موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (38-40)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

انْفِرُوا: أي: اخرُجُوا مِن مَنازِلِكم إلى مَغْزاكم، والنَّفْرُ: مُفارقةُ مكانٍ إلى مكانٍ لأمْرٍ هاجَه على ذلك، وأَصلُ (نفر): يدلُّ على تجافٍ وتباعُدٍ .
اثَّاقَلْتُمْ: أي: تَثاقَلْتُم، وتَباطَأتُم وتَكاسَلْتُم، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ .
مَتَاعُ: أي: مُتْعة، وانْتِفاع، وأصلُ (متَع): المنفعةُ، وامتدادُ مدَّةٍ في خيرٍ .
الْغَارِ: نَقْبٌ في الجَبَلِ، وأصلُ (غور): يدلُّ على خُفوضٍ في الشَّيءِ، وانحطاطٍ وتَطامُنٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها الذين آمَنوا، ما بالُكم إذا دُعِيتُم إلى الجِهادِ في سبيلِ الله تكاسَلْتُم، ومِلْتُم لِلُزومِ مَساكِنِكم؟! أَرِضًا منكم بنَعيمِ الدُّنيا بَدَلًا من نعيمِ الجنَّةِ في الآخرةِ؟! فما متاعُ الحياةِ الدُّنيا مُقارنةً بِنَعيمِ الآخرةِ إلَّا قَليلٌ، إن لم تُبادِرُوا للجِهادِ الذي دُعِيتُم إليه، يُعَذِّبْكم اللهُ عذابًا مُوجِعًا، ويستبدِلْ بكم قومًا آخَرينَ، إذا دُعُوا للجِهادِ أجابُوا، ولا تضُرُّوا اللهَ شَيئًا بعَدمِ تَلبِيَتِكم داعِيَ الجِهادِ، واللهُ على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
وإنْ لم تنصُروا مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَينصُرُه اللهُ تعالى، كما نَصَرَه مِن قَبلُ حين اضطُرَّ إلى الخروجِ مِن مكَّة، والحالُ أنَّه أحدُ اثنَينِ فحَسْبُ، ليس معه إلَّا أبو بكرٍ رَضِيَ الله عنه، حين كانا في غارٍ في جبَلِ ثَورٍ للاختباءِ من كفَّارِ قُريشٍ، إذ يقولُ لأبي بكرٍ: لا تَحزَنْ؛ إنَّ اللهَ معنا، فأنزَلَ اللهُ سَكينَتَه على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَوَّاه بجُنودٍ مِن الملائكةِ لم تَرَوْها أنتم، وجَعَلَ اللهُ كَلِمةَ الكُفَّارِ هي السُّفلى، وكِلمةُ الله هي العليا، واللهُ عزيزٌ حَكيمٌ.

مشكل الإعراب:

1- قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ
 ثَانِيَ: حالٌ مِن الهاءِ في أَخْرَجَهُ، أي: أحَدَ اثنَينِ. اثْنَيْنِ مُضافٌ إليه مَجرورٌ، وعلامةُ جرِّه الياءُ؛ لأنَّه مُلحَقٌ بالمُثنَّى .
2- قوله تعالى:وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هيَ الْعُلْيَا
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هيَ الْعُلْيَا (الواو) استئنافيَّة. كَلِمةُ مبتدأٌ مَرفوعٌ. هيَ الْعُلْيَا جُملةٌ اسميَّةٌ في محلِّ رَفعٍ خَبَرٌ لـ (كَلِمَةُ اللَّه)، ويجوزُ أن تكونَ هيَ ضميرَ فَصلٍ، والْعُلْيَا هي الخَبَرُ. والجملةُ كُلُّها استئنافيَّةٌ، لا محَلَّ لها من الإعرابِ .

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا شرَحَ معايِبَ هؤلاءِ الكُفَّارِ وفَضائِحَهم، عاد إلى التَّرغيبِ في مُقاتَلَتِهم .
وأيضًا لَمَّا أوعَزَ اللهُ تعالى في أمرِ الجِهادِ، وأزاح جميعَ عِلَلِهم، وبيَّنَ أنَّ حُسْنَه لا يختَصُّ به شَهرٌ دونَ شَهرٍ، وأنَّ بَعضَهم كان يُحِلُّ لهم ويُحَرِّمُ، فيتَّبِعونَه بما يؤدِّي إلى تحريمِ الشَّهرِ الحلالِ، وتحليلِ الشَّهرِ الحرامِ بالقتال فيه- عاتَبَهم اللهُ سبحانه على تخلُّفِهم عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الآمِرِ لهم بالنَّفْرِ في غزوةِ تَبُوكَ عن أمْرِه سبحانَه، فقال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.
أي: ما الذي يَدعُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- إذا أُمِرْتُم بجهادِ الكُفَّارِ لإعلاءِ كَلِمةِ الله، إلى أن تَتَثاقلوا وتتَباطَؤوا وتتقاعَسُوا، وتَميلوا إلى لُزومِ أرضِكم ومَساكِنِكم ؟!
أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ.
أي: ما لَكُم فَعَلْتُم ذلك- أيُّها المُؤمِنونَ- أَرِضًا منكم بنَعيمِ الحياةِ الدُّنيا وراحَتِها، بدَلًا مِن نعيمِ الجنَّةِ في الآخرةِ ؟!
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ.
أي: فما الذي يتمَتَّعُ به المتمَتِّعونَ في الحياةِ الدُّنيا- التي مالتْ بكم- مُقارنةً بما سيتمَتَّعُ به المُؤمِنونَ في الجنَّةِ؛ إلَّا يسيرٌ مَحدودٌ، ووقتُه قصيرٌ معدودٌ، فكيف تُقَدِّمونَ القَليلَ الزَّائِلَ على الكثيرِ الباقي؟! فاطلُبوا- أيُّها المؤمنونَ- نعيمَ الآخرةِ بطاعةِ رَبِّكم، والمُسارَعةِ إلى إجابةِ أمْرِه في النَّفيرِ؛ لِجِهادِ عَدُوِّه وعَدُوِّكم .
عن المُستَورِدِ بنِ شدَّادٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: واللَّه ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا مِثلُ ما يجعَلُ أحدُكم إصْبَعَه هذه في اليَمِّ، فلْينظُرْ بمَ تَرجِعُ؟ )) .
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا رغَّبَهم في الآيةِ الأُولى في الجِهادِ بناءً على التَّرغيبِ في ثوابِ الآخرةِ؛ رغَّبَهم في هذه الآيةِ في الجهادِ بناءً على أنواعٍ أُخَرَ مِن الأمورِ المُقَوِّيةِ للدَّواعي، وهي ثلاثةُ أنواعٍ: قولُه تعالى: يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الثاني: قولُه: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ. الثالث: قَولُه: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا .
وأيضًا فهذا وعيدٌ وتَهديدٌ عَقَّبَ به المَلامَ السَّابِقَ؛ لأنَّ اللَّومَ وقَعَ على تثاقُلٍ حصَلَ، ولَمَّا كان التَّثاقُلُ مُفْضِيًا إلى التخَلُّفِ عن القتالِ، صَرَّح بالوعيدِ والتَّهديدِ إن يعودُوا لمِثلِ ذلك التَّثاقُلِ ، فقال:
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
أي: إنْ لم تُبادِروا- أيُّها المُؤمِنونَ- بالخُروجِ إلى الجهادِ بعد أن دُعِيتُم إليه، يُعَذِّبْكم اللهُ عَذابًا مُوجِعًا في الدُّنيا والآخرةِ .
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: إذا تبايَعْتُم بالعِينةِ، وأخَذْتُم أذنابَ البَقَرِ، ورَضِيتُم بالزَّرعِ، وتَرَكتُم الجهادَ- سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزِعُه، حتى تَرجِعوا إلى دينِكم )) .
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ.
أي: ويَستَبدِلِ اللهُ سبحانه بكم قومًا آخَرينَ، أطوَعَ لله منكم، إذا استُنْفِروا إلى الجِهادِ أجابُوا، ونَصَروا دينَ الله عزَّ وجلَّ .
كما قال سبحانه: إِنْ يَشَأْ يُذْهبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 133] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .
وقال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا.
أي: ولا تَضُرُّوا اللهَ سُبحانَه شَيئًا؛ فهو غَنيٌّ عنكم، وناصِرٌ دينَه، وإنَّما تَضرُّونَ أنفُسَكم، بتَرْكِكم الجهادَ في سَبيلِه عزَّ وجلَّ .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 144] .
وقال سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] .
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ قادِرٌ على فِعلِ كلِّ شيءٍ، لا يُعجِزُه شَيءٌ أراده سبحانَه، ومِن ذلك قُدرتُه على استبدال قومٍ آخرينَ بكم، وعلى نصرِ دينِه مِن دُونِكم .
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا ذِكرُ طَريقٍ آخَرَ في ترغيبِهم في الجهادِ؛ وذلك لأنَّه تعالى ذكَرَ في الآيةِ الأولى أنَّهم إن لم يَنفِروا باستنفارِه، ولم يشتَغِلوا بنُصرَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ اللهَ ينصُرُه بدليلِ أنَّ اللهَ نَصَره وقَوَّاه حالَ ما لم يكُنْ معه إلَّا رَجُلٌ واحِدٌ، فهاهنا أَوْلى .
وأيضًا لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالى نَفسَه الأقدَسَ بما هو له أهلٌ مِن شُمولِ القُدرةِ، وعَظيمِ البأسِ والقُوَّةِ؛ أتبع ذلك بدَليلٍ يتضَمَّنُ أنَّ المُستَنفِرَ لهم- وهو نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- غيرُ مُحتاجٍ إليهم، ولا مُتَوقِّفٍ نَصرُه عليهم، كما لم يَحتَجْ إليهم- بحِياطةِ القادِرِ له- فيما مضى من الهجرةِ التي ذَكَرَها، وأنَّ نَفْعَ ذلك إنما هو لهم، باستجلابِ ما وُعِدُوه، واستِدْفاعِ ما أُوعِدُوه في الدَّارَينِ، قال تعالى :
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.
أي: إن تَترُكوا- أيُّها المُؤمِنونَ- نُصرةَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الكُفَّارِ، فسَينصُرُه اللهُ تعالى كما نَصَرَه مِن قَبلُ، حين اضطَرَّه كفَّارُ قُريشٍ إلى الخُروجِ مِن مكَّةَ .
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ.
أي: نصَرَ اللهُ رسولَه محمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حين اضطُرَّ للخُروجِ مِن مكَّةَ، والحالُ أنَّه أحدُ اثنَينِ فحَسْبُ، ليس معه إلَّا أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه حين كانا مُختَفِيَينِ من كفَّارِ قُريشٍ في غارٍ في جبَلِ ثَورٍ .
عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها، قالت: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُسلِمينَ: ((إنِّي أُريتُ دارَ هجْرَتِكم، ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَينِ- وهما الحَرَّتانِ- فهاجر مَن هاجَرَ قِبَل المدينةِ، ورجَعَ عامَّةُ مَن كان هاجَرَ بأرضِ الحَبَشةِ إلى المدينةِ، وتجهَّزَ أبو بكرٍ قِبَل المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: على رِسْلِك فإنِّي أرجو أن يُؤذَنَ لي، فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنتَ؟ قال: نعم، فحَبَس أبو بكرٍ نَفسَه على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيصحَبَه، وعَلَف راحِلَتينِ- كانَتا عِندَه- وَرَقَ السَّمُرِ- وهو الخَبَطُ- أربعةَ أشهُرٍ. قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نحرِ الظَّهيرةِ ، قال قائِلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكُن يأتينا فيها. فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أمرٌ! قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستأذَنَ، فأَذِنَ له فدخَلَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكرٍ: أَخرِجْ مَنْ عِندك. فقال أبو بكرٍ: إنَّما هم أهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله! قال: فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ. فقال أبو بكرٍ: الصَّحابةَ بأبي أنت يا رسولَ الله. قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعم. قال أبو بكرٍ: فخُذ- بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتيَّ هاتينِ، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بالثَّمَنِ. قالت عائشةُ: فجَهَّزْناهما أحَثَّ الجَهازِ ، وصَنَعْنا لهما سُفرةً في جِرابٍ ، فقطَعَت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها ، فربَطَت به على فَمِ الجِرابِ؛ فبذلك سُمِّيَت ذاتَ النِّطاقَينِ، قالت: ثم لَحِقَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ بغارٍ في جبَلِ ثَورٍ، فَكَمِنا فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامٌ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ فيُدلِجُ مِن عِندِهما بسَحَرٍ، فيُصبِحُ مع قريشٍ بمكَّةَ كبائِتٍ، فلا يسمَعُ أمرًا يُكتادانِ به إلَّا وَعاه، حتى يأتِيَهما بخبرِ ذلك حينَ يَختلِطُ الظَّلامُ، ويرعى عليهما عامِرُ بن فُهَيرةَ- مولى أبي بكرٍ- مِنْحةً مِن غَنَمٍ ، فيُريحُها عليهما حين تذهَبُ ساعةٌ مِن العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ- وهو لبَنُ مِنحَتِهما ورَضِيفِهما- حتى ينعِقَ بها عامرُ بن فُهَيرةَ بِغَلَسٍ يفعَلُ ذلك في كلِّ ليلةٍ مِن تلك الليالي الثَّلاثِ، واستأجَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ رَجُلًا من بني الدِّيلِ هاديًا خِرِّيتًا- والخِرِّيتُ الماهرُ بالهدايةِ- وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناه فدَفَعا إليه راحِلَتَيهما، وواعَداه غارَ ثَورٍ بعد ثلاثِ لَيالٍ، براحِلَتَيهما صُبحَ ثلاثٍ، وانطلَقَ معهما عامِرُ بنُ فُهَيرةَ، والدَّليلُ، فأخَذَ بهم طريقَ السَّواحِلِ )) .
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ.
أي: إذ يقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِصاحِبِه أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: لا تحزَنْ- يا أبا بكرٍ- لأنَّ اللهَ مَعَنا بنَصْرِه وحِفْظِه، ولن يَصِلَ المشركونَ إلينا .
عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ أبا بكرٍ الصِّديقَ رَضِيَ الله عنه حَدَّثَه، قال: ((نظَرْتُ إلى أقدامِ المُشرِكينَ على رُؤوسِنا ونحن في الغارِ، فقلتُ: يا رسولَ الله، لو أنَّ أحَدَهم نظَرَ إلى قَدَمَيه أبصَرَنا تحت قَدَمَيه! فقال: يا أبا بكرٍ، ما ظَنُّك باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟)) .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو كُنتُ مُتَّخِذًا مِن أمَّتي خليلًا، لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ، ولكِنْ أخي وصاحِبي)) .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عليَّ في مالِه وصُحبَتِه أبو بكرٍ، ولو كنتُ مُتَّخذًا خَليلًا، لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ خَليلًا، ولكِنْ أخُوَّةُ الإسلامِ، لا تَبقَينَّ في المسجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا خَوخةُ أبي بكرٍ )) .
فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ.
أي: فأنزَلَ اللهُ الطُّمأنينةَ والثَّباتَ على رسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا.
أي: وقَوَّى اللهُ رسولَه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأعانَه بجُنودٍ مِن الملائكةِ، لم تَرَوْها أنتم .
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى.
أي: وجعَلَ اللهُ كَلِمةَ الكُفَّارِ- وهي الشِّركُ والكُفرُ- حقيرةً مَقهورةً، منحَطَّةً وساقطةً، فأذَلَّ اللهُ الشِّركَ وأهْلَه، وخَذَلهم ودَحَرَهم .
وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا.
أي: وكَلِمةُ الله- وهي كَلِمةُ التَّوحيدِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ودينُه الذي شَرَعه لعبادِه- هي الغالِبةُ المنصورةُ على الشِّركِ وأهْلِه .
عن أبي موسى الأشعريِّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سُئِلَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرَّجُلِ يُقاتِلَ شَجاعةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ رِياءً، أيُّ ذلك في سبيلِ الله؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن قاتَلَ لِتَكونَ كَلِمةُ الله هي العُليا، فهو في سبيلِ الله )) .
وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
واللهُ عَزيزٌ في انتقامِه وانتصارِه مِن الكُفَّارِ، لا يقهَرُه، ولا يَغلِبُه شَيءٌ، ولا يفوتُه أحَدٌ، قاهرٌ غالِبٌ، مَنيعُ الجَنابِ، لا يُضامُ مَن لاذ ببابِه، حكيمٌ في أقوالِه وأفعالِه، وفي تدبيرِه خَلْقَه، يضَعُ سُبحانَه الأشياءَ موَاضِعَها اللَّائِقةَ بها، وقد يؤخِّرُ نَصرَ حِزبِه إلى وقتٍ آخَرَ .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ على قَدْرِ رَغبةِ العَبدِ في الدُّنيا ورِضاه بها، يكونُ تَثاقُلُه عن طاعةِ الله، وطَلَبِ الآخرةِ .
2- قال الله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ متاعُ الدُّنيا في جَنْبِ متاعِ الآخرةِ، قليلٌ حَقيرٌ، وسعادةُ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى سعادةِ الآخرةِ، كالقَطرةِ في البَحرِ، وتَرْكُ الخيرِ الكَثيرِ لأجلِ الشَّرِّ القليلِ، شَرٌّ عَظيمٌ، وهو جَهلٌ وسَفَهٌ .
3- قال اللهُ تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذه الآيةُ فيها سِرٌّ عَظيمٌ يعلَمُ به الإنسانُ أنَّ كُلَّ ما يفعَلُه إنَّما أثَرُه راجِعٌ إلى نَفسِه، فإن كان شَرًّا فهو يجني شَرًّا على نَفسِه، وإن كان خَيرًا فهو يجلِبُ الخيرَ لِنَفسِه إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .
4- مَن كان اللهُ تعالى معه بعِزَّتِه التي لا تُغلَب، وقُدرَتِه التي لا تُقهَر، ورَحمَتِه التي قام ويقومُ بها كلُّ شَيءٍ- فهو حقيقٌ بألَّا يستسلِمَ لِحُزنٍ ولا خوفٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا .
5- قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا اللهُ جلَّ وعلا يَشرَعُ بأفعالِ رُسُلِه وأقوالِهم لِخَلقِه؛ فاللهُ جلَّ وعلا مع عظَمَتِه وجَلالِه وتَصريحِ النَّبيِّ بأنَّه معه، وأنَّ اللهَ أيَّدَه بجُنودِ الملائكةِ، مع هذا يدخُلُ في غارٍ في ظلمةِ اللَّيلِ، والغارُ فيه الحيَّاتُ وخَشاشُ الأرضِ؛ لِيَسُنَّ للنَّاسِ ويَشرَعَ لهم حَملَ أعباءِ تَبليغِ الرِّسالةِ والدَّعوة، وأن يتحَمَّلوا في شأنِ الدَّعوةِ إلى الله كُلَّ البَلايا والمشاقِّ، ويَستَهينوا فيها بكلِّ عَظيمٍ، هذا هو السِّرُّ في ذلك .
6- في قولِ الله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ أنَّ الحُزنَ قد يَعرِضُ لخَواصِّ عِبادِ الله الصِّدِّيقِينَ، ولا ينقصُهم إضافةُ الحزنِ إليهم، مع أنَّ الأَوْلى إذا نزَلَ بالعبدِ أن يَسعى في ذَهابِه عنه؛ فإنَّه مُضعِفٌ للقَلبِ، مُوهنٌ للعَزيمةِ، ولم يكنْ حُزنُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنه لشَكٍّ وحَيرةٍ، وإنَّما كان خوفًا على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَصِلَ إليه ضَرَرٌ . وقيل: ليس في نهيِ أبي بكرٍ عن الحُزنِ ما يدُلُّ على وجودِه، بل قد يُنهى عنه؛ لئلَّا يُوجَدَ إذا وُجِدَ مُقتَضيه، فالنَّهيُ عن الشَّيءِ لا يدُلُّ على وقوعِه، بل يدُلُّ على أنَّه ممنوعٌ منه؛ لئلَّا يقَعَ فيما بعدُ، كقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] ، فهذا لا يدُلُّ على أنَّه كان يُطيعُهم. فقَولُه لَا تَحْزَنْ لا يدُلُّ على أنَّ الصِّدِّيقَ كان قد حَزِنَ، لكنْ مِن المُمكِنِ في العَقلِ أنَّه يحزَنُ، فقد يُنهى عن ذلك؛ لئلَّا يفعَلَه .
7- قَولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا في الآيةِ فَضيلةُ السَّكينةِ، وأنَّها مِن تمامِ نِعمةِ الله على العَبدِ في أوقاتِ الشَّدائدِ والمخاوفِ التي تَطيشُ بها الأفئدةُ، وهي تكونُ على حسَبِ مَعرفةِ العَبدِ برَبِّه، وثِقَتِه بِوَعدِه الصَّادِقِ، وبحَسَبِ إيمانِه وشَجاعَتِه .
8- كلُّ مَن وافَقَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرٍ خالفَ فيه غَيرَه؛ فهو من الذينَ اتَّبَعوه في ذلك؛ وله نصيبٌ مِن قَولِه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا؛ فإنَّ المعيَّةَ الإلهيَّةَ المتضَمِّنةَ للنَّصرِ هي لِما جاء به إلى يومِ القِيامةِ .
9- قولُه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فيه أنَّه لا حُزنَ مع الله، وأنَّ مَن كان اللهُ معه، فما له وللحُزنِ؟ وإنَّما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لِمَن فاته اللهُ، فمن حصَلَ اللهُ له، فعلى أيِّ شَيءٍ يَحزَنُ؟ ومن فاته اللهُ فبأيِّ شَيءٍ يَفرَحُ ؟
10- والمعيَّةُ في قَولِه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا معيَّةٌ خاصَّةٌ، غيرُ قَولِه تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة: 7] فالمعيَّةُ الخاصَّةُ تقتضي حُسنَ الظَّنِّ بإجابَتِه سُبحانَه، ورِضاه وحِفْظَه وصِيَانَتَه، وأمَّا المعيَّةُ العامَّةُ فتَقتَضي التَّحذيرَ مِن عِلمِه، واطِّلاعِه وقُدرَتِه، وبَطْشِه وانتِقامِه .
11- قال الله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذانِ الاسمانِ مِن أسماءِ الله: (العَزيزُ الحكيمُ) المتضَمِّنانِ هاتَينِ الصِّفَتينِ مِن صِفاتِ الله، وهي عِزُّه وحِكمَتُه وحُكْمُه- هما أبلَغُ شَيءٍ في امتثالِ أمْرِه وطاعَتِه جَلَّ وعلا؛ لأنَّ عِزَّتَه- أي: غَلَبَتَه وقُوَّتَه وقَهْرَه وسُلطانَه- يجعَلُك أيُّها المِسكينُ، تخافُه وتخضَعُ لأمْرِه ونَهْيِه، وكونُه جلَّ وعلا حكيمًا لا يأمُرُك إلَّا بما فيه لك الخَيرُ، ولا ينهاك إلَّا عمَّا فيه لك الشَّرُّ؛ ذلك يقتضِي أيضًا أن تُطيعَه وتخضعَ لأمْرِه ونَهيِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ بُنِي (قيل) للمَفعولِ، والقائِلُ هو الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يُذكَرْ؛ إغلاظًا ومُخاشنةً لهم، وصَونًا لِذِكرِه؛ إذ أخلَدَ إلى الهُوَينا والدَّعةِ مَن أخلَدَ، وخالَفَ أمْرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
2- قَولُه تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ خِطابٌ لكلِّ قرْنٍ، وقد أَخبَرَ فيه أنَّه مَن نَكَل عن الجهادِ المأمورِ به، نَزَعَ الأمرَ منه، وعذَّبَه، واستبدَلَ به مَن يقومُ بالجهادِ- وهذا هو الواقِعُ- وإنَّ هذا الدِّينَ لِمَن ذَبَّ عنه .
3- قولُ الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا دلَّ على فضيلةِ أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنه من وجوهٍ؛ منها: الأول: أنَّ الهجرةَ كانت بإذنِ الله تعالى، وكان في خِدمةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جماعةٌ مِن المُخلِصينَ، وكانوا في النَّسَبِ إلى شجرةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقرَبَ من أبي بكرٍ؛ فتخصيصُ الله إيَّاه بهذا التَّشريفِ دلَّ على منصبٍ عالٍ له في الدِّينِ. الثاني: أنَّه تعالى سَمَّاه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فجُعِل ثانيَ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حالَ كَونِهما في الغارِ، والعلماءُ أثبتوا أنَّه رَضِيَ الله عنه كان ثانيَ محمَّدٍ في أكثَرِ المناصِبِ الدينيَّةِ. الثالث: أنَّه تعالى وصَفَ أبا بكرٍ بِكَونِه صاحِبًا للرَّسولِ، وذلك يدلُّ على كمالِ الفَضلِ. الرابع: قَولُه: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولا شَكَّ أنَّ المرادَ مِن هذه المعيَّةِ: المعيَّةُ بالحِفظِ والنُّصرةِ، والحِراسةِ والمَعونةِ، وبالجملةِ فالرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسُّلام شَرَكَ بين نفسِه وبين أبي بكرٍ في هذه المعيَّةِ، وذلك منصِبٌ في غايةِ الشَّرفِ .
4- قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ... في هذه الآيةِ دَليلٌ على جوازِ الفِرارِ مِن خَوفِ العَدُوِّ، والاستخفاءِ في الغِيرانِ وغيرِها، وعدمِ الاستسلامِ المؤَدِّي إلى الآلامِ والهُمومِ، وألَّا يُلقِيَ بيَدِه إلى العدُوِّ؛ توكُّلًا على الله، واستسلامًا له، ولو شاء ربُّكم لعَصَمه مع كَونِه معهم، ولكِنَّها سُنَّةُ الأنبياءِ، وسِيرةُ الأمَمِ، حَكَمَ اللهُ بها لتكونَ قُدوةً للخَلقِ، وأنمُوذجًا في الرِّفقِ، وعمَلًا بالأسبابِ، وهذا أدَلُّ دليلٍ على فسادِ مَن منعَ ذلك، وقال: من خافَ مع الله سِواه كان ذلك نقصًا في توكُّلِه، ولم يؤمِنْ بالقَدَرِ. وهذا كلُّه في معنى الآية، ولله الحَمدُ والهداية .
5- في قَولِه تعالى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ إلى قَولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بيانُ أنَّ نَصْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرْضٌ علينا؛ لأنَّه مِن التَّعزيرِ المَفروضِ؛ ولأنَّه مِن أعظَمِ الجِهادِ في سبيلِ الله؛ ولذلك قال سُبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّه كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه [الصف: 14] .
6- قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ .. جعَلَ أبا بكرٍ في مقابلةِ الصَّحابةِ أجمَعَ، فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحبه في الغار، بتأنيسِه له، وحَمْلِه على عُنُقِه، ووفائِه له بوقايتِه له بنفسِه، وبمواساتِه بمالِه، وبهذه الفضائِلِ استحَقَّ أن يقالَ فيه: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا خَليلًا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خَليلًا)) وسبقت له بذلك كُلِّه الفضيلةُ على النَّاسِ . قال سفيانُ بنُ عُيَينةَ: خرج أبو بكرٍ بهذه الآيةِ مِن المعاتَبةِ التي في قَولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ . وقال الشَّعبي: عاتبَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أهلَ الأرضِ جميعًا في هذه الآيةِ غيرَ أبي بكرٍ الصِّديقِ رَضِيَ اللهُ عنه .
7- قال اللهُ تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أبو بكرٍ الصِّديقُ رَضِيَ الله عنه هو الثَّاني في الإسلامِ، وفي بذْلِ النَّفسِ، وفي الزُّهدِ، وفي الصُّحبةِ، وفي الخِلافةِ، وفي العُمُرِ، وفي سبَبِ الموتِ؛ لأنَّ الرَّسولَ مات عن أثَرِ السُّمِّ، وأبو بكرٍ سُمَّ فمات .
8- قال بعضُ العُلَماءِ: في قَولِه تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ما يدلُّ على أنَّ الخليفةَ بعد النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عنه؛ لأنَّ الخليفةَ لا يكونُ أبدًا إلَّا ثانًيا .
9- قولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لا يختَصُّ بمُصاحَبتِه في الغارِ، بل هو صاحِبُه المُطلَقُ الذي كَمُلَ في الصُّحبةِ كَمالًا لم يَشْرَكْه فيه غَيرُه، فصار مُختَصًّا بالأكمَليَّةِ مِن الصُّحبةِ .
10- وُحِّدَ الضميرُ في عَلَيْهِ مِن قَولِه تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا؛ لأنَّ نزولَ السَّكينةِ على أحَدِهما يستلزِمُ مُشاركةَ الآخَرِ له؛ إذ مُحَالٌ أن يَنزِلَ ذلك على الصَّاحِبَ دونَ المصحوبِ، أو على المصحوبِ دونَ الصَّاحِبِ المُلازِمِ، فلمَّا كان لا يحصُلُ ذلك إلَّا مع الآخَرِ وَحَّد الضميرَ، وأعاده إلى الرَّسولِ؛ فإنَّه هو المقصودُ، والصَّاحبُ تابِعٌ له، ولو قيل: (فأنزل السَّكينةَ عليهما وأيَّدَهما)؛ لأوهَمَ أنَّ أبا بكرٍ شريكٌ في النبوَّةِ! كهارونَ مع موسى؛ حيث قال تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا [القصص: 35] .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ
- قولُه: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ اسْتِفهامٌ مَعْناهُ الإنكارُ والتَّقريعُ؛ فإنَّه وإنْ كان في الظَّاهرِ اسْتِفهامًا، إلَّا أنَّ المُرادَ منه المُبالغةُ في الإنكارِ .
- وقولُه: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ... فيه تَمْثيلٌ لحالِ الكارِهينَ للغَزْوِ، المُتطلِّبينَ للعُذْرِ عَنِ الجِهادِ كسلًا وجُبْنًا، بحالِ مَنْ يُطْلَبُ منه النُّهوضُ والخُروجُ، فيُقابِلُ ذلك الطَّلَبَ بالالْتِصاقِ بالأرضِ، والتَّمكُّنِ مِنَ القُعودِ، فيَأبى النُّهوضَ فضلًا عن السَّيرِ ، وعُدِّي التَّثاقُل بـ(إلى)؛ لأنَّه ضُمِّنَ معنى الميلِ والإخلادِ، كأنَّه تَثاقُلٌ يَطلُب فاعلُه الوصولَ إلى الأرضِ؛ للقُعودِ والسُّكونِ بها .
- وفيه تعريضٌ بأنَّ بُطْأَهم ليس عن عَجزٍ، ولكنَّه عن تَعلُّقٍ بالإقامةِ في بلادِهم وأموالِهم .
- قولُه: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ هذا الاسْتِفهامُ فيه نوعٌ مِنَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ؛ فهو اسْتِفهامٌ إنكاريٌّ تَعجُّبيٌّ .
- واخْتيرَ فِعْلُ الرِّضا في قولِهِ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا دونَ نَحو: (آثرتُمْ) أو (فضَّلتُمْ)؛ مُبالغةً في الإنكارِ؛ لأنَّ فِعْلَ (رَضِي بكذا) يَدُلُّ على انْشِراحِ النَّفْسِ .
- قولُه: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ترشيحُ الحياةِ الدُّنيا بما يؤذِنُ بنَفاستِها، ويَسْتدعي الرَّغبةَ فيها، وتَجْريدُ الآخِرةِ عَنْ مِثلِ ذلك، وتَخصيصُها بالذِّكرِ هنا- مبالغةٌ في بَيانِ حَقارةِ الدُّنيا ودَناءتِها، وعِظَمِ شأنِ الآخِرةِ وعُلوِّها .
- وفيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ قال: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ولَمْ يَقُلْ: فما مَتاعُها-؛ لزِيادةِ التَّقريرِ .
2- قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- قولُه: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ فيه وَصْفُهم بالمُغايرةِ لهم؛ لتَّأكيدِ الوعيدِ، والتَّشديدِ في التَّهديدِ بالدَّلالةِ على المُغايرةِ الوَصْفيَّةِ .
- قولُه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييلٌ للكلامِ؛ لأنَّهُ يُحقِّقُ مَضمونَ لَحاقِ الضُّرِّ بِهِم؛ لأنَّهُ قَديرٌ عليهم في جُمْلةِ كُلِّ شَيءٍ، وعدَمُ لَحاقِ الضُّرِّ بِهِ؛ لأنَّهُ قَديرٌ على كُلِّ شيءٍ؛ فدَخَلتِ الأشياءُ التي مِنْ شأنِها الضُّرُّ ؛ ففي خِتامِ الآيةِ بقولِهِ: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ فإنَّه سُبْحانَه لَمَّا رَتَّبَ على انْتِفاءِ نَفْرِهِم التَّعذيبَ والاسْتِبدالَ وانْتِفاءَ الضَّررِ، أَخْبَر تعالى أنَّه على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ؛ مِنَ التَّعذيبِ والتغييرِ وغيرِ ذلك .
3- قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
- قولُه تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ استئنافٌ بَيانيٌّ لقولِه: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لأنَّ نَفْيَ أنْ يكونَ قُعودُهُم عَنِ النَّفيرِ مُضِرًّا باللهِ ورسولِهِ، يُثيرُ في نَفْسِ السَّامِعِ سؤالًا عن حُصولِ النَّصْرِ بدونِ نَصيرٍ؛ فبيَّنَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُه، كما نَصَرَه حَينَ كان ثانيَ اثْنينِ لا جَيشَ مَعَه؛ فالذي نَصَرَه حين كان ثانيَ اثْنينِ قديرٌ على نَصْرِهِ وهو في جيشٍ عظيمٍ، فتبيَّنَ أنَّ تَقديرَ قُعودِهِمْ عن النَّفيرِ لا يَضُرُّ اللهَ شيئًا .
- وفي قولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ حُذِفَ الجزاءُ، وأقيمُ سببُه مَقامَه، والتَّقديرُ: إنْ لم تَنْصروه فسَيْنصرَهُ اللهُ الذي قد نَصَرَه في وقتِ ضرورةٍ أَشدَّ مِنْ هذه المرَّةِ، أو: إنْ لَمْ تَنْصروهُ فَقَدْ أوْجَب له النُّصْرةَ حتَّى نَصَرَه في مِثْلِ ذلك الوَقْتِ، فلَنْ يَخذلَه في غيرِه .
- وجُمْلةُ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مُستأنَفةٌ بمنزلةِ التَّذييلِ للكلامِ؛ لأنَّه لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كلمةِ الذين كَفَروا بأنَّها صارتْ سُفْلى، أفادَ أنَّ العَلاءَ انَحْصرَ في دِينِ اللهِ وشأنِه؛ فضَميرُ الفَصْلِ هِيَ مُفيدٌ للقَصْرِ؛ ولذلك لَمْ تُعْطَفْ وَكَلِمَةُ اللَّهِ على كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ إذْ ليس المُقصودُ إفادةَ جعْلِ كَلِمةِ اللهِ عُلْيا؛ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الجَعْلُ مِنْ إحداثِ الحالةِ، بِل المَقصودُ إفادةُ أنَّ العلاءَ ثابتٌ لها، ومَقْصورٌ عليها، وأنَّها في نَفْسِها كذلك لا يَتبدَّلُ شأنُها، ولا يَتغيَّرُ حالُها دونَ غَيرِها مِنَ الكَلِمِ؛ ولذلك وُسِّطَ ضميرُ الفصلِ؛ فكانتِ الجُملةُ كالتَّذييلِ لَجَعْلِ كلمةِ الذين كَفَروا سُفْلى .
- وقولُه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تذييلٌ لمضمونِ الجُمْلتينِ: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ لأنَّ العزيزَ لا يَغْلِبُه شيءٌ، والحكيمُ لا يَفوتُه مَقْصِدٌ؛ فلا جَرَمَ أنْ تَكونَ كلمتُه العُليا، وكَلِمةُ ضدِّهِ السُّفْلى ، وناسَبَ هنا الوصْفُ بالعِزَّةِ الدَّالَّةِ على القَهْرِ والغَلَبَةِ، والحِكْمةِ الدَّالَّةِ على ما يَصْنَعُ مع أنبيائهِ وأوليائهِ، ومَنْ عاداهُم مِنْ إعزازِ دِينِه، وإخمادِ الكُفْرِ .