موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيتان (7-8)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى: أي: لا تَحمِلُ نَفْسٌ آثِمةٌ إثْمَ نَفْسٍ أُخرَى، ولا تُؤخَذُ نَفْسٌ بذَنْبِ غَيرِها، والوِزْرُ: الإثمُ والثِّقْلُ، وأصلُ (وزر): يدُلُّ على الثِّقْلِ في الشَّيءِ .
خَوَّلَهُ: أي: أعطاه ومَلَّكه، وأصلُ (خول): يدُلُّ على تَعهُّدِ شَيءٍ .
أَنْدَادًا: أي: أمثالًا، ونُظَراءَ، وشُرَكاءَ، وحَقيقةُ النِّدِّ: المِثْلُ المُناوِئُ المُخالِفُ، وأصلُه مِن قَولِهم: ندَّ: إذا نَفَر؛ ولهذا يُقالُ للضِّدِّ: نِدٌّ، ثمَّ استُعمِلَ في المِثْلِ وإن لم يكُنْ هناك مُخالَفةٌ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبَيِّنًا أنَّه غنيٌّ عن خَلقِه، وأنَّهم هم الفقراءُ إليه: إنْ تَكفُروا -أيُّها النَّاسُ- باللهِ تعالى، فإنَّه سُبحانَه غَنيٌّ عنكم وعن عبادتِكم إيَّاه، وهو سُبحانَه لا يَرضى لعِبادِه الكُفرَ، وإنْ تَشكُروا رَبَّكم يَرْضَ شُكْرَكم ويُثِبْكم عليه.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه كمالَ عدلِه، فيقولُ: ولا تَحمِلُ نَفْسٌ آثِمةٌ إثمَ نَفْسٍ أُخرى؛ فكُلُّ إنسانٍ يُجازَى بعمَلِه، ولا يَحمِلُ ذَنْبَ غَيرِه، ثمَّ إلى ربِّكم وَحْدَه مَصيرُكم، فيُخبِرُكم يومَ القيامةِ بما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، إنَّ اللهَ عَليمٌ بما تُضمِرُه الصُّدورُ مِن أسرارٍ.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى طبيعةَ الإنسانِ في حالَتَيِ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، فيقولُ: وإذا أصابَ الإنسانَ ضُرٌّ وشِدَّةٌ دعا رَبَّه لِيَكشِفَ عنه ضُرَّه، ورجَعَ إليه وَحْدَه، ثمَّ إذا كشَفَ اللهُ ضُرَّه، وأعطاه نِعمةً منه، نَسِيَ الضُّرَّ الَّذي كان يَتضَرَّعُ إلى رَبِّه أن يَكشِفَه عنه مِن قَبْلُ، وجعَلَ لله شُرَكاءَ ونَظائِرَ يَعبُدُها؛ لِيُضِلَّ النَّاسَ بذلك الفِعلِ عن سَبيلِ اللهِ وعن دينِه الَّذي ارتضاه لعِبادِه!
قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهذا الإنسانِ الَّذي جعَلَ لله شُرَكاءَ في العبادةِ: تمتَّعْ بكُفرِك زَمانًا قَليلًا، إنَّك مِن أصحابِ النَّارِ المُلازِمينَ لها، والخالِدينَ فيها.

تفسير الآيتين:

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7).
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ.
أي: إنْ تَكفُروا باللهِ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن إيمانِكم به، وعبادتِكم إيَّاه، فلا يَنفَعُه إيمانُكم وطاعتُكم، ولا يَضُرُّه كُفرُكم ومَعصيتُكم؛ فهو الغَنيُّ عن كُلِّ ما سِواه .
كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8] .
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما رَوى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّه قال: ((يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجَرِ قَلبِ رجُلٍ واحِدٍ، ما نَقَص ذلك مِن مُلْكي شَيئًا )) .
وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ.
أي: ولا يَرضَى اللهُ لعِبادِه أن يَكفُروا به، ولا يُحِبُّ ذلك .
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.
أي: وإن تَشكُروا ربَّكم بالإيمانِ به وتوحيدِه وطاعتِه، يَرْضَ شُكرَكم له، ويُحِبَّه منكم، ويُثِبْكم عليه .
كما قال تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147] .
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَها أنَّ في المُخاطَبينَ كافِرًا وشاكِرًا، وهم في بَلَدٍ واحِدٍ، بَيْنَهم وشائِجُ القَرابةِ والوَلاءِ؛ فرُبَّما تَحرَّجَ المُؤمِنونَ مِن أنْ يَمَسَّهم إثْمٌ مِن جَرَّاءِ كُفرِ أقرِبائِهم وأوليائِهم، أو أنَّهم خَشُوا أنْ يُصيبَ اللهُ الكافِرينَ بعَذابٍ في الدُّنيا، فيَلحَقَ منه القاطِنينَ معهم بمَكَّةَ؛ فأنْبَأهمُ اللهُ بأنَّ كُفرَ أولئك لا يَنقُصُ إيمانَ هؤلاء، وأرادَ اطمِئنانَهم على أنْفُسِهم .
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
أي: ولا تَحمِلُ نَفْسٌ آثمةٌ إثمَ نَفْسٍ غَيرِها؛ فكُلُّ إنسانٍ يُجازَى بعَمَلِه، ولا يَحمِلُ ذَنْبَ غَيرِه .
كما قال تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء: 15] .
وعن عمرِو بنِ الأحوَصِ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ في حجَّةِ الوَداعِ: ((ألا لا يجني جانٍ إلَّا على نفسِه ، لا يجني والدٌ على ولدِه، ولا مولودٌ على والدِه )) .
وعن أبي رِمْثةَ رضي الله عنه، قال: ((انطلقتُ مع أبي نحوَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ إنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لأبي: ابنُكَ هذا؟ قال: إي ورَبِّ الكعبةِ،... ثمَّ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: أما إنَّه لا يَجني عليكَ ولا تَجني عليه . وقرَأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ...)) .
ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
أي: ثمَّ إلى ربِّكم وَحْدَه مَصيرُكم بعدَ مَوتِكم، فيُخبِرُكم يومَ القيامةِ بما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: إنَّ اللهَ عَليمٌ بما تُضمِرُه صُدورُ العبادِ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، لا يخفَى عليه شَيءٌ مِن ذلك .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا بَيَّن فَسادَ القَولِ بالشِّركِ، وبَيَّن أنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي يجِبُ أن يُعبَدَ؛ بَيَّن في هذه الآيةِ أنَّ طَريقةَ هؤلاء الكُفَّارِ الَّذين يَعبُدونَ الأصنامَ: مُتناقِضةٌ؛ وذلك لأنَّهم إذا مَسَّهم نَوعٌ مِن أنواعِ الضُّرِّ لم يَرجِعوا في طَلَبِ دَفعِه إلَّا إلى الله، وإذا زال ذلك الضُّرُّ عنهم رجَعوا إلى عبادةِ الأصنامِ! ومعلومٌ أنَّهم إنَّما رَجَعوا إلى اللهِ تعالى عندَ حُصولِ الضُّرِّ؛ لأنَّه هو القادِرُ على إيصالِ الخَيرِ ودَفعِ الضُّرِّ، وإذا عَرَفوا أنَّ الأمرَ كذلك في بَعضِ الأحوالِ كان الواجِبُ عليهم أن يَعتَرِفوا به في كُلِّ الأحوالِ؛ فثَبَت أنَّ طَريقتَهم في هذا البابِ مُتناقِضةٌ .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر سُبحانَه أنَّه المُختَصُّ بالمُلْكِ وَحْدَه، وأتْبَعَه بما يُرضيه وما يُسخِطُه؛ أقام الدَّليلَ على ذلك الاختِصاصِ -مع أنَّه أوضَحُ مِن الشَّمسِ- بدَليلٍ وِجدانيٍّ لكُلِّ أحَدٍ، على وجْهٍ ذمَّهم فيه بالتَّناقُضِ الَّذي هم أعظَمُ النَّاسِ ذَمًّا له، ونُفرةً منه، وذَمًّا به، فقال :
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ.
أي: وإذا أصاب الإنسانَ كَربٌ وشِدَّةٌ دعا رَبَّه؛ لِيَكشِفَ عنه ضُرَّه، راجِعًا إليه وَحْدَه، مُعرِضًا عمَّا سِواه .
كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] .
ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.
أي: ثمَّ إذا منَحَه اللهُ نِعمةً مِنه نَسِيَ الضُّرَّ الَّذي كان يَتضَرَّعُ إلى رَبِّه أن يَكشِفَه عنه، واستمَرَّ على شِركِه !
كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] .
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
1- قِراءةُ: لِيَضِلَّ على معنى: أنَّه يَضِلُّ بنَفْسِه .
2- قِراءةُ: لِيُضِلَّ على معنى: أنَّه يُضِلُّ غَيرَه .
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
أي: وجعَلَ شُرَكاءَ للهِ مِن الأصنامِ أو غَيرِها، فيَعبُدُهم؛ ليُضِلَّ غَيرَه عن طريقِ اللهِ، الموصِلِ إليه وإلى رِضوانِه .
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى عنهم هذا الفِعلَ المُتناقِضَ؛ هَدَّدَهم، فقال :
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهذا الإنسانِ الَّذي تلك حالُه وطريقتُه: عِشْ مُتمَتِّعًا بكُفرِك يَسيرًا مُدَّةَ حياتِك الفانيةِ، إنَّك في الآخرةِ مِن أهلِ النَّارِ المُلازِمينَ لها أبدًا .
كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم: 30] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى مَوعِظةٌ عَظيمةٌ في أن يَعلَمَ الإنسانُ أنَّ حَرَكاتِه في الدُّنيا وسَكَناتِه؛ أنَّ ما فيها مِن نَفعٍ فهو عائِدٌ إلى خُصوصِ نَفْسِه، وما فيها مِن ضُرٍّ فهو عائِدٌ إلى خُصوصِ نَفْسِه؛ فلْيَجتهِدِ الإنسانُ وَقتَ إمكانِ الفُرصةِ أن يُسلِّمَ نَفْسَه مِن البَلايا، وأن يَكسِبَها الخَيراتِ؛ فحَرَكاتُ الإنسانِ في دارِ الدُّنيا إنَّما يَبني بها بَيتَه الَّذي إليه مَصيرُه الأخيرُ، وهو إمَّا غُرفةٌ مِن غُرَفِ الجنَّةِ، أو سِجنٌ مِن سُجونِ النَّارِ؛ فعلى كُلِّ مُكَلَّفٍ أن يَتأمَّلَ في نورِ القُرآنِ في الحياةِ الدُّنيا، في صِحَّتِه وفراغِه، ويَعلَمَ أنَّ حَرَكاتِه مِن أقوالِه، وأفعالِه، ونِيَّاتِه، وقُصودِه: إنَّما يَبني بها مَقَرَّه الأخيرَ النِّهائيَّ: إمَّا غُرفةٌ مِن غُرَفِ الجنَّةِ، وإمَّا سِجنٌ مِن سُجونِ النَّارِ .
2- في قَولِه تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أنَّ المرجِعَ إلى اللهِ يومَ القيامةِ، ويتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: وُجوبُ الاستعدادِ لهذا اللِّقاءِ وهذا المرجِعِ، والاستِعدادُ له يكون بتركِ المعاصي وفِعلِ الطَّاعاتِ، فما دام المرجِعُ إلى اللهِ فلا يمكنُ أن تَرجِعَ إلى غيرِه؛ ومهما كان فإنَّ مَرجِعَكم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فهو منه المُبتدَأُ، وإليه المُنتهَى .
3- قَولُه تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إنَّما ذَكَر اللهُ هذه الجُملةَ بعدَ قَولِه تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ الحِسابَ يَكونُ على ما في القَلبِ، كما في قَولِه تعالى: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق: 8، 9]، فالمدارُ يومَ القيامةِ على ما في القَلبِ، أمَّا في الدُّنيا فالمدارُ على الأعمالِ الظَّاهِرةِ؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعامِلُ المُنافِقينَ مُعاملةَ المُسلِمينَ؛ لأنَّهم كانوا يَتظاهَرونَ بالإسلامِ، ونحن نحاسِبُ النَّاسَ في الدُّنيا على ما يَظهَرُ مِن أعمالِهم، ونَكِلُ سرائِرَهم إلى الله، أمَّا في الآخرةِ فإنَّ الحِسابَ على ما في القَلبِ؛ ولهذا يجِبُ على الإنسانِ أن يَعتنيَ بصَلاحِ قَلبِه قبْلَ صلاحِ جِسمِه؛ لأنَّ صَلاحَ الجِسمِ واجِهةٌ أمامَ الخَلقِ، لكِنْ صَلاحُ القَلبِ هو الَّذي يكونُ بيْنَ الإنسانِ وبيْنَ رَبِّه عزَّ وجَلَّ .
4- في قَولِه تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ تَقريعٌ لِمَن يُهمِلُ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ، ويَفزَعُ إليه في الشِّدَّةِ، وقال تعالى: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53]، وقال: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] ، وليس ذلك مِن أخلاقِ المؤمِنينَ؛ إذ مِن أخلاقِهم إكثارُ الدُّعاءِ في الرَّخاءِ عُدَّةً للشِّدَّةِ؛ فقد ورَد أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لابنِ عبَّاسٍ: ((تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ، يَعرِفْك في الشِّدَّةِ )) ؛ فلا ينبغي للمُؤمنِ أن يَستَنَّ بالكافرِ ولا يَفزَعَ إلى الدُّعاءِ إلَّا عندَ الشَّدائِدِ !
5- في قَولِه تعالى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أنَّه كما يكونُ الاقتداءُ بالقولِ يكونُ الاقتداءُ بالفعلِ؛ لأنَّ هذا الكافرَ جَعَل لله أندادًا؛ وكان جعلُه للأندادِ سببًا لضلالِ غيرِه، لذا قال: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، ولم يَقُلْ: ودعا النَّاسَ ليَضِلُّوا عن سبيلِ اللهِ! بل جَعَل فِعلَه سببًا لضلالِ النَّاسِ، ويَتفرَّعُ على هذا فائدةٌ، وهي: تحذيرُ الإنسانِ -ولا سيَّما القدوةُ- مِن المُخالَفةِ؛ لأنَّ النَّاسَ سوف يَقتدونَ به، ويَحتجُّون بفِعلِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ إخبارٌ عن عدَمِ محبَّتِه سبحانه لهذا الأمرِ، وعدَمِ رِضاهُ به بعدَ وُقوعِه؛ فهذا صريحٌ في إبطالِ قَولِ مَن تأوَّلَ هذا النصَّ وغيرَه على أنَّه لا يُحِبُّه ممَّن لم يقَعْ منه، ويُحِبُّه إذا وقَعَ، وهذا مِن أعظَمِ الباطلِ والكَذِبِ على الله، بل هو سُبحانَه يَكرَهُه ويُبغِضُه قبْلَ وُقوعِه، وحالَ وقوعِه، وبعدَ وُقوعِه؛ فإنَّه من القبائحِ والخبائِثِ، واللهُ مُنَزَّهٌ عن مَحبَّةِ القَبيحِ والخَبيثِ، بل هو أَكْرَهُ شَيءٍ إليه؛ قال اللهُ تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، فالله تعالى يكرهُ بعضَ الأعيانِ والأفعالِ والصِّفاتِ، وإنْ كانت واقعةً بمشيئتِه، فهو يبغِضُها ويمقُتُها كما يُبغضُ ذاتَ إبليسَ وذواتَ جنودِه، ويبغضُ أعمالَهم، ولا يحِبُّ ذلك، وإنْ وُجِد بمشيئتِه [الإسراء: 38] .
2- أنَّه لا تَلازُمَ بيْنَ الرِّضا والإرادةِ؛ وَجْهُه: أنَّه تعالى قال: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ مع أنَّه أخبَرَ في آياتٍ كثيرةٍ أنَّ الكُفرَ واقِعٌ بإرادتِه؛ قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا [الأنعام: 125] ، فإذا جمَعْنا بيْن هذا وهذا عرَفْنا بأنَّه لا تَلازُمَ بيْن الرِّضا والإرادةِ؛ فقد يُريدُ ما لا يَرضاه، وقد يَرضى ما لا يُريدُه؛ فهو -مثلًا- يَرضى مِن كلِّ واحدٍ مِن النَّاسِ أن يَشكُرَ للهِ، لكنَّه ما أراد ذلك ، وفي ذلك تكذيبٌ لِدعوى الكُفَّارِ: «أنَّه لَمَّا كان كُفرُهم وعِصيانهُم بمَشيئةِ اللهِ، وأنَّه لو شاء لَمَنَعَهم مِن ذلك؛ فعَدَمُ مَنعِه لهم دليلٌ على رضاه بفِعلِهم!». فالكُفَّارُ زَعَموا أنَّ الإرادةَ الكَونيَّةَ يَلزَمُها الرِّضا، وهو زَعمٌ باطِلٌ، بل اللهُ يريدُ بإرادتِه الكَونيَّةِ ما لا يَرضاه، بدَليلِ قَولِه تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] مع قَولِه: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، والَّذي يُلازِمُ الرِّضا حقًّا إنَّما هو الإرادةُ الشَّرعيَّةُ .
3- في قَولِه تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى سُؤالٌ: أنَّ الآيةَ دَلَّت على أنَّه لا يَحمِلُ أحَدٌ وِزرَ غَيرِه، فما الجَمعُ مع قَولِه تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ؛ حيث تدُلُّ هذه الآيةُ الكريمةُ على أنَّ هؤلاء الضَّالِّينَ يَحمِلونَ أوزارَهم كامِلةً، ويَحمِلونَ أيضًا مِن أوزارِ الأتْباعِ الَّذين أضَلُّوهم؟
الجوابُ: أنَّ هؤلاء الضَّالِّينَ ما حَمَلوا إلَّا أوزارَ أنفُسِهم؛ لأنَّهم تحَمَّلوا وِزرَ الضَّلالِ ووِزرَ الإضلالِ؛ ((ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سَيِّئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عَمِلَ بها مِن بَعدِه، مِن غَيْرِ أن يَنقُصَ مِن أوزارِهم شَيءٌ )) ؛ لأنَّ تشريعَه السَّيِّئةَ لِغَيرِه ذنْبٌ مِن ذُنوبِه؛ فأُخِذَ به، وبهذا يَزولُ الإشكالُ أيضًا في قَولِه تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13].
4- في قَولِه تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أنَّ الإنسانَ لا يَحمِلُ آثامَ غَيرِه، ويَنبني على هذه الفائدةِ: ثبوتُ كمالِ عَدلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيث لا يَحمِلُ أحدٌ وِزرَ أحَدٍ .
5- قَولُه تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه بيانُ شُمولِ عِلْمِ اللهِ تعالى، فقولُه: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: بالَّذي كنتُم تَعمَلونَ كلِّه؛ صَغيرِه وكَبيرِه، والخِطابُ لجَميعِ النَّاسِ .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ الإشارةُ إلى أنَّ القلبَ هو الَّذي عليه مَدارُ الصَّلاحِ؛ لأنَّه إذا كان الحسابُ على ما في القلبِ فيكونُ مدارُ الصلاحِ عليه، ويؤيِّدُه قولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألَا وإنَّ في الجسَدِ مُضْغةً إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدتْ فَسَد الجسدُ كلُّه؛ ألَا وهي القلبُ )) .
7- في قَولِه تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أنَّ عبادةَ الضَّرورةِ لا تنفَعُ غالبًا، أي أنَّ الإنسانَ إذا عَرَف ربَّه عندَ الضَّرورةِ فقطْ فالغالبُ أنَّه لا يَنتفِعُ بهذه العبادةِ؛ لأنَّها ليست عبادةً عن رغبةٍ، ولكنَّها عبادةٌ مِن أجْلِ إنجاءِ الإنسانِ مِن الهَلَكَةِ، وإنْ كان أحيانًا يَنتفِعُ، فرُبَّما يكونُ هذا سببًا لفَتْحِ اللهِ عليه، كما يُوجَدُ الآنَ مِن النَّاسِ مثلًا مَن يُصابُ بمرضٍ شديدٍ، ويَخافُ منه الهلاكَ؛ فيُنيبُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ويدعو اللهَ سُبحانَه وتعالى؛ ثم يَمُنُّ اللهُ عليه بالاستمرارِ، لكنَّ الغالبَ أنَّ التَّعَبُّدَ ضرورةً لا يُفِيدُ .
8- في قَولِه تعالى: دَعَا رَبَّهُ أنَّ الكافِرَ يُؤمِنُ برُبوبيَّةِ اللهِ، وأنَّ إيمانَه هذا باللهِ لا يُخرِجُه مِن الكُفرِ؛ فالإيمانُ باللهِ وبرُبوبيَّتِه لا يكفي، ولا يُخرِجُ الإنسانَ مِن الكُفرِ، ودليلُ ذلك: أنَّ المُشرِكينَ الَّذين بُعِثَ فيهم رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يُقِرُّون باللهِ؛ لِقَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ، وقَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ، يعني: يُقِرُّونَ بأنَّ الَّذي خَلَقَهم هو اللهُ، ويَصِفُونه بالصِّفاتِ الكاملةِ، ومع ذلك فهم كفَّارٌ استباحَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم دماءَهم ونِساءَهم وأموالَهم وذُرِّيَّتَهم .
9- في قَولِه تعالى: ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ التَّعبيرُ بـ «خوَّل»، وفيه أنَّ عَطاءَه سُبحانَه ابتِداءً فَضلٌ منه، لا يَستَحِقُّ أحَدٌ عليه شيئًا؛ لأنَّ التَّخويلَ لا يكونُ جَزاءً، بل ابتِداءً .
10- في قَولِه تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُجيبُ دعوةَ المُضْطَرِّ ولو كان كافرًا .
11- في قَولِه تعالى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا نِدَّ له؛ لأنَّ اللهَ أنْكَر على مَن جَعَلوا له أندادًا؛ فيكونُ في هذا رَدٌّ على أهلِ التَّمثيلِ الَّذين أَثْبَتوا للهِ الصِّفاتِ مع التَّمثيلِ؛ فقالوا: إنَّ اللهَ تعالى له وجْهٌ كوُجوهِنا! ويَدٌ كأيدينا! وعينٌ كأعيُنِنا! وساقٌ كسُوقِنا! وهكذا .
12- في قَولِه تعالى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إشارةٌ إلى قِلَّةِ زَمَنِ الدُّنيا وما فيها في جَنبِ الآخِرةِ .
13- في قَولِه تعالى: مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أنَّهم لا يُفارِقونَها؛ فإنَّ الصُّحبةَ تُشعِرُ بالمُلازَمةِ، فأصحابُ النَّارِ: المُخَلَّدونَ فيها .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
- قولُه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أُتْبِعَ إنكارُ انصِرافِهم عن تَوحيدِ اللهِ بَعدَ ما ظَهَر على ثُبوتِه مِنَ الأدِلَّةِ، بأنْ أُعلِموا بأنَّ كُفرَهم إنْ أصَرُّوا عليه لا يَضُرُّ اللهَ، وإنَّما يَضُرُّ أنْفُسَهم، وهذا شُروعٌ في الإنذارِ والتَّهديدِ لِلكافِرينَ، ومُقابَلَتِه بالتَّرغيبِ والبِشارةِ لِلمُؤمِنينَ؛ فالجُملةُ مُستَأنَفةٌ واقِعةٌ مَوقِعَ النَّتيجةِ لِمَا سَبَقَ مِن إثباتِ تَوحيدِ اللهِ بالإلَهيَّةِ؛ فجُملةُ إِنْ تَكْفُرُوا مُبيِّنةٌ لِإنكارِ انصِرافِهم عنِ التَّوحيدِ، أيْ: إنْ كَفَرتُم بَعدَ هذا الزَّمَنِ، فاعلَموا أنَّ اللهَ غَنيٌّ عنكم، ومَعناه: غَنيٌّ عن إقرارِكم له بالوَحدانيَّةِ، أيْ: غَيرُ مُفتَقِرٍ له، وهذا كِنايةٌ عن كَونِ طَلَبِ التَّوحيدِ منهم لِنَفعِهم، ودَفْعِ الضُّرِّ عنهم، لا لِنَفعِ اللهِ، ولتَذكيرِهم بهذا، والخَبرُ مُستَعمَلٌ كِنايةً في تَنبيه المُخاطَبِ على الخَطَأِ مِن فِعلِه .
- قولُه: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ جُملةٌ مُستَطرَدةٌ كالتَّتميمِ لِلشَّرطِ الأوَّلِ، تَعريضًا بهم وبكُفرِهم، وهو مع الشَّرطِ كالمُقابِلِ لِلشَّرطِ الثَّاني، والمَعنى: أنَّهم ليسوا مِن جُملةِ عِبادِه المُرتَضَيْنَ، بلْ هم مِنَ الَّذين سَخِطَ اللهُ عليهم . أو اعتِراضٌ بيْنَ الشَّرطَينِ؛ لِقَصدِ الاحتِراسِ مِن أنْ يَتَوهَّمَ السَّامِعونَ أنَّ اللهَ لا يَكتَرِثُ بكُفرِهم ولا يَعبَأُ به، فيَتَوهَّموا أنَّه والشُّكرَ سَواءٌ عِندَه؛ لِيَتأكَّدَ بذلك مَعنى استِعمالِ الخَبَرِ في تَنبيه المُخاطَبِ على الخَطَأِ .
قولُه: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ قال: لِعِبَادِهِ، ولم يَقُل: «مِن عبادِه»، أو: «عن عِبادِه»؛ لأنَّ اللَّامَ أبلَغُ في كَونِ هذا الشَّيءِ لا يليقُ بهم .
- قَولُه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فيه تَعريضٌ بالمُتارَكةِ، وقَطْعِ اللَّجاجِ مع المُشرِكينَ، وأنَّ قُصارَى المُؤمِنينَ أنْ يُرشِدوا الضُّلَّالَ، لا أنْ يُلجِئوهم إلى الإيمانِ .
- قولُه: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ لِلتَّرتيبَينِ: الرُّتبيِّ والتَّراخي، أيْ: وأعظَمُ مِن كَونِ اللهِ غَنيًّا عنكم أنَّه أعَدَّ لكمُ الجَزاءَ على كُفرِكم، وسَتَرجِعونَ إليه .
- قولُه: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ تَقدَّمَ نَظيرُه في آخِرِ سُورةِ (الأنعامِ)، وإنَّما جاءَ في آيةِ (الأنعامِ): وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام: 164] ؛ لِأنَّها وَقَعَتْ إثْرَ آياتٍ كَثيرةٍ تَضَمَّنتْ الاختِلافَ بيْنَ أحوالِ المُؤمِنينَ وأحوالِ المُشرِكينَ، ولم يَجِئْ مِثلُ ذلك هنا؛ فلذلك قيلَ هنا: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أيْ: مِن كُفرِ مَن كَفَر، وشُكرِ مَن شَكَر .
- وقولُه: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه تَعريضٌ بالوَعدِ والوَعيدِ ؛ ففيها تهديدٌ للعاصي، وبِشارةٌ للمُطيعِ .
- وجُملةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تَعليلٌ لِجُملةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؛ لِأنَّ العَليمَ بذاتِ الصُّدورِ لا يُغادِرُ شَيئًا إلَّا عَلِمَه، فإذا أنبَأ بأعمالِهم كان إنباؤُه كامِلًا .
- وقيل: إنَّ قولَه: (يُنَبِّئُكُمْ) فيه إشارةٌ إلى اللُّطفِ والإحسانِ، حيثُ لم يقُلْ: يُؤاخِذُكم؛ لأنَّه ثبَتَ في الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ يُدْني المؤمنَ فيَضَعُ عليه كَنَفَه ويَسترُه، فيقولُ: أتَعرِفُ ذنْبَ كذا؟ أتَعرِفُ ذنْبَ كذا؟ فيقولُ: نعمْ، أيْ رَبِّ. حتَّى إذا قَرَّره بذُنوبِه ورَأَى في نفْسِه أنَّه هَلَك قال: ستَرْتُها عليكَ في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لكَ اليومَ )) ؛ فهذا إنباءٌ بدونِ مؤاخَذةٍ؛ ولهذا قال هنا: (يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ثمَّ إنَّ المؤاخَذةَ إليه، والإنباءَ وَعْدٌ عليه؛ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ؛ ولهذا كان الكفَّارُ لا يُنَبَّؤونَ بعمَلِهم كما يُنبَّأُ المؤمنُ، يعني أنَّ اللهَ يَخْلو به ويَستُرُ عليه، ويُقرِّرُه بذُنوبهِ معه وحْدَه، أمَّا الكفَّارُ -والعياذُ باللهِ- فيُنادَى على رُؤوسِ الأشهادِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] ، واللهُ أعلَمُ .
2- قولُه تعالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ هذا مِثالٌ لِتَقلُّبِ المُشرِكينَ بيْنَ إشراكِهم مع اللهِ غَيرَه في العِبادةِ، وبيْنَ إظهارِ احتياجِهم إليه، فذلك عُنوانٌ على مَبلَغِ كُفرِهم وأقْصاه، والجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [الزمر: 6] الآيةَ؛ لاشتراكِ الجُملتَينِ في الدَّلالةِ على أنَّ اللهَ مُنفرِدٌ بالتَّصرُّفِ، مُستوجِبٌ للشُّكرِ، وعلى أنَّ الكُفرَ به قَبيحٌ، وتَتضَمَّنُ الاستِدلالَ على وحدانيَّةِ إلهيَّتِه، بدَليلٍ مِن أحوالِ المُشرِكينَ به؛ فإنَّهم إذا مَسَّهمُ الضُّرُّ لَجَؤوا إليه وَحْدَه، وإذا أصابَتْهم نِعمةٌ أعرَضوا عن شُكرِه، وجَعَلوا له شُركاءَ؛ فالتَّعريفُ في الْإِنْسَانَ تَعريفُ الجِنسِ، ولكِنَّ عُمومَه هنا عُمومٌ عُرفيٌّ لِفَريقٍ مِنَ الإنسانِ، وهم أهلُ الشِّركِ خاصَّةً؛ لِأنَّ قَولَه: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لا يَتَّفِقُ مع حالِ المُؤمِنينَ .
- وذِكرُ (الإنسانِ) في وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ إظهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ؛ لِأنَّ المَقصودَ به المُخاطَبونَ بقَولِه: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الزمر: 6] ، إلى قَولِه: فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر: 7] ، فكان مُقتَضى الظَّاهِرِ أنْ يُقالَ: وإذا مَسَّكمُ الضُّرُّ دَعَوْتُم رَبَّكم... إلخ، فعُدِلَ إلى الإظهارِ؛ لِمَا في مَعنى (الإنسانِ) مِن مُراعاةِ ما في الإنسانيَّةِ مِنَ التَّقلُّبِ والاضطِرابِ، إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ بالتَّوفيقِ، ولِأنَّ في اسمِ (الإنسانِ) مُناسَبةً مع النِّسيانِ الآتي في قَولِه: نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ .
- قولُه: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ اللَّامُ في قَولِه: لِيُضِلَّ لامُ العاقِبةِ؛ لِأنَّ الإضلالَ لَمَّا كان نَتيجةَ الجَعلِ جازَ تَعليلُ الجَعلِ به، كأنَّه هو العِلَّةُ لِلجاعِلِ .
- قولُه: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ذِكرَ حالةِ الإنسانِ الكافرِ المُعرِضِ عن شُكرِ ربِّه، يُثِيرُ وَصْفُها سُؤالَ السَّامعِ عن عاقِبةِ هذا الكافرِ .
- وصِيغةُ الأمْرِ في قولِه: تَمَتَّعْ مُستعمَلةٌ في الإمهالِ المرادِ منه الإنذارُ والوعيدُ . وهو أمْرُ تَهديدٍ فيه إشعارٌ بأنَّ الكُفرَ نَوعُ تَشَهٍّ لا سَنَدَ له، وإقناطٌ للكافِرينَ مِنَ التَّمتُّعِ في الآخِرةِ؛ ولذلك علَّله بقولِه: إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ على سَبيلِ الاستِئنافِ للمُبالَغةِ .
- ومُتعلَّقُ التَّمتُّعِ في قولِه: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا مَحذوفٌ، دَلَّ عليه سِياقُ التَّهديدِ، والتَّقديرُ: تَمَتَّعْ بالسَّلامةِ مِنَ العَذابِ في زَمَنِ كُفرِكَ، أو مُتَكسِّبًا بكُفرِكَ تَمَتُّعًا قَليلًا؛ فأنتَ آيِلٌ إلى العَذابِ؛ لِأنَّكَ مِن أصحابِ النارِ .
- ووَصْفُ التَّمتُّعِ بالقَليلِ؛ لِأنَّ مُدَّةَ الحَياةِ الدُّنيا قَليلةٌ بالنِّسبةِ إلى العَذابِ في الآخِرةِ، وهذا كقولِه تعالى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38] .
- وجُملةُ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ بَيانٌ لِلمَقصودِ مِن جُملةِ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا، وهو الإنذارُ بالمَصيرِ إلى النَّارِ بَعدَ مُدَّةِ الحَياةِ .