موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (51-61)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات :

رُشْدَهُ: أي: هُداه، والرُّشْدُ والرَّشَدُ: خِلافُ الغَيِّ، يُستعمَلُ استعمالَ الهدايةِ، وأصلُ (رشد): يدُلُّ على استقامةِ الطَّريقِ .
التَّمَاثِيلُ: جمعُ تِمثالٍ، وهي الأصنامُ، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .
عَاكِفُونَ: أي: مُقيمونَ، يُقال: عكَف على كذا: إذا أقام عليه، وأصلُ (عكف): يدُلُّ على مُقابلةٍ وحَبسٍ .
فَطَرَهُنَّ : أي: خَلَقهنَّ، وابتدأَهنَّ، وأصلُ الفَطْرِ: فتْحُ الشَّيءِ، وإبرازُه .
لَأَكِيدَنَّ: أي: لأمكُرَنَّ، والكَيدُ: ضَربٌ مِن الاحتيالِ، وقد يكونُ مَذمومًا ومَمدوحًا، وإن كان يُستعمَلُ في المذمومِ أكثَرَ، وأصلُ (مكر): يدُلُّ على مُعالجةٍ لِشَيءٍ بشِدَّةٍ .
جُذَاذًا: أي: فُتاتًا وحُطامًا، والجَذُّ: كَسرُ الشَّيءِ وتَفتيتُه، وأصلُه يدُلُّ على كَسرٍ وقَطعٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: ولقد آتَينا إبراهيمَ هُداه مِن قَبلِ موسى وهارونَ، وكنَّا عالِمينَ أنَّه أهلٌ لذلك الهُدى، إذْ قال لأبيه وقَومِه: ما هذه الأصنامُ التي صَنَعتُموها ونحتُّمُوها بأيديكم، ثمَّ أنتم مُقيمونَ على عِبادتِها؟! قالوا لإبراهيمَ: وجَدْنا آباءَنا عابدينَ لها، ونحن نَعبُدُها اقتداءً بهم. قال لهم إبراهيمُ: لقد كنتُم أنتم وآباؤُكم في عبادتِكم لهذه الأصنامِ في بُعْدٍ واضحٍ بيِّنٍ عن الحَقِّ. قالوا: أجِئتَنا بالحَقِّ والجِدِّ، أم كلامُك لنا كلامُ لاعبٍ مُستَهزئٍ؟ قال لهم إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: بل ربُّكم الذي أدعوكم إلى عبادتِه هو ربُّ السَّمواتِ والأرضِ الذي خلَقَهنَّ وأبدَعَهنَّ، وأنا على ذلك مِن الشَّاهدينَ، وتاللهِ لأمكُرَنَّ بأصنامِكم وأُكَسِّرُها بعد أن تَنصَرِفوا عنها.
فحطَّم إبراهيمُ الأصنامَ وجعَلَها قِطَعًا صغيرةً إلَّا صَنَمًا كَبيرًا لهم لم يُكَسِّرْه؛ لعَلَّ عابِديه يسألونَه عمَّن كَسَّرَ أصنامَهم؛ فيتبَيَّنَ عَجزُه، وتقومَ الحُجَّةُ عليهم. ولَمَّا رأَوا أصنامَهم مُحطَّمةً مُهانةً، قالوا: مَن فعَلَ هذا بآلهَتِنا، إنَّه لظالمٌ بصَنيعِه واجترائِه على آلهتِنا؟! قال الذين سَمِعوا إبراهيمَ يَحلِفُ بأنَّه سيكيدُ أصنامَهم: سَمِعْنا فتًى يقالُ له إبراهيمُ، يَذكُرُ أصنامَنا بالعَيبِ والنَّقصِ والذَّمِّ. قال قَومُ إبراهيمَ بَعضُهم لبعضٍ: فَأْتُوا بإبراهيمَ على مرأًى من النَّاسِ؛ كي يَشهَدوا عُقوبتَنا له.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أُعقِبَت قِصَّةُ موسى وهارونَ بقِصَّةِ إبراهيمَ فيما أُوحيَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مقاومةِ الشِّركِ ووُضوحِ الحُجَّةِ على بُطلانِه؛ لأنَّ إبراهيمَ كان هو المثَلَ الأوَّلَ قبل مجيءِ الإسلامِ في مُقاوَمةِ الشِّركِ؛ إذ قاوَمَه بالحُجَّةِ وبالقُوَّةِ وبإعلانِ التوحيدِ، فكانت قِصَّةُ إبراهيمَ مع قَومِه شاهِدًا على بُطلانِ الشِّركِ الذي كان مُماثِلًا لحالِ المُشركِينَ بمكَّةَ الذين جاء محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِقَطعِ دابِرِه .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ.
أي: ولقد آتَينا إبراهيمَ هُداه مِن قَبلُ ، ووفَّقْناه للحَقِّ، وأنقَذْناه مِن بينِ قَومِه وأهلِ بَيتِه، مِن عِبادةِ الأوثانِ .
وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ.
أي: وآتَيناه رُشدًا عَظيمًا على عِلمٍ مِنَّا بأنَّه أهلٌ لذلك الرُّشدِ .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52).
أي: إذ قال إبراهيمُ لأبيه آزَرَ وقَومِه المُشرِكينَ: ما هذه الأصنامُ التي أنتم مُقيمونَ على عِبادتِها، والحالُ أنَّكم مثَّلْتُموها ونحتُّمُوها بأيديكم على صُوَرِ بَعضِ المخلوقاتِ، فكيف تعبُدونَ ما تَنحِتونَ ؟!
كما قال تعالى عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 85 - 87] .
قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53).
أي: قال المُشرِكونَ لإبراهيمَ: وجَدْنا آباءَنا يَعبُدونَ هذه الأوثانَ؛ فنحن نعبُدُها مِثلَهم !
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54).
أي: قال إبراهيمُ: لقد كنتُم أنتم وآباؤُكم جميعًا في ذهابٍ عن سبيلِ الحَقِّ واضحٍ بيِّنٍ؛ بعِبادتِكم جماداتٍ لا تنفَعُ ولا تضُرُّ !
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55).
أي: قال قَومُ إبراهيمَ: أجِئْتَنا -يا إبراهيمُ- بالحَقِّ المُطابِقِ للواقِعِ فيما تقولُ، أمْ أنَّ كلامَك كلامُ مازحٍ هازلٍ مُستَهزِئٍ ؟
قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56).
قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ.
أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: بل جِئتُكم بالحَقِّ لا باللَّعِبِ؛ فرَبُّكم رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ الذي أوجَدَهنَّ وأبدَعَهنَّ وما فيهنَّ مِن جَميعِ المخلوقاتِ .
وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: وأنا على ذلك الأمرِ البيِّنِ مِن الشَّاهِدينَ بعِلمٍ وحُجَّةٍ .
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّن إبراهيمُ عليه السَّلامُ أنَّ أصنامَ قَومِه ليس لها من التَّدبيرِ شَيءٌ، أراد أن يُريَهم بالفِعلِ عَجْزَها، وعَدَمَ انتِصارِها، ولِيَكيدَ كيدًا يَحصُلُ به إقرارُهم بذلك .
وأيضًا فإنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ انتقَلَ مِن تغييرِ المُنكَرِ بالقَولِ إلى تغييرِه باليدِ .
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57).
أي: قال إبراهيمُ: وواللهِ لأحتالَنَّ على أصنامِكم فأُلحِقُ بها الضَّرَرَ بعد أن تَنصَرِفوا عنها .
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58).
أي: فكسَّر إبراهيمُ الأصنامَ، وجعَلَها قِطَعًا مُهَشَّمةً إلَّا صَنَمًا كَبيرًا عِندَهم لم يُكَسِّرْه؛ لعَلَّ عابِديه يسألونَه عمَّن كَسَّرَ أصنامَهم، فيتبيَّنَ لهم عجْزُه !
كما قال تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [الصافات: 90 - 93] .
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59).
أي: فلمَّا رأى المُشرِكونَ حُطامَ أصنامِهم قالوا: مَن فعَلَ هذا بآلهتِنا؟ إنَّه لَمِنَ الظَّالمينَ بصَنيعِه هذا؛ حيثُ فعَل بها ما لا ينبغي له فِعلُه، ووضَعَ الإهانةَ في غيرِ مَوضِعِها؛ فإنَّ الآلهةَ حَقُّها الإكرامُ، لا الإهانةُ والانتِقامُ !!
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60).
أي: قالوا : سَمِعْنا شابًّا يذكُرُ أصنامَنا بالعَيبِ والنَّقصِ والذَّمِّ يُسَمَّى إبراهيمَ، ومَنْ هذا شأنُه لا بدَّ أن يكونَ هو الذي كَسَّرَها .
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61).
أي: قال قَومُ إبراهيمَ بَعضُهم لبَعضٍ: فأحضِروا إبراهيمَ على مرأًى مِن النَّاسِ؛ لعلَّهم يَشهَدونَ عُقوبَتَنا له .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فيه أنَّ الباطِلَ لا يصيرُ حَقًّا بكَثرةِ المُتمَسِّكينَ به .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ فِعْلَه سُبحانَه وتعالى باختيارٍ وحِكمةٍ، وأنَّه عالِمٌ بالجُزئيَّاتِ .
2- العُكوفُ والمجاورةُ عند شَجَرةٍ أو حَجَرٍ؛ تِمثالٍ أو غيرِ تِمثالٍ، أو العُكوفُ والمجاورةُ عند قبرِ نَبيٍّ أو غيرِ نبيٍّ، أو مَقامِ نبيٍّ أو غيرِ نَبيٍّ- ليس هذا مِن دينِ المُسلِمينَ، بل هو مِن جِنسِ دِينِ المُشرِكينَ الذين أخبَرَ الله عنهم بما ذكَرَه في كتابه؛ حيث قال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .
3- قال تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ، مُعاتِبًا لأهلِ الكُفرِ، وذامًّا لهم: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، وقال حكايةً عن أهلِ النَّارِ: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] ، ومِثلُ هذا في القرآنِ كَثيرٌ مِن ذَمِّ تقليدِ الآباءِ والرُّؤساءِ، وقد احتَجَّ العُلَماءُ بهذه الآياتِ في إبطالِ التقليدِ، ولم يمنَعْهم كُفرُ أولئك مِن الاحتجاجِ بها؛ لأنَّ التَّشبيهَ لم يقَعْ مِن جِهةِ كُفرِ أحدِهما، وإيمانِ الآخَرِ، وإنَّما وقع التَّشبيهُ بينَ المقَلِّدينَ بغيرِ حُجَّةٍ للمُقَلِّدِ، كما لو قَلَّد رجلًا فكَفَر، وقلَّدَ آخَرَ فأذنَبَ، وقلَّدَ آخَرَ في مسألةٍ فأخطأ وَجْهَها- كان كُلُّ واحدٍ مَلومًا على التَّقليدِ بغيرِ حُجَّةٍ؛ لأنَّ كُلَّ ذلك تقليدٌ يُشبِهُ بَعضُه بعضًا، وإن اختَلَفت الآثامُ فيه .
4- قال الله تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فإبراهيمُ عليه السَّلامُ إنَّما قيَّدَ كَيْدَه بما بعدَ انصرافِ المُخاطَبينَ؛ إشارةً إلى أنَّه يُلحِقُ الضُّرَّ بالأصنامِ في أوَّلِ وَقتِ التمَكُّنِ منها، وهذا مِن عَزْمِه عليه السَّلامُ؛ لأنَّ المُبادرةَ في تغييرِ المُنكَرِ مع كَونِه باليَدِ مقامُ عَزمٍ، وهو لا يتمَكَّنُ من ذلك مع حضورِ عَبَدةِ الأصنامِ، فلو حاول كَسْرَها بحَضرَتِهم، لكان عمَلُه باطِلًا، والمقصودُ مِن تَغييرِ المُنكَرِ: إزالتُه بقَدرِ الإمكانِ؛ ولذلك فإزالتُه باليَدِ لا تكونُ إلَّا مع المُكْنةِ .
5- قَولُ الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيه سُؤالٌ: فإذا رجَعوا إلى الصَّنَمِ بمُكابَرتِهم لعُقولِهم، ورُسوخِ الإشراكِ في أعراقِهم، فأيُّ فائدةٍ دِينيَّةٍ في رُجوعِهم إليه حتى يجعلَه إبراهيمُ صَلَواتُ اللهِ عليه غَرَضًا؟
الجوابُ: أنَّهم إذا رجَعوا إليه تبَيَّنَ أنَّه عاجِزٌ لا ينفَعُ ولا يَضُرُّ، وظهر أنَّهم في عبادتِه على أمرٍ عظيمٍ .
6- قَولُ الله تعالى: إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ هذا احتِرازٌ عَجيبٌ؛ فإنَّ كلَّ مَمقوتٍ عند الله لا يُطلَقُ عليه ألفاظُ التَّعظيمِ إلَّا على وجهِ إضافتِه لأصحابِه، كما كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كتب إلى ملوكِ الأرضِ المُشرِكينَ يقولُ: ((إلى عظيمِ فارسَ)) ، ((إلى عظيمِ الرومِ)) ونحو ذلك، ولم يقُلْ: (إلى العظيمِ)، فهنا قال تعالى: إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ ولمْ يقُل: (كبيرًا من أصنامِهم)، فهذا ينبغي التنبيهُ له، والاحترازُ من تَعظيمِ ما حَقَّره الله إلَّا إذا أضيفَ إلى مَن عَظَّمه .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
- قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ... فيه تأْكيدُ الخبَرِ عنه بلامِ القسَمِ؛ لتَنزيلِ العرَبِ في مُخالَفتِهم لشَريعةِ أبيهم إبراهيمَ مَنزِلةَ المُنكِرِ لكونِ إبراهيمَ أُوتِيَ رُشْدًا وهَدْيًا .
- قولُه: رُشْدَهُ فيه تَنبيهٌ على تَفخيمِ ذلك الرُّشدِ الَّذي أُوتِيَهُ؛ فالإضافةُ على معنى اللَّامِ المُفيدةِ للاختصاصِ، فكأنَّه انفرَدَ به بينَ قومِه، وزادهُ تَنويهًا وتَفخيمًا تَذييلُه بالجُملةِ المُعترِضةِ، وهي قولُه تعالى: وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ .
- قولُه: مِنْ قَبْلُ، أي: مِن قبْلِ إيتاءِ مُوسى وهارونَ التَّوراةَ -على قولٍ في التفسيرِ-، وتَقديمُ ذِكْرِ إيتاءِ التَّوراةِ؛ لِمَا بيْنه وبينَ إنْزالِ القُرآنِ مِنَ الشَّبهِ التَّامِّ ، أو للتَّنبيهِ على أنَّه ما وقَعَ الابتداء بإيتاءِ الذِّكْرِ مُوسى وهارونَ إلَّا لأنَّ شَريعتَهما لم تزَلْ مَعروفةً مَدروسةً . وكان مِن حَقِّ الظَّاهرِ تَقدُّمُ نُوحٍ على إبراهيمَ، وتقدُّمُ إبراهيمَ على مُوسى، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم، لكنْ المُناسَبةُ استدعَتْ تقدُّمَ مُوسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّ حالَه أشبَهُ بحالِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن حيثُ إيتاءُ الكتابِ، وكثْرةُ الدَّلائلِ القاهرةِ، ومُقاساةُ الشِّدَّةِ، وثِقَلُ أعْباءِ النُّبوَّةِ والدَّعوةِ، وكثرةُ التَّوابِعِ والأُمَّةِ، وأنَّ حالَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أقرَبُ إليه مِن حالِ نُوحٍ عليه السَّلام، فقد رُوعِيَ في تأخُّرِهم تلك اللَّطيفةُ .
2- قولُه تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ فيه حُسْنُ تَرتيبٍ؛ حيث بدَأَ أوَّلًا بذِكْرِ أبيه؛ لأنَّه الأهمُّ عندَه في النَّصيحةِ، وإنقاذِهِ مِن الضَّلالِ، ثمَّ عطَفَ عليه قومَهُ .
- الاستفهامُ في قولِه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ ... يتسلَّطُ على الوصْفِ في قولِه تعالى: الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، فكأنَّه قال: ما عِبادتُكم هذه التَّماثيلَ؟ ولكنَّه صِيغَ بأُسلوبِ تَوجُّهِ الاستفهامِ إلى ذاتِ التَّماثيلِ لإبهامِ السُّؤالِ عن كُنْهِ التَّماثيلِ في بادئِ الكلامِ؛ إيماءً إلى عدَمِ المُلاءَمةِ بينَ حَقيقتِها المُعبَّرِ عنها بالتَّماثيلِ، وبينَ وَصْفِها بالمَعْبوديَّةِ المُعبَّرِ عنه بعُكوفِهم عليها. وهذا من تَجاهُلِ العارفِ، استعمَلَهُ تَمهيدًا لتَخْطئتِهم بعْدَ أنْ يَسمَعَ جوابَهم. والإشارةُ بـ هَذِهِ إلى التَّماثيلِ؛ لزِيادةِ كَشْفِ معناها الدَّالِّ على انحطاطِها عن رُتْبةِ الأُلوهيَّةِ، والتَّعبيرُ عنها بالتَّماثيلِ يَسلُبُ عنها الاستقلالَ الذَّاتِيَّ ، ففي قولِه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ تحقيرٌ لها، وتصغيرٌ لشأنِها، وتجاهلٌ بها، معَ علمِه بها، وبتعظيمِهم لها .
- قولُه: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ في خِطابِه لهم بقولِه: أَنْتُمْ استهانةٌ بهم، وتَوقيفٌ على سُوءِ صَنيعِهم .
- وكما نسَبَ التَّماثيلَ إلى الإفراطِ في الحَقارةِ، نسَبَهُم إلى الإفراطِ في العُكوفِ لها؛ حيثُ قال: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ بالضَّميرِ المرفوعِ، وبِناءِ الخبَرِ عليه المُفيدِ لتَقوِّي الحُكْمِ، وتَخصيصِ العُكوفِ بالذِّكرِ .
- وأيضًا في قولِه: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ جَعْلُ العُكوفِ مُسْندًا إلى ضَميرِهم مُؤْذِنٌ بأنَّ إبراهيمَ لم يكُنْ مِن قبْلُ مُشارِكًا لهم في ذلك؛ فيُعْلَمُ منه أنَّه في مَقامِ الرَّدِّ عليهم؛ ذلك أنَّ الإتيانَ بالجُملةِ الاسميَّةِ في قولِه تعالى: أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ فيه معنى العِبادةِ؛ فلذلك عُدِّيَ باللَّامِ لإفادةِ مُلازَمةِ عِبادتِها ؛ فعدَلَ عن (على) الَّتي يَتعدَّى فِعْلُ العُكوفِ بها، ولكنَّه لم يَقصِدِ التَّعديةَ، ولو قصَدَ التَّعديةَ لقال: (عليها)، ولكنَّه عدَلَ عنها إلى اللَّامِ؛ لأنَّه قصَدَ مِن العُكوفِ معنى العِبادةِ، فمَقامُ المُبالَغةِ اقْتَضى أنْ يُتْرَكَ عَاكِفُونَ على إطلاقِه، سواءٌ كان المُتعلِّقُ مَفْعولًا بواسطةٍ أو بغيرِ واسطةٍ . فاللامُ للاختصاصِ، لا للتعديةِ .
3- قوله تعالى: قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
- فيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، وقال في سُورةِ (الشُّعراءِ): قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74] ؛ فاختُصَّتْ سُورةُ الشُّعراءِ بقولِه: بَلْ، ولم يأْتِ في سُورةِ (الأنبياءِ)؛ ووجْهُه: أنَّ آيةَ الأنبياءِ وقَعَ السُّؤالُ فيها على وَجْهٍ لا يَقْتضي (بل) في الجوابِ؛ لأنَّه قال: ما هذه الأصنامُ الَّتي نَحتُّموها تَماثيلَ وعكَفْتُم عليها؟! فكأنَّه سَفَّه آراءَهم، وقال لهم: لِمَ تَفْعلونَ ذلك، وتَعْبُدون ما تَنحِتون؟! فقالوا: وجَدْنا آباءَنا لها عابِدينَ، فاقْتَدينا بهم. وأمَّا في سُورةِ (الشُّعراءِ) فقد تَقدَّمَ سُؤالٌ أضْرَبوا عنه، ونَفَوا ما تَضمَّنَه؛ لأنَّه قال: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: 72، 73]، فقالوا مُضْرِبينَ عن هذه الأشياءِ الَّتي وُبِّخوا عليها؛ من عِبادتِهم ما لا يَسمَعُ ولا يَنفَعُ ولا يَضُرُّ، وما يَعْلمون أنَّه جَمادٌ لا حياةَ فيه، ولا نَفْعَ ولا ضَررَ عنده، وكأنَّهم قالوا: لا، بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74] ، فلأنَّ السُّؤالَ هنا يَقْتضي في جَوابِهم أنْ يَنْفُوا ما نفاهُ إبراهيمُ عليه السَّلامُ، أضْرَبوا عنه إضرابَ مَن يَنْفي الأوَّلَ، ويُثبِتُ الثَّانِيَ، فاختِصاصُ المكانِ بـ (بل) لهذا . وقيل غير ذلك .
4- قولُه تعالى: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أبطَلَ عليه السَّلامُ جَوابَهم على طَريقةِ التَّوكيدِ القَسَميِّ لَقَدْ .
- وفي اجْتلابِ فِعْلِ الكونِ كُنْتُمْ وحَرْفِ الظَّرفيَّةِ (في): إيماءٌ إلى تَمكُّنِهم مِن الضَّلالِ، وانغماسِهم فيه؛ لإفادةِ أنَّه ضَلالٌ بَواحٌ لا شُبْهةَ فيه، وأكَّدَ ذلك بوَصْفِه بـ مُبِينٍ، فلمَّا ذَكَروا له آباءَهم شرَّكَهم في التَّخطئةِ بدُونِ هوادةٍ بعطْفِ الآباءِ عليهم في ذلك؛ ليَعْلَموا أنَّهم لا عُذْرَ لهم في اتِّباعِ آبائِهم، ولا عُذْرَ لآبائِهم في سَنِّ ذلك لهم؛ لمُنافَاةِ حَقيقةِ تلك الأصنامِ لحَقيقةِ الأُلوهيَّةِ، واسْتِحقاقِ العِبادةِ .
5- قوله تعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ
- الاستفهامُ في قولِه: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ ... استفهامٌ تَعجُّبيٌّ .
- وفي قولِهم: أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أضْرَبوا عن ذلك، وجاؤوا بـ (أَمْ) المُتضمِّنةِ لمَعْنى (بل) الإضرابيَّةِ، والهمزةُ للتَّقريرِ، فأضْرَبوا بـ (بل) عمَّا أثْبَتوا له، وقرَّرُوا بالهمزةِ خِلافَه على سَبيلِ التَّوكيدِ والبَتِّ والقطْعِ؛ وذلك أنَّهم قَطَعوا أنَّه لاعِبٌ وليس بمُحِقٍّ الْبتَّةَ؛ لأنَّ إدخالَهم إيَّاه في زُمرةِ اللَّاعبينَ، أي: أنت غَريقٌ في اللَّعِبِ، داخِلٌ في زُمرةِ الَّذين قُصارى أمْرِهم في إثباتِ الدَّعاوى اللَّعِبُ واللَّهوُ، على سَبيلِ الكِنايةِ الإيمائيَّةِ .
- وجاءت جُملةُ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ اسميَّةً؛ لكونِها أثبَتَ، كأنَّهم حَكَموا عليه بأنَّه لاعِبٌ هازِلٌ في مَقالتِه لهم، ولكونِها فاصِلةً ؛ فخُولِفَ بينَ الجُملتينِ في الآيةِ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؛ لمُلاحَظةِ تَجدُّدٍ في إحداهما، فبرَزَتْ في صُورةِ الفِعْليَّةِ، وثَباتٍ في الأُخرى، فبرَزَتْ في صُورةِ الاسميَّةِ، والمعنى: أحْدَثْتَ عندنا الإتيانَ بالحقِّ -وهو التَّوحيدُ- فيما نَسْمَعُه منك، أمْ أنت على ما كنْتَ عليه مِن اللَّعبِ منذُ أيَّامِ الصِّبا؟! وأرادوا بالتَّجدُّدِ في الجُملةِ الأُولى: أنَّ التَّوحيدَ أمْرٌ مُحْدَثٌ مُخترَعٌ، وبالثَّباتِ في الثَّانيةِ: أنَّه على عادتِهم المُستمِرَّةِ مِن اللَّعبِ؛ تَحقيرًا له .
- وفي قولِهم: مِنَ اللَّاعِبِينَ عُدِلَ عن الإخبارِ عنه بوَصْفِ (لاعِبٍ)، إلى الإخبارِ بأنَّه من زُمرةِ اللَّاعبينَ؛ مُبالَغةً في توغُّلِ كلامِه ذلك في بابِ المزحِ، بحيث يكونُ قائِلُه مُتمكِّنًا في اللَّعبِ، ومَعْدودًا من الفريقِ الموصوفِ باللَّعبِ .
6- قوله تعالى: قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
- قولُه: قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ إضْرابٌ عمَّا بَنَوا عليه مَقالَهم مِن اعتقادِ كونِها أرْبابًا لهم؛ كأنَّه قِيلَ: ليس الأمْرُ كذلك، بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ. وقيل: إضْرابٌ عن كونِه لاعِبًا بإقامةِ البُرهانِ على ما ادَّعاهُ . وقيل: هذا الجوابُ وارِدٌ على الأُسلوبِ الحكيمِ ، وكان مِن الظَّاهرِ أنْ يُجيبَهم بقولِه: (بلْ أنا مِن المُحقِّينَ ولسْتُ منَ اللَّاعبينَ)؛ فجاء بقولِه: بَل رَبُّكُمْ ... الآيةَ؛ لِيُنَبِّهَ به على أنَّ إبطالي لِمَا أنتم عاكِفونَ عليه، وتَضْليلي إيَّاكم ممَّا لا حاجةَ فيه -لوُضوحِه- إلى الدَّليلِ، ولكنِ انْظُروا إلى هذه العظيمةِ، وهي أنَّكم تَتْرُكونَ عِبادةَ خالِقِكم، ومالِكِ أمْرِكم، ورازِقِكم، ومالِكِ العالَمينَ، والَّذي فطَرَ ما أنتم لها عاكِفونَ، وتَشْتغِلون بعِبادتِها دونَه، فأيُّ باطلٍ أظهَرُ مِن ذلك؟ وأيُّ ضَلالٍ أبيَنُ مِن هذا؟ ثمَّ ذيَّلَ الجوابَ بما هو مُقابِلٌ لقولِهم، وهو قولُه: وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ مِن حيثُ الأسلوبُ، وهي الكِنايةُ، ومِن حيثُ التَّركيبُ، وهو بِناءُ الخبرِ على الضَّميرِ، أي: لسْتُ مِن اللَّاعبينَ في الدَّعاوى، بلْ أنا مِن القائمينَ فيها بالبَراهينِ القاطعةِ، والحُجَجِ السَّاطعةِ، كالشَّاهدِ الَّذي تُقْطَعُ به الدَّعاوى .
- وضَميرُ (هنَّ) للسَّمواتِ والأرضِ، وصَفَه تعالى بإيجادِهنَّ إثْرَ وَصْفِه تعالى برُبوبيَّتِه تعالى لهُنَّ؛ تَحقيقًا للحقِّ، وتَنبيهًا على أنَّ ما لا يكونُ كذلك بمَعزِلٍ مِن الرُّبوبيَّةِ. ورُجوعُ الضَّميرِ إلى التَّماثيلِ أدْخَلُ في تَضليلِهم، وأظْهَرُ في إلْزامِ الحُجَّةِ عليهم؛ لِمَا فيه مِن التَّصريحِ المُغْني عنِ التَّأمُّلِ في كونِ ما يَعبُدونه مِن جُملةِ المخلوقاتِ .
7- قوله تعالى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
- بادَرَهُم أوَّلًا بالقولِ المُنبِّهِ على دَلالةِ العقْلِ، فلم يَنتفِعوا بالقولِ، فانتقَلَ إلى القولِ الدَّالِّ على الفِعْلِ الَّذي مآلُه إلى الدَّلالةِ التَّامَّةِ على عدَمِ الفائدةِ في عبارةِ ما يَتسلَّطُ عليه بالكسْرِ والتَّقطيعِ، وهو لا يَدفَعُ، ولا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ، ولا يَشعُرُ بما ورَدَ عليه من فَكِّ أجزائِه، فقال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ .
- قولُه: وَتَاللَّهِ القسَمُ بالتَّاءِ فيه زِيادةُ معنًى عن القسَمِ بالواوِ، وهو التَّعجُّبُ؛ فالتَّاءُ تَختصُّ بقسَمٍ على أمْرٍ مُتعجَّبٍ منه، وتَختَصُّ باسْمِ الجَلالةِ؛ كأنَّه تَعجَّبَ مِن تَسهُّلِ الكيدِ على يَدِهِ وتأَتِّيه؛ لأنَّ ذلك كان أمْرًا مَقنوطًا منه؛ لصُعوبتِه وتَعذُّرِه .
8- قولُه تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ في الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فتَولَّوا إلى عِيدِهم، فأتَى إبراهيمُ الأصنامَ، فجعَلَهم جُذاذًا .
- وأتَى بضَميرِ مَن يَعقِلُ في قولِه: فَجَعَلَهُمْ؛ إذ كانت تُعْبَدُ . وكذلك أُجْرِيَ على الأصنامِ ضَميرُ جمْعِ العُقلاءِ؛ مُحاكاةً لمَعنى كلامِ إبراهيمَ؛ لأنَّ قَومَه يَحْسَبون الأصنامَ عُقلاءَ .
- قولُه: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيه استهزاءٌ بهم، واستجهالٌ لهم .
9- قوله تعالى: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ
- قولُه: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ فيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فلمَّا رَجَعوا مِن عِيدِهم إلى آلهتِهم، ورَأَوا ما فُعِلَ بها، اسْتَفْهموا على سَبيلِ البحثِ والإنكارِ، فقالوا: مَن فعَلَ هذا ؟!
- قولُهم: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا استفهامٌ على طَريقةِ الإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّشنيعِ، وإنَّما عَبَّروا عنها بما ذُكِرَ، ولم يُشِيروا إليها بـ(هؤلاء) وهي بينَ أيدِيهم؛ مُبالَغةً في التَّشنيعِ .
- قولُه: إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه .
- وفيه مُبالَغاتٌ؛ حيث دَلَّ إيقاعُ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا صِلَةً للموصولِ على تَحقيقِ الخبَرِ، أي: هذا الفِعْلُ الشَّنيعُ الفظيعُ لا يَفْعَلُه إلَّا ظالمٌ، ودَلَّ (إنَّ) واللَّامُ في الخبَرِ على مَزيدِ التَّأكيدِ، ودَلَّ اللَّامُ الاستغراقيُّ في الظَّالِمِينَ على أنَّه عريقٌ فيه، وهذه المُبالَغاتُ إنَّما ذَهَبوا إليها لاعتقادِهم أنَّها آلِهةٌ حَقيقةً يجِبُ تَوقيرُهم وإعظامُهم .
10- قوله تعالى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
- قولُه: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ فيه حَذْفُ مُتعلِّقِ (يَذكُرُ)؛ لدَلالةِ القرينةِ عليه، أي: يذكُرُهم بتَوعُّدٍ .
- وفي قولِهم: يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ دَلالةٌ على أنَّ المُنتصبينَ للبحْثِ في القضيةِ لم يَكونوا يَعرِفونَ إبراهيمَ، أو أنَّ الشُّهداءَ أرادوا تَحقيرَه بأنَّه مَجهولٌ لا يُعْرَفُ، وإنَّما يُدْعى أو يُسمَّى إبراهيمَ .
11- قوله تعالى: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
- قولُه: عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فيه الإتيانُ بحَرفِ الاستعلاءِ (على)؛ لتَمكُّنِ البصَرِ فيه، حتَّى كأنَّ المَرْئِيَّ مَظروفٌ في الأعيُنِ .