موسوعة التفسير

سورةُ فاطرٍ
الآيات (15-18)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى: أي: لا تحمِلُ آثِمةٌ إِثْمَ أُخرى غيرِها، والوِزْرُ هو الإثمُ والذَّنْبُ، والثِّقْلُ والحِمْلُ أيضًا. وقيل: الوِزْرُ: هو الحِمْلُ الثَّقيلُ مِن الإثمِ، وهو الإثمُ العَظيمُ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على مَا حمَلَه الإنسانُ، وعلى الثِّقلِ في الشَّيء؛ ومنه سُمِّي الإثمُ وزرًا؛ لأنَّه يُثقِلُ ظهرَ مَن يَحمِلُه [307] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (7/380)، ((غريب القرآن)) لابن قُتَيبة (ص: 152)، ((تفسير ابن جرير)) (19/353)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 489)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/167)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((البسيط)) للواحدي (8/88)، ((المفردات)) للراغب (ص: 867). .
مُثْقَلَةٌ: أي: نفسٌ أثْقَلتْها الذُّنوبُ والأوزارُ، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ [308] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/368)، ((غريب القرآن)) لابن قُتَيبة (ص: 360)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((تفسير الألوسي)) (11/357). .
تُنْذِرُ: أي: تُعلِمُ بما تُحذِّرُ منه، وأصلُ الإنْذارِ: إخبارٌ فيه تخويفٌ، أو الإبْلاغُ [309] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((المفردات)) للراغب (ص: 797)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 48). .
يَخْشَوْنَ: أي: يَخافونَ، وأصلُ الخَشْيَةِ: خوفٌ يَشوبُه تعظيمٌ، وأكثرَ ما يكونُ ذلِك عنْ عِلمٍ بما يُخشَى منه. وقيل: الخَشيةُ أَشدُّ مِن الخَوْفِ [310] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/184)، ((المفردات)) للراغب (ص: 283)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 428). .
تَزَكَّى: أي: تَطهَّرَ مِن الشِّركِ والفَواحِشِ، وأصْلُ (زكي): يدُلُّ على نَماءٍ وزِيادةٍ [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/120)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 159)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 310)، ((تفسير القرطبي)) (11/227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 317). .

المعنى الإجماليُّ:

يُخاطِبُ اللهُ تعالَى عِبادَه مُنبِّهًا على فَقرِهم إليه، وغِناه عنهم، فيقولُ: يا أيُّها النَّاسُ أنتم الفُقَراءُ إلى اللهِ، واللهُ وَحْدَه هو الغَنيُّ المحمودُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، إنْ شاءَ اللهُ أهلَككم -أيُّها النَّاسُ- وأتَى بخَلقٍ غَيرِكم، وليس ذلك على اللهِ بمُمتَنِعٍ؛ لكَمالِ قُدرتِه تعالَى.
ثُمَّ يقولُ تعالَى: ولا تَحمِلُ نَفسٌ آثمةٌ إثْمَ نَفْسٍ أُخرى؛ فكلُّ إنسانٍ مُجازًى بعَمَلِه، وإنْ تَدْعُ يومَ القِيامةِ نَفسٌ مُثقَلةٌ بالذُّنوبِ مَن يَحمِلُ عنها ذُنوبَها، لا تُجَبْ، ولا يَحمِلْ أحدٌ عنها شَيئًا منه، ولو كان المَسؤولُ قَريبًا للسَّائِلِ!
ثُمَّ يقولُ تعالَى: إنَّما تُنذِرُ -يا مُحمَّدُ- الذين يَخشَونَ رَبَّهم بالغَيبِ، وأدَّوُا الصَّلواتِ تامَّةً كما أمَرَ اللهُ تعالى؛ فهؤلاء هم الذين يَنتَفِعونَ بالإنذارِ دُونَ غَيرِهم.
ثُمَّ يَحُضُّ سُبحانَه على تَزكيةِ النُّفوسِ وتَطهيرِها، فيقولُ: ومَن تزكَّى فإنَّما يَعودُ نَفْعُ ذلك عليه، وإلى اللهِ وَحْدَه المرجِعُ.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أَشبَعَ المقامَ أدِلَّةً ومَواعِظَ وتذكيراتٍ ممَّا فيه مَقنَعٌ لِمن نَصَب نفْسَه مَنصِبَ الانتِفاعِ والاقتِناعِ، ولم يظهَرْ معَ ذلك كُلِّه مِن أحوالِ القَومِ ما يُتوسَّمُ منه نزعُهم عن ضلالِهم، وربَّما أحدَث ذلك في نُفوسِ أهْلِ العِزَّةِ منهم إعجابًا بأنفُسِهم، واغترارًا بأنَّهم مَرغوبٌ في انضمامِهم إلى جَماعةِ المُسلِمينَ؛ فيَزيدُهم ذلك الغُرورُ قَبولًا لتَسويلِ مكائدِ الشَّيطانِ لهم أنْ يَعتَصِموا بشِركِهم- ناسَب أن يُنبِّئَهم اللهُ بأنَّه غنيٌّ عنهم [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/285). .
وأيضًا لَمَّا اختَصَّ الله سُبحانَه بالمُلكِ، ونفَى عن شُرَكائِهم النَّفعَ؛ أنتَجَ ذلك قَولَه [313] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/30). :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15).
أي: يا أيُّها النَّاسُ [314] قال السعديُّ: (يُخاطبُ تعالَى جميعَ الناسِ، ويُخبرُهم بحالِهم ووصفِهم، وأنَّهم فقراءُ إلى الله مِن جميعِ الوجوهِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 687). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هم المشركونَ كما هو غالبُ اصطلاحِ القرآنِ، وهم المخاطبونَ بقولِه آنِفًا: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [فاطر: 13] الآياتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/285). أنتُم المحتاجُونَ إلى اللهِ في كُلِّ شَيءٍ، واللهُ وَحدَه هو الغَنيُّ غِنًى مُطلَقًا مِن جَميعِ الوُجوهِ عن جَميعِ خَلقِه، وعن عِبادتِهم؛ فلا يفتَقِرُ إلى شَيءٍ سُبحانَه، ومِن غناه أنَّه يُغني الخَلقَ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ وهو المحمودُ في ذاتِه وأسمائِه، وصِفاتِه وأفعالِه، وأقوالِه وشَرعِه وقَدَرِه، المحمودُ على نِعَمِه، وإحسانِه بخَلقِه [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/352)، ((تفسير القرطبي)) (14/337)، ((تفسير ابن كثير)) (6/541)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/31)، ((تفسير السعدي)) (ص: 687)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/282)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133-134). قال السعديُّ: (وهو الحَميدُ في غِناه، الغنيُّ في حَمْدِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 687). وقال ابنُ عثيمين: (فهو غنيٌّ يُحمَدُ على غِناه؛ لأنَّه يجودُ به على غيرِه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). قال ابنُ القيِّم: (الحَميدُ فَعيلٌ مِن الحَمْدِ، وهو بمعنى مَحمودٍ، وأكثرُ ما يأتي فَعيلًا في أسمائِه تعالَى، بمعنى فاعِل، كـ: سَميع وبَصير، وعَليم وقَدير، وعَليٍّ وحَكيم، وحَليم، وهو كثيرٌ... وأمَّا الحميدُ فلمْ يأتِ إلَّا بمعنى المحمودِ، وهو أبلغُ مِن المحمودِ؛ فإنَّ فعيلًا إذا عُدِلَ به عن مَفعولٍ، دلَّ على أنَّ تِلك الصِّفةَ قد صارتْ مِثلَ السَّجيَّةِ والغَريزةِ والخُلُقِ اللازمِ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 315). لكنْ قال ابنُ عثيمين: (كَلِمةُ «حميد» يَصِحُّ أن تكونَ اسمَ فاعلٍ، ويصِحُّ أنْ تكونَ بمعنى اسم المفعول؛ اسمُ الفاعِلِ: لأنَّه سُبحانَه وتعالَى حامِدٌ يَحمَدُ كُلَّ مَن يستحِقُّ الحَمدَ منه؛ ولهذا يُثني على رسُلِه وأنبيائِه وعِبادِه الصَّالحين، والثناءُ عليهم هو الحَمدُ. وهو أيضًا المحمودُ على أمْرينِ: على ما له من كَمالِ الصِّفاتِ، وعلى ما له من كَمالِ الإنعامِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). وقال ابنُ عاشور: (اسمُه الحَميدُ صالحٌ لمعنى المحمودِ، فيكونُ فعيلًا بمعنى مفعولٍ، وصالحٌ لمعنى كثيرِ الحَمدِ، فيكونُ مِن أمثلةِ المُبالَغةِ؛ لأنَّ اللهَ يُثيبُ على فِعلِ الخَيرِ ثوابًا جزيلًا، ويُثني على فاعِله ثناءً جميلًا؛ فكان بذلك كثيرَ الحَمدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/414). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/347). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد: 38] .
وقال سُبحانَه: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحج: 64] .
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه الغنيُّ على الإطلاقِ؛ ذكَرَ ما يدُلُّ على استِغنائِه عن العالَم، وأنَّه ليس بمُحتاجٍ إليهم، فقال [316] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/23). :
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16).
أي: لو شاءَ اللهُ لأفْنَاكم وأهْلَكَكُم -أيُّها النَّاسُ- إنْ عَصيْتُموه، وأتَى بخَلقٍ غَيرِكم يُطِيعونَه [317] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/555)، ((تفسير ابن جرير)) (19/352)، ((تفسير القرطبي)) (14/337)، ((تفسير ابن كثير)) (6/541)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/286). قال السعدي: (يحتملُ أنَّ المرادَ: إن يشأْ يُذهبْكم أيُّها الناسُ ويأتِ بغيرِكم مِن الناسِ، أطوعَ للّه منكم، ويكونُ في هذا تهديدٌ لهم بالهلاكِ والإبادةِ، وأنَّ مشيئتَه غيرُ قاصرةٍ عن ذلك. ويحتمِلُ أنَّ المرادَ بذلك إثباتُ البعثِ والنُّشورِ، وأنَّ مشيئةَ اللَّه تعالى نافذةٌ في كلِّ شيءٍ، وفي إعادتِكم بعدَ موتِكم خلقًا جديدًا، ولكن لذلك الوقتِ أجلٌ قدَّره اللَّه، لا يتقدَّمُ عنه ولا يتأخَّرُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 687). .
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17).
أي: وليسَ ذلِك على اللهِ بمُتعَذِّرٍ ولا مُمتَنِعٍ؛ لكَمالِ قُدرتِه سُبحانَه [318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/353)، ((تفسير ابن كثير)) (6/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 687)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 139-140). .
كما قال تعالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 133] .
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان ما قبْلَ هذه الآيةِ مَسوقًا في غَرَضِ التَّهْديدِ، وكان الخِطابُ للنَّاسِ أُريدَتْ طَمْأنةُ المُسلِمينَ من عَواقِبِ التَّهْديدِ؛ فعُقِّبَ بأنَّ مَن لم يَأتِ وِزْرًا لا يَنالُه جَزاءُ الوازِرِ في الآخِرةِ، فقال [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/287). :
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
أي: ولا تَحمِلُ نَفْسٌ آثِمةٌ إثمَ نَفْسٍ أُخرى؛ فكُلُّ إنسانٍ يُجازَى بعَمَلِه، ولا يَحمِلُ ذَنبَ غَيرِه [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/353)، ((تفسير السمرقندي)) (3/104)، ((تفسير ابن كثير)) (6/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 687). .
كما قال تعالَى: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] .
وقال سُبحانَه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء: 13 - 15] .
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.
أي: وإنْ تَستَغِثْ يومَ القِيامةِ نَفْسٌ مُثقَلةٌ بالذُّنوبِ، وتَطلُبْ مَن يَحمِلُ عنها ذُنوبَها، أو يُساعِدُها في حَملِ بَعضِها: فلنْ يَحمِلَ أحَدٌ ذلك ولو شيئًا منه، ولو كان المَسؤولُ قريبًا للسَّائِلِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/353، 354)، ((الوسيط)) للواحدي (3/503)، ((تفسير ابن كثير)) (6/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 687)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/289)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 144-145). .
إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ.
أي: إنَّما تُنذِرُ -يا محمَّدُ- إنذارًا نافِعًا مُؤثِّرًا، الذين يَخافونَ رَبَّهم مع كَونِهم لا يَرَونَه في الدُّنيا، ويَخافونَه في خَلَواتِهم غيرَ مُرائينَ أحَدًا، وأدَّوُا الصَّلواتِ على وَجهٍ تامٍّ مُستقيمٍ، كما أمَرَ اللهُ تعالى؛ فهؤلاء هم الذين يَنتَفِعونَ بالإنذارِ دوَنَ غَيرِهم [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/355)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 891)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/34)، ((تفسير الشوكاني)) (4/396)، ((تفسير السعدي)) (ص: 687)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/291)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 147-150). قولُه: بِالْغَيْبِ حالٌ مِن المفعول به، أي: يخشون ربَّهم حالَ كونِه غائبًا عنهم لم يَرَوْه، أو يكون الجارُّ والمجرور حالًا من الفاعِل، أي: حال كونِهم غائبين عن الناس. وذكَر ابنُ عثيمين أنَّ الآية يُمكن حمْلُها على المعنيَينِ؛ لأنَّهما لا يَتنافيانِ، وهذا مِن بلاغة القرآن. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 148). قال الشوكانيُّ: (ومعنى يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أنَّهم يَخشونَه حالَ كونِهم غائبين عن عذابِه، أو يخشَوْن عذابَه وهو غائبٌ عنهم، أو يَخشونَه في الخَلواتِ عن الناسِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/396). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] .
وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ.
أي: ومَن تَطَهَّرَ مِن دَنسِ الكُفرِ والذُّنوبِ، بالإيمانِ باللهِ والتوبةِ إليه، واستَكثرَ مِن العَملِ الصَّالحِ؛ فإنَّما يَعودُ نَفعُ ذلك وثمرتُه على نَفْسِه [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/355)، ((تفسير ابن كثير)) (6/542)، ((تفسير الشوكاني)) (4/396)، ((تفسير السعدي)) (ص: 687). وقيل: معنى التزكِّي هاهنا هو العَملُ الصَّالحُ. واختاره الثعلبيُّ، والسمعانيُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/104)، ((تفسير السمعاني)) (4/354)، ((تفسير ابن كثير)) (6/542). وقال السعديُّ: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ، أي: ومَن زكَّى نفْسَه بالتنقِّي من العُيوبِ -كالرِّياءِ والكِبرِ، والكَذِبِ والغِشِّ، والمكرِ والخِداعِ، والنِّفاقِ ونحو ذلك مِن الأخلاقِ الرَّذيلةِ- وتحلَّى بالأخلاقِ الجَميلةِ -مِن الصِّدقِ والإخلاصِ، والتواضُعِ ولِينِ الجانِبِ، والنُّصحِ للعِبادِ، وسلامةِ الصَّدرِ مِن الحِقدِ والحَسدِ وغيرِهما مِن مَساوئِ الأخلاقِ-: فإنَّ تزكيتَه يَعودُ نَفعُها إليه، ويَصِلُ مَقصودُها إليه، ليس يَضيعُ مِن عمَلِه شَيءٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 688). .
كما قال تعالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103] .
وقال سُبحانَه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: 17، 18].
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه المَرجِعُ والمآلُ والمُنقَلَبُ [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/356)، ((تفسير القرطبي)) (14/339)، ((تفسير ابن كثير)) (6/542)، ((تفسير السعدي)) (ص: 688)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/292). قال ابنُ جَرِير: (قَولُه: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28]، يَقولُ: وإلى اللهِ مَصيرُ كُلِّ عامِلٍ مِنكم -أيُّها الناسُ-، مُؤمِنِكم وكافِرِكم، وبَرِّكم وفاجِرِكم، وهو مُجازٍ جَميعَكم بما قَدَّمَ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ على ما أُهِلَّ مِنه). ((تفسير ابن جرير)) (19/356). وقال ابنُ عُثَيمين: (إلى اللهِ المَصيرُ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فمَرْجِعُ الأُمورِ كُلِّها إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، سواءٌ كانتْ في الدُّنيا، أوِ الآخِرةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 151). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قَرَّرَ اللهُ تعالَى هذه الحالَ الثَّابتةَ التي لا تَنفَكُّ عن الإنسانِ، وهي الفَقرُ إلى اللهِ؛ مِن أجْلِ أنْ يَعمَلَ بمُقتَضى هذه الحالِ، فيَلجَأَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا يَسألَ إلَّا اللهَ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 132). ؛ فالنَّاسُ فُقَراءُ إلى اللهِ مِن جميعِ الوُجوهِ:
فُقراءُ في إيجادِهم؛ فلولا إيجادُه إيَّاهم لم يُوجَدوا.
فُقَراءُ في إعدادِهم بالقُوَى والأعضاءِ والجَوارحِ التي لولا إعدادُه إيَّاهم بها لَمَا استعدُّوا لأيِّ عمَلٍ كان.
فُقَراءُ في إمْدادِهم بالأقواتِ والأرزاقِ والنِّعَمِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ؛ فلولا فَضلُه وإحسانُه وتيسيرُه الأمورَ، لَما حصَل لهم من الرِّزقِ والنِّعَمِ شَيءٌ.
فُقَراءُ في صَرفِ النِّقَمِ عنهم، ودَفْعِ المكارهِ، وإزالةِ الكُروبِ والشَّدائدِ؛ فلولا دفْعُه عنهم، وتفريجُه لكُرُباتِهم، وإزالتُه لِعُسرِهم؛ لاستمَرَّتْ عليهم المكارِهُ والشَّدائِدُ.
فُقَراءُ إليه في تَربيتِهم بأنواعِ التربيةِ، وأجناسِ التدبيرِ.
فُقَراءُ إليه في تألُّهِهم له، وحُبِّهم له، وتعبُّدِهم، وإخلاصِ العبادةِ له تعالى؛ فلو لم يوفِّقْهم لذلك لهلَكوا وفسَدَت أرواحُهم وقُلوبُهم وأحوالُهم.
فُقَراءُ إليه في تَعليمِهم ما لا يَعلمونَ، وعَمَلِهم بما يُصلِحُهم؛ فلولا تعليمُه لم يَتعلَّموا، ولولا توفيقُه لم يَصلُحوا.
فهُمْ فُقَراءُ بالذَّاتِ إليه بكُلِّ معنًى، وبكُلِّ اعتبارٍ؛ سواءٌ شَعَروا ببعضِ أنواعِ الفَقرِ أم لم يَشعُروا، ولكِنِ الموفَّقُ منهم الذي لا يَزالُ يُشاهِدُ فَقرَه في كُلِّ حالٍ مِن أمورِ دِينِه ودُنياه، ويَتضَرَّع له، ويسألُه ألَّا يَكِلَه إلى نفْسِه طَرفةَ عَينٍ، وأنْ يُعينَه على جَميعِ أمورِه، ويَستصحِبَ هذا المعنى في كُلِّ وقتٍ؛ فهذا أحرَى بالإعانةِ التامَّةِ مِن رَبِّه وإلهِه الذي هو أرحَمُ به مِن الوالدةِ بوَلَدِها [326] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 687). .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ فيه إعلامٌ بأنَّه لا افتِقارَ إلَّا إليه تعالَى، ولا اتِّكالَ إلَّا عليه، وهذا يُوجِبُ عِبادتَه؛ لِكَونِه مُفتَقَرًا إليه، وعدَمَ عِبادةِ غَيرِه؛ لعدَمِ الافتِقارِ إلى غَيرِه [327] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/230). .
3- قال تعالَى: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الحَميدُ هو الَّذي له مِن الصِّفاتِ وأسبابِ الحَمدِ ما يَقتضي أنْ يكونَ مَحمودًا وإنْ لم يَحمَدْه غيرُه؛ فهو حَميدٌ في نفْسِه، والمحمودُ مَن تَعلَّقَ به حمْدُ الحامِدينَ، والحمْدُ يَستلزِمُ الثَّناءَ والمحبَّةَ للمحمودِ؛ فمَن أحبَبْتَه ولم تُثنِ عليه لم تكُنْ حامِدًا له حتَّى تكونَ مُثنِيًا عليه مُحِبًّا له، وهذا الثَّناءُ والحُبُّ تبَعٌ للأسبابِ المقتضيةِ له، وهو ما عليه المحمودُ مِن صِفاتِ الكَمالِ، ونُعوتِ الجَلالِ، والإحسانِ إلى الغَيرِ؛ فإنَّ هذه هي أسبابُ المحبَّةِ، وكلَّما كانتْ هذه الصِّفاتُ أجمَعَ وأكمَلَ، كان الحمْدُ والحُبُّ أتمَّ وأعظمَ. واللهُ سُبحانَه له الكمالُ المُطلَقُ الَّذي لا نقْصَ فيه بوجهٍ ما، والإحسانُ كلُّه له ومِنه؛ فهو أحَقُّ بكُلِّ حمْدٍ، وبكُلِّ حُبٍّ مِن كُلِّ جِهةٍ؛ فهو أهلٌ أنْ يُحَبَّ لذاتِه ولِصِفاتِه، ولأفْعالِه ولأسمائِه، ولإحسانِه، ولكُلِّ ما صدَرَ منه سُبحانَه وتعالَى [328] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيِّم (ص: 316). .
4- قال اللهُ تعالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ فالذين يَقبَلونَ النِّذارةَ ويَنتَفِعونَ بها: أهلُ الخَشيةِ لله بالغَيبِ، الذين يخشَونَه في حالِ السِّرِّ والعلانيةِ، والمشهَدِ والمَغِيبِ؛ وأهلُ إقامةِ الصَّلاةِ بحُدودِها وشُروطِها، وأركانِها وواجباتِها، وخُشوعِها؛ لأنَّ الخَشيةَ للهِ تَستدعي مِن العَبدِ العَمَلَ بما يَخشَى مِن تَضييعِه العِقابَ، والهرَبَ ممَّا يَخشَى مِن ارتكابِه العذابَ، والصَّلاةُ تدْعو إلى الخيرِ، وتنهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ [329] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:687). .
5- في قَولِه تعالَى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أنَّ الإنسانَ إذا تَزَكَّى؛ فإنَّ نفْعَ تَزَكِّيه لنفْسِه، ولا يَنالُ اللهَ سُبحانَه وتعالَى مِن ذلك شيءٌ، ويَتفرَّعُ عن هذه الفائدةِ: أنَّ أوامرَ اللهِ عزَّ وجلَّ ليستْ مِن أجْلِ مَصلحةٍ تنالُه بامتثالِنا! ولكنْ مِن أجْلِ رَحمتِنا ومَصلحتِنا نحنُ، قال اللهُ تعالى:إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [330] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 153). [الزمر: 7] .
6- في قَولِه تعالَى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ الحَثُّ على تزكيةِ النَّفسِ، وكلُّ إنسانٍ عاقلٍ إذا عَلِمَ أنَّ مَصلحةَ العَمَلِ تَعودُ إليه، فإنَّه سوف يَهتَمُّ به ويقومُ به، فإذا عَلِمتَ أنَّ تَزكِّيَك لنَفْسِكَ؛ حَرَصْتَ عليه غايةَ الحِرصِ، فتُزكِّي نفْسَك ظاهرًا وباطنًا؛ ظاهرًا بالأقوالِ والأفعالِ، وباطنًا بالقلوبِ [331] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 154). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالَى: أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ عَلَّقَ سُبحانَه الفَقرَ إليه باسمِه (الله) دونَ اسمِ الرُّبوبيَّةِ؛ لِيُؤذِنَ بنَوعيِ الفَقرِ؛ فإنَّ الفَقرَ نوعانِ: فَقرٌ إلى رُبوبيَّتِه، وهو فَقرُ المخلوقاتِ بأسْرِها. وفَقرٌ إلى ألوهيَّتِه، وهو فَقرُ أنبيائِه ورُسُلِه وعِبادِه الصَّالحينَ، وهذا هو الفَقرُ النَّافِعُ [332] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 11). .
2- في قَولِ اللهِ تعالَى: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أنَّ للهِ الغنَى المطلَقَ مِن جميعِ الوجوهِ، يُستفادُ هذا مِن قولِه تعالى: الْغَنِيُّ بـ «أل» الدالةِ على العُمومِ والاستيعابِ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 134). .
3- في قَولِه تعالى: الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أنَّ غِنى اللهِ سُبحانَه وتعالى مَقرونٌ بالحَمدِ، بخِلافِ غِنَى البَشَرِ؛ فإنَّه قد لا يكونُ محمودًا؛ إمَّا بالبُخلِ، وإمَّا بكَونِه يأتي بدونِ استِحقاقٍ، كالسُّرَّاقِ واللُّصوصِ؛ فقد يكونون أغنياءَ لكنِ اكتَسَبوه على غيرِ الوَجهِ المباحِ، أمَّا غِنَى اللهِ فهو غِنًى كامِلٌ يُحمَدُ عليه. إذَن: يُحمَدُ مِن جِهةِ الغِنَى، ومِن جهةِ الكَرَمِ بما هو غَنِيٌّ به [334] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 135). .
4- قال اللهُ تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لَمَّا كان الغَنيُّ مِن الخَلقِ لا يَسَعُ غِناه مَن يَقصِدُه، وإنْ وَسِعَهم لم يسَعْهم عَطاؤُه؛ لخَوفِ الفَقرِ، أو لغيرِ ذلك من العَوارِضِ، ولا يُمكِنُه عُمومُ النِّعمةِ في شَيءٍ من الأشياءِ، فلا يَنفَعُك، وكان سُبحانَه قد أفاض نِعَمَه على خَلقِه، وأسبَغَها ظاهِرةً وباطِنةً، وجعَلَ لهم قُدرةً على تناوُلِها، لا يَعوقُ عنه إلَّا قُدرتُه وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء: 20] ، وكان لا يَنقُصُ ما عندَه- كان إعطاؤُه حَمدًا، ومَنعُه حَمدًا؛ لأنَّه لا يكونُ مانعًا لغَرَضٍ، بل لحِكمةٍ تَدِقُّ عن الأفكارِ، فقال: الْحَمِيدُ [335] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/31-32). .
5- قال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بيَّن سُبحانَه فى هذه الآيةِ أنَّ فَقرَ العِبادِ إليه أمرٌ ذاتيٌّ لهم لا ينفَكُّ عنهم، كما أنَّ كَونَه غنيًّا حميدًا أمْرٌ ذاتيٌّ له؛ فغِناه وحَمدُه ثابتٌ له؛ لِذاتِه لا لأمرٍ أوجَبَه، وفَقرُ مَن سواه إليه ثابتٌ؛ لِذاتِه لا لأمرٍ أوجَبَه؛ فلا يُعلَّلُ هذا الفَقرُ بحُدوثٍ ولا إِمكانٍ، بل هو ذاتيٌّ للفقيرِ؛ فحاجةُ العَبدِ إلى رَبِّه لِذاتِه لا لعِلَّةٍ أَوجبتْ تلك الحاجةَ، كما أنَّ غِنى الرَّبِّ سُبحانَه لذاتِه لا لأمرٍ أوجَبَ غِناه؛ فالخَلقُ فقيرٌ مُحتاجٌ إلى رَبِّه بالذَّاتِ لا بعِلَّةٍ، وكُلُّ ما يُذكَرُ ويُقرَّرُ مِن أسبابِ الفَقرِ والحاجةِ فهي أدِلَّةٌ على الفَقرِ والحاجةِ لا عِلَلٌ لذلك؛ إذ ما بالذَّاتِ لا يُعلَّلُ، فالفقيرُ بذاتِه محتاجٌ إلى الغَنيِّ بذاتِه، فما يُذكَرُ مِن إمكانٍ وحُدوثٍ واحتياجٍ فهي أدلَّةٌ على الفَقرِ لا أسبابٌ له [336] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيِّم (ص: 8). .
6- في قَولِه تعالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أنَّ الإنسانَ لا يَحْمِلُ آثامَ غيرِه، ويَنبني على هذه الفائدةِ: ثُبوتُ كمالِ عَدْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيثُ لا يُحمِّلُ أحدًا وِزْرَ أحدٍ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 151). .
7- قَولُه تعالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى: يدُلُّ على أنَّه لا يَحمِلُ أحدٌ وِزرَ غَيرِه، وقد جاءتْ آيةٌ كريمةٌ أُخرَى تدُلُّ على أنَّ هؤلاء الضَّالِّينَ يَحمِلونَ أوزارَهم كامِلةً، ويَحمِلونَ أيضًا مِن أوزارِ الأتْباعِ الذين أضلُّوهم، وهي قولُه تعالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل: 25] !
والجوابُ: أنَّ هؤلاء الضَّالِّينَ ما حَمَلوا إلَّا أوزارَ أنفُسِهم؛ لأنَّهم تحمَّلوا وِزرَ الضَّلالِ ووِزرَ الإضلالِ؛ فمَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً فعليه وِزرُها ووِزرُ مَن عَمِلَ بها، لا يَنقُصُ ذلك من أوزارِهم شيئًا؛ لأنَّ تشريعَه لها لغيرِه ذَنبٌ من ذُنوبِه، فأُخِذَ به [338] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 132). وقَولُه تعالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ... أيضًا لا يُعارضُ قولَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن سنَّ في الإسلامِ سنَّةً سيئةً فعليه وِزرُها ووزرُ مَن عمِل بها بعدَه إلى يومِ القيامةِ)) [مسلم (1017)]؛ قال ابن عثيمين: (لأنَّ سنَّه إيَّاها يُعتبرُ وِزرًا؛ لأنَّه هو الذي شقَّ الطريقَ لها ومهَّد السبلَ، فلهذا كان عليه وزرُها ووزرُ مَن عمِل بها إلى يومِ القيامةِ، فالآيةُ لا تُنافي الحديثَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 144). .
فقولُه تعالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فيه نفْيُ أنْ يَحمِلَ أحَدٌ وِزرَ آخَرَ، لا مُشاركةَ له للحامِلِ على اقترافِ الوِزرِ، وأمَّا قولُه سُبحانَه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13]؛ فمَورِدُها في زُعَماءِ المُشرِكينَ الذين موَّهوا الضَّلالةَ، وثَبَتوا عليها؛ فإنَّ أوَّلَ تلك الآيةِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ [العنكبوت: 12] ، وكانوا يقولون ذلك لكُلِّ مَن يَستروِحونَ منه الإقبالَ على الإيمانِ بالأُخرى [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/288). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أنَّ الخَشيةَ التي هي مَحَلُّ الثَّناءِ هي ما كانتْ خَشيةً في الغَيبِ؛ لأنَّ الخَشيةَ في الظَّاهرِ قد يكونُ الحامِلُ عليها مُراعاةَ عِبادِ اللهِ، لكنْ إذا كانتْ بالغَيبِ فإنَّ هذا دليلٌ واضحٌ على أنَّ صاحِبَها مُخلِصٌ في خَشيتِه للهِ عزَّ وجلَّ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 153). .
9- قال اللهُ تعالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ في قَولِه تعالى: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ فَضيلةُ الصلاةِ؛ وأنَّها سببٌ للانتفاعِ بإنذارِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كالخَشيةِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 153). .
10- قال اللهُ تعالَى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ مُشيرًا بصيغةِ التفَعُّلِ إلى أنَّ النَّفسَ أَميلُ شَيءٍ إلى الدَّنَسِ، فلا تنقادُ إلى أحسَنِ تقويمٍ إلَّا باجتهادٍ عَظيمٍ [342] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/35). .
11- في قَولِه تعالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أنَّ مَرجِعَ الخلائقِ إلى اللهِ في أحكامِهم الكونيَّةِ والشَّرعيَّةِ والجزائيَّةِ؛ أمَّا الأحكامُ الكونيَّةُ فظاهِرٌ أنَّ المَرجِعَ إلى اللهِ؛ لأنَّه لا أحَدَ يَستطيعُ أنْ يَرُدَّ قَضاءَ اللهِ الكَونيَّ، وأمَّا الشَّرعيَّةُ فكذلك؛ فإنَّ العِبادَ مَربوبونَ مُتَعبَّدونَ لله عزَّ وجلَّ، فكان مُقتضَى ذلك أنْ يَتمشَّوا على أحكامِه الشَّرعيَّةِ، وأمَّا الجزائيةُ فالأمرُ ظاهِرٌ؛ فإنَّه لا يُجازي العامِلينَ على عَمَلِهم إلَّا اللهُ سُبحانَه وتعالَى [343] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 154). . وذلك على قولٍ في معنى الآيةِ.

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
- قبْلَ أنْ يُوجَّهَ إليهم الإعْلامُ بأنَّ اللهَ غَنيٌّ عنهم وُجِّهَ إليهم إعْلامٌ بأنَّهم الفُقَراءُ إلى اللهِ؛ لأنَّ ذلك أدخَلُ للذِّلَّةِ على عَظَمَتِهم من الشُّعورِ بأنَّ اللهَ غَنيٌّ عنهم؛ فإنَّهم يُوقِنونَ بأنَّهم فُقَراءُ إلى اللهِ، ولكنَّهم لا يُوقِنونَ بالمَقصِدِ الذي يُفضي إليه عِلمُهم بذلك؛ فأُريدَ إبْلاغُ ذلك إليهم لا على وَجهِ الاستِدْلالِ، ولكِنْ على وَجهِ قَرْعِ أسْماعِهِم بما لم تَكُنْ تُقرَعُ به من قبْلُ؛ عسَى أنْ يَسْتَفيقوا من غَفْلَتِهم، ويَتكَعْكَعوا [أي: يرْتَدِعوا] عن غُرورِ أنفُسِهم، على أنَّهم لا يَخْلو جَمعُهم من أصْحابِ عُقولٍ صالِحةٍ للوُصولِ إلى حَقائِقِ الحقِّ، فأولئك إذا قُرِعَتْ أسْماعُهم بما لم يَكونوا يَسْمَعونَه مِن قبْلُ، ازْدادوا يَقينًا بمُشاهَدةِ ما كان مَحْجوبًا عن بَصائِرِهم بأسْتارِ الاشتِغالِ بفِتْنةِ ضَلالِهِم، عَسَى أنْ يُؤمِنَ مَن هيَّأهُ اللهُ بفِطْرتِه للإيمانِ، فمَن بَقِيَ على كُفرِه كان بَقاؤُه مَشوبًا بحَيرةٍ ومُرِّ طَعمِ الحياةِ عِندَه، فأين ما كانتْ تتلقَّاهُ مَسامِعُهم من قِبَلِ تَمْجيدِهم، وتَمْجيدِ آبائِهِم، وتَمْجيدِ آلهتِهِم، ألَا تَرى أنَّهم لَمَّا عاتَبوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بعضِ مُراجَعَتِهم عَدُّوا عليه شَتْمَ آبائِهِم؛ فحَصَلَ بهذه الآيةِ فائِدَتانِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/285). .
- وجُملةُ: أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ تُفيدُ القَصرَ لِتَعريفِ جُزْأَيْها، أي: قَصرَ صِفةِ الفَقرِ على النَّاسِ المُخاطَبينَ قَصْرًا إضافيًّا بالنِّسبةِ إلى اللهِ، أي: أنتُم المُفتَقِرونَ إليه، وليس هو بمُفتَقِرٍ إليكم، وهو قَصْرُ قَلْبٍ [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/285). القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاح البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبْتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على الموصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثَرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ، مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ، بتنزيلِ غيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ مُعَيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيْدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرة؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ(إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167- 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). . وقيلَ: أوقَعَ الْفُقَرَاءُ خَبَرًا لـ أَنْتُمُ، وهو مُحلًّى بلَامِ الِجنسِ، وهو يُفيدُ الاختِصاصَ، وأنَّ غيرَهم من المَخْلوقاتِ ليس كذلك، وليسَ كذلك؛ لأنَّ الخَلائِقَ كلَّهم مُفتَقِرونَ إليه، لكنْ سُلِكَ فيه المُبالَغةُ، وأنَّ افتِقارَ غَيرِهم بالنِّسبةِ إلى افتِقارِهم كَلا افتِقارٍ [346] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/606)، ((تفسير البيضاوي)) (4/256)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/630- 631)، ((تفسير أبي حيان)) (9/23)، ((تفسير أبي السعود)) (7/148). .
- وفي قَولِ اللهِ تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ عرَّف الفُقَراءَ؛ لِيُريَهم شديدَ افتقارِهم إليه؛ إذ هم جِنسُ الفُقَراءِ، وإن كان العالَمُ بأسرِه مُفتَقِرًا إليه؛ فلِضَعفِهم جُعِلوا كأنَّهم جميعُ هذا الجِنسِ [347] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/23). ؛ فـ الْفُقَرَاءُ بالألفِ واللامِ معناها أنَّنا في جَميعِ أحوالِنا كلِّها مُفتَقِرونَ إلى ربِّنا سُبحانَه وتعالَى [348] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 134). .
- وإتْباعُ صِفةِ الْغَنِيُّ بـ الْحَمِيدُ تَكميلٌ؛ فهو احْتِراسٌ لِدَفْعِ تَوهُّمِهِم أنَّه لَمَّا كان غَنيًّا عن استِجابَتِهِم وعِبادَتِهِم؛ فهُم مَعْذورونَ في ألَّا يَعبُدوهُ، فنُبِّهَ على أنَّه مَوْصوفٌ بالحَمدِ لِمَن عَبَدَه واستَجابَ لِدَعْوتِه، كما وَقَع الْغَنِيُّ في مُقابَلةِ قَولِه: الْفُقَرَاءُ؛ لأنَّه لَمَّا قُيِّدَ فَقرُهم بالكَونِ إلى اللهِ، قُيِّدَ غِنى اللهِ تعالَى بوَصْفِ الحَميدِ؛ لإفادةِ أنَّ غِناهُ تعالَى مُقتَرِنٌ بجُودِه، فهو يَحمَدُ مَن يَتوجَّهُ إليه. وقيل: ذكَرَ (الحميد)؛ ليَدُلَّ به على أنَّه الغنيُّ النَّافِعُ بغِناه خَلْقَه، الجَوَادُ المنعِمُ عليهم، المُستَحِقُّ بإنعامِه أنْ يَحمَدوه [349] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/606)، ((تفسير أبي حيان)) (9/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/286). .
2- قَولُه تعالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ واقِعٌ مَوقِعَ البَيانِ لِمَا تَضمَّنَتْه جُمْلةُ: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] من مَعْنى قِلَّةِ الاكتِراثِ بإعْراضِهم عنِ الإسْلامِ، ومِن مَعْنى رِضاهُ على مَن يَعبُدُه؛ فهو تعالَى -لغِناهُ عنهم وغَضَبِه عليهم- لو شاءَ لأبادَهم، وأتَى بخَلْقٍ آخَرينَ يَعبُدونَه، فخَلَصَ العالَمُ مِن عُصاةِ أمْرِ اللهِ، وذلك في قُدْرتِه، ولكنَّه أمْهَلهم إعْمالًا لصِفةِ الحِلْمِ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/286). ، وهذا على أنَّ الخِطابَ للمشركينَ.
- ومَفْعولُ فِعلِ المَشيئةِ في قولِه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ مَحْذوفٌ؛ استِغناءً بما دلَّ عليه جَوابُ الشَّرطِ، وهو يُذْهِبْكُمْ، أي: إنْ يَشَأْ إذْهابَكم [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/287). .
- قولُه: وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ زِيادةٌ في الإرْهابِ والتَّهديدِ؛ ليكونوا مُتوقِّعينَ حُلولَ التَّبديلِ بهم [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/287). .
3- قَولُه تعالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ تَعقيبٌ لِمَا سبَق -حيثُ سِيقَ بغرَضِ التَّهديدِ- بطَمأنةِ المسلمينَ بأنَّ مَن لم يَأتِ وِزْرًا لا يَنالُه جَزاءُ الوازِرِ في الآخِرةِ، وقد يكونُ وَعدًا بالإنجاءِ مِن عَذابِ الدُّنيا إذا نَزَل بالمُهدَّدينَ الإذْهابُ والإهْلاكُ، مِثلَما أَهْلَكَ فَريقَ الكُفَّارِ يَومَ بَدْرٍ، وأَنْجَى فَريقَ المُؤمِنينَ، فيكونُ هذا وَعدًا خاصًّا؛ فمَوقِعُ قَولِه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى كمَوقِعِ قَولِه تَعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110] ؛ ولهذا فإنَّه تَأمينٌ للمُسلِمينَ من الاستِئْصالِ كقَولِه تعالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] بقَرينةِ قَولِه عَقِبَه: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، وهو تَأمينٌ من تَعْميمِ العِقابِ في الآخِرةِ بطَريقِ الأَوْلى. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ: ولا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أُخرى يَومَ القِيامةِ، أي: إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ جميعًا، ولا يُعذِّبُ المُؤمِنينَ في الآخِرةِ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/287 - 288). .
- وفي قولِه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى جَرَى وَصْفُ الوازِرةِ على التَّأْنيثِ؛ لأنَّه أُريدَ به النَّفْسُ، ووَجهُ اخْتيارِ الإسْنادِ إلى المُؤنَّثِ بتَأْويلِ النَّفْسِ دون أنْ يَجريَ الإضْمارُ على التَّذْكيرِ بتَأْويلِ الشَّخْصِ؛ لأنَّ مَعْنى النَّفْسِ هو المُتبادَرُ للأذْهانِ عِندَ ذِكرِ الاكتِسابِ، كما في قَولِه تَعالى: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا [الأنعام: 164] ، وغيرِ ذلك مِن الآياتِ [354] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/606)، ((تفسير أبي حيان)) (9/24)، ((تفسير أبي السعود)) (7/149)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/288). .
- وقال: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، ولم يَقُلْ: (ولا تزِرُ نَفسٌ وِزرَ أُخرى)؛ لأنَّه لو قال (ولا تزِرُ نفسٌ وِزرَ أُخرى) لَمَا عُلِمَ أنَّ كُلَّ نَفْسٍ وازِرةٌ مَهمومةٌ بهَمِّ وِزرِها، متحيِّرةٌ في أمرِها. ولم يجمَعْ بين الموصوفِ والصِّفةِ، فلم يَقُلْ: (ولا تَزِرُ نَفسٌ وازِرةٌ وِزرَ أُخرى)، فترَكَ ذِكرَ الموصوفِ؛ لِظُهورِ الصِّفةِ، ولُزومِها للمَوصوفِ [355] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/231). .
- وفي قَولِه: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى حُذِف مَفْعولُ تَدْعُ؛ لقَصدِ العُمومِ؛ ليَعُمَّ ويَشمَلَ كُلَّ مَدعوٍّ، والتَّقديرُ: وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أيَّ مَدْعُوٍّ. وجُعِل الدُّعاءُ إلى الحِمْلِ؛ لأنَّ الحِمْلَ سَبَبُ الدُّعاءِ وعِلَّتُه، فالتَّقْديرُ: وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أحَدًا إليها لأجْلِ أنْ يَحمِلَ عنها حِمْلَها؛ فحُذِف أحَدُ مُتعلَّقَيِ الفِعْلِ المَجْرورِ باللَّامِ لِدَلالةِ الفِعلِ ومُتعلَّقِه المَذْكورِ على المَحْذوفِ. وهذا إشارةٌ إلى ما سيَكونُ في الآخِرةِ، أي: لو استَصْرخَتْ نَفْسٌ مَن يَحمِلُ عنها شَيئًا مِن أوْزارِها -كما كانوا يَزعُمونَ أنَّ أصْنامَهُم تَشفَعُ لهم أو لغَيرِهِم- لا تَجِدُ مَن يُجيبُها لذلك [356] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/607)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/289 - 290). .
- وقَولُه: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أفادَ العُمومَ والمُبالَغةَ، ووَجهُ المُبالَغةِ مِن (لو) الوَصليَّةِ: أنَّ ذا القُرْبى أرَقُّ وأشفَقُ على قَريبِه، فقد يُظَنُّ أنَّه يُغني عنه في الآخِرةِ بأنْ يُقاسِمَه الثِّقَلَ الذي يُؤدِّي به إلى العَذابِ؛ فيَخِفَّ عنه العَذابُ بالاقتِسامِ؛ فكان هذا إبْطالًا لاعتِقادِ الغَناءِ الذَّاتيِّ بالتَّضامُنِ والتَّحامُلِ، فقد كان المُشرِكونَ يَقيسونَ أُمورَ الآخِرةِ على أُمورِ الدُّنيا، فيُعلِّلونَ أنفُسَهم إذا هُدِّدوا بالبَعْثِ بأنَّه إنْ صحَّ، فإنَّ لهم يَومَئذٍ شُفَعاءَ وأنْصارًا [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/289 - 290). .
- قولُهُ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ استِئْنافٌ بَيانيٌّ مَسوقٌ لِبَيانِ مَن يتَّعِظُ بما ذُكِر؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخطُرُ في نَفسِه التَّعجُّبُ من عَدَمِ تَأثُّرِ أكثَرِ المُشرِكينَ بإنْذارِه؛ فأُجيبَ بأنَّ إنْذارَه يَنتفِعُ به المُؤمِنونَ ومَن تَهيَّؤوا للإيمانِ [358] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/149)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/290). .
- وإيرادُ هذه الآيةِ عَقِبَ التي قَبلَها يُؤكِّدُ أنَّ المَقصِدَ الأوَّلَ مِن التي قبْلَها مَوعِظةُ المُشرِكينَ وتَخويفُهم، وإبلاغُ الحَقيقةِ إليهم؛ لاقتِلاعِ مَزاعِمِهم وأوْهامِهم في أمْرِ البَعثِ والحِسابِ والجَزاءِ -على قولٍ في التفسيرِ-، فأقبَلَ اللهُ على رَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالخِطابِ؛ لِيَشعُرَ بأنَّ تلك المَواعِظَ لم تُجْدِ فيهم، وأنَّها إنَّما يَنتفِعُ بها المُسلِمونَ، وهو أيضًا يُؤكِّدُ ما في الآيةِ الأُولى مِن التَّعْريضِ بتَأْمينِ المُسلِمينَ بما اقْتَضاهُ عُمومُ الإنْذارِ والوَعيدِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/290). .
- قولُهُ: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ... قَصْرٌ إضافيٌّ؛ فإنَّ تَعلُّقَ الفِعلِ المَقْصورِ عليه بـ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ تَعلُّقٌ على مَعْنى حُصولِ أثَرِ الفِعلِ. وهو قَصرُ قَلْبٍ؛ لأنَّ المَقْصودَ التَّنبيهُ على ألَّا يظُنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ انتِفاعَ الذين لا يُؤمِنونَ بنِذارتِه [360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/290 - 291). .
- قولُه: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ لَمَّا كانتْ هاتانِ الصِّفتانِ -خَشيةُ الربِّ بالغيبِ، وإقامةُ الصَّلاةِ- مِن خَصائِصِ المُسلِمينَ صارَ المَعْنى: إنَّما تُنذِرُ المُؤمِنينَ؛ فعَدَلَ عن استِحْضارِهِم بأشهَرِ ألْقابِهم معَ ما فيه مِن الإيجازِ إلى استِحْضارِهِم بصِلَتَينِ معَ ما فيهما مِن الإطْنابِ، تَذرُّعًا بذِكرِ هاتَينِ الصِّلَتينِ إلى الثَّناءِ عليهم بإخْلاصِ الإيمانِ في الاعتِقادِ والعَمَلِ [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/291). .
- واختِلافُ الفِعْلينِ: يَخْشَوْنَ وَأَقَامُوا -حيثُ جاء أحدُهما مُضارِعًا والآخَرُ ماضيًا-؛ للدَّلالةِ على استِمرارِهم على ذلك فى جَميعِ الأَزمنةِ [362] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/257)، ((التفسير المظهري)) (8/52). .
- وجُملةُ: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ تَذْييلٌ جارٍ مَجْرى المَثَلِ، وذِكرُ التَّذْييلِ عَقِبَ المُذيَّلِ يُؤذِنُ بأنَّ ما تَضمَّنَه المُذيَّلُ داخِلٌ في التَّذْييلِ بادِئَ ذي بَدءٍ، مِثلُ دُخولِ سَببِ العامِّ في عُمومِهِ من أوَّلِ وَهْلةٍ دون أنْ يُخَصَّ العامُّ به، والمَعْنى: إنَّ الذين خَشَوْا ربَّهُم بالغَيبِ وأقاموا الصَّلاةَ هُمْ مِمَّن تَزَكَّى، فانْتَفَعوا بتَزْكِيَتِهم [363] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/607)، ((تفسير البيضاوي)) (4/257)، ((تفسير أبي السعود)) (7/149)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/291). .
- والمَقْصودُ من القَصْرِ في قَولِه: فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أنَّ قَبولَهُم النِّذارةَ كان لِفائِدةِ أنفُسِهم؛ ففيه تَعريضٌ بأنَّ الذين لم يَعبَؤوا بنِذارتِهِ تَرَكوا تَزْكيةَ أنفُسِهم بها، فكان تَرْكُهم ضُرًّا على أنفُسِهم [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/291). .
- وجُملةُ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ تَكميلٌ للتَّذْييلِ، والتَّعْريفُ في المَصيرِ للجِنْسِ، أي: المصيرُ كُلُّه إلى اللهِ، سواءٌ فيه مَصيرُ المُتزَكِّي ومَصيرُ غَيرِ المُتزَكِّي، وكُلٌّ يُجازى بما يُناسِبُه [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/291 - 292). .
- وتَقديمُ المَجْرورِ وَإِلَى اللَّهِ؛ للاهتِمامِ، وللتَّنبيهِ على أنَّه مَصيرٌ إلى مَن اقْتَضَى اسْمُه الجَليلُ الصِّفاتِ المُناسِبةَ؛ لإقامةِ العَدلِ، وإفاضةِ الفَضْلِ، مع رِعايةِ الفاصِلةِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/292). .