّي مريضٌ! فانصرَفَ قَومُه عنه وتَرَكوه، فتوجَّهَ إلى أصنامِهم في سُرعةٍ وخُفيةٍ، فقال لها مُخاطِبًا: ألَا تأكُلونَ هذا الطَّعامَ الموضوعَ لكم، ما لَكم لا تَنطِقونَ؟!
فأقْبَلَ على الأصنامِ بسُرعةٍ يَضرِبُها بقُوَّةٍ بيدِه اليمنَى، فأقبَلَ قومُ إبراهيمَ إليه مُسرِعينَ، فقال لهم إبراهيمُ: أتَعْبُدونَ أشياءَ تَنحِتونَها بأيديكم، واللهُ خلَقَكم وخلَقَ الَّذي تَعمَلونَه مِن أصنامِكم، فكيف تَعبُدونَها وهي مخلوقةٌ؟! فقال قَومُ إبراهيمَ: ابنُوا له بُنيانًا عاليًا، وأوقِدوا نارًا شَديدةً، فارمُوه فيها؛ جزاءً على ما فَعَل بآلهتِكم. فأرادوا أن يَمكُروا به ويُحرِقوه بالنَّارِ، فأنقَذَه اللهُ تعالى منها، وجعَلَهم الأذَلِّينَ المغلوبينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83).
أي: وإنَّ مِن أتْباعِ نُوحٍ وأهلِ دينِه، وعلى طريقتِه ومِنهاجِه: إبراهيمَ -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ [577] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/563)، ((تفسير القرطبي)) (15/91)، ((تفسير ابن كثير)) (7/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/136). قال الرسعني: (عامَّةُ المفسِّرينَ ذهَبوا إلى أنَّ الضَّميرَ في شِيعَتِهِ يرجِعُ إلى نوحٍ). ((تفسير الرسعني)) (6/397). .
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84).
أي: حينَ جاء إبراهيمُ ربَّه -الَّذي أحسَنَ تَربيتَه- [578] قيل: يحتمِلُ مجيئُه إلى رَبِّه وجهَينِ؛ أحدُهما: عندَ دعائِه إلى توحيدِه وطاعتِه. الثَّاني: عندَ إلقائِه في النَّارِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/91). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 192). قال ابن جزي: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ عبارةٌ عن إخلاصِه وإقبالِه بكلِّيتِه على الله تعالى، وليس المرادُ المجيءُ بالجسدِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/193). بقَلبٍ مُخلِصٍ لله، سَليمٍ مِنَ الشِّركِ والشَّكِّ، والشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ، ومَساوي الأخلاقِ؛ كالغِلِّ، والحِقدِ، والحَسَدِ [579] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/565)، ((تفسير ابن عطية)) (4/478)، ((تفسير الرازي)) (26/340)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/137). قال الزَّمخشري: (فإنْ قُلتَ: بمَ تعلَّق الظَّرفُ؟ قُلتُ: بما في الشِّيعةِ مِن معنى المُشايَعةِ، يعني: وإنَّ مِمَّن شايَعَه على دينِه وتَقْواه حينَ جاء رَبَّه بقَلبٍ سليمٍ: لَإبراهيمَ. أو بمحذوفٍ، وهو: اذكُرْ). ((تفسير الزمخشري)) (4/48). وممَّن اختار نحوَ القولِ الأوَّلِ: الرَّازي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/340)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/252). وممَّن رجَّح القولَ الثَّانيَ -وهو أنَّ إِذْ مُتعلِّقةٌ بفِعلٍ محذوفٍ تقديرُه: اذكُرْ-: الشوكانيُّ، والألوسي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/460)، ((تفسير الألوسي)) (12/97)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 191، 192). .
كما قال اللهُ تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ أنَّ إبراهيمَ جاء رَبَّه بقَلبٍ سَليمٍ؛ ذكَرَ أنَّ مِن جُملةِ آثارِ تلك السَّلامةِ: أنْ دعا أباه وقَومَه إلى التَّوحيدِ [580] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/341). ، فقال تعالى:
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85).
أي: حينَ قال إبراهيمُ لأبيه وقَومِه الَّذين يَعبُدونَ الأصنامَ: ما هذا الَّذي أنتم تُواظِبونَ على عبادتِه [581] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/565)، ((البسيط)) للواحدي (19/69)، ((تفسير ابن كثير)) (7/24)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/252)، ((تفسير الشوكاني)) (4/460). قال الشَّوكاني: (قَولُه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ بدَلٌ مِن الجُملةِ الأُولى، أو ظرفٌ لـ سَلِيمٍ، أو ظرفٌ لـ جَاءَ، والمعنى: وقْتَ قال لأبيه آزَرَ وقَومِه مِن الكُفَّارِ: أيَّ شَيءٍ تَعبُدونَ؟). ((تفسير الشوكاني)) (4/460). ؟!
كما قال اللهُ تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأنبياء: 52 - 54].
وقال عزَّ وجلَّ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 70 - 77] .
أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86).
أي: أتُريدونَ صَرْفَ الحَقِّ عن وَجهِه الصَّحيحِ، باتِّخاذِكم مَعبودًا مِن دونِ اللهِ، الَّذي لا يَستَحِقُّ العبادةَ أحَدٌ سِواه [582] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/565)، ((تفسير السمرقندي)) (3/145)، ((تفسير ابن عطية)) (4/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 194، 195). ؟!
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74] .
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87).
أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: فما الَّذي تَظُنُّونَ أنَّ اللهَ فاعِلٌ بكم إذا لَقِيتُموه وقد عَبدتُم غَيرَه؟! وما الَّذي ظَننتُم به مِنَ السُّوءِ والنَّقصِ حتَّى أحوَجَكم ذلك إلى أنْ تجعَلوا له شُرَكاءَ مِن خَلْقِه [583] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/566)، ((تفسير القرطبي)) (15/92)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/325)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 138)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/62)، ((تفسير ابن كثير)) (7/24)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/140)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 195، 196). ؟!
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لَمَّا وَبَّخ قَومَه على عبادةِ غيرِ اللهِ، أراد أن يُريَهم أنَّ أصنامَهم لا تَنفَعُ ولا تَضُرُّ؛ فعَهِدَ إلى ما يَجعَلُه مُنفَرِدًا بها حتَّى يَكسِرَها، ويُبَيِّنَ لهم حالَها وعَجْزَها [584] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/110). .
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88).
أي: فنَظَر إبراهيمُ عليه السَّلامُ نَظرةً في النُّجومِ؛ موهِمًا لقومِه -وكانوا أهلَ تَنجيمٍ- أنَّه يَعتمِدُ عليها، ومُظهِرًا لهم أنَّه يَستدِلُّ بها على شَيءٍ [585] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 201)، ((الوسيط)) للواحدي (3/528)، ((تفسير الزمخشري)) (4/49)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/185)، ((تفسير ابن كثير)) (7/24)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 593)، ((تفسير الألوسي)) (12/98)، ((تفسير القاسمي)) (8/215). قال ابن الجوزي: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فيه قولانِ؛ أحدُهما: أنَّه نظَرَ في عِلمِ النُّجومِ... والثَّاني: أنَّه نظَرَ إلى النُّجومِ، لا في عِلْمِها). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/545). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ قُتَيْبةَ، وقال: (قولُه: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ولم يَقُلْ: إلى النُّجومِ. وهذا كما يقالُ: فُلانٌ يَنظُرُ في النُّجومِ، إذا كان يَعرِفُ حسابَها، وفُلانٌ يَنظُرُ في الفقهِ والحسابِ والنَّحوِ. وإنَّما أراد بالنَّظرِ فيها: أن يُوهِمَهم أنَّه يَعلَمُ منها ما يَعلَمون، ويَتعرَّفُ في الأمورِ مِن حيث يَتعرَّفون، وذلك أبلَغُ في المِحالِ، وألْطَفُ في المَكِيدةِ). ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 201، 202). وقال الزمخشري: (فِي النُّجُومِ: في علمِ النُّجومِ، أو في كتابِها، أو في أحكامِها). ((تفسير الزمخشري)) (4/49). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ أي: أنَّه نظَر إلى النجومِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، وابن الجوزي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/611)، ((تفسير ابن جرير)) (19/566)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/308)، ((البسيط)) للواحدي (19/71)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 321)، ((تفسير العليمي)) (5/527). .
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89).
أي: فقال إبراهيمُ لِقَومِه بعدَ أنْ نَظَر نَظرةً في النُّجومِ: إنِّي مريضٌ؛ لِيَترُكوه وَحْدَه، فيَتِمَّ له تنفيذُ ما أراد مِن الكَيدِ لأصنامِهم [586] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 202)، ((الوسيط)) للواحدي (3/528)، ((تفسير القرطبي)) (15/93)، ((تفسير الألوسي)) (12/98)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/142، 143). اختُلِف في قولِه: إِنِّي سَقِيمٌ؛ فقيل: أي: سأسْقَمُ. وممَّن اختاره: ابنُ قُتَيبةَ، والسمرقندي، والواحدي، وابن الجوزي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 202)، ((تفسير السمرقندي)) (3/145)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 911)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 321)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 593). قال القرطبي: (فالمعنى: إنِّي سَقيمٌ فيما أستقبِلُ، فتَوَهَّموا هم أنَّه سقيمٌ السَّاعةَ، وهذا مِن مَعاريضِ الكلامِ). ((تفسير القرطبي)) (15/93). واسمُ الفاعلِ يُستعمَلُ بمعنَى المُستقبَلِ كثيرًا، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر: 30] أي: ستَمُوتُ، ولقد صَدَق عليه السَّلامُ؛ فإنَّ كُلَّ إنسانٍ لا بُدَّ أن يَسقَمَ. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/573)، ((فتح الباري)) لابن حجر (6/391). وقيل: أراد أنَّه سَقيمُ القَلبِ لِكُفرِهم، فظهَرَ لهم مِن كلامِه أنَّه أراد سقمًا بالجسدِ حاضرًا، فهذا مِن المَعاريضِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/478). قال البِقاعي: (أوْهَمَ أنَّ مُرادَه أنَّه مريضُ الجسَدِ، وأراد أنَّه مريضُ القلبِ بسببِ آلهتِهم، مُقسَّمُ الفِكرِ في أمْرِهم؛ لأنَّه يريدُ أمرًا عظيمًا، وهو كَسْرُها). ((نظم الدرر)) (16/254). قال ابنُ جُزَي بعدَ ذِكرِ هذَينِ القولَينِ -أي: أنَّه سقيمٌ فيما يُستقبَلُ، أو أنَّه سقيمُ النَّفْسِ-: (وهذان التَّأويلانِ أَوْلى؛ لأنَّ نَفْيَ الكذِبِ بالجملةِ مُعارِضٌ للحديثِ، والكذبَ الصُّراحَ لا يجوزُ على الأنبياءِ عندَ أهلِ التَّحقيقِ، أمَّا المَعاريضُ فهي جائزةٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/194). وقيل: أوهَمَهم أنَّه مطعونٌ، أي: به مرضُ الطَّاعونِ، فخافوا منه، وتَباعَدوا عنه. وممَّن اختار هذا القولَ: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، ونسَبَه الواحديُّ لأكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/388)، ((تفسير ابن جرير)) (19/566)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/308)، ((البسيط)) للواحدي (19/71). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/573)، ((تفسير الماوردي)) (5/56)، ((فتح الباري)) لابن حجر (6/391)، ((تفسير الألوسي)) (12/98). قال الواحدي: (قال المفسِّرون: كانوا يَتعاطَون عِلمَ النُّجومِ، فعامَلَهم مِن حيث كانوا؛ لئلَّا يُنكِروا عليه؛ وذلك أنَّه أراد أن يُكايدَهم في أصنامِهم ليُلزِمَهم الحُجَّةَ في أنَّها غيرُ معبودةٍ، وكان لهم مِن الغَدِ يومٌ يَخرُجون إليه، فأراد أن يَتخلَّفَ عنهم، فاعتلَّ بالسَّقَمِ). ((الوسيط)) (3/528). قال الألوسي: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ... أوهَمَهم أنَّه تفَكَّر في أحوالِها مِن الاتِّصالِ والتَّقابُلِ ونَحوِهما مِن الأوضاعِ الَّتي تدُلُّ بزَعمِهم على الحوادِثِ؛ لِيُرتِّبَ عليه ما يَتوصَّلُ به إلى غرَضِه الَّذي يكونُ وَسيلةً الى إنقاذِهم مِمَّا هم فيه، والظَّاهِرُ بعدَ اعتبارِ الإيهامِ أنَّه إيهامُ التَّفَكُّرِ في إحكامِ طالعِ ولادتِه عليه السَّلامُ، وما يدُلُّ عليه بزَعمِهم ما تجدَّد له مِن الأوضاعِ في ذلك الوَقتِ، وهذا مِن معاريضِ الأفعالِ نَظيرُ ما وقَعَ في قصَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ مِن تفتيشِ أوعيةِ إخوتِه بني عَلَّاتِه قبْلَ وِعاءِ شَقيقِه؛ فإنَّ المُفتِّشَ بدأ بأوعيتِهم مع عِلمِه أنَّ الصَّاعَ ليس فيها، وأخَّرَ تفتيشَ وِعاءِ أخيه مع عِلمِه بأنَّه فيها؛ تعريضًا بأنَّه لا يَعرِفُ في أيِّ وِعاءٍ هو، ونَفْيًا للتُّهمةِ عنه لو بدأ بوعاءِ الأخِ). ((تفسير الألوسي)) (12/98). وقال ابنُ عاشور: (لم يكُنْ في لُغةِ قَومِ إبراهيمَ التَّشبيهُ البليغُ، ولا المَجازُ، ولا التَّهَكُّمُ؛ فكان ذلك عندَ قَومِه كَذِبًا، وأنَّ اللهَ أذِنَ له فِعْلَ ذلك، وأعلَمَه بتأويلِه، كما أذِنَ لأيُّوبَ أن يأخُذَ ضِغثًا مِن عِصِيٍّ، فيَضرِبَ به ضَربةً واحِدةً لِيُبِرَّ قَسَمَه؛ إذ لم تكُن الكَفَّارةُ مَشروعةً في دينِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/143). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لم يَكذِبْ إبراهيمُ النَّبيُّ عليه السَّلامُ قَطُّ إلَّا ثلاثَ كَذَباتٍ [587] قال ابنُ كثير: (ليس هذا مِن بابِ الكَذِبِ الحقيقيِّ الَّذي يُذَمُّ فاعِلُه، حاشا وكَلَّا، وإنَّما أُطلِقَ الكَذِبُ على هذا تَجَوُّزًا، وإنَّما هو مِن المَعاريضِ في الكَلامِ؛ لِمَقصَدٍ شَرعيٍّ دينيٍّ). ((تفسير ابن كثير)) (7/24، 25). وقال ابن تيميَّةَ: (الكَذِبُ على الشَّخصِ حرامٌ كُلُّه، سواءٌ كان الرَّجُلُ مُسلِمًا أو كافرًا، بَرًّا أو فاجرًا .. ولكنْ تُباحُ عندَ الحاجةِ الشَّرعيَّةِ المَعاريضُ، وقد تُسمَّى كَذِبًا؛ لأنَّ الكلامَ يَعني به المتكَلِّمُ مَعنًى، وذلك المعنى يريدُ أن يَفهمَه المُخاطَبُ، فإذا لم يَكُنْ على ما يَعنيه فهو الكَذِبُ المحضُ، وإن كان على ما يَعنيه ولكِنْ ليس على ما يَفهَمُه المُخاطَبُ فهذه المعاريضُ، وهي كَذِبٌ باعتبارِ الإفهامِ، وإن لم تكنْ كَذِبًا باعتبارِ الغايةِ السَّائغةِ، ومنه قولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لم يَكذِبْ إبراهيمُ إلَّا ثلاثَ كَذَباتٍ...))، وهذه الثَّلاثةُ مَعاريضُ). ((مجموع الفتاوى)) (28/223). : ثِنتينَ في ذاتِ اللهِ؛ قَولُه: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] ، وقَولُه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63] ، وواحِدةً في شأنِ سارةَ)) [588] رواه البخاري (3358)، ومسلم (2371) واللَّفظُ له. .
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90).
أي: فانصَرَف قَومُ إبراهيمَ عنه وخَلَّفوه وراءَ ظُهورِهم، بحيثُ لا يَرَونَه [589] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/25)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/142). وذهب ابنُ جريرٍ إلى أنَّهم تَوَلَّوا عن إبراهيمَ مُدبِرين عنه؛ خَوفًا مِن أن يُعدِيَهم السَّقَمُ الَّذي ذَكَرَ أنَّه به. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/569). وقيل: صِيغةُ التَّفَعُّلِ في قَولِه تعالى: فَتَوَلَّوْا تدُلُّ على استِبعادِهم مَرَضَه، إلَّا أنَّهم ترَكوه. ومِمَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/256). .
فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91).
فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ.
أي: فحاد إبراهيمُ عن الخُروجِ مع قَومِه مُتوجِّهًا إلى أصنامِهم في سُرعةٍ وخُفيةٍ، بنَشاطٍ وهِمَّةٍ وخِفَّةٍ [590] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/570)، ((تفسير القرطبي)) (15/94)، ((تفسير ابن كثير)) (7/25)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/143). .
كما قال اللهُ تعالى حاكيًا قَولَ إبراهيمَ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: 57] .
فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ.
أي: فقال مُخاطِبًا الأصنامَ [591] قال الكِرماني: (الجمهورُ على أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ قال هذا استِهزاءً بالأصنامِ). ((تفسير الكرماني)) (2/979). : ألَا تأكُلونَ هذا الطَّعامَ الموضوعَ بينَ أيديكم [592] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/570)، ((تفسير القرطبي)) (15/94)، ((تفسير ابن كثير)) (7/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/143، 144). قال القرطبي: (قيل: كان بيْنَ يَدَيِ الأصنامِ طَعامٌ تَرَكوه؛ لِيَأكُلوه إذا رَجَعوا مِنَ العيدِ، وإنَّما تَرَكوه لِتُصيبَه بَرَكةُ أصنامِهم، بزَعِمهم. وقيل: تَرَكوه للسَّدَنةِ. وقيل: قَرَّب هو إليها طعامًا؛ على جهةِ الاستِهزاءِ). ((تفسير القرطبي)) (15/94). وقيل: كانت السَّدَنةُ تَزعُمُ أنَّ الأصنامَ تأكُلُ الطَّعامَ الَّذي يَضَعونَه بيْنَ يَدَيْها. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/144). ؟!
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92).
أي: ما الَّذي يَمنَعُكم مِن أن تَنطِقوا [593] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/570)، ((تفسير السمعاني)) (4/405)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705). ؟!
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93).
أي: فأقْبَلَ إبراهيمُ على الأصنامِ بسُرعةٍ ونَشاطٍ وهِمَّةٍ، يَضرِبُها بيَدِه اليُمنى بقُوَّةٍ وشِدَّةٍ [594] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/571)، ((تفسير القرطبي)) (15/94)، ((تفسير ابن كثير)) (7/26)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/144). قال السمعاني: (قولُه: بِالْيَمِينِ فيه أقوالٌ؛ أحَدُها أنَّ معناه: يَضْرِبُهم بيمينِه، ومعنى يَضْرِبُهم أي: يَكسرُهم. ويقالُ: باليمينِ أي: بالقوَّةِ. والقولُ الثَّالثُ: باليمينِ أي: باليمينِ الَّتي سبَقَتْ منه، وهو قولُه تعالَى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ). ((تفسير السمعاني)) (4/405). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/571)، ((تفسير الماوردي)) (5/57)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/545). .
كما قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 58] .
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94).
أي: فأقْبَلَ قَومُ إبراهيمَ إليه وهم يُسرِعونَ في رَكضِهم [595] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/574)، ((تفسير القرطبي)) (15/95)، ((تفسير ابن كثير)) (7/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/144). .
كما قال تعالى: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 59 - 62] .
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95).
أي: قال إبراهيمُ لهم: أتَعبُدونَ أشياءَ أنتم تَنحِتونَها بأيديكم [596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/575)، ((تفسير القرطبي)) (15/96)، ((تفسير ابن كثير)) (7/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705). ؟!
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96).
أي: والحالُ أنَّ اللهَ خلَقَكم وخَلَق الَّذي تَعمَلونَه مِن أصنامِكم، فكيف تَعبُدونَها وهي مخلوقةٌ لا خالِقةٌ [597] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/612)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/836، 837)، ((الوسيط)) للواحدي (3/528)، ((تفسير الزمخشري)) (4/51، 52)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/336، 337)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/121)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/145). ذهب كثيرٌ مِن المفَسِّرينَ إلى أنَّ «ما» في قَولِه تعالى: وَمَا تَعْمَلُونَ مَوصولةٌ؛ بمعنى الَّذي. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بنُ سلام، والواحديُّ، والزمخشري، وابنُ تيميَّة، وابنُ القيِّم، وابنُ عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/575)، ((البسيط)) للواحدي (19/77). قال ابنُ جُزَي: (وهذا ألْيَقُ بسياقِ الكلامِ، وأقوَى في قصدِ الاحتجاجِ على الَّذين عبَدوا الأصنامَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/195). ورجَّح القرطبي أن تكونَ (مَا) مَصدريَّةً، أي: واللهُ خلَقَكم وعمَلَكم، واستظهَرَه ابنُ كثير، وردَّه الزمخشريُّ، وضَعَّفه ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القيِّم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/575)، ((تفسير الزمخشري)) (4/51، 52)، ((تفسير القرطبي)) (15/96)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/260، 261)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/146- 153)، ((تفسير ابن كثير)) (7/26)، ((تفسير الشوكاني)) (4/462). قال ابنُ كثير: (وكِلا القولَينِ مُتلازِمٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/26). ؟!
عن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ خلَقَ كُلَّ صانِعٍ وصَنْعتَه )) [598] أخرجه البزَّار (2837)، والحاكم (86)، والبيهقي في ((شُعَب الإيمان)) (187) واللَّفظُ له. صحَّحه الحاكِمُ على شَرطِ مُسلمٍ، وصحَّحه أيضًا ابنُ عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/114)، وابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (13/ 498)، والألبانيُّ في تخريج كتاب ((السنة)) (357)، ويُنظر: ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1637). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/200): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). .
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لَمَّا أورَدَ على قَومِه الحُجَّةَ القَويَّةَ، ولم يَقدِروا على الجَوابِ؛ عَدَلوا إلى طريقِ الإيذاءِ [599] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/344). .
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97).
أي: قال قَومُ إبراهيمَ: ابنُوا له بُنيانًا [600] قيل: بُنْيَانًا عاليًا مُرتَفِعًا، وأوْقَدوا فيه النارَ، والمفسِّرونَ يَذْكرونَ مِن شدَّتِها وارتفاعِ لهبِها، وكثرةِ حطبِها شيئًا هائلًا. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 705)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/163). وقيل: بنَوا له بُنيانًا يُشبِهُ التَّنُّورَ، ثمَّ نقلوا إليه الحطبَ، وأوْقَدوا عليه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/575). وقيل: بل كان البُنيانُ للمَنْجَنِيقِ، الَّذي رُمِيَ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/195). وأوقِدوا نارًا حتَّى تَشتَدَّ، فارمُوا إبراهيمَ فيها؛ جزاءً له على ما فَعَل بآلهتِهم [601] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/837)، ((تفسير ابن جرير)) (19/575)، ((الوسيط)) للواحدي (3/528)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 705). .
كما قال اللهُ تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء: 68] .
وقال سُبحانَه: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [العنكبوت: 24] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما: ((«حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قالها إبراهيمُ عليه السَّلامُ حينَ أُلقِيَ في النَّارِ، وقالها مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم حينَ قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] )) [602] رواه البخاري (4563). .
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98).
أي: فأراد قَومُ إبراهيمَ أن يَمكُروا به، بتدبيرِ ما فيه هلاكُه، وبُطلانُ أمْرِه، وعلُوُّ أمْرِهم، وذلك بإحراقِه بالنَّارِ؛ فأنقذَه اللهُ تعالى منها، وأبطَلَ كَيْدَ قَومِه، وجعَلَهم هم الأذَلِّينَ المغلوبينَ [603] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/576)، ((تفسير القرطبي)) (15/97)، ((تفسير ابن كثير)) (7/26)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/258، 259)، ((تفسير السعدي)) (ص: 706). .
كما قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء: 69، 70].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- عِمادُ مِلَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ هو المتفَرِّعُ عن قَولِ الله تعالى: جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وذلك جِماعُ مَكارمِ الأخلاقِ [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/137). .
2- في قَولِه تعالى: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أنَّ قُربَ النَّسَبِ مِن أهلِ الخيرِ لا يُفيدُ الإنسانَ شيئًا؛ فإبراهيمُ بالنِّسبةِ لأبيه أقرَبُ شَيءٍ؛ لأنَّه بَضْعةٌ منه، ومع ذلك لم يَنتفِعْ به أبوه، بل كان مُشرِكًا يُحَاجُّ ولدَه على ذلك [605] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 207). .
3- في قَولِه تعالى: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ أنَّ مَن يَتعالى على الحقِّ فإنَّ اللهَ تعالى يُجازيه بنَقيضِ قَصدِه؛ لأنَّ هؤلاء أرادوا العُلُوَّ والفَسادَ في الأرضِ، فعامَلَهم اللهُ تعالى بنَقيضِ قَصدِهم؛ فجعَلَهم الأسفَلينَ [606] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 220). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ أنَّ أصلَ دِينِ الأنبياءِ واحِدٌ؛ فكلُّهم شِيعةٌ للآخَرِ، مُقَوٍّ لِدَعوتِه [607] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 205). .
2- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ جُعِل إبراهيمُ مِن شيعةِ نُوحٍ؛ لأنَّ نُوحًا قد جاءت رُسُلٌ على دينِه قبْلَ إبراهيمَ؛ منهم: هودٌ وصالحٌ؛ فقد كانا قبْلَ إبراهيمَ؛ لأنَّ القُرآنَ ذكَرَهما غيرَ مَرَّةٍ عَقِبَ ذِكرِ نُوحٍ، وقَبْلَ ذِكرِ لُوطٍ مُعاصِرِ إبراهيمَ؛ ولِقَولِ هودٍ لِقَومِه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] ، ولِقَولِ صالحٍ لِقَومِه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف: 74] ، وقَولِ شُعَيبٍ لِقَومِه: وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] ؛ فجعَلَ قَومَ لوطٍ أقرَبَ زَمنًا لِقَومِه دونَ قَومِ هُودٍ وقَومِ صالحٍ، وكان لوطٌ مُعاصِرَ إبراهيمَ؛ فهؤلاء كُلُّهم شيعةٌ لِنُوحٍ، وإبراهيمُ مِن تلك الشِّيعةِ [608] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/135). .
3- قَولُه تعالى: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ فيه عنايةُ اللهِ سبُحانه وتعالى بإبراهيمَ عليه السَّلامُ، وذلك بإضافةِ الرُّبوبيَّةِ إليه، وهذه رُبوبيَّةٌ خاصَّةٌ، والرُّبوبيَّةُ الخاصَّةُ تقتضي عنايةً أكثرَ مِن الرُّبوبيَّةِ العامَّةِ؛ لأنَّ المَربوبينَ بالرُّبوبيَّةِ العامَّةِ شَمِلَتْهم الرَّحمةُ العامَّةُ، لكنْ في الرُّبوبيَّةِ الخاصَّةِ يكونُ لهم الرَّحمةُ الخاصَّةُ [609] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 206). .
4- في قَولِه تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ صِحَّةُ نسبةِ القَومِ إلى الرَّسولِ وإنْ كَذَّبوه، والانتسابُ بالنَّسَبِ لا يعني التَّبرُّؤَ مِن الدِّينِ، فيَصِحُّ أنْ يَنتَسِبَ الإنسانُ إلى أبيه الكافِرِ، ولا يقالُ: إنَّ هذا مِن بابِ المُوالاةِ، بل هذا مِن بابِ الحقيقةِ، والنَّسَبُ لا يَزولُ باختِلافِ الدِّينِ أبدًا، وانظُرْ إلى قَولِه تعالى للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الأنعام: 66] ، فأضافَهم إليه مع نِسبةِ تَكذيبِه إليهم، وهذا يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ قد يكونُ مِن قومٍ كافرينَ ويُنسَبُ إليهم، وأنَّ ذلك لا يَخدِشُ في دِينِه [610] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 207). .
5- في قَولِه تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ بيانُ قُبحِ ما كان عليه المُشرِكون قبْلَ النَّهيِ، وقبْلَ إنكارِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم؛ ولهذا استَفهمَ استِفهامَ مُنكِرٍ، فقال: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ أي: وخَلَقَ ما تَنحِتونَ، فكيف يجوزُ أنْ تَعبُدوا ما تَصنَعونَه بأيديكم، وتَدَعونَ ربَّ العالَمينَ؟! فلولا أنَّ حُسنَ التَّوحيدِ وعبادةِ اللهِ تعالى وَحْدَه لا شريكَ له، وقُبْحَ الشِّركِ: ثابِتٌ في نَفْسِ الأمرِ، مَعلومٌ بالعَقلِ؛ لم يُخاطِبْهم بهذا؛ إذْ كانوا لم يَفعَلوا شيئًا يُذَمُّونَ عليه، بل كان فِعْلُهم كأكْلِهم وشُرْبِهم [611] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/681، 682). فالشِّركُ والظلمُ والكذبُ والفواحشُ ونحوُ ذلك قبحُها معلومٌ قبلَ مجيءِ الرَّسولِ، لكنَّ العقوبةَ إنَّما تُستحَقُّ بمجيءِ الرَّسولِ، وعلى هذا عامةُ السَّلفِ وأكثرُ المسلمينَ، وعليه يدلُّ الكتابُ والسُّنةُ؛ فإنَّ فيهما بيانَ أنَّ ما عليه الكفارُ هو شرٌّ وقبيحٌ وسيئٌ قبلَ الرُّسلِ، وإن كانوا لا يستحقُّون العقوبةَ إلَّا بعدَ مجيءِ الرَّسولِ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/677). .
6- أنَّ الشِّركَ والتَّعطيلَ مَبنيَّانِ على سُوءِ الظنِّ باللهِ تعالى؛ ولهذا قال إبراهيمُ -إمامُ الحُنَفاءِ- لخُصَمائِه مِن المُشرِكين: أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وإنْ كان المعنى: ما ظنُّكم به أنْ يُعَامِلَكم ويُجازيَكم به، وقد عبَدْتُم معه غيرَه، وجعلتُم له نِدًّا؟! فأنت تَجِدُ تحتَ هذا التَّهديدِ: ما ظننتُم برَبِّكم مِن السُّوءِ حتَّى عبدْتُم معه غيْرَه [612] يُنظر: ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/62). ؟!
7- في قَولِه تعالى: أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أنَّ الكَذِبَ مَقرونٌ بالشِّركِ [613] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/82). .
8- في قَولِه تعالى: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ إقامةُ الحُجَّةِ على الخَصمِ بما لا يُنكِرُه؛ لأنَّ العالَمَ يَشملُ حتَّى آلهتَهم الَّتي يَعبُدونَها، فإذا كانت آلهتُهم مَربوبةً فكيف يُمكِنُ أنْ تكونَ مَعبودةً؟! هذا تَناقُضٌ؛ فإنَّ مَن أقَرَّ بانفرادِ اللهِ بالرُّبوبيَّةِ لَزِمَه أن يُقِرَّ بانفِرادِه بالألوهيَّةِ وإلَّا صار مُتناقِضًا؛ إِذْ لا يَستَحِقُّ العبادةَ إلَّا الرَّبُّ الخالِقُ المالِكُ المُدَبِّرُ، ومَن لم يكُنْ كذلك فإنَّه لا يَستَحِقُّ أنْ يُعبَدَ [614] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 209). .
9- في قَولِه تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ جوازُ التَّوريةِ، وهي: أنْ يُظْهِرَ للمُخاطَبِ ما لا يُريدُه، ويَفهَمَ منه المُخاطَبُ معنًى غيرَ المرادِ [615] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 210). .
10- قَولُ الله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، لم يَقُلْ: (إلى النُّجومِ)، مع أنَّ النَّظَرَ إنَّما يتعدَّى بـ (إلى)، كما في قَولِه تعالى: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143] ؛ وفي ذلك وَجهانِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: لأنَّ (في) بمعنى (إلى)، كما في قَولِه تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم: 9] .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ النَّظَرَ هنا بمعنى الفِكرِ، وهو يَتعدَّى بـ (في) كما في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ [الأعراف: 185] ؛ فصار المعنى: ففَكَّرَ في عِلمِ النُّجومِ [616] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 480). .
11- ليس في قولِه تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ما يدُلُّ على أنَّ للنجومِ دَلالةً على حدوثِ شَيءٍ مِن حوادثِ الأُمَمِ ولا الأشخاصِ، ومَن يَزعُمْ ذلك فقد ضلَّ [617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/142). ؛ لأنَّ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قال هذا لِيَدفَعَ به قَومَه عن نفْسِه، ألَا ترى أنَّه عزَّ وجَلَّ قال بعدُ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ؛ فبَيَّنَ تبارك وتعالى أنَّه إنَّما قال ذلك ليَدْفَعَهم به لِمَا كان عَزَمَ عليه مِن أمْرِ الأصنامِ، وليس يَحتاجُ أحَدٌ إلى مَعرفةِ: أَصحيحٌ هو أمْ سقيمٌ مِن النُّجومِ؛ لأنَّ ذلك يُوجَدُ حِسًّا، ويُعلَمُ ضَرورةً، ولا يُحتاجُ فيه إلى استِدلالٍ وبَحثٍ [618] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/185، 186). !
12- قَولُه تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِنِّي سَقِيمٌ فيه جوازُ إسنادِ الوَصفِ إلى الإنسانِ باعتبارِ المستقبَلِ؛ فإنَّه الآنَ ليس بسقيمٍ، لكنْ كلُّ إنسانٍ عُرضةٌ لِأنْ يَسقَمَ [619] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 211). . وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
13- قوله تعالى: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فيه استِعمالُ المعاريضِ؛ للمَصلَحةِ [620] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 218). قال النووي: (قال العلماءُ: فإنْ دعَتْ إلى ذلك مصلحةٌ شرعيةٌ راجحةٌ على خداعِ المخاطَبِ أو حاجةٌ لا مندوحةَ عنها إلَّا بالكذبِ، فلا بأسَ بالتَّعريضِ، وإن لم يكنْ شيءٌ مِن ذلك فهو مكروهٌ وليس بحرامٍ، إلَّا أنْ يُتوصَّلَ به إلى أخذِ باطلٍ أو دفعِ حقٍّ، فيصيرَ حينئذٍ حرامًا، هذا ضابطُ البابِ). ((الأذكار)) (ص: 380). .
14- في قَولِه تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ أنَّ الكلامَ صِفةُ كَمالٍ، كما أنَّ العِلمَ والقُدرةَ والسَّمعَ والبَصَرَ صِفةُ كَمالٍ، وأنَّ المتَكَلِّمَ أكمَلُ ممَّن لا يتكَلَّمُ، كما أنَّ الحيَّ أكمَلُ مِن الجَمادِ؛ ولهذا عاب اللهُ الجَماداتِ المعبودةَ بأنَّها لا تَتكلَّمُ، كما في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] ، وكذلك قَولُ الخَليلِ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، سواءٌ كان المرادُ بيانَ أنَّ العابدَ أكمَلُ مِن مَعبودِه، وهذا مُمتَنِعٌ، أو بيانَ أنَّ المعبودَ يجِبُ أنْ يكونَ مُتَّصِفًا بصِفاتِ الكَمالِ [621] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/66). .
15- قَولُ الله تعالى: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ يُنبِئُ عن رِباطةِ جَأْشِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ إذ لم يَتلَقَّ القَومَ بالاعتِذارِ ولا بالاختِفاءِ [622] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/145). .
16- في قَولِه تعالى: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ الإنكارُ على أهلِ الباطلِ بباطِلِهم عن طريقِ العَقلِ، والاحتِجاجُ على أهلِ الباطلِ بباطلِهم عن طريقِ العَقلِ، أي: كيف تَنحِتونَه أنتم وتَصنَعونَه أنتم، ثمَّ بعدَ ذلك تَعبُدونَه؟! أليس الأَولى مِن النَّاحيةِ العَقليَّةِ أنْ يكونَ هذا المنحوتُ هو الَّذي يَعبُدُكم؟ لأنَّكم أنتم الَّذين نَحَتُّموه وأوجَدْتُموه، ولكِنَّ عُقولَهم مُنتَكِسةٌ، فصار الأمرُ بالعَكسِ؛ يَعبُدونَ ما يَنحِتونَ [623] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 215). !
17- في قَولِه تعالى: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ أنَّ قومَ إبراهيمَ كانوا مُقِرِّينَ بالصَّانِعِ [624] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/549). .
18- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ إقامةُ الدَّليلِ على أنَّ اللهَ وَحْدَه هو الَّذي يَستَحِقُّ أنْ يُعبَدَ؛ لِقَولِه: خَلَقَكُمْ، فالخالقُ هو الَّذي يجِبُ أنْ يُعبَدَ [625] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 215). . فهو استدلالٌ بتوحيدِ الربوبيةِ على توحيدِ الإلهيةِ، وهذه طريقةُ القرآنِ، كما في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] .
19- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ أنَّ أعمالَ العِبادِ مخلوقةٌ لله، سواءٌ جَعَلْنا «ما» مَصدريَّةً أمْ مَوصولةً؛ إنْ جعَلْناها مَصدريَّةً فالأمرُ واضِحٌ: «خَلَقَكم وخَلَقَ عَمَلَكم»، وإن جعَلْناها موصولةً؛ فلأنَّه إذا كان خالِقًا لِما يَعمَلونَه مِن المنحوتاتِ لَزِمَ أن يكونَ هو الخالِقَ للتَّأليفِ الَّذي أحدَثوه فيها؛ فإنَّها إنَّما صارت أوثانًا بذلك التَّأليفِ، وإلَّا فهي بدونِ ذلك ليست مَعمولةً لهم، وإذا كان خالِقًا للتَّأليفِ كان خالِقًا لأفعالِهم؛ فخَلْقُ المعمولِ فَرعٌ عن خَلقِ العَمَلِ.
وأيضًا فنَفْسُ حَرَكاتِهم تدخُلُ في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ؛ فإنَّ أعراضَهم داخِلةٌ في مُسمَّى أسمائِهم؛ فالله تعالى خلَقَ الإنسانَ بجَميعِ أعراضِه، وحرَكاتُه مِن أعراضِه، فقد تبيَّنَ أنَّه خَلَق أعمالَهم بقَولِه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ، وما تولَّدَ عنها مِن النَّحتِ والتَّصويرِ بقَولِه: وَمَا تَعْمَلُونَ؛ فثَبَت أنَّها دالَّةٌ على أنَّه خالِقُ هذا وهذا، وهو المطلوبُ؛ فهذه الآيةُ فيها رَدٌّ على القَدَريَّةِ الَّذين أنكَروا أنْ يكونَ لله سُبحانَه وتعالى شأنٌ في أعمالِ بني آدَمَ، وقالوا: إنَّ الإنسانَ مُستَقِلٌّ بعَمَلِه، وليس لله فيه إرادةٌ ولا خَلْقٌ [626] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/121)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/337)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 216). ويُنظر أيضًا: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 110). !
20- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ رَدٌّ على الجَبريَّةِ الَّذين يَقولونَ: إنَّ الإنسانَ مُجبَرٌ على عَمَلِه! وجْهُ الرَّدِّ: أنَّه أضاف العَمَلَ إليهم، فقال: تَعْمَلُونَ، وإضافةُ العَمَلِ إلى الإنسانِ تقتضي أنَّه هو العامِلُ، وهو الفاعِلُ حقيقةً، وهو كذلك [627] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 216). .
21- قَولُ الله تعالى: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ أرادوا بإبراهيمَ عليه السَّلامُ كيدًا، فأبطَلَ اللهُ مَكْرَهم، وجعَلَهم الأخسَرينَ الأسفَلينَ، وكذا عادةُ مَن غُلِبَ بالحُجَّةِ، رجَعَ إلى الكَيدِ [628] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/113). !
22- في قَولِه تعالى: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا بيانُ ما يُكِنُّه أعداءُ الإسلامِ للمُسلِمينَ وللإسلامِ مِن إرادةِ الكَيدِ بالإسلامِ وأهلِه، وهذا كما أنَّه في الأُمَمِ السَّابقةِ فيكونُ في الأُمَمِ اللَّاحِقةِ؛ لِقَولِ الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [629] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 220). [الفرقان: 31] .
23- قَولُه تعالى: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فيه الرَّدُّ على الجَبريَّةِ؛ فهم يَنفُونَ أنْ يكونَ للإنسانِ إرادةٌ في فِعلِه؛ لأنَّهم يَرَونَ أنَّ الإنسانَ مُجبَرٌ على الفِعلِ، وأنَّ فِعلَه الواقِعَ بإرادتِه كفِعلِه الواقِعِ بغيرِ إرادتِه، والكلُّ عندَهم سَواءٌ [630] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 220). !
24- في قَولِه تعالى: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ أنَّ الحُكمَ للهِ عزَّ وجَلَّ، وأنَّ بني آدمَ مهما بَلَغوا مِن الطُّغيانِ فإنَّهم تحتَ حُكمِ اللهِ تعالى وسُلْطانِه [631] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 221). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ
- تَخلُّصٌ إلى حِكايةِ مَوقِفِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مِن قَومِهِ في دَعْوتِهم إلى التَّوحيدِ، وما لاقاهُ منهم، وكيف أيَّدَه اللهُ ونجَّاهُ منهم، وَقَعَ هذا التَّخلُّصُ إليه بوَصفِه مِن شيعةِ نُوحٍ؛ لِيُفيدَ بهذا الأُسلوبِ الواحِدِ تَأكيدَ الثَّناءِ على نُوحٍ، وابتِداءَ الثَّناءِ على إبراهيمَ، وتَخْليدَ مَنقَبةٍ لِنُوحٍ أنْ كان إبراهيمُ الرَّسولُ العَظيمُ مِن شيعَتِه، وناهيكَ به! وكذلك جمَعَ مَحامِدَ لإبراهيمَ في كَلِمةِ كَونِه مِن شِيعةِ نُوحٍ المُقتضي مُشارَكتَه له في صِفاتِه [632] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/135، 136). .
- والواوُ في قوله: وَإِنَّ عاطِفةٌ؛ عَطَفَتِ القِصَّةَ الثَّانيةَ على القِصَّةِ الأُولى. ولك أنْ تَجعَلَها استِئْنافيَّةً؛ فتكونَ الجُملةُ مُستَأنَفةً مَسوقةً للشُّروعِ في قِصَّةِ إبراهيمَ بعدَ قِصَّةِ نُوحٍ [633] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/290). .
- وفيه تَوكيدُ الخَبَرِ بـ (إنَّ) ولامِ الابتِداءِ؛ للرَّدِّ على المُشرِكينَ؛ لأنَّهم يَزعُمونَ أنَّهم على مِلَّةِ إبراهيمَ [634] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/136). .
- ويَحصُلُ مِن قَولِه: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إثْباتُ مِثلِ صِفاتِ نُوحٍ لإبراهيمَ على طَريقِ الكِنايةِ [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/138). .
2- قولُه تعالَى: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
- (إذ) ظرْفٌ للماضي، وهو مُتعلِّقٌ بالكَونِ المُقَدَّرِ للجارِّ والمجرورِ الواقعَينِ خبَرًا عن (إنَّ) في قولِه: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ، أو مُتعلِّقٌ بلَفظِ (شِيعة)؛ لِمَا فيه مِن مَعنى المُشايَعةِ والمُتابَعةِ، أي: كان مِن شِيعَتِه حينَ جاء ربَّه بقلْبٍ سَليمٍ كما جاء نُوحٌ، فذلك وَقتُ كَونِه مِن شِيعَتِه، أي: لأنَّ نُوحًا جاء ربَّه بقَلْبٍ سَليمٍ. وفي إِذْ مَعْنى التَّعْليلِ لِكَونِه مِن شِيعَتِه؛ فإنَّ مَعنى التَّعليلِ كثيرُ العُروضِ لـ (إذ) [636] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48)، ((تفسير أبي السعود)) (7/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/136، 137). .
- والباءُ في بِقَلْبٍ سَلِيمٍ للمُصاحَبةِ، أي: جاء معه قلْبٌ صِفَتُه السَّلامةُ، فيَؤُولُ إلى مَعنى: إذ جاء ربَّه بسَلامةِ قلْبٍ. وإنَّما ذُكِرَ القَلبُ ابتِداءً، ثُمَّ وُصِفَ بـ (سَليمٍ)؛ لِمَا في ذِكرِ القَلبِ مِن إحْضارِ حقيقةِ ذلك القَلبِ النَّزيهِ؛ ولذلك أُوثِرَ تَنكيرُ (قَلْبٍ) دُونَ تَعْريفٍ [637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/137). .
- وأُطلِقَ المجيءُ على مُعامَلتِه به في نفْسِه بما يُرْضي ربَّه على وَجهِ التَّمثيلِ بحالِ مَن يَجِيءُ أحدًا مُلْقيًا إليه ما طلَبَه؛ فإنَّ اللهَ أمَرَه بتَزكيةِ نفْسِه فامتثَلَ؛ فأشْبَهَ حالَ مَن دَعاه فجاءَه [638] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/48، 49)، ((تفسير أبي السعود)) (7/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/137). .
3- قولُه تعالَى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
- الاستِفهامُ في قَولِه: مَاذَا تَعْبُدُونَ استِفْهامٌ إنْكاريٌّ على أنْ يَعبُدوا ما يَعبُدونَه؛ ولذلك أتْبَعَه باستِفْهامٍ آخَرَ إنْكاريٍّ، وهو أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟! وهذا الَّذي اقْتَضى الإتيانَ باسْمِ الإشارةِ بعدَ (ما) الاستِفْهاميَّةِ الَّذي هو مُشرَبٌ مَعْنى المَوْصولِ المُشارِ إليه، فاقْتَضى أنَّ ما يَعبُدونَه مُشاهَدٌ لِإبراهيمَ، فانْصَرَفَ الاستِفْهامُ بذلك إلى مَعْنى الإنْكارِ، بخِلافِ قولِه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ في سُورةِ (الشُّعراءِ) [الآية: 70]؛ فإنَّه استِفهامٌ على مَعبوداتِهم؛ ولذلك أجابوا عنه: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، وإنَّما أرادَ بالاستِفْهامِ هُنالك التَّمْهيدَ إلى المُحاجَّةِ، فصَوَّرَه في صُورةِ الاستِفْهامِ؛ لِسَماعِ جَوابِهم، فيَنتقِلُ إلى إبْطالِه، كما هو ظاهرٌ مِن تَرتيبِ حِجاجِه هنالك؛ فذلك حِكايةٌ لِقَولِ إبراهيمَ في ابتِداءِ دَعوتِه قَومَه، وأمَّا ما هنا فحِكايةٌ لِبَعضِ أقوالِه في إعادةِ الدَّعوةِ وتأْكيدِها [639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/138). .
4- قولُه تعالَى: أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ بَيانٌ لِجُملةِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، بيَّنَ به مَصَبَّ الإنْكارِ في قَولِه: مَاذَا تَعْبُدُونَ وإيضاحَه، أي: كيف تُريدونَ آلِهةً إفْكًا [640] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/138). ؟!
- والهَمْزةُ في قَولِهِ: أَئِفْكًا للاستِفْهامِ الإنْكاريِّ التَّوْبيخيِّ [641] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/291). .
- وقُدِّمَ المَفْعولُ آَلِهَةً على الفِعلِ تُرِيدُونَ؛ للاهتِمامِ والعِنايةِ به [642] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/49)، ((تفسير البيضاوي)) (5/13)، ((تفسير أبي حيان)) (9/110)، ((تفسير أبي السعود)) (7/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/139)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/291). .
- وانتَصَبَ (إِفْكًا) على الحالِ مِن ضَميرِ تُرِيدُونَ -على قولٍ-، أي: آفِكينَ، والإفْكُ: الكَذِبُ. ويجوزُ أنْ يكونَ حالًا مِن آَلِهَةً، أي: آلِهةً مَكْذوبةً، أي: مَكذوبٌ تَأْليهُها، بمَعْنى: أتُريدونَ آلِهةً مِن دُونِ اللهِ آفِكينَ؟! وقُدِّمَتِ الحالُ (إفْكًا) على صاحِبِها؛ للاهتِمامِ بالتَّعْجيلِ بالتَّعْبيرِ عن كَذِبِهم وضَلالِهِم، ولأنَّه كان الأهَمَّ عِندَه أنْ يُكافِحَهم بأنَّهم على إفْكٍ وباطِلٍ في شِركِهم. ويجوزُ أنْ يكونَ (إِفْكًا) مَفْعولًا، يَعْني: أتُريدونَ به إفْكًا؟! ثم فُسِّرَ الإفْكُ بقَولِه: آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ، على أنَّها إفْكٌ في أنفُسِها؛ للمُبالَغةِ [643] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/49)، ((تفسير البيضاوي)) (5/13)، ((تفسير أبي حيان)) (9/110)، ((تفسير أبي السعود)) (7/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/139، 140)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/291). .
5- قولُه تعالَى: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أي: فما ظَنُّكُم بمَن هو الحَقيقُ بالعِبادةِ؛ لأنَّ مَن كان ربًّا للعالَمينَ استَحَقَّ عليهم أنْ يَعبُدوه، وهو استِفْهامٌ أُريدَ به الإنْكارُ، والتَّوْبيخُ، والتَّحْذيرُ، والتَّوعُّدُ، والتَّوْقيفُ على الخَطَأِ [644] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/13)، ((تفسير أبي حيان)) (9/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/139)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/291). .
- ولَمَّا كان الظَّنُّ مِن أفْعالِ القَلبِ، فتَعْدِيتُه إلى اسْمِ الذَّاتِ دُونَ إتْباعِ الاسْمِ بوَصفٍ مُتعيِّنةٌ لِتَقْديرِ وَصفٍ مُناسِبٍ، وقد حُذِفَ المُتعلِّقُ هُنا؛ لِقَصدِ التَّوسُّعِ في تَقْديرِ المَحْذوفِ بكُلِّ احتِمالٍ مُناسِبٍ تَكثيرًا للمَعاني؛ فيَجوزُ أنْ تُعتبَرَ مِن ذاتِ ربِّ العالَمينَ أوْصافُه، ويجوزُ أنْ يُعتَبَرَ منها الكُنْهُ والحَقيقةُ، فاعتِبارُ الوَصفِ على وَجهَينِ؛ أحَدُهما: المَعْنى المُشْتقُّ منه الرَّبُّ، وهو الرُّبوبيَّةُ، وهي تَبْليغُ الشَّيءِ إلى كَمالِه تَدْريجًا ورِفْقًا؛ فإنَّ المَخْلوقَ مُحتاجٌ إلى البَقاءِ والإمْدادِ، وذلك يُوجِبُ أنْ يَشكُرَ المُمَدُّ فلا يَصُدُّ عن عِبادةِ ربِّهِ، فيكونُ التَّقْديرُ: فما ظَنُّكم أنَّ له شُرَكاءَ، وهو المُنفرِدُ باستِحْقاقِ الشُّكرِ المُتمَثِّلِ في العِبادةِ؛ لأنَّه الَّذي أمَدَّكم بإنْعامِه؟! وثانيهما: أنْ يُعتَبَرَ فيه مَعْنى المالِكيَّةِ، وهي أحَدُ مَعنَيَيِ الرَّبِّ، وهو مُستلزِمٌ لِمَعنى القَهرِ والقُدْرةِ على المَمْلوكِ، فيكونَ التَّقْديرُ: فما ظنُّكم ماذا يَفعَلُ بكُم مِن عِقابٍ على كُفْرانِه، وهو مالِكُكم ومالِكُ العالَمينَ؟! وأمَّا جَوازُ اعتِبارِ حَقيقةِ ربِّ العالَمينَ وكُنْهِهِ، فالتَّقْديرُ فيه: فما ظنُّكم بكُنْهِ الرُّبوبيَّةِ؛ فإنَّكم جاهِلونَ الصِّفاتِ الَّتي تَقتَضيها، وفي مُقدِّمَتِها الوَحْدانيَّةُ [645] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/140، 141). .
6- قولُه تعالَى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ
- - التَّعقيبُ الَّذي أفادَتْه الفاءُ مِن قولِه: فَنَظَرَ تَعقيبٌ عُرْفيٌّ، أي: لكلِّ شَيءٍ بحَسَبِه، فيُفِيدُ كلامًا مَطْويًّا يُشِيرُ إلى قِصَّةِ إبراهيمَ الَّتي قال فيها: إِنِّي سَقِيمٌ، والَّتي تَفرَّعَ عليها قولُه تعالى: فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ ... إلخ [646] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور) (23/142). .
- وتَقْييدُ النَّظْرةِ بصِيغةِ المرَّةِ في قَولِه: نَظْرَةً إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ ألْهَمه المَكيدةَ، وأرْشَده إلى الحُجَّةِ، وكان قَصْدُه إيهامَهم حين سَأَلوه أنْ يَعبُدَ معهم [647] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/13)، ((تفسير أبي السعود)) (7/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/142). .
7- قولُه تعالَى: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فيه ما يُعرَفَ في البَلاغةِ بالرَّمْزِ والإيماءِ [648] فنُّ الرمزِ والإيماءِ: هو أن يُريدَ المتكلِّمُ إخفاءَ أمرٍ ما في كلامِه، فيَرمُزَ في ضِمنِه رمزًا؛ إمَّا تعميةً للمُخاطَبِ، وتَبرئةً لنفْسِه، وتَنَصُّلًا مِن التَّبِعةِ، وإمَّا لِيَهتديَ بواسِطَتِه الى طريقِ استِخراجِ ما أخْفاهُ في كلامِه. يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/297). ، وقد كان قَومُ إبراهيمَ نجَّامينَ، فأوْهَمَهم أنَّه استَدَلَّ بأمارةٍ في عِلمِ التَّنْجيمِ على أنَّه يَسقَمُ، فقال: إِنِّي سَقِيمٌ، أي: مُشارِفٌ للسَّقَمِ -على قولٍ-، وكانوا يَخافونَ العَدْوى، فقال ذلك لِيُوجَسوا خَوفًا، ويَتَفرَّقوا عنه، فهَرَبوا منه إلى عِيدِهم، وتَرَكوهُ في بَيتِ الأصْنامِ ليس معه أحَدٌ، ففَعَلَ بالأصنامِ ما فَعَلَ. وقد يُوهِمُ ظاهِرُ الكَلامِ أنَّه ارتَكَبَ بذلك جَريرةَ الكَذِبِ، والأنبياءُ مَعْصومونَ عنه، والصَّحيحُ أنَّ الكَذِبَ حَرامٌ إلَّا إذا عرَّضَ عنه ووَرَّى، ولقد نوى إبراهيمُ أنَّ مَن في عُنُقِه المَوتُ سَقيمٌ، ومنه المَثَلُ: (كَفى بالسَّلامةِ داءً)، أو سَقيمُ القَلبِ عليكم؛ لِعِبادَتِكم للأصنامِ، وهي لا تضُرُّ ولا تَنفَعُ [649] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/49)، ((تفسير البيضاوي)) (5/13)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 480، 481)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/297). . وقيل غيرُ ذلك.
8- قولُه تعالَى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ
- قَولُهُ: مُدْبِرِينَ حالٌ مُؤكِّدةٌ؛ لِدَفعِ تَوهُّمِ أنَّه تَوَلِّي مُخالَفةٍ وكَراهةٍ دُونَ انتِقالٍ [650] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/142). .
9- قولُه تعالَى: فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ
- في قَولِهِ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ تَفريعُ قِصَصٍ بعَطفِ بَعضِها على بَعضٍ، والمَقْصودُ مِن هذه الجُمَلِ المُتعاطِفةِ بالفاءاتِ هو الإفْضاءُ إلى قَولِهِ: فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ، وأمَّا ما قَبْلَها فتَمْهيدٌ لها، وبَيانُ كيفيَّةِ تَمكُّنِه مِن أصْنامِهم وكَسْرِها؛ لِيُظهِرَ لِعَبَدتِها عَجْزَها [651] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/141). .
- وفِعلُ (راغَ) معناه: حادَ عن الشَّيءِ، وقد أُطلِقَ هنا على الذَّهابِ إلى أصنامِهم مُخاتَلةً لهم، ولأجْلِ الإشارةِ إلى تَضمينِه معنى الذَّهابِ عُدِّيَ بـ (إلى) [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/143). .
- وإطلاقُ الآلهةِ على الأصْنامِ في قولِه: آَلِهَتِهِمْ مُراعًى فيه اعتِقادُ عَبَدتِها؛ بقَرينةِ إضافَتِها إلى ضَميرِهم، أي: إلى الآلهةِ المَزْعومةِ لهم. ومُخاطَبةُ إبراهيمَ تلك الأصْنامَ بقَولِهِ: أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ وهو في حالِ خَلْوةٍ بها، وعلى غَيرِ مَسمَعٍ مِن عَبَدتِها، قَصَد به استهزاءً بهم، وبانحطاطِها عن حالِ عَبَدتِها، ولكي يُثيرَ في نَفْسِه غَضَبًا عليها إذْ زَعَموا لها الإلهيَّةَ؛ لِيَزْدادَ قُوَّةَ عَزمٍ على كَسرِها، فليس خِطابُ إبراهيمَ للأصنامِ مُستعمَلًا في حَقيقَتِه، ولكنَّه مُستعمَلٌ في لازِمِه، وهو تَذَكُّرُ كَذِبِ الَّذينَ ألَّهُوها، والَّذينَ سَدَنوا لها، وزَعَموا أنَّها تَأكُلُ الطَّعامَ الَّذي يَضَعونَه بيْنَ يَدَيْها، ويَزعُمونَ أنَّها تُكلِّمُهم وتُخبرِهُم [653] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/50)، ((تفسير أبي حيان)) (9/111)، ((تفسير أبي السعود)) (7/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/143، 144). !
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ بالفاءِ، وفي (الذَّارياتِ): قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 27] بغَيرِ فاءٍ؛ ووَجْهُه: أنَّ ما في هذه السُّورةِ اتَّصَلَتْ جُملةٌ بخَمْسِ جُمَلٍ مَبْدوءةٍ بالفاءِ على التَّوالي، وهي: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الصافات: 87-91] ، والخِطابُ للأوْثانِ؛ تَقْريعًا لِمَن زَعَمَ أنَّها تَأكُلُ وتَشرَبُ. وفي (الذَّارياتِ) مُتَّصِلٌ بمُضمَرٍ تَقْديرُه: فقرَّبَه إليهم فلم يَأكُلوا، فلمَّا رَآهُمْ لا يَأكُلون قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ، والخِطابُ للمَلائكةِ؛ فجاءَ في كُلِّ مَوضِعٍ بما يُلائِمُه [654] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 215)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/397، 398). .
10- قولُه تعالَى: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ
- التَّعْديةُ بـ (عَلَى) للاستِعْلاءِ، وأنَّ المَيلَ لِمَكْروهٍ [655] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/14). .
- قوله: ضَرْبًا بِالْيَمِينِ تقييدُه باليمينِ؛ للدَّلالةِ على قوَّتِه؛ فإنَّ قوَّةَ الآلةِ تَستدعي قوَّةَ الفِعلِ [656] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/14). . وجعلَ السِّياقَ للمَصدَرِ؛ إشارةً إلى قُوَّةِ الهِمَّةِ، بحيث صار كُلُّه ضَربًا [657] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/257). .
11- قولُه تعالَى: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
- لَمَّا عَلِموا بما فعَلَ إبراهيمُ بأصْنامِهم، أرْسَلوا إليه مَن يُحضِرُه في مَلَئِهم حوْلَ أصنامِهم، كما هو مُفصَّلٌ في سُورةِ (الأنبياءِ) -قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء: 59 - 61] -، وأُجْمِلَ هنا؛ فالتَّعقيبُ في قولِه: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ تَعقيبٌ نِسبِيٌّ [658] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/144). .
12- قولُه تعالَى: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ استِئْنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ إقْبالَ القَومِ إلى إبراهيمَ بحالةٍ تُنذِرُ بحَنَقِهم وإرادةِ البَطْشِ به، يُثيرُ في نَفْسِ السَّامِعِ تَساؤُلًا عن حالِ إبراهيمَ في تَلقِّيهِ بأُولئكَ، وهو فاقِدٌ للنَّصيرِ، مُعرَّضٌ للنَّكالِ، فيَكونُ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ جوابًا وبَيانًا لِمَا يَسأَلُ عنه. ولم يَتَلقَّ إبراهيمُ عليه السَّلامُ القَومَ بالاعتِذارِ، ولا بالاختِفاءِ، ولكنَّه لَقِيَهم بالتَّهكُّمِ بهم، إذْ قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا كما في سُورةِ (الأنبياءِ) [63]، ثُمَّ أنْحى عليهم باللَّائِمةِ، والتَّوْبيخِ، وتَسفيهِ أحلامِهم؛ إذْ بَلَغوا مِن السَّخافةِ أنْ يَعبُدوا صُوَرًا نَحَتوها بأيْديهم أو نَحَتَها أسْلافُهم؛ فإسْنادُ النَّحْتِ إلى المُخاطَبينَ مِن قَبيلِ إسنادِ الفِعلِ إلى القَبيلةِ إذا فَعَله بعضُها [659] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/144). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ تَوْبيخٌ وإنكارٌ، والإتيانُ بالمَوْصولِ والصِّلةِ؛ لِمَا تَشتمِلُ عليه الصِّلةُ مِن تَسلُّطِ فِعلِهم على مَعْبوداتِهِم، أي: أنَّ شَأنَ المَعْبودِ أنْ يكونَ فاعِلًا لا مُنفَعِلًا، فمِنَ المُنكَرِ أنْ تَعبُدوا أصنامًا أنتُم نَحَتُّموها، وكان الشَّأنُ أنْ تكونَ أقَلَّ منكم [660] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/145)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/292). !
13- قولُه تعالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
- الواوُ في قَولِه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ واوُ الحالِ، والحالُ مُستعمَلةٌ في التَّعْجيبِ، ومُؤكِّدةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ؛ لأنَّ في الكَلامِ حَذفًا بعدَ واوِ الحالِ، إذِ التَّقْديرُ: ولا تَعْبُدون اللهَ وهو خَلَقَكُم وخَلَقَ ما نَحتُّموهُ [661] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/198، 199)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/145). .
- ومَعنى تَعْمَلُونَ تَنحِتونَ، وعُدِلَ عن إعادةِ فِعلِ تَنْحِتُونَ؛ لأنَّ مَعْنى تَعْمَلُونَ مُفسَّرٌ بأنَّه تَنحِتونَ، فلم يُعِدْه لكَراهيةِ تَكريرِ الكَلِمةِ، فلمَّا تقدَّمَ لَفظُ تَنْحِتُونَ عُلِمَ أنَّ المُرادَ بـ (مَا تَعْمَلُونَ) ذلك المَعْمولُ الخاصُّ، وهو المَعْمولُ للنَّحْتِ؛ لأنَّ العَمَلَ أعَمُّ، يُقالُ: عَمِلتُ قَميصًا، وعَمِلتُ خاتَمًا [662] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/145). .
- قَولُه: وَمَا تَعْمَلُونَ إمَّا عِبارةٌ عن الأصنامِ، فوَضَعه مَوضِعَ ضَميرِ مَا تَنْحِتُونَ؛ للإيذانِ بأنَّ مَخْلوقيَّتَها للهِ عزَّ وجلَّ ليس مِن حيثُ نَحتُهم لها فقط، بلْ مِن حَيثُ سائِرُ أعْمالِهم أيضًا؛ مِن التَّصويرِ، والتَّحليةِ، والتَّزيينِ، ونحوِها، وإمَّا على عُمومِه، فيَنتظِمُ الأصْنامَ انتِظامًا أوَّلِيًّا، معَ ما فيه مِن تَحْقيقِ الحقِّ؛ ببَيانِ أنَّ جَميعَ ما يَعمَلونَه -كائِنًا ما كانَ- مَخْلوقٌ له سُبْحانَه [663] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/171)، ((تفسير أبي حيان)) (9/112)، ((تفسير أبي السعود)) (7/198، 199). .
14- قول الله تعالى: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ
- تقدَّمَتْ هذه القِصَّةُ ونَظيرُ هذه الآيةِ في سُورةِ (الأنبياءِ)، ولكِن عُبِّرَ هنا بـ الْأَسْفَلِينَ وهُنالك بـ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70] ، والأسفَلُ هو المَغْلوبُ؛ لأنَّ الغالِبَ يُتخيَّلُ مُعتَلِيًا على المَغْلوبِ، فهو مُعبَّرٌ به عنِ المَغْلوبِ، والأخسَرُ هُنالك مُعبَّرٌ به عمَّن لا يَحصُلُ مِن سَعْيِه على بُغيَتِه [664] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/146). ، فأخبَرَ اللهُ تعالى في سورةِ الأنبياءِ عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء: 57] ، ثمَّ أخبَرَ عن الكفارِ لَمَّا ألقَوْهُ في النَّارِ وأرادوا به كيدًا: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70] ، والكيدُ: سعيٌ في مَضَرَّةٍ لِتُورَدَ على غفلةٍ، فذكَر مُكايَدةً بيْنَهم وبيْنَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فكادَهم ولم يَكيدوه، فخَسِرَتْ تجارتُهم، وعادت عليهم مُكايَدتُهم؛ لأنَّه كسَّر أصنامَهم، ولم يَبلُغوا مِن إحراقِه مُرادَهم، فذكَر الأخسرينَ؛ لأنَّهم خَسِروا فيما عامَلَهم به وعامَلوه مِن المُكايدةِ الَّتي أُضيفَتْ إليهما.
وأمَّا الآيةُ الَّتي في سورةِ (الصَّافَّاتِ) فإنَّ اللهَ تعالى أخبَر عن الكفَّارِ فيها بما اقتضى مِن الأسفلينَ، وهو أنَّه قال: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فبَنَوْا له بِناءً عاليًا، ورفَعوه فوْقَه لِيَرموا به مِن هناك إلى النَّارِ الَّتي أَجَّجُوها، فلمَّا عَلَوْا ذلك البناءَ وحَطُّوه منه إلى أسفَلَ، عادُوا هم الأسفلينَ؛ لأنَّهم أُهلِكُوا في الدُّنيا، وسَفُل أمرُهم في الأُخْرى، واللهُ تعالى نجَّى نبيَّه عليه السَّلامُ وأعلاهُ عليهم، فانقلب عالي أمْرِهم في صُعودِ البِناءِ وسافِلِ أمرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فلمَّا حُطَّ إلى النَّارِ صار ذلك سافِلًا، وأمْرُ النَّبيِّ عليه السَّلامُ عاليًا؛ فلذلك اختُصَّتْ هذه الآيةُ بقولِه: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [665] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (1/905، 906)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/350)، ((كشف المعاني)) لابن جَمَاعة (ص: 256)، ((القواعد والأصول وتطبيقات التدبر)) للسبت (ص: 104، 153-154). .