موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (187-188)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غريب الكلمات:

أَيَّانَ مُرْسَاهَا: أَي: متى إِقَامَتهَا وإثباتها ومُستقَرُّها، ويُسألُ بأيَّانَ عن الزَّمانِ المُستقبَلِ، وأصلُ (رسو): يدلُّ على الثَّبات .
لَا يُجَلِّيهَا: أي: لا يُظهِرُها، يقال: جلَّى لي الخَبَر: أي كشَفَه وأوضَحَه، وأصلُ (جلو): يدلُّ على انكشافِ الشَّيءِ وبُروزِه .
ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: أي: خَفِيَ عِلمُ السَّاعة على أهلِ السَّمواتِ والأرضِ، وإذا خَفِيَ الشَّيءُ ثَقُلَ، أو ثقُلَ وقوعُها على أهل السَّمواتِ والأرضِ، وأصل (ثقل) ضِدُّ الخفَّةِ .
حَفِيٌّ: أي: مُلِحٌّ في طَلَبِ عِلْمِها، مُستَقْصٍ السُّؤالَ عنها. يقال: أحفى فلانٌ في المسألةِ: إذا ألحَّ فيها وبالَغَ، وأصلُ (حفي): يدلُّ على استقصاءٍ في السُّؤالِ .

مشكل الإعراب:

قال تَعالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ: ما اسمٌ مَوصولٌ مبنيٌّ في محلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ المتَّصِل مِن مَجموعِ النَّفعِ والضَّرِّ- على تقديرِ أنَّه يملِكُ من ذلك ما ملَّكَه اللهُ- أي: إلَّا ما شاءَ اللهُ تمكيني منه، فإنِّي أملِكُه، وقيل: الاستثناءُ مُنقطِعٌ- لأنَّ المخلوقَ لا يملِكُ لنَفسِه نفعًا ولا ضَرًّا بحالٍ- والتَّقديرُ: لكنْ ما شاء اللهُ مِن ذلك كائِنٌ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ اللهُ تعالى لنبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يسألُك النَّاسُ متى يحُلُّ يومُ القيامةِ، قل لهم: إنَّما عِلمُ ذلك عند ربِّي، لا يُظهِرُه في وقتِه إلَّا هو وَحدَه، خفِي علمُ وقتِها على أهلِ السمواتِ والأرضِ، لا تأتيكم إلَّا فجأةً، يَسألونَك عنها يا مُحمَّدُ، وكأنَّك قد أكثَرْتَ السُّؤالَ عنها حتى عَلِمْتَ وَقتَها، قلْ لهم: لا عِلمَ لي بوَقتِها، إنَّما عِلمُ ذلك عند اللهِ، ولكِنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمونَ.
قلْ لهم: لا أملِكُ أنْ أجلِبَ لنفسي النَّفعَ، ولا أدفَعَ عنها الضُّرَّ، إلَّا ما شاء اللهُ، ولو كنتُ أعلَمُ الغيبَ لفعَلتُ الأسبابَ التي أعلَمُ أنَّها تُنتِجُ لي الكثيرَ مِن المصالِحِ، ولَتجنَّبتُ الشَّرَّ قبل أن يقَعَ، ما أنا إلَّا مُنذِرٌ ومُبَشِّرٌ لِقَومٍ يُؤمنونَ.

تفسير الآيتين:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
في مُناسَبةِ الآيةِ لِما قَبلَها وجهان:
الوجهُ الأول: لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى التوحيدَ والنبوَّةَ والقضاءَ والقدَرَ؛ أتبعَ ذلك بذِكرِ المَعادِ.
الوجه الثاني: لَمَّا تقدَّمَ قَولُه تعالى: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ وكان ذلك باعثًا للمبادرةِ إلى التَّوبةِ والإصلاحِ، قال بعده: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا؛ ليتحقَّقَ في القُلوبِ أنَّ وقتَ السَّاعةِ مكتومٌ عن الخَلقِ، فيصيرَ ذلك حاملًا للمُكلَّفينَ على المسارعةِ إلى التَّوبةِ وأداءِ الواجباتِ .
سببُ النُّزولِ:
عن طارقِ بنِ شِهابٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا يزالُ يَذكُرُ مِن شأنِ السَّاعةِ، حتى نزلَت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
أي: يسألُكَ النَّاسُ - يا مُحمَّدُ- عن يومِ القيامةِ متى يحُلُّ وَقتُه .
كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] .
وقال سُبحانه: يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12].
وقال عزَّ وجلَّ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 5-6] .
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَﰀ 
أي: قلْ- يا مُحمَّد- للَّذينَ يسألونَك عن وَقتِ وُقوعِ يَومِ القيامةِ: إنَّما عِلمُ ذلك عند خالِقي ومُدَبِّر شُؤوني، لا عندي، لا يُظهِرُها ولا يوجِدُها في وَقتِها الذي قُدِّرَ أنَّها تقومُ فيه، إلَّا اللهُ وحده .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] .
وقال سبحانه: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47] .
ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
أي: خَفِيَتِ السَّاعةُ عَلَى أَهْلِ السَّمواتِ والأرضِ، وثقلُ علمُها عليهم، واشتَدَّ خَوفُهم منها؛ لِما سيكونُ فيها من الأهوالِ .
كما قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه: 15] .
وقال سبحانه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 17-18] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] .
وقال تبارك وتعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل: 17-18] .
لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
أي: لا تجيءُ السَّاعةُ إلَّا فجأةً، وأنتم لا تَشعرونَ بِمَجيئِها .
كما قال عزَّ وجلَّ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام: 31] .
وقال سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الزخرف: 66] .
وقال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: 48-50] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حتى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها، فإذا طلَعَت فرآها النَّاسُ آمَنُوا أجمعونَ، فذلك حين: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] ، ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثَوبَهما بينهما فلا يَتَبايعانِه، ولا يَطْويانِه، ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد انصرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقحَتِه فلا يطعَمُه، ولتَقَومَنَّ السَّاعةُ وهو يَليطُ حَوضَه فلا يَسقي فيه، ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد رفَعَ أحدُكم أُكلَتَه إلى فيه فلا يطعَمُها )) .
وعن أبي هُريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بارِزًا يومًا للنَّاسِ، فأتاه جبريلُ... قال: متَّى السَّاعةُ؟ قال: ((ما المَسؤولُ عنها بأعلَمَ مِن السَّائِلِ )) .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ قبلَ أن يموتَ بِشَهرٍ: ((تَسألوني عن السَّاعةِ؟! وإنَّما عِلْمُها عندَ اللهِ، وأُقسِمُ باللهِ ما على الأرضِ مِن نفسٍ مَنفوسةٍ تأتي عليها مئةُ سَنةٍ )) .
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا
أي: يَسألُك النَّاسُ عن وقتِ وُقوعِ القيامةِ، وكأنَّك- يا مُحمَّدُ- قد أكثَرْتَ وبالغتَ في السُّؤالِ عنها حتى علِمتَ وقتَها !!
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ
أي: قلْ- يا مُحمَّد- لِمَن يسألُك عن مَوعدِ وقوعِ القيامةِ: لا عِلمَ لي بِوَقتِها، ولا يعلَمُ وَقتَها إلَّا اللهُ وَحدَه .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يعلمونَ أنَّ وَقتَ وُقوعِ يومِ القيامةِ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ وَحدَه .
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) 
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
أي: قلْ- يا مُحمَّد- لِسَائليك عن وَقتِ قيامِ السَّاعةِ: أنا لا أقدِرُ على جَلبِ نَفعٍ إلى نفسي، ولا دفْعِ ضَرٍّ عنها، إلَّا ما أقدرَني اللهُ عليه بمشيئتِه، فيعينُني عليه .
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
أي: وقل- يا مُحمَّدُ- لِمَن يسألُك عن وقتِ قيامِ السَّاعةِ: ولو كنتُ أعلَمُ ما هو كائنٌ في المستقبَلِ، لأعدَدْتُ الكثيرَ ممَّا ينفعُني من المالِ وغَيرِه . 
وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ
أي: ولو كنتُ أعلَمُ الغَيبَ لاحتَرَستُ ممَّا يُفضي إلى المكروهِ، ولكنِّي لا أعلَمُ الغيبَ؛ ولهذا يصيبُني ما قدَّر اللهُ لي .
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
أي: ما أنا إلَّا مُنذِرٌ عقابَ اللهِ مَن عصاه، ومُبَشِّرٌ بثوابِه مَن أطاعَه، وإنذاري وتبشيري إنَّما ينتفِعُ به المؤمنونَ .
كما قال سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 18] .
وقال تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] .

الفوائد التربوية:

قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يجِبُ على المؤمنينَ أن يخافوا ذلك اليومَ، وأن يحمِلَهم الخوفُ على مُراقبةِ الله تعالى في أعمالِهم، فيلتَزِموا فيها الحقَّ، ويتحَرَّوا الخيرَ، ويتَّقُوا الشَّرَّ والمعاصيَ، ولا يجعَلوا حَظَّهم مِن أمْرِ السَّاعةِ الجِدالَ، والقيلَ والقالَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَولُ اللهِ تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا في السُّؤالِ عن زَمَنِ وُقوعِها بكلمةِ (الإرساءِ)- الدَّالةِ على استقرارِ ما شأنُه الحركةُ والجَرَيانُ، أو المَيَدانُ والاضطرابُ- نكتةٌ دقيقةٌ: وهو أنَّ قيامَ السَّاعةِ عبارةٌ عن انتهاءِ أمْرِ هذا العالَمِ، وانقضاءِ عُمُرِ هذه الأرضِ التي تدورُ بمَن فيها من العوالِم المتحَرِّكة المُضطربةِ، فعبَّرَ بإرسائِها عن منتهى أمْرِها، ووقوفِ سَيرِها. والسَّاعةُ زمَنٌ، وهو أمرٌ مُقدَّرٌ، لا جسمٌ سائِرٌ أو مُسَيَّرٌ، وما يقع فيها ويعبَّرُ بها عنه فهو حركةُ اضطرابٍ وزلزالٍ، لا رَسْوَ ولا إرساءَ، وهو أمرٌ مُستقبَلٌ لا حاصلٌ، ومتوقَّعٌ لا واقِعٌ، فلم يبقَ لإرسائِها معنًى إلَّا إرساءُ حركةِ هذا العالَم فيها، وإنَّه لتعبيرٌ بليغٌ، لم يُعهَدْ له في كلامِ البُلَغاءِ نَظيرٌ .
قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وقال بَعدَها: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ فأجابَ عن الأوَّلِ بِقَولِه: إِنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وعن الثَّاني بقولِه: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ فذكَرَ في الثَّاني اسمَ الجلالةِ؛ للإشعارِ بأنَّه ممَّا استأثَرَ بعِلمِه لِذاتِه، كما أنَّ ذِكرَه للرَّبِّ في الأوَّلِ أشعَرَ بأنَّه مِن شُؤونِ رُبوبيَّتِه، وكلٌّ منهما ممَّا يستحيلُ على خَلقِه .

بلاغة الآيتين:

قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا استئنافٌ ابتدائيٌّ، يَذكرُ به شيئًا مِن ضلالِهم ومحاولةِ تعجيزِهم النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بتعيينِ وَقتِ السَّاعةِ. ومناسبةُ هذا الاستئنافِ هي التعرُّضُ لتوقُّعِ اقترابِ أجَلِهم في قَولِه: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ .
وقد أُطلِقَ الإرساءُ هنا؛ تشبيهًا لوقوعِ الأمرِ الذي كان مترقَّبًا أو متردَّدًا فيه بوصولِ السَّائرِ في البرِّ أو البحرِ، إلى المكان الذي يريدُه .
وذَكرَ السَّاعةَ أوَّلًا، والاستفهامَ عن زمَنِ وُقوعِها ثانيًا؛ على قاعدةِ تَقديمِ الأهَمِّ، وهو المقصودُ بالذَّاتِ .
قوله تعالى: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فيه حصرٌ حقيقيٌّ؛ لأنَّه الأصلُ: أنَّ عِلمَ السَّاعةِ بالتَّحديدِ مقصورٌ على اللهِ تعالى، والتَّعريفُ بوَصفِ الرَّبِّ وإضافَتِه إلى ضميرِ المتكَلِّمِ إيماءٌ إلى الاستدلالِ على استئثارِ اللهِ تعالى بعِلمِ وَقتِ السَّاعةِ دون الرَّسولِ المسؤولِ؛ ففيه إيماءٌ إلى خَطئِهم، وإلى شُبهةِ خَطَئِهم .
وفُصِلَت جُملةُ: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ لأنَّها تتنزَّلُ مِن إنِمَّا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي منزلةَ التَّأكيدِ والتقريرِ، وقدَّمَ المجرورَ، وهو لِوَقْتِهَا، على فاعِلِ يُجَلِّيها الواقعِ استثناءً مفرَّغًا؛ للاهتمامِ به، تنبيهًا على أنَّ تَجليةَ أَمْرِها تكونُ عند وقتِ حُلولِها؛ لأنَّها تأتي بغتةً .
جملةُ: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا مؤكِّدةٌ لجملةِ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، ومُبَيِّنة لكيفيَّةِ سؤالِهم فلِذَينِكَ فُصِلَت، وحُذِفَ مُتعَلِّقُ السُّؤالِ؛ لعِلمِه مِن الجملةِ الأولى .
وقيل: السُّؤالُ الأوَّلَ عن وقتِ قيامِ السَّاعة، والثَّاني عن كُنهِ ثِقلِ السَّاعةِ وشِدَّتِها ومهابَتِها، وقيل: ذُكِرَ الثَّاني للتَّأكيدِ، ولِما جاء به من زيادةِ قَولِه: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا .
قولُه: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا أي: كأنَّك عالمٌ بها. وحقيقتُه: كأنَّك بليغٌ في السُّؤالِ عنها؛ لأنَّ من بالغَ في المسألةِ عن الشَّيءِ والتنقيبِ عنه، استحكَمَ عِلمُه فيه ورصَنَ، وهذا التركيبُ معناه المبالغةُ .
قوله: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قولُه تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، قُصِدَ منه الاهتمامُ بمضمونِه؛ كي تتوجَّهَ الأسماعُ إليه، ولذلك أعيدَ الأمرُ بالقَولِ مع تقدُّمِه مرَّتينِ في قَولِه: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وقُلْ إِنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ للاهتمامِ باستقلالِ المَقولِ، وألَّا يندرِجَ في جملةِ المقُولِ المحكيِّ قَبلَه .
وقال اللهُ تعالى هنا في سورةِ الأعرافِ: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وقال في سورة يونس: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [يونس:48-49] ، فقَدَّمَ النَّفعَ على الضَّرِّ في الأُولى، وأخَّره عنه في الأُخرى، وذلك لمناسبةٍ حسنةٍ؛ أنَّه هنا في الأعرافِ لَمَّا تقدَّمَ سُؤالُ المشركينَ عن السَّاعةِ، وتكرَّر في قولِه: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا، وكان ظاهِرُ السِّياقِ يُشيرُ إلى أنَّهم كانوا يظنُّونَ أنَّه- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يعلَمُها، فطَلَبوا تعريفَهم بها، وأن يخُصَّهم بذلك، ولا شَكَّ أنَّ العِلمَ بالشَّيءِ نَفعٌ لصاحِبِه، فعَرَّفَهم أنَّه لا يملِكُ لنَفسِه نفعًا ولا ضَرًّا، فتقدَّمَ ذِكرُ النَّفعِ؛ لأنَّه مُشيرٌ إلى ما ظَنُّوه أنَّه عِندَه مِن عِلمِها، فأعلَمَهم أنَّه سبحانَه استأثرَ بعِلمِها، وأنَّه- عليه الصَّلاةُ والسَّلام- لا يملِكُ من ذلك شيئًا إلَّا ما شاء اللهُ له ممَّا عدا عِلمَ السَّاعةِ؛ لانفرادِه سبحانه عن خَلقِه بعِلمِها، لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، ثم تأكَّدَ هذا الغَرَضُ بِقَولِه تعالى على لسانِ نبيِّه- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وهذا كلُّه بيِّنُ التناسُبِ.
وأمَّا الآيةُ في سورةِ يونُسَ فإنَّها فيما كان يستعجِلُه الكُفَّارُ مِن عذابِ اللهِ تعالى، وقَبلَها وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس: 46] ، ويقولُ الكُفَّارُ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] قلُ: لا أملِكُ ما وعدَكم اللهُ مِن هذا العذابِ، ولا أن أدفَعَ عنكم سُوءَ العِقابِ، كما لا أملِكُ لنفسي ضرًّا ولا نفعًا إلَّا ما شاء اللهُ أن يملِّكَنيه منهما، فتقديمُ (الضَّرِّ) على (النَّفعِ) في هذه الآية؛ لخروجِها عن ذكرِ العذابِ الذي قال اللهُ تعالى فيه بَعدَها: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [يونس: 51] .
وإنَّما عَطفَ قَولَه: ولا ضرًّا مع أنَّ المرءَ لا يتطَلَّبُ إضرارَ نَفسِه؛ لأنَّ المقصودَ تَعميمُ الأحوالِ، إذ لا تعدو أحوالُ الإنسانِ عن نافعٍ وضارٍّ، فصار ذِكرُ هَذينِ الضِّدَّينِ مثلَ ذِكرِ المساءِ والصَّباحِ، وذِكرِ اللَّيلِ والنَّهارِ، والشَّرِّ والخَيرِ .
وجملة وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ فيها الاستدلالُ على انتفاءِ عِلمِه بالغَيبِ، بانتفاءِ الاستكثارِ مِن الخَيرِ، وتجنُّبِ السُّوء؛ وهو استدلالٌ بأخَصِّ ما لو عَلِمَ المرءُ الغَيبَ لعَلِمَه أولَ ما يعلَمُ، وهو الغيبُ الذي يُهمُّ نفسَه، ولأنَّ اللهَ لو أراد إطلاعَه على الغيبِ، لكان القَصدُ من ذلك إكرامَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيكونُ إطلاعُه على ما فيه راحتُه أوَّلَ ما ينبغي إطلاعُه عليه، فإذا انتفى ذلك كان انتفاءُ غيرِه أَولى. ودليلُ التَّالي في هذه القضيَّةِ الشَّرطيَّةِ، هو المُشاهَدةُ مِن فواتِ خَيراتٍ دُنيويَّةٍ لم يتهيَّأْ لتَحصيلِها، وحصولِ أسواءٍ دُنيويَّةٍ، وفيه تعريضٌ لهم؛ إذ كانوا يتعرَّضونَ له- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بالسُّوءِ .
قوله: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مِن تمامِ القَولِ المأمورِ به، وهي مُستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا، ناشئًا عن التبرُّؤِ مِن أن يملِكَ لنَفسِه نَفعًا أو ضَرًّا .
وخصَّ اللهُ تعالى المؤمنينَ بالذِّكرِ في قوله: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإن كان نذيرًا وبشيرًا للكُلِّ، إلَّا أنَّ المُنتفِعَ بتلك النِّذارةِ والبِشارةِ هم المؤمنونَ .