موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (63-68)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غَريبُ الكَلِماتِ:

سَعِيرًا: أي: نارًا تَتسعَّرُ، أي: تشتعِلُ وتتَّقِدُ وترتفِعُ، والسَّعيرُ اسمٌ مِن أسماءِ جهنَّمَ .

المعنى الإجماليُّ:

 يقولُ تعالى مبَيِّنًا أنَّ وقتَ قيامِ السَّاعةِ لا يَعلَمُه إلَّا هو: يَسألُك النَّاسُ -يا محمَّدُ- عن وُقوعِ القيامةِ، قُلْ: عِلمُ ذلك عندَ اللهِ. وما يُدريك -يا محمَّدُ- لعلَّ وَقتَ مَجيءِ القيامةِ قد دنا واقترَبَ.
ثمَّ يُبيِّنُ ما أعدَّه للكافرينَ مِن عِقابٍ، فيقولُ: إنَّ اللهَ طردَ الكافرينَ مِن رَحمتِه، وأعدَّ لهم نارًا مُتسَعِّرةً، ماكِثينَ فيها أبدًا، لا يجِدونَ وليًّا ولا نَصيرًا يومَ تُقلَّبُ وُجوهُهم في النَّارِ يقولونَ: يا لَيْتَنا أطَعْنا اللهَ وأطَعْنا رسولَه.
وقالوا: ربَّنا إنَّا أطَعْنا في الدُّنيا أئمَّتَنا وكُبراءَنا في الكُفرِ والعِصيانِ، فصَرَفونا عن طريقِ الحَقِّ، رَبَّنا ضاعِفْ عليهم العذابَ، وأبْعِدْهم مِن رحمتِك إبعادًا عظيمًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى حالَ المنافِقينَ في الدُّنيا أنَّهم يُلعَنون ويُهانونَ ويُقتَلون؛ أراد أن يُبيِّنَ حالَهم في الآخرةِ، فذكَّرهم بالقيامةِ، وذكَر ما يكونُ لهم فيها .
وأيضًا لَمَّا كان تهديدُ المنافِقينَ بعذابِ الدُّنيا يُذَكِّرُ بالخَوضِ في عذابِ الآخرةِ: خوْضِ المُكَذِّبينَ السَّاخِرينَ، وخَوضِ المؤمِنينَ الخائِفينَ، وأهلِ الكتابِ؛ أتْبَعَ ذلك بهذا .
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ.
أي: يَسألُك النَّاسُ -يا مُحمَّدُ- عن يومِ القيامةِ متى يكونُ ؟
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ.
أي: قُلْ لهم: لا يَعلَمُ متى تكونُ القيامةُ إلَّا اللهُ وَحْدَه .
كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] .
وقال سُبحانَه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [النازعات: 42 - 44] .
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا.
أي: وما يُدريك -يا مُحمَّدُ- لعلَّ وَقتَ مَجيءِ القيامةِ قد دنا واقتَرَب .
كما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] .
وقال الله سُبحانَه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .
وقال عزَّ وجلَّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1].
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ المنافِقينَ في الدُّنيا أنَّهم مَلعونونَ مُهانونَ مَقتولونَ؛ بيَّنَ حالَهم في الآخِرةِ .
وأيضًا فهذا حظُّ الكافِرينَ مِن وعيدِ السَّاعةِ، وهذه لَعْنةُ الآخرةِ، قُفِّيَت بها لعنةُ الدُّنيا في قَولِه: مَلْعُونِينَ [الأحزاب: 61] ؛ ولذلك عَطَف عليها وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا، فكانت لعنةُ الدُّنيا مُقتَرِنةً بالأخذِ والتَّقتيلِ، ولعنةُ الآخرةِ مُقترنةً بالسَّعيرِ .
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ .
أي: إنَّ اللهَ طَرَد الكافِرينَ وأبعَدَهم عن رَحمتِه .
وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا.
أي: وأعدَّ لهم نارًا شَديدةَ الإيقادِ؛ لِتَعذيبِهم بها .
كما قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65).
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
أي: ماكِثينَ في النَّارِ إلى غيرِ نهايةٍ، فلا يَخرُجونَ منها .
لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.
أي: لا يَجِدونَ وَليًّا يَتولَّاهم ويَنفَعُهم ويحفَظُهم، ولا نصيرًا يَنصُرُهم مِن عذابِ اللهِ .
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66).
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ.
أي: يومَ تُقلَّبُ وُجوهُ الكافِرينَ في النَّارِ مِن جِهةٍ إلى أُخرى .
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا.
أي: يَقولُ الكافِرونَ وهم نادِمونَ: يا لَيْتَنا أطَعْنا اللهَ وأطَعْنا رَسولَه في الدُّنيا، فسَلِمْنا مِن عذابِ الآخرةِ .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27-29] .
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67).
أي: وقال الكافِرونَ: رَبَّنا إنَّا أطَعْنا في الدُّنيا أئِمَّتَنا في الضَّلالِ؛ مِن الكُفرِ بك، ومَعصيتِك، ومُخالَفةِ رَسولِك؛ فصَرَفونا عن طريقِ الحَقِّ .
رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا لم يُجْدِ تَمَنِّي الكافِرينَ الإيمانَ بطاعةِ اللهِ ورَسولِه، ولا قام لهم عذرٌ في تَشَكِّيهم ممَّن أضلُّوهم: دَعَوا على ساداتِهم، فقالوا :
رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ.
أي: رَبَّنا عذِّبْهم مِثْلَيْ عَذابِنا .
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 38] .
وقال سُبحانَه: قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ [ص: 61] .
وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
قِراءةُ كَبِيرًا قيل: المعنى: لَعْنًا عظيمًا شديدًا غَليظًا .
قِراءةُ كَثِيرًا قيل: على معنى أنَّهم يُلعَنونَ مرَّةً بعدَ مَرَّةٍ. وقيل: المعنى: اطرُدْهم عن محالِّ الرَّحمةِ طَرًدا مُتناهِيًا في العدَدِ. وقيل: القِراءتانِ بمعنًى واحدٍ .
وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا.
أي: واطرُدْهم وأبعِدْهم مِن رَحمتِك طَردًا وإبعادًا عَظيمًا .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا تحذيرُ مَن حَوْلَ وُلاةِ الأُمورِ والوُلاةِ -سواءٌ كانوا وزراءَ أو مُديرينَ أو أكبرَ مِن ذلك- أنْ يَتَّبِعَهم في مَعصيةِ اللهِ تعالى، وأنَّه سيأتي اليَومُ الَّذي يَندَمُ فيه ويَتبرَّأُ، ويدعو عليهم بمِثلِ هذا الدُّعاءِ .
2- في قولِه تعالى عن الأتْباعِ: فَأَضَلُّونَا التَّحذيرُ مِن جُلساءِ السُّوءِ، فكلُّ إنسانٍ ترى أنَّه سيُضِلُّك عن سبيلِ اللهِ تعالى فالواجبُ عليك البُعدُ عنه .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ السُّؤالُ عن السَّاعةِ يحتَمِلُ أن يكونَ الحامِلُ عليه التَّكذيبَ بها واستِبعادَها، وهذا يُورَدُ مِن الكُفَّارِ، وتارةً يُسأَلُ عنها سؤالَ استِفهامٍ: متى تكونُ؟ مع الإيقانِ بها، وهذا قد يَرِدُ مِن المؤمنينِ، وتارةً يُسأَلُ عنها؛ لِيُبَيَّنَ للنَّاسِ أنَّه لا يمكِنُ العِلمُ بها، كما سأل جِبريلُ عليه السَّلامُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن السَّاعةِ؛ قال: ((متى السَّاعةُ؟ )) وهو لم يَسألِ استِبعادًا وإنكارًا، ولا استِرشادًا: متى يكونُ وَقتُها؟ ولكِنْ إعلامًا بأنَّ وقتَها لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تعالى .
2- في قَولِه تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ دليلٌ واضحٌ على أنَّه لا أحدَ غيرُ اللهِ يَعْلَمُ متى تكونُ السَّاعةُ، فمَنِ ادَّعَى أنَّه يَعلَمُ السَّاعةَ متى تكونُ؛ فقد كَذَّبَ القرآنَ، وهو كافرٌ مرتدٌّ عن دينِ الإسلامِ .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ إثباتُ العِلَلِ والأسبابِ؛ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: الْكَافِرِينَ؛ فـ الْكَافِرِينَ وصفٌ عُلِّقَ به اللَّعنُ، فهو رَبطٌ لِلَّعنِ بالكُفرِ، فيكونُ في هذا إثباتُ العِلَلِ والأسبابِ، وفيه رَدٌّ على الجَهميَّةِ الَّذين يقولونَ: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَفعَلُ الأشياءَ لا لحِكمةٍ، بل لمجرَّدِ المَشيئةِ» !
4- قولُه تعالى وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا فيه إثباتُ وجودِ النَّارِ .
5- في قَولِه تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا تأبيدُ خُلودِ الكافرينَ في النَّارِ، وفيه رَدٌّ على مَن قال بفَناءِ النَّارِ .
6- أنَّ السَّادةَ والكُبَراءَ المُضلِّينَ لا يَنفعونَ أتْباعَهم يومَ القيامةِ؛ ووجْهُه: قولُه تعالى: لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، ولأنَّهم دَعَوا على هؤلاء: رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ، ولو كانوا ينفعونَهم ما دَعَوا عليهم !
7- في قَولِه تعالى: يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا أنَّ طاعةَ اللهِ تعالى ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سببٌ للنَّجاةِ مِن النارِ؛ لأنهم لم يَتمَنَّوا شيئًا سِوى طاعةِ اللهِ تعالى ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّتي يَنْجُونَ بها مِن هذا العذابِ .
8- قال الله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا هذا النَّصُّ وأمثالُه فيه نصيبٌ لكلِّ مَنِ اتَّبع أحدًا مِنَ الرُّؤوسِ فيما يُخالِفُ الكِتابَ والسُّنَّةَ؛ سواءٌ كانوا مِن رؤوسِ أهلِ النَّظَرِ والكَلامِ والمعقولِ والفَلسَفةِ، أو رُؤوسِ أهلِ الفِقهِ والكلامِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، أو مِن رُؤوسِ أهلِ العبادةِ والزَّهادةِ والتَّألُّهِ والتَّصَوُّفِ، أو مِن رُؤوسِ أهلِ المُلكِ والإمارةِ والحُكمِ والوِلايةِ والقَضاءِ .
9- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا تحريمُ تقليدِ العالِمِ إذا تَبَيَّنَ النَّصُّ، وهذا يُؤخَذُ مِن أنَّ اللهَ تعالى عَذَّبَ هؤلاء على تقليدِ كُبَرائِهم وزُعمائِهم في مخالفةِ الحقِّ. فإذا تَبَيَّنَ لك الحقُّ فلا تَقُلْ: قال العالِمُ الفلانيُّ، وقال الإمامُ الفلانيُّ؛ فتكونَ مُشابهًا لأهلِ النَّارِ الَّذين قالوا: إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا .
10- قال الله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا هذا نصٌّ في بُطلانِ التَّقليدِ، وقد احتجَّ العلماءُ بهذه الآيةِ وغيرِها مِن الآياتِ في إبطالِ التَّقليدِ، ولم يمنَعْهم كفرُ أولئك مِن الاحتجاجِ بها؛ لأنَّ التَّشبيهَ لم يَقَعْ مِن جهةِ كُفْرِ أحدِهما وإيمانِ الآخَرِ، وإنَّما وَقَعَ التَّشبيهُ بينَ المقلِّدِينَ بغيرِ حُجَّةٍ للمقلَّدِ، كما لو قَلَّدَ رجُلًا فكَفَرَ، وقَلَّدَ آخَرَ فأذنبَ، وقَلَّدَ آخَرَ في مسألةٍ فأخطأَ وجْهَها؛ كان كلُّ واحدٍ مَلُومًا على التَّقليدِ بغيرِ حُجَّةٍ؛ لأنَّ كلَّ ذلك تقليدٌ يُشْبِهُ بعضُه بعضًا وإنِ اختلفَتِ الآثامُ فيه .
11- في قَولِه تعالى عن الأتْباعِ: فَأَضَلُّونَا جوازُ نِسبةِ الشَّيءِ إلى سَبَبِه، مع أنَّ الَّذي يُضِلُّ ويَهدي حقيقةً هو اللهُ سُبحانَه وتعالى، لكنَّ هؤلاء الكُبَراءَ صاروا سببًا للإضلالِ؛ فنُسِبَ الإضلالُ إليهم .
12- قَولُ الله تعالى: رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا فيه معنًى لطيفٌ، وهو: أنَّ الدُّعاءَ لا يكونُ إلَّا عندَ عَدَمِ حُصولِ الأمرِ المدعوِّ به، والعذابُ كان حاصِلًا لهم، واللَّعنُ كذلك؛ فطَلَبوا ما ليس بحاصِلٍ، وهو زيادةُ العذابِ، بقَولِهم: ضِعْفَيْنِ، وزيادةُ اللَّعنِ، بقَولِهم: لَعْنًا كَبِيرًا .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا
جُملةُ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ... مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 60] ، وبيْن جُملةِ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب: 64] ؛ لِتَكونَ تَمهيدًا لِجُملةِ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ ... .
وقولُه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا خِطابٌ مُستقِلٌّ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غيرُ داخلٍ تحتَ الأمرِ، مَسوقٌ لِبَيانِ أنَّها -مع كَونِها غيرَ مَعلومةٍ للخَلْقِ- مَرْجوَّةُ المَجيءِ عن قَريبٍ، أيْ: أيُّ شَيءٍ يُعلِمُك بوَقتِ قيامِها؟! أي: لا يُعلِمُك به شَيءٌ أصلًا .
وفي قولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا تَهديدٌ للمُستعجِلينَ، وإسكاتٌ للمُتعنِّتينَ، وتَسليةٌ للمُمتَحَنينَ، وبيانُ أنَّ السَّاعةَ قريبةُ الوُقوعِ. والإظهارُ في حيِّزِ الإضمارِ -حيثُ لم يقُلْ: (لعلَّها)-؛ للتَّهويلِ وزِيادةِ التَّقريرِ، وتأْكيدِ استِقلالِ الجُملةِ .
وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا، وقال في سورةِ (الشورى): لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] ، فزِيدَ هنا معه تَكُونُ؛ مُراعاةً للفواصلِ .
2- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ جُملةَ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا إلى قولِه: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 60- 62] ، تُثِيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ التَّساؤُلَ عن الاقتصارِ على لَعنِهم وتَقتيلِهم في الدُّنيا، وهلْ ذلك مُنْتهى ما عُوقِبوا به أو لهمْ مِن وَرائِه عذابٌ؟ فكان قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ ... إلخ جوابًا عن ذلك .
وحَرفُ التَّوكيدِ إِنَّ للاهتِمامِ بالخبَرِ، أو مَنظورٌ به إلى السَّامعينَ مِن الكافرينَ. والتَّعريفُ في الْكَافِرِينَ يَحتمِلُ أنْ يكونَ للعهْدِ، أي: الكافرينَ الَّذين كانوا شاقُّوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وآذَوْه وأرْجَفوا في المدينةِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ التَّعريفُ للاستِغراقِ، أي: كلِّ كافرٍ؛ وعلى الوَجهينِ فصِيغةُ الماضي في فِعلِ لَعَنَ مُستعمَلةٌ في تَحقيقِ الوُقوعِ، شُبِّهَ المُحَقَّقُ حُصولُه بالفِعلِ الَّذي حصَلَ .
3- قوله تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا
قولُه: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ فيه تَخصيصُ الوُجوهِ بالذِّكرِ مِن بيْنِ سائرِ الأعضاءِ؛ لإنافةِ الوَجهِ -أي: لشَرفِه وعُلوِّه- على جَميعِ الأعضاءِ؛ فهو أكرَمُها؛ فإذا قُلِّبَ في النَّارِ كان تَقليبُ ما سِواه أَوْلى، وفيهِ مَزيدُ تَفظيعٍ للأمْرِ، وتَهويلٌ للخطْبِ. ولأنَّ حرَّ النَّارِ يُؤذِي الوُجوهَ أشَدَّ ممَّا يُؤذِي بقيَّةَ الجِلدِ؛ لأنَّ الوُجوهَ مَقَرُّ الحواسِّ الرَّقيقةِ .
وقولُه: يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا استِئنافٌ مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ حالِهم الفَظيعةِ؛ كأنَّه قِيل: فماذا يَصنَعون عندَ ذلك؟ فقِيل: يَقولون مُتحسِّرينَ على ما فاتَهم... .
وحَرْفُ (يا) في قولِه: يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا للتَّنبيهِ -على قولٍ-؛ لِقَصدِ إسماعِ مَن يَرْثِي لِحالِهم، والتَّمَنِّي هنا كِنايةٌ عن التَّندُّمِ على ما فاتَ .
والألِفُ في آخِرِ قولِه: الرَّسُولَا؛ لرِعايةِ الفواصلِ الَّتي بُنِيَت عليها السُّورةُ؛ فإنَّها بُنِيَت على فاصلةِ الألِفِ، وفائدةُ زِيادةِ الألِفِ الوقفُ، والدَّلالةُ على أنَّ الكلامَ قد انقطَعَ، وأنَّ ما بعْدَه مُستأنَفٌ .
4- قوله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا
الابتِداءُ بالنِّداءِ ووَصْفِ الرُّبوبيَّةِ في قولِه: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا إظهارٌ للتَّضرُّعِ والابتِهالِ. وجِيءَ بالأفعالِ في صِيغةِ الماضي؛ لأنَّ هذا القولَ كان مُتقدِّمًا على قولِهم: يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ [الأحزاب: 66] ؛ فذلك التَّمَنِّي نشَأَ لهم وقتَ أنْ مَسَّهم العذابُ مع رُؤسائِهم، وهو خبَرٌ مُستعمَلٌ في الشِّكايةِ والتَّذَمُّرِ، وهو تَمهيدٌ لِطلَبِ الانتِصافِ مِن سادتِهم وكُبرائِهم، ومَقصودٌ مِن هذا الخبرِ أيضًا الاعتِذارُ والتَّنصُّلُ مِن تَبِعةِ ضَلالِهم بأنَّهم مَغرورونَ مَخدوعونَ .
وحَرفُ التَّوكيدِ إِنَّ؛ لِمُجرَّدِ الاهتِمامِ. وتَقديمُ قَولِهم: إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا اهتمامٌ بما فيه مِن تَعليلٍ لِمَضمونِ قولِهم: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا؛ لأنَّ كُبَراءَهم ما تأتَّى لهم إضلالُهم إلَّا بتَسبُّبِ طاعتِهم العَمْياءِ إيَّاهم، واشتِغالِهم بِطاعتِهم عن النَّظرِ والاستِدلالِ فيما يَدْعونهم إليه مِن فَسادٍ ووَخامةِ مَغَبَّةٍ، وبتَسبُّبِ وَضْعِهم أقوالَ سادتِهم وكُبرائِهم مَوضعَ التَّرجيحِ على ما يَدْعوهم إليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
5- قوله تعالى: رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا في إعادةِ النِّداءِ في قولِهم: رَبَّنَا: تأكيدٌ للضَّراعةِ والابتهالِ، وللمُبالَغةِ في الجُؤارِ، واستِدعاءِ الإجابةِ، وتَمهيدٌ لِقَبولِ سُؤلِهم، حتَّى إذا قُبِلَ سُؤلُهم طَمِعوا في التَّخلُّصِ مِن العذابِ الَّذي أَلْقَوه على كاهلِ كُبَرائِهم، بما في هذا النِّداءِ مِن تَعريضٍ بإلقاءِ تَبِعةِ الضَّلالِ على الَّذين أضَلُّوهم، وأنَّ العذابَ الَّذي أُعِدَّ لهم يُسلَّطُ عليهم. وتَثنيةُ ضِعْفَيْنِ مُستعمَلةٌ في مُطلَقِ التَّكريرِ؛ كِنايةً عن شِدَّةِ العذابِ .
وفي قولِه: وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَثِيرًا -على قِراءةِ كَثيرًا- وُصِفَ اللَّعنُ بالكَثرةِ كما وُصِفَ العذابُ بالضِّعفينِ؛ إشارةً إلى أنَّ الكُبَراءَ استَحقُّوا عَذابًا لِكُفرِهم، وعَذابًا لِتَسبُّبِهم في كُفرِ أتْباعِهم، فالمُرادُ بالكثيرِ: الشَّديدُ القوِيُّ -على قولٍ-؛ فعُبِّرَ عنه بالكثيرِ لِمُشاكَلةِ معنى التَّثنيةِ في قولِه: ضِعْفَيْنِ المُرادِ به الكثرةُ .