موسوعة التفسير

سورةُ المُجادلةِ
الآيات (5-7)

ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ

غَريبُ الكَلِماتِ:

يُحَادُّونَ: أَي: يُخالِفونَ ويُحارِبونَ ويُعادُونَ، يُقالُ: حادَّ فُلانٌ فُلانًا، أي: صار في حَدٍّ غَيرِ حَدِّه. وأصلُ (حدد): يدُلُّ على طَرَفِ الشَّيءِ؛ وذلك لأنَّ المُحادَّ يكونُ فِي حَدٍّ، وَاللهُ ورَسولُه فِي حَدٍّ [141] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 533)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/3)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 141)، ((تفسير القرطبي)) (8/194)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 226). .
كُبِتُوا: أي: أُذِلُّوا وأُخْزُوا، يُقالُ: كَبَتَ اللهُ فُلانًا: إذا صَرَفَه وأذَلَّه. والمردودُ بالذُّلِّ يُقالُ له: مَكْبوتٌ، وأصلُ (كبت): يدُلُّ على الإذلالِ والصَّرفِ عن الشَّيءِ [142] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/152)، ((البسيط)) للواحدي (21/340)، ((المفردات)) للراغب (ص: 695). .
أَحْصَاهُ: أي: عدَّه عليهم، وأثبَتَه وحَفِظَه، وأصلُ (حصي): يدُلُّ على عَدٍّ وإطاقةٍ [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/69)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 59). .
نَجْوَى: أي: سِرَارٍ ومُناجاةٍ، وأصلُ (نجو): يدُلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ [144] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 457)، ((تفسير ابن جرير)) (13/282)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/397)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 393). .
أَدْنَى: أي: أقَلَّ، وأصل الدُّنوِّ: القُرْبُ بالذَّاتِ أو بالحُكمِ، ويُستعمَلُ في المكانِ والزَّمانِ والمَنزِلةِ [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/468)، ((المفردات)) للراغب (ص: 318)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 40)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 77). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ
 قَولُه تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ: مَا: نافيةٌ. يَكُونُ: فِعلٌ مُضارِعٌ تامٌّ مَرفوعٌ، أي: ما يَقَعُ أو يَحدُثُ. مِنْ نَجْوَى: مِن: حرفُ جَرٍّ زائدٌ. نَجْوَى: فاعِلٌ مجرورٌ لَفظًا، مرفوعٌ محَلًّا. ثَلَاثَةٍ: مضافٌ إليه مجرورٌ. إِلَّا: أداةُ حَصرٍ، والاستِثناءُ مفرَّغٌ مِن أعمِّ الأحوالِ. هُوَ: ضميرٌ مَبنيٌّ في محَلِّ رَفعٍ مُبتدَأٌ. رَابِعُهُمْ: خبَرُ المُبتدَأِ مَرفوعٌ، والجُملةُ الاسميَّةُ في محَلِّ نَصبٍ، حالٌ.
وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ: الواو: حرفُ عَطفٍ. (لَا): زائِدةٌ لتوكيدِ النَّفيِ. أَدْنَى: معطوفٌ على لَفظِ نَجْوَى مجرورٌ مِثلُه، وعَلامةُ جرِّه الفَتحةُ المقدَّرةُ؛ لأنَّه ممنوعٌ مِن الصَّرفِ، وَلَا أَكْثَرَ: معطوفٌ على لَفظِ «نَجْوَى» مجرورٌ مِثلُه، وعَلامةُ جرِّه الفَتحةُ المقدَّرةُ؛ لأنَّه ممنوعٌ مِن الصَّرفِ، إِلَّا: أداةُ حَصرٍ. هُوَ: ضميرٌ مَبنيٌّ في محَلِّ رَفعٍ مُبتدَأٌ. مَعَهُمْ: ظرفٌ مَنصوبٌ متعلِّقٌ بمَحذوفٍ خَبَرٌ، والجملةُ في محلِّ نَصبٍ، حالٌ [146] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/268)، ((تفسير الألوسي)) (14/217)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (28/172). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مُبيِّنًا سوءَ عاقِبةِ الَّذين يُعادون ويحارِبونَ اللهَ ورسولَه: إنَّ الَّذين يُخالِفونَ اللهَ ورَسولَه، ويُعادونَهما ويُحارِبونَهما أُذِلُّوا وأُخْزُوا كما وقَع للمُخالِفينَ مِن قَبْلِهم، وقد أنزَلْنا في القُرآنِ آياتٍ واضِحاتٍ، وللكافِرينَ عَذابٌ مُخْزٍ مُذِلٌّ يَومَ يَبعَثُهم اللهُ، فيُخبِرُهم بما عَمِلوه في الدُّنيا، عَدَّ اللهُ عليهم ما عَمِلوه، وأثبَتَه وحَفِظَه، ونَسِيَه عامِلوه، واللهُ شهيدٌ رَقيبٌ على كُلِّ شَيءٍ.
ثمَّ يخبِرُ تعالى عن شمولِ عِلمِه وإحاطتِه بخَلقِه، فيقولُ: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- أنَّ اللهَ يَعلَمُ ما في السَّمَواتِ، وما في الأرضِ، لا يتحَدَّثُ ثَلاثةٌ مِنَ النَّاسِ سِرًّا فيما بَيْنَهم إلَّا واللهُ تعالى رابِعُهم بعِلْمِه، يَسمَعُهم ويَراهم، ولا خَمسةٌ إلَّا واللهُ تعالى سادِسُهم بعِلْمِه، يَسمَعُهم ويَراهم، ولا أقَلُّ مِن ذلك ولا أكثَرُ إلَّا واللهُ تعالى معهم بعِلْمِه، يَسمَعُهم ويَراهم في أيِّ مَوضِعٍ كانوا فيه، ثمَّ يُخبِرُ اللهُ يومَ القيامةِ أولئك المُتناجِينَ بما عَمِلوه في الدُّنيا، إنَّ اللهَ عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى المؤمِنينَ الواقِفينَ عندَ حُدودِه؛ ذَكَر المحادِّينَ المخالِفينَ لها [147] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/124). .
وأيضًا لَمَّا جَرى ذِكرُ الكافرينَ، وجَرى ذِكرُ حُدودِ اللهِ، وكان في المدينةِ مُنافِقون مِن المشركين؛ نُقِل الكلامُ إلى تَهديدِهم، وإيقاظِ المسلمينَ للاحترازِ منْهم [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/23). .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: إنَّ الَّذين يُخالِفونَ ويُعادُونَ اللهَ ورَسولَه، ويجعلون حدودًا غيرَ حدودِه؛ فإنَّهم يُرَدُّونَ عن مُبتَغاهم هذا بعُنفٍ وإذلالٍ وإغاظةٍ لهم، كما وقع للمُخالِفينَ اللهَ ورُسُلَه مِن قَبْلِهم [149] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/466)، ((تفسير القرطبي)) (17/288)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (3/1392، 1393)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/ 355، 356)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845). .
وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.
أي: وقد أنزَلْنا آياتٍ واضِحاتٍ، ليس لأحَدٍ حُجَّةٌ أو عُذرٌ في مُخالفتِها، ولا يخالِفُها مِن بَعدِ ذلك سِوى مُكابِرٍ [150] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/24). قال الشوكاني: (والحالُ أنَّا قد أنزَلْنا آياتٍ واضحاتٍ فيمَن حادَّ الله ورسلَه مِن الأُمَمِ المتقدِّمَةِ، وقيل: المرادُ الفرائِضُ التي أنزَلها الله سبحانَه، وقيل: هي المُعجِزاتُ). ((تفسير الشوكاني)) (5/ 222). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة: 99] .
وقال سُبحانَه: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 49] .
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ.
أي: وللكافِرينَ عَذابٌ يُهينُهم ويُذِلُّهم في الآخِرةِ مُقابِلَ استِكبارِهم عن اتِّباعِ الحَقِّ، وتَرْكِ الخُضوعِ والانقيادِ إليه [151] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845). .
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ سُبحانَه بيَّنَ أنَّ عَذابَ هؤلاء المحادِّينَ في الدُّنيا: الذُّلُّ والهوانُ، وفي الآخِرةِ العَذابُ الشَّديدُ، ثمَّ ذَكَر تعالى ما به يتكامَلُ هذا الوَعيدُ [152] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/488). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى عذابَه، ذكَرَ وَقْتَه على وَجهٍ مُقَرِّرٍ لِما مضَى من شُمولِ عِلْمِه وكَمالِ قُدرتِه، فقال [153] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/357). :
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا.
أي: للكافِرينَ عَذابٌ مُهِينٌ في اليَومِ الَّذي يَبعَثُ اللهُ فيه الكافِرينَ جَميعًا، فيُخبِرُهم بما عَمِلوه في الدُّنيا [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((تفسير ابن عطية)) (5/276)، ((تفسير القرطبي)) (17/289)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/357)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/24). قال القرطبي: (قوله تعالى: يَوْمَ نُصِب بـ عَذَابٌ مُهِينٌ، أو بفِعلٍ مُضمَرٍ تقديرُه: «واذكُرْ»؛ تعظيمًا لليومِ). ((تفسير القرطبي)) (17/289). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ في الجملةِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحديُّ، وابنُ عطيَّة، والرَّسْعَني، والبِقاعي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/136)، ((الوسيط)) للواحدي (4/263)، ((تفسير ابن عطية)) (5/276)، ((تفسير الرسعني)) (8/22)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/357)، ((تفسير العليمي)) (6/558). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: مكِّيٌّ، والقاسميُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/ 7359)، ((تفسير القاسمي)) (9/167). قال الرَّازي: (في قولِه: جَمِيعًا قَولانِ: أحدُهما: كلَّهم، لا يُترَكُ منهم أحدٌ غيرَ مَبعوثٍ. والثَّاني: مُجتمِعينَ في حالٍ واحدةٍ). ((تفسير الرازي)) (29/488). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/489). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: الرَّسْعَنيُّ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (8/22). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: الزَّجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/136). وقال البِقاعي: (جَمِيعًا في حالِ كَونِهم مُجتمِعينَ في البعثِ). ((نظم الدرر)) (19/357). .
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ.
أي: أحصى اللهُ عليهم ما عَمِلوه، فعَدَّه وأثبَتَه وحَفِظَه، ونَسِيَه عامِلوه [155] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((تفسير القرطبي)) (17/289)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/357)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/25). .
كما قال الله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف: 49] .
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أي: واللهُ مُطَّلِعٌ على كُلِّ شَيءٍ ممَّا عمِلوه وغيرِه، ولا يخفَى عليه شَيءٌ، فهو سُبحانَه حاضِرٌ لا يَغيبُ، وحَفيظٌ رَقيبٌ [156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/467)، ((تفسير القرطبي)) (17/289)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845). .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه على كلِّ شيءٍ شهيدٌ، لا يخفَى عليه شيءٌ؛ أكَّد سبحانَه بيانَ كَونِه عالِمًا بكلِّ شيءٍ، فقال [157] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/223). :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- أنَّ اللهَ يَعلَمُ جَميعَ ما في السَّمَواتِ، وجميعَ ما في الأرضِ، فلا يخفَى عليه شَيءٌ مِن أقوالِ عِبادِه وأعمالِهم وسرائرِهم [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/468)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845). قال ابن عاشور: (أَلَمْ تَرَ مِن الرُّؤيةِ العِلميَّةِ؛ لأنَّ عِلمَ الله لا يُرى). ((تفسير ابن عاشور)) (28/26). ؟
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ.
أي: لا يَتحَدَّثُ ثَلاثةٌ مِنَ النَّاسِ سِرًّا فيما بَيْنَهم إلَّا واللهُ تعالى رابِعُهم بعِلْمِه، يَسمَعُهم ويَراهم [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/468)، ((تفسير القرطبي)) (17/290)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41، 42)، ((فتح الباري)) لابن رجب (3/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845). قال الآجُرِّي: (ابتدأ اللهُ عزَّ وجَلَّ الآيةَ بالعِلمِ، وختَمَها بالعِلمِ؛ فعِلمُه عزَّ وجَلَّ مُحيطٌ بجَميعِ خَلْقِه، وهو على عَرشِه، وهذا قَولُ المُسلِمينَ). ((الشريعة)) (3/1076). ويُنظر: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) لأحمد بن حنبل (ص: 154)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (7/144). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (عُلماءُ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ الَّذين حُمِلَ عنهم التَّأويلُ في القُرآنِ قالوا في تأويلِ هذه الآية: هو على العَرشِ، وعِلمُه في كُلِّ مَكانٍ، وما خالفَهم في ذلك أحدٌ يُحتَجُّ بقَولِه). ((التمهيد)) (7/138، 139). وقال ابنُ كثيرٍ: (حكى غيرُ واحِدٍ الإجماعَ على أنَّ المرادَ بهذه الآيةِ مَعِيَّةُ عِلمِ اللهِ تعالى، ولا شَكَّ في إرادةِ ذلك، ولكِنَّ سَمْعَه أيضًا مع عِلْمِه مُحيطٌ بهم، وبَصَرَه نافِذٌ فيهم، فهو سُبحانَه مُطَّلِعٌ على خَلْقِه، لا يَغيبُ عنه مِن أمورِهم شَيءٌ). ((تفسير ابن كثير)) (8/42). .
وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ.
أي: ولا يَتحَدَّثُ خَمسةٌ مِنَ النَّاسِ سِرًّا فيما بَيْنَهم إلَّا واللهُ تعالى سادِسُهم بعِلْمِه، يَسمَعُهم ويَراهم [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/468)، ((تفسير القرطبي)) (17/290)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41، 42)، ((فتح الباري)) لابن رجب (3/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845). .
كما قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة: 78] .
وقال سُبحانَه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] .
وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا.
أي: ولا يَتحدَّثُ سِرًّا أقَلُّ مِن ثلاثةٍ أو أكثَرُ مِن خَمسةٍ إلَّا واللهُ تعالى معهم بعِلْمِه، يَسمَعُهم ويَراهم في أيِّ مَوضِعٍ كانوا فيه [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/468)، ((تفسير القرطبي)) (17/290)، ((تفسير الخازن)) (4/260)، ((تفسير ابن كثير)) (8/41، 42)، ((فتح الباري)) لابن رجب (3/114)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/363، 364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 845). .
عن أبي موسى الأَشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُنَّا إذا أشرَفْنا [162] أشرَفْنا: أي اطَّلعنا. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (5/135). على وادٍ هَلَّلْنا وكَبَّرْنا، ارتَفَعَت أصواتُنا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أيُّها النَّاسُ، ارْبَعُوا [163] ارْبَعُوا: أي: ارفُقُوا بأنفُسِكم، واخفِضُوا أصواتَكم. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/26). على أنفُسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّه معكم، إنَّه سَميعٌ قَريبٌ )) [164] رواه البخاريُّ (2992) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2704). .
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: ثمَّ يُخبِرُ اللهُ يومَ القيامةِ أولئك المُتناجِينَ بما عَمِلوه في الدُّنيا [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/469)، ((تفسير الرازي)) (29/490)، ((تفسير الشوكاني)) (5/223). .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وقال الله سُبحانَه: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 64] .
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ ذو عِلمٍ بالِغٍ تامٍّ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه الكامِلُ بأقوالِ خَلْقِه وأفعالِهم، وضَمائِرِهم وأحوالِهم، لا يخفَى عليه شَيءٌ مِن ذلك سُبحانَه [166] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/260)، ((تفسير ابن جرير)) (22/469)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/366). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، قَولُه تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ هذه الجُملةُ تأكيدٌ لِمَا سَبَقَ مِن حيثُ المعنى، يعني أنَّ اللهَ شهيدٌ على كلِّ شيءٍ، سواءٌ كان فِعلًا أو قَولًا أو إضمارًا في القَلبِ،كلُّ ذلك فاللهُ شَهيدٌ عليه، والمقصودُ مِن هذا بيانُ إحاطةِ عِلْمِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ثمَّ التَّحذيرُ مِن المُخالَفةِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ بأنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ فإنَّه يَحْذَرُ ويَكُفُّ عن المعاصي، ويقومُ بالواجِباتِ [167] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 232). .
2- مَن كثُرتْ ذُنوبُه وسيِّئاتُه حتَّى فاتت العَدَّ والإحصاءَ، فلْيَستَغفِرِ اللهَ ممَّا عَلِم اللهُ؛ فإنَّ اللهَ قد عَلِم كلَّ شَيءٍ وأحصاه، كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، فالعبدُ يحتاجُ إلى استغفارٍ عامٍّ مِن جميعِ ذُنوبِه، ما عَلِم منها وما لم يَعلَمْ، ما ذكره منها وما نَسِيَه، فكلُّ ذلك قد عَلِمَه اللهُ وأحصاه [168] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/416)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/ 362). .
3- قال اللهُ تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَولُه عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه تحذيرٌ مِن المعاصي، وترغيبٌ في الطَّاعاتِ [169] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/491). ، فهو يَستوجِبُ أنْ يخافَ العبدُ اللهَ عزَّ وجلَّ، وأنْ يقومَ بطاعتِه، وأنْ يَدَعَ معصيتَه؛ لأنَّه يَعلَمُ أنَّ اللهَ تعالى عالِمٌ به، حتَّى وإنْ خَفِيْتَ على النَّاسِ؛ فإنَّك لن تَخفى على اللهِ، بل إنَّ اللهَ يَعلَمُ مِن نفْسِك ما لا تَعلَمُه أنت؛ فأنت تَعلَمُ مِن نفْسِك ما يمكنُ أن تُحِيطَ به، لكنَّ اللهَ يَعلَمُ مِن نفْسِك ما لا تحيطُ به، فيَعلَمُ مُستقبَلَك، ومآلَك، وحالَك، وأنت لا تَعلَمُ، وهذا يُوجِبُ للعبدِ المؤمِنِ بذلك: أنْ يخافَ ربَّه في السِّرِّ والعَلَنِ، حتَّى لو كنتَ بحُجرةٍ مُظلِمةٍ ليس عندَك أحَدٌ، وأردتَ أنْ تُغضِبَ اللهَ، فاعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى يَراك [170] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 85). .
4- مِمَّا يُوجِبُ خَشيةَ اللهِ تعالى في السِّرِّ والعَلانيةِ قُوَّةُ المُراقَبةِ له، والعِلمُ بأنَّه شاهِدٌ ورقيبٌ على قُلوبِ عبادِه وأعمالِهم، وأنَّه مع عبادِه حيثُ كانوا، كما دَلَّ على ذلك القُرآنُ في مواضِعَ؛ كقَولِه تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، وقَولِه: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [171] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/164). ، ومَعِيَّةُ اللهِ مَعِيَّتانِ: مَعِيَّةٌ عامَّةٌ، وهي مَعِيَّتُه لجميعِ عِبادِه حتَّى مَن عصاه؛ قالَ تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108] ، ومَعِيَّةٌ خاصَّةٌ وهي مَعِيَّتُه لأهلِ طاعتِه، فهوَ سبحانه مع الَّذين اتَّقَوا ومع الَّذين هم مُحسِنون. وقال لِموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، وقال موسى عليه السَّلامُ: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] ، وقال في حَقِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحِبِه: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] . والمَعِيَّةُ الخاصَّةُ تَقتضي حُسْنَ الظَّنِّ بإجابتِه ورِضاه، وحِفْظِه وصِيانتِه، والمَعِيَّةُ العامَّةُ تقتضي التَّحذيرَ مِن عِلْمِه واطِّلاعِه، وقُدرتِه وبَطْشِه وانِتقامِه [172] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/333). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال اللهُ تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ لَمَّا ذَكَر إحصاءَه له في قَولِه: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ فكان رُبَّما ظُنَّ أنَّه ممَّا يُمكِنُ في العادةِ إحصاؤُه، نفَى ذلك بقَولِه: وَنَسُوهُ أي: كُلُّهم مجتَمِعينَ؛ لخُروجِه عن الحَدِّ في الكثرةِ، فكيف بكُلِّ واحدٍ على انفِرادِه، ونَسُوا ما فيه مِنَ المعاصي تهاوُنًا بها، وذلك عَينُ التَّهاوُنِ باللهِ تعالى، والاجتراءِ عليه [173] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/357). .
2- ذَكَرَ أهلُ اللُّغةِ أنَّه إذا كان اسمُ «فاعل» على العَدَدِ مِن غيرِ جنسِ المفعولِ فإنَّه يُجعَلُ زائِدًا، كما قال تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، وإنْ كان مِن جِنْسِه فيُجعَلُ أحدَهم [174] يُنظر: ((شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الطهارة)) (ص: 86). ، فلو قيل: «فلانٌ رابعُ أربعةٍ» فإنه يكونُ مِن جِنْسِه، ولو قيل: «رابعُ ثلاثةٍ» صار مِن غيرِ جِنْسِه؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ولَمْ يَقُلْ: «إلَّا هو ثالثُهم»، وقال عن النَّصارى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73] ولَمْ يَقُلْ: «ثالثُ اثنينِ»؛ لأنَّهم يَجعلون اللهَ ومريمَ وعيسى سواءً! يَجعلون الكلَّ جِنسًا واحدًا، وقال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة: 40] ؛ قال ذلك لأنَّهما مِن جِنسٍ واحِدٍ [175] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/170). .
3- قَولُه تعالى: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ليس مُقتضاها أنْ تكونَ ذاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ مُختَلِطةً بالخَلْقِ. ويدُلُّ على ذلك: أنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَها في آيةِ المجادَلةِ بيْنَ ذِكْرِ عمومِ عِلْمِه في أولِ الآيةِ وآخِرِها، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فيكونُ ظاهِرُ الآيةِ: أنَّ مُقتَضى هذه المَعِيَّةِ عِلْمُه بعبادِه، وأنَّه لا يَخفى عليه شيءٌ مِن أعمالِهم، لا أنَّه سُبحانَه مُختلِطٌ بهم، ولا أنَّه معهم في الأرضِ [176] يُنظر: ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 55). !
4- قَولُه تعالى: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا لا يُنافي ما ذَكَرَه تعالى عن نفْسِه مِن العُلُوِّ، لأنَّه سُبحانَه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، ولا يُقاسُ بخَلْقِه؛ فمَعِيَّتُه ثابتةٌ مع عُلُوِّهِ تبارك وتعالى، وإذا كان العُلُوُّ والمَعِيَّةُ لا يَتناقَضانِ في حقِّ المخلوقِ -فإنَّهم يقولونَ: «ما زِلْنا نسيرُ والقَمَرُ معنا» ولا يَعُدُّون ذلك تناقُضًا مع أنَّ القمرَ في السَّماءِ- فثُبُوتُ ذلك في حقِّ الخالقِ مِن بابِ أَولى، وبهذا يَبطُلُ قولُ مَن زَعَمَ أنَّ مَعِيَّةَ اللهِ تَستَلزِمُ أنْ يكونَ في الأرضِ مُختَلِطًا بالخَلْقِ! فإنَّ هذا قَولٌ باطلٌ باتِّفاقِ السَّلَفِ، المُستنِدِ على الكتابِ والسُّنَّةِ في إثباتِ عُلُوِّ اللهِ فوقَ خَلْقِه [177] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/387). .
5- في قَولِه تعالى: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ هذه المَعِيَّةُ تقتضي إحصاءَ ما عَمِلُوه، فإذا كان يومُ القيامةِ نَبَّأهم بما عَمِلوا، يعني: أخْبَرهم به، وحاسَبَهم عليه؛ لأنَّ المرادَ بالإنباءِ لازِمُه، وهو المحاسَبةُ، لكنْ إنْ كانوا مؤمِنينَ فإنَّ اللهَ تعالى يُحصي أعمالَهم، ثمَّ يقولُ سُبحانَه وتعالى: ((ستَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليومَ !)) [178] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/349). والحديث أخرجه البخاريُّ (2441)، ومسلمٌ (2768) مطوَّلًا من حديث عبدِالله بنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما. .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أُوثِرَ الفِعلُ يُحَادُّونَ هنا؛ لوُقوعِ الكلامِ عقِبَ ذِكرِ حُدودِ اللهِ؛ فإنَّ المُحادَّةَ مُشتقَّةٌ مِن الحدِّ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن المُتعادِيَينِ كأنَّه في حدٍّ مُخالِفٍ لحَدِّ الآخَرِ. وفِعلُ كُبِتُوا مُستعمَلٌ في الوعيدِ، أي: سيُكْبَتون، فعُبِّر عنه بالمُضِيِّ تَنبيهًا على تَحقيقِ وُقوعِه؛ لصُدورِه عمَّن لا خِلافَ في خبَرِه، مِثل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] ، ولأنَّه مُؤيَّدٌ بتَنظيرِه بما وقَعَ لأمثالِهم، وقَرينةُ ذلك تأْكيدُ الخبَرِ بـ(إنَّ)؛ لأنَّ الكلامَ لو كان إخبارًا عن كبْتٍ وقَعَ، لم يكُنْ ثَمَّ مُقْتضًى لتأْكيدِ الخبَرِ؛ إذ لا يُنازِعُ أحدٌ فيما وقَعَ، ويَزيدُ ذلك وُضوحًا قولُه: كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/23). .
- وجُملةُ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وجُملةِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ، أي: لا عُذْرَ لهم في مُحادَّةِ اللهِ ورسولِه؛ فإنَّ مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آياتِ القرآنِ بيِّنةً على صِدْقِه [180] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/24). . أو حالٌ مِن واوِ كُبِتُوا، أيْ: كُبِتوا لمُحادَّتِهم، والحالُ أنْ قدْ أنزَلْنا آياتٍ واضحاتٍ [181] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/218). .
- قولُه: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ إمَّا تَتميمٌ [182]  التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). ؛ فتَكونُ اللَّامُ للعهْدِ، والتَّقديرُ: ولهم عَذابٌ مُهينٌ، ويكونُ قولُه: وَلِلْكَافِرِينَ وضْعًا للمُظهَرِ مَوضعَ المُضمَرِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ اللَّعنةَ لَحِقَتْهم لكُفْرِهم، وللإشارةِ إلى أنَّ هؤلاء الَّذين حَادُّوا اللهَ ورسولَه كفَّارٌ، ولِيَعُمَّ هؤلاء وغيرَهم -وإنْ كان كلُّ مَن كَفَر فهو مُحادٌّ للهِ ورسولِه-؛ لكنَّ ذِكْرَ الوصفِ أَبْلَغُ. وإمَّا تَذييلٌ [183] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86- 88). ، فتَكونُ اللَّامُ للجنْسِ؛ ليَستغرِقَ كلَّ الكافرينَ، فيَدخل الكافِرون بالآياتِ فيه دُخولًا أوَّليًّا [184] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/278، 279)، ((تفسير أبي السعود)) (8/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/24)، ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 232). .
- ووُصِفَ عَذابُهم بالمُهينِ؛ لمُناسَبةِ وَعيدِهم بالكبْتِ الَّذي هو الذُّلُّ والإهانةُ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/24). .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
- قولُه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ... يَجوزُ أنْ يكونَ لَفظُ يَوْمَ مَنصوبًا على المفعولِ به لفِعلٍ تَقديرُه: اذكُرْ؛ تَنويهًا بذلك اليومِ، وتَهويلًا عليهم، أو يكونَ على أنَّه جَوابٌ لِمَن سأَلَ: متى يكونُ عَذابُ هؤلاء؟ فقيل له: يومَ يَبعَثُهم اللهُ، أي: يكونُ يومَ يَبعَثُهم اللهُ [186] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/489)، ((تفسير البيضاوي)) (5/193)، ((تفسير أبي حيان)) (10/124)، ((تفسير أبي السعود)) (8/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/24). .
- وقولُه: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا تَهديدٌ بفضْحِ نِفاقِهم يومَ البعثِ، وفيه كِنايةٌ عن الجزاءِ على أعمالِهم [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/24). .
- وجُملةُ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ في مَوضعِ الحالِ مِن (مَا عَمِلُوا)، والمقصودُ مِن الحالِ هو ما عُطِفَ عليها مِن قولِه: وَنَسُوهُ؛ لأنَّ ذلك مَحلُّ العِبرةِ. وبه تَكونُ الحالُ مُؤسِّسةً لا مُؤكِّدةً لعامِلِها [188] الحالُ في اصطلاحِ النُّحاةِ: إمَّا مُؤسِّسةٌ، وإمَّا مؤكِّدةٌ؛ فالمؤسِّسةُ -وتُسمَّى المبيِّنةَ أيضًا؛ لأنها تُذكَرُ للتَّبيينِ والتَّوضيحِ- هي الَّتي لا يُستفادُ معناها بدُونِها، نحو: جاء خالدٌ راكبًا. وأكثَرُ ما تأتي الحالُ مِن هذا النَّوعِ، ومنه قولُه تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الأنعام: 48] و [الكهف: 56] . والمؤكِّدةُ هي الَّتي يُستفادُ معناها بدُونِها، وإنَّما يُؤتَى بها للتَّوكيدِ، وهي ثلاثةٌ؛ الأُولَى: ما يُؤتَى بها لتَوكيدِ عامِلِها، وهي الَّتي تُوافِقُه معنًى فقط، أو معنًى ولفظًا. فالأوَّلُ نحو: تَبسَّمَ ضاحِكًا، ومنه قولُه تعالَى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] . والثَّاني كقولِه تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [النساء: 79] . الثَّانيةُ: ما يُؤتَى بها لتوكيدِ صاحبِها، نحو: جاء التَّلاميذُ كلُّهم جميعًا. ومنه قولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] . الثَّالثةُ: ما يُؤتَى بها لتَوكيدِ مَضمونِ جُملةٍ مَعقودةٍ مِنِ اسمَينِ مَعرفتَينِ جامدَينِ، نحو: هو الحقُّ بَيِّنًا، أو صريحًا، ونحو: نحن الإخوةُ مُتعاونينَ. يُنظر: ((أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)) لابن هشام (2/249، 250)، ((شرح الأشمونى لألفية ابن مالك)) (2/27، 28)، ((جامع الدروس العربية)) للغلاييني (3/99، 100). ، وهو فَيُنَبِّئُهُمْ، أي: عَلِمَه اللهُ عِلمًا مُفصَّلًا مِن الآنَ، وهم نَسُوه، وذلك تَسجيلٌ عليهم بأنَّهم مُتهاوِنون بعَظيمِ الأمرِ، وذلك مِن الغُرورِ [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/25). .
وقيل: قولُه: أَحْصَاهُ اللَّهُ استِئنافٌ وقَعَ جَوابًا عمَّا نشَأَ ممَّا قبْلَه مِنَ السُّؤالِ؛ إمَّا عنْ كَيفيَّةِ التَّنبئةِ، أو عنْ سَببِها، كأنَّه قيلَ: كيفَ يُنبِّئُهم بأعمالِهم وهيَ أعراضٌ مُنْقضيةٌ مُتلاشيةٌ؟ فقيلَ: أحصاهُ اللهُ عَددًا، لمْ يَفُتْه منه شَيءٌ، فقولُه تعالَى: وَنَسُوهُ حينَئذٍ حالٌ مِن مَفعولِ (أحْصَى). أو قِيل: لِمَ يُنبِّئُهم بذلك؟ فقِيل: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، فيُنبِّئُهمْ به؛ ليَعرِفُوا أنَّ ما عايَنُوه مِن العذابِ إنَّما حاقَ بهم مِن أجْلِه، وفيه مَزيدُ تَوبيخٍ وتَنديمٍ لهُم غَير التَّخجيلِ والتَّشهيرِ [190] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/218). .
- جُملةُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لإحصائِهِ تعالى [191] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/25). .
3- قولُه تعالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- قولُه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... استِشهادٌ على شُمولِ شَهادتِه تعالى، أي: ألمْ تَعلَمْ عِلمًا يَقينًا مُتاخِمًا للمُشاهَدةِ بأنَّه تعالى يَعلَمُ ما فيهما مِن الموجوداتِ [192] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/218). ؟
- وهو استِئنافٌ ابتدائيٌّ هو تَخلُّصٌ مِن قولِه تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] إلى ذِكرِ عِلمِ اللهِ بأحوالِ المنافِقينَ وأحلافِهم اليهودِ، فكان المنافِقون يُناجي بعضُهم بَعضًا ليُرِيَ للمسلمينَ مَوَدَّةَ بَعضِ المنافقينَ لبَعضٍ؛ فإنَّ المنافِقين بتَناجِيهم يُظهِرون أنَّهم طائفةٌ أمْرُها واحدٌ، وكلمتُها واحدةٌ، وهم وإنْ كانوا يُظهِرون الإسلامَ يُحِبُّون أنْ تكونَ لهم هيْبةٌ في قُلوبِ المسلمينَ يتَّقون بها بأْسَهم إنِ اتَّهَموا بَعضَهم بالنِّفاقِ، أو بدَرَت مِن أحَدِهم بادِرةٌ تَنُمُّ بنِفاقِه، فلا يُقْدِمُ المؤمنون على أذاهُ؛ لعِلمِهم بأنَّ له بِطانةً تُدافِعُ عنه. وكانوا إذا مرَّ بهم المسلِمون نَظَروا إليهم، فحَسِبَ المارُّونَ لعلَّ حدَثًا حدَثَ مِن مُصيبةٍ، وكان المسلمونَ يَومَئذٍ على تَوقُّعِ حرْبٍ مع المشرِكين في كلِّ حِينٍ، فيَتوهَّمونَ أنَّ مُناجاةَ المُتناجِينَ حديثٌ عن قُرْبِ العدُوِّ، أو عن هَزيمةٍ للمُسلمينَ في السَّرايا الَّتي يَخرُجون فيها؛ فنَزَلَتْ هذه الآياتُ لإشعارِ المنافقين بعِلمِ اللهِ بماذا يَتناجَون، وأنَّه مُطْلِعٌ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على دَخيلتِهم؛ ليَكُفُّوا عن الكَيدِ للمُسلمينَ؛ فهذه الآيةُ تَمهيدٌ لقولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى الآيةَ [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/25، 26). [المجادلة: 8] .
- قولُه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا استِئنافٌ مُقرِّرٌ لِما قبْلَه مِن سَعةِ عِلمِه تَعالى، ومُبَيِّنٌ لكَيفيَّتِه [194] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/218). . وقيل: جملةُ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلى آخرِها بدَلُ البعضِ مِن الكلِّ؛ فإنَّ معْنى قولِه: إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، وقولِه: إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ، وقولِه: إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ: أنَّه مُطَّلِعٌ على ما يَتناجَون فيه، فكأنَّه تعالى نَجِيٌّ معهم، والمقصودُ مِن هذا الخبرِ الإنذارُ والوعيدُ [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/26). .
- وحرْفُ (مِن) في قولِه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ... صِلةٌ في النَّفيِ؛ لقَصْدِ العُمومِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/26). .
- والنَّجوى: التَّناجي، فلا تَخْلو إمَّا أنْ تكونَ مُضافةً إلى ثَلَاثَةٍ، أي: مِن نَجْوى ثلاثةِ نفَرٍ، أو مَوصوفةً بها، أي: مِن أهْلِ نَجوى ثلاثةٍ، فحُذِفَ الأهْلُ، أو جُعِلوا نَجْوى في أنفُسِهم مُبالَغةً [197] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/489)، ((تفسير البيضاوي)) (5/194)، ((تفسير أبي حيان)) (10/125)، ((تفسير أبي السعود)) (8/218). .
- ولَمَّا عُلِمَ بالتَّكريرِ أنَّ ما ذُكِرَ على سَبيلِ المثالِ لا لمعْنًى يَخُصُّه مِن جِهةٍ بالعلمِ، عمَّ بقولِه: وَلَا أَدْنَى، فَبدَأَ بالقليلِ؛ لأنَّه قبْلَ الكثيرِ، وهو أخْفى منه. ولَمَّا كان العِلمُ بالكثيرِ أعسَرَ مِن أجْلِ انتشارِهِ قال: وَلَا أَكْثَرَ [198] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/363). .
- وخُصَّ الثلاثةُ والخَمسةُ بالذِّكرِ؛ قيل: لِبناءِ الكلامِ على أغلبِ عاداتِ المُتناجِينَ. أو لأنَّ العدَدَ المفردَ أشرَفُ مِن الزَّوجِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وتْرٌ يُحِبُّ الوِترَ؛ فخُصَّ العَددانِ المذكورانِ بالذِّكرِ؛ تَنبيهًا على أنَّه لا بُدَّ مِن رِعايةِ الأمورِ الإلهيَّةِ في جَميعِ الأمورِ، ثمَّ بعْدَ ذِكرِهما زِيدَ عليهما ما يَعُمُّ غيرَهما مِن المُتناجِينَ. أو خُصَّ الثَّلاثةُ والخمسةُ؛ لأنَّ أقلَّ ما يَكْفي في المُشاوَرةِ ثلاثةٌ حتَّى يَتِمَّ الغرَضُ، فيَكونُ الاثنانِ كالمُتنازِعَينِ في النَّفيِ والإثباتِ، والثَّالثُ كالمُتوسِّطِ الحاكمِ بيْنَهما، فحينَئذٍ تُحمَدُ المُشاوَرةُ، ويتِمُّ الغرَضُ، وكذا كلُّ جمْعٍ يَجتمِعُ للمُشاوَرةِ لا بُدَّ مِن واحدٍ يكونُ حَكَمًا بيْنَهم مَقبولَ القولِ [199] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/489)، ((تفسير البيضاوي)) (5/194)، ((تفسير أبي حيان)) (10/125)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 555)، ((تفسير أبي السعود)) (8/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/26)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/16، 17). . وقيل: العددُ غيرُ مقصودٍ؛ لأنَّه تعالى إنَّما قصَد -وهو أعلَمُ- أنَّه مع كلِّ عدَدٍ قَلَّ أو كَثُر، يَعلَمُ ما يَقولون سرًّا وجهرًا، ولا تَخفى عليه خافيةٌ، فمِنْ أجْلِ ذلك اكتفى بذِكرِ بعضِ العددِ دونَ بعضٍ [200] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/140)، ((تفسير الثعلبي)) (26/138). . وقيل غيرُ ذلك [201] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/12 - 16). .
- قولُه: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حرْفُ (ثُمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ إنْباءَهم بما تَكلَّموا وما عَمِلوه في الدُّنيا في يومِ القيامةِ، أدَلُّ على سَعةِ عِلمِ اللهِ مِن عِلمِه بحَديثِهم في الدُّنيا؛ لأنَّ مُعظَمَ عِلمِ العالِمينَ يَعْتريهِ النِّسيانُ في مِثلِ ذلك الزَّمانِ مِن الطُّولِ، وكَثرةِ تَدبيرِ الأمورِ في الدُّنيا والآخِرةِ. وفي هذا وَعيدٌ لهم بأنَّ نَجْواهم إثمٌ عَظيمٌ، فنُهِيَ عنها، ويَشملُ هذا تَحذيرَ مَن يُشارِكُهم [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/27). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذييلٌ لجُملةِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، فأغنَتْ (إنَّ) غَناءَ فاءِ السَّببيَّةِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/28). .
- وفيه تأْكيدُ الجُملةِ بحرْفِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ به، وإلَّا فإنَّ المخاطَبَ لا يَتردَّدُ في ذلك [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/28). .