موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (74-80)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

غريب الكلمات:

لَا يُفَتَّرُ: أي: لا يُخَفَّفُ، والفُتورُ: سكونٌ بعْدَ حدَّةٍ، ولِينٌ بعْدَ شدَّةٍ، وضعْفٌ بعْدَ قوَّةٍ، وأصلُ (فتر): يدُلُّ على ضَعفٍ [792] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/647)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/470)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 622)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
مُبْلِسُونَ: أي: آيِسونَ قانِطونَ، وأصْلُ (بلس): يدُلُّ على يَأسٍ [793] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 143)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 347). .
مَاكِثُونَ: أي: لابِثون ثابِتون مُنتظِرون في النَّارِ، مِن المُكثِ: وهو ثَباتٌ مع انتظارٍ [794] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 293)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 345)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 772). .
أَبْرَمُوا: أي: أحْكَموا، وأصلُ (برم) هنا: يدُلُّ على إحكامِ شَيءٍ، مِن إبرامِ الحَبْلِ، وهو تَرديدُ فتْلِه [795] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 400)، ((تفسير ابن جرير)) (20/652)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 78)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/231)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 347)، ((المفردات)) للراغب (ص: 120). .
وَنَجْوَاهُمْ: أي: ما يَتَسارُّونَ به بيْنَهم، وأصلُ (نجو): يدُلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ [796] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/652)، ((المفردات)) للراغب (ص: 792 - 793)، ((تفسير ابن كثير)) (7/241)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 917). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالَى مبيِّنًا حالَ الأشقياءِ يومَ القِيامةِ: إنَّ المُجرِمينَ في عَذابِ جَهنَّمَ ماكِثونَ أبدًا، لا يُخفَّفُ عنهم العَذابُ، وهم فيه آيِسونَ مِن كلِّ خَيرٍ، وما ظلَمْناهم ولكِنْ همْ ظَلَموا أنفُسَهم بالشِّركِ باللهِ والعِصيانِ.
ونادَوا مالِكًا خازِنَ النَّارِ، فقالوا: يا مالِكُ، لِيَقضِ علينا رَبُّك؛ لِنَستريحَ مِمَّا نحنُ فيه مِن العذابِ! فقال لهم مالِكٌ: إنَّكم باقونَ في العَذابِ أبدًا؛ لقدْ أُرسِلَ إليكم الرُّسُلُ بالحَقِّ مِن رَبِّكم، ولكِنَّ أكثَرَكم كانوا كارِهينَ للحَقِّ فلم يُؤمِنوا!
ثمَّ يقولُ اللهُ تعالَى مُوبِّخًا للمشركينَ: أمْ أَحْكَمَ أولئك المُشرِكونَ أمْرًا؛ لِيَكيدوا به الحَقَّ وأهلَه؟! فإنَّ اللهَ تعالَى مُحكِمٌ أمرًا لكَيدِهم به!
أمْ يَحسَبونَ أنَّ اللهَ لا يَسمَعُ ما يُسِرُّونَه في أنفُسِهم، وما يَتناجَونَ به فيما بيْنَهم مِنَ الكلامِ الخَفيِّ، فلا يُؤاخِذُهم به؟! بلَى! لم يَغِبْ عنَّا شَيءٌ مِن شأنِهم، وسنُجازيهم عليه!

تفسير الآيات:

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا ذَكَر الوَعدَ أردَفَه بالوَعيدِ؛ على التَّرتيبِ المُستَمِرِّ في القُرآنِ [797] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/643). ، فلمَّا ذَكَر تعالَى حالَ أهلِ الجنَّةِ، وما يُقالُ لهم مِن لَذائِذِ البِشارةِ؛ أَعقَبَ ذلك بذِكرِ حالِ الكَفَرةِ وما يُجاوَبونَ به عند سُؤالِهم [798] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/388). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر ما للقِسمِ الثَّاني مِن الأخِلَّاءِ -وهم المتَّقونَ- تَرغيبًا لهم في التَّقوى؛ أتْبَعَه ما لأضدادِهم -أهلِ القِسمِ الأوَّلِ-؛ تَحذيرًا مِن مِثلِ أعمالِهم [799] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/480). .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74).
أي: إنَّ الذين أجْرَموا في الدُّنيا بالكُفرِ باللهِ، وتَكذيبِ رُسُلِه، وعِصيانِ أمرِه: في عَذابِ جَهنَّمَ ماكِثونَ أبدًا [800] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/647)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/257). .
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75).
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ.
أي: لا يُخفَّفُ عنهم العَذابُ ولو ساعةً واحِدةً [801] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/647)، ((تفسير القرطبي)) (16/115)، ((تفسير ابن كثير)) (7/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/258). .
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ.
أي: وهم في عَذابِ جَهنَّمَ آيِسونَ مِن النَّجاةِ، غيرُ راجِينَ للفَرَجِ [802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/647)، ((تفسير ابن كثير)) (7/240)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/481-482)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/258). .
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها جُملةٌ مُعتَرِضةٌ في حِكايةِ أحوالِ المُجرِمينَ، قُصِدَ منها نَفيُ استِعظامِ ما جُوزُوا به مِن الخُلودِ في العَذابِ، ونَفيُ الرِّقَّةِ لحالِهم المحكيَّةِ بِقَولِه تعالَى: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [803] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/258). .
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76).
أي: وما ظَلَمْناهم ولكِنْ هم ظَلَموا أنفُسَهم في الدُّنيا بالشِّركِ باللهِ، وجُحودِهم آياتِه، وتَكذيبِهم رُسُلَه، وعِصيانِهم لأمْرِه [804] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/648)، ((تفسير القرطبي)) (16/115)، ((تفسير ابن كثير)) (7/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). .
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77).
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ.
أي: ونادَى المُجرِمونَ -وهُمْ في النَّارِ- مالِكًا خازِنَ النَّارِ، فقالوا: يا مالِكُ، لِيُمِتْنا رَبُّك فيَقبِضْ أرواحَنا؛ لِنَستريحَ مِمَّا نحن فيه مِنَ العَذابِ [805] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/649)، ((تفسير ابن كثير)) (7/240، 241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). قال ابنُ الجَوزي: (قال المفسِّرون: يَدْعُون مالكًا خازنَ النَّارِ، فيقولون: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أي: لِيُمِتْنا). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/84). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (قال ابنُ زيْدٍ: القَضاءُ هاهنا: الموتُ، وكذلك قال سائِرُ المفَسِّرينَ). ((الرد على من قال بفناء الجنة والنار)) (ص: 73). وقال ابنُ عاشورٍ: (خاطَبوه لِيَرفَعَ دَعوتَهم إلى اللهِ تعالى شَفاعةً). ((تفسير ابن عاشور)) (25/259). وقال الشنقيطيُّ: (الظَّاهِرُ أنَّ المعنى: أنَّ مُرادَهم بذلك سؤالُ مالِكٍ خازِنِ النَّارِ أنْ يدْعوَ اللهَ لهم بالموتِ، والدَّليلُ على ذلك أمرانِ: الأوَّلُ: أنَّهم لو أرادوا دُعاءَ اللهِ بأنفُسِهم أنْ يُميتَهم لَمَا نادَوا يَا مَالِكُ، ولَمَا خاطَبوه في قولِهم: رَبُّكَ. والثاني: أنَّ اللهَ تعالى بَيَّنَ في سُورة «المؤمن» أنَّ أهلَ النَّارِ يَطلُبونَ مِن خَزَنةِ النَّارِ أنْ يَدعوا اللهَ لهم؛ لِيُخَفِّفَ عنهم العذابَ، وذلك في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر: 49] ) ((أضواء البيان)) (7/146). !
كما قال الله تبارك وتعالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [طه: 74] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .
وقال سُبحانَه وتعالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [الأعلى: 11 - 13] .
وعن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رأيتُ اللَّيلةَ رَجُلينِ أتَياني قالَا: الَّذي يُوقِدُ النَّارَ مالِكٌ خازِنُ النَّارِ، وأنا جِبريلُ، وهذا مِيكائيلُ)) [806] رواه البخاري (3236). .
قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ.
أي: أجابَهم مالِكٌ خازنُ النَّارِ بقَولِه: إنَّكم باقُونَ في عَذابِ جَهنَّمَ، ولا خُروجَ لكم منها أبدًا [807] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/82)، ((تفسير ابن كثير)) (7/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). .
كما قال تعالَى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] .
وقال سُبحانَه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة: 37] .
وقال الله تَبارك وتعالَى: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97] .
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78).
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ.
أي: لقدْ أرسَلْنا إليكم رَسولَنا بالحقِّ [808] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/651)، ((تفسير السمعاني)) (5/117)، ((تفسير ابن كثير)) (7/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). قال ابنُ عطيةَ: (قولُه: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ الآيةَ، يَحتَمِلُ أن يكونَ مِن قَولِ مالكٍ لأهلِ النَّارِ، ويكونَ قَولُه: جِئْنَاكُمْ على حَدِّ ما يُدخِلُ أحَدٌ -حمَّله الرَّئيسُ كِتابَه- نَفْسَه في فِعلِ الرَّئيسِ، فيَقولُ: غلَبْناكم وفعَلْنا بكم.. ونحوَ هذا، ثُمَّ يَنقَطِعُ كلامُ مالكٍ في قَولِه: كَارِهُونَ. ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ قَولُه: جِئْنَاكُمْ مِن قَولِ اللهِ تعالى لِقُرَيشٍ بعَقِبِ حِكايةِ أمرِ الكُفَّارِ مع مالكٍ، وفي هذا توعُّدٌ وتَخويفٌ فَصيحٌ، بمعنى: انظُروا كيف تكونُ حالُكم؟! ثمَّ تتَّصِلُ الآيةُ على هذا بما بعْدَها مِن أمرِ قُرَيشٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/65). وممَّن قال بأنَّ هذا القَولَ مِن كَلامِ اللهِ تعالى، وأنَّه خِطابٌ لأهلِ النَّارِ: الزمخشريُّ، وأبو السعود، واستظْهَره الشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/265)، ((تفسير أبي السعود)) (8/55)، ((تفسير الشوكاني)) (4/647). قال الزمخشريُّ: (لَمَّا سألوا مالِكًا أنْ يَسألَ اللهَ تعالى القَضاءَ عليهم، أجابَهم اللهُ بذلك). ((تفسير الزمخشري)) (4/265). وقال أبو السُّعود: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ في الدُّنيا؛ بإرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ، وهو خِطابُ تَوبيخٍ وتَقريعٍ مِن جِهةِ اللهِ تعالى، مُقَرِّرٌ لجوابِ مالكٍ، ومُبَيِّنٌ لِسَبَبِ مُكثِهم). ((تفسير أبي السعود)) (8/55). وممَّن ذهبَ إلى أنَّه مِن كلامِ مالكٍ خازنِ النَّارِ: مقاتلُ بنُ سُليمان، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/803)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/260). قال ابنُ عاشورٍ: (وضَميرُ جِئْنَاكُمْ للملائِكةِ، والحَقُّ: الوَحيُ الَّذي نزَل به جِبريلُ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/260). وقال ابنُ القيِّم: (الحَقُّ هاهنا: هو ما بُعِث به المُرسَلونَ. باتِّفاقِ المفَسِّرينَ). ((مفتاح دار السعادة)) (2/51). وقال الشَّوكانيُّ: (المرادُ بالحقِّ: كلُّ ما أمَر اللهُ به على ألسُنِ رُسلهِ وأنزَلَه في كُتبِه. وقيل: هو خاصٌّ بالقُرآنِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/647). وممَّن خصَّص معنى الحقِّ هنا بالقُرآن: السَّمعانيُّ، والبقاعيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 117)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/484). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/651). قال ابنُ جريرٍ: (يقولُ: لقدْ أرسَلْنا إليكم -يا مَعشَرَ قُريشٍ- رَسولَنا محمَّدًا بالحقِّ). ((تفسير ابن جرير)) (20/651). وقال البقاعيُّ: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ، أي: في هذه السُّورةِ خُصوصًا، وجميعِ القُرآنِ عمومًا). ((نظم الدرر)) (17/484). .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.
أي: ولكِنَّ أكثَرَكم -أيُّها المُشرِكونَ- كارِهونَ لِما جاءَكم به رسولُنا مِن الحقِّ، فلم تَقْبلوه، ولم تَخضَعوا له وتَنقادوا إليه [809] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/651)، ((تفسير الرازي)) (27/644)، ((تفسير ابن كثير)) (7/241)، ((تفسير الشوكاني)) (4/647)، ((تفسير الألوسي)) (13/102)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/258). قال الشَّوكانيُّ: (قيل: ومعْنى أَكْثَرَكُمْ: كلَّكم. وقيل: أرادَ الرُّؤساءَ والقادةَ، ومَن عدَاهم أتْباعٌ لهم). ((تفسير الشوكاني)) (4/647). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/ 118). !
كما قال تعالَى: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 70] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 8، 9].
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالَى كَيفيَّةَ عَذابِهم في الآخِرةِ؛ ذكَرَ بعْدَه كَيفيَّةَ مَكرِهم، وفَسادَ باطِنِهم في الدُّنيا، فقال [810] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/644). :
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79).
أي: أمْ أحْكَمَ أولئك المُشرِكونَ أمْرًا يَكيدونَ به الحَقَّ وأهْلَه، ولم يَقتَصِروا على كَراهتِه؟! فإنَّ اللهَ تعالَى مُحكِمٌ أمرًا لِكَيدِهم به [811] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/651)، ((تفسير القرطبي)) (16/118)، ((تفسير البيضاوي)) (5/96-97)، ((تفسير ابن كثير)) (7/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). قال الألوسيُّ: (إنْ كان ذاك خِطابًا لأهلِ النارِ، فإبرامُ الأمرِ في مُجازاتِهم هو تَخليدُهم في النارِ مُعذَّبِين، وإنْ كان خطابًا لقُريشٍ، فهو خِذْلانُهم ونصْرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم، فكأنَّه قيل: فإنَّا مُبْرِمون أمْرًا في مُجازاتِهم وإظهارِ أمْرِك). ((تفسير الألوسي)) (13/ 103). وقال الماورديُّ: (قولُه تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ فيه ثَلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أمْ أجْمَعوا على التَّكذيبِ فإنَّا مُجمِعون على الجزاءِ بالبعثِ. قاله قتادةُ. الثاني: أمْ أحْكَموا كيْدًا، فإنَّا مُحكِمون لها كيْدًا. قاله ابنُ زيْدٍ. الثالثُ: قضَوا أمرًا فإنَّا قاضُون عليهم بالعذابِ. قاله الكلْبيُّ). ((تفسير الماوردي)) (5/ 240). !
كما قال الله تبارك وتعالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18].
وقال سُبحانَه: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور: 42].
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15، 16].
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80).
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ.
أي: أمْ يظُنُّ أولئك المُشرِكونَ باللهِ أنَّا لا نَسمَعُ ما يُسِرُّونَه في أنفُسِهم، وما يَتناجَونَ به فيما بيْنَهم من الكَلامِ الخَفيِّ، فلا نُؤاخِذُهم بذلك [812] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/652)، ((تفسير الزمخشري)) (4/265)، ((تفسير القرطبي)) (16/119)، ((تفسير ابن كثير)) (7/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/262). قال الزَّمخشريُّ: (فإنْ قُلتَ: ما المرادُ بالسِّرِّ والنَّجوى؟ قُلتُ: السِّرُّ ما حَدَّث به الرَّجُلُ نَفسَه أو غيرَه في مكانٍ خالٍ. والنَّجوى: ما تكَلَّموا به فيما بيْنَهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/265). وقال أبو هلالٍ العسْكريُّ: (الفرْقُ بيْن النَّجوى والسِّرِّ: أنَّ النَّجوى اسمٌ للكلامِ الخفيِّ الذي تُناجي به صاحبَك، كأنَّك تَرفَعُه عن غيْرِه؛ وذلك أنَّ أصلَ الكلمةِ الرِّفعةُ، ومنه النَّجْوةُ من الأرضِ...، والسِّرُّ: إخفاءُ الشَّيءِ في النفْسِ، ولو اختَفى بسِترٍ أو وراءَ جدارٍ لم يكُنْ سِرًّا). ((الفروق اللغوية)) (ص: 63). ؟!
بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.
أي: بلَى! نحن نَسمَعُ ما يُسِرُّونَ، وما به يَتناجَونَ، ومَلائِكتُنا الحَفَظةُ عِندَهم يَكتُبونَ جَميعَ أحاديثِهم، وسيُجازَونَ عليها [813] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/119)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/486)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/262، 263). !
كما قال تعالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18].
وقال الله سُبحانَه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 52، 53].
وقال الله عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12].

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أنَّ اللهَ تعالَى يَسمَعُ كلامَك وإنْ خَفَتَ؛ فإيَّاك أنْ تُسمِعَ اللهَ عزَّ وجلَّ كَلامًا لا يَرضاه منك، واحرِصْ على أنْ تُسمِعَ اللهَ ما يَرْضاه منك [814] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/552). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ فيه سُؤالٌ: كيف قال: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ، بعْدَما وصَفَهم بالإبلاسِ في قولِه: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ والمبْلسُ: اليائِسُ السَّاكِتُ سُكوتَ يائِسٍ مِنْ فَرَجٍ [815] قال ابن عاشورٍ: (والإبلاسُ: اليأْسُ والذُّلُّ... وزاد الزَّمخشريُّ في معْنى الإبلاسِ قَيْدَ السُّكوتِ ولم يَذكُرْه غيرُه، والحقُّ أنَّ السُّكوتَ مِن لوازِمِ معنى الإبلاسِ وليسَ قيدًا في المعْنى). ((تفسير ابن عاشور)) (25/258). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/264). ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: تلك أزمِنةٌ مُتطاوِلةٌ وأحقابٌ مُمتدَّةٌ، فتَختَلِفُ بهم الأحوالُ؛ فيَسكُتونَ أوقاتًا لغَلَبةِ اليأسِ عليهم، ويَستَغيثون أوقاتًا لشِدَّةِ ما بهم [816] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/264)، ((تفسير الرازي)) (27/644). .
الوَجهُ الثَّاني: نِداؤُهم لا يُنافي إبلاسَهم؛ لأنَّه السُّكوتُ عن يأْسٍ، فسُكوتُهم المقَيَّدُ باليأسِ دائِمٌ؛ فلذلك سَألوا الموتَ، والحاصِلُ: أنَّهم لا يَتكَلَّمونَ بما يدُلُّ على رَجاءِ الفَرَجِ، بلْ هم ساكِتونَ أبدًا عن ذلك [817] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/483). .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ فيه دَليلٌ على أنَّهم لا يُجابونَ إلى الموتِ، بلْ يَمكُثونَ في النَّارِ مُعَذَّبينَ إلى غيرِ نِهايةٍ [818] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/146-147). .
3- القَضاءُ في قولِه تعالَى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ بمعْنى: الإماتَةِ، وسَأَلوا اللهَ أنْ يُزيلَ عنهم الحَياةَ ليَستَرِيحُوا مِن إحساسِ العَذابِ، وهم إنَّما سَأَلوا اللهَ أنْ يُمِيتَهُم، فأُجِيبُوا بأنَّهُم ماكِثُون جَوابًا جامِعًا لنَفيِ الإماتَةِ ونَفيِ الخُروجِ؛ فهو جَوابٌ قاطِعٌ لِمَا قدْ يَسأَلُونَه مِن بَعدُ [819] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/260). .
4- قولُه تعالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ في هذه الآيةِ الكَريمةِ سُؤالٌ مَعروفٌ؛ وهو أنْ يُقالَ: يُفهَمُ مِن مَفهومِ مُخالَفةِ الآيةِ: أنَّ قَليلًا مِن الكُفَّارِ ليْسوا كارِهِين للحقِّ.
والجوابُ عن هذا السُّؤالِ: هو ما أجابَ به بعضُ أهلِ العِلمِ بأنَّ قَليلًا مِن الكُفَّارِ كانوا لا يَكرَهون الحَقَّ، وسَببُ امتناعِهِم عن الإيمانِ باللهِ ورسولِه ليْس هو كَراهيتَهم للحقِّ، ولكنَّ سَببَه الأَنفةُ والاستنكافُ مِن تَوبيخِ قَومِهم، وأنْ يَقولوا: صَبَؤوا وفارَقوا دِينَ آبائِهِم، ومِن أمثلةِ مَن وقَعَ له هذا أبو طالبٍ؛ فإنَّه لا يَكرَهُ الحقَّ الذي جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقدْ كان يشُدُّ عَضُدَه في تَبليغِه رِسالتَه، ولكنَّ السَّببَ المانعَ له مِن اعتناقِ الإسلامِ هو الأَنَفةُ والخوْفُ مِن مَلامةِ قوْمِه أو سَبِّهم له [820] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/ 341). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (23/ 287). .
وأيضًا فإنَّما نُسِبَتْ كَراهَةُ الحَقِّ إلى أكثَرِهم دُونَ جَميعِهم؛ لأنَّ المُشرِكين فَريقانِ: أحَدُهُما: سادَةٌ كُبَراءُ لِمِلَّةِ الكُفرِ، وهم الَّذين يَصُدُّون النَّاسَ عن الإيمانِ بالإرهابِ والتَّرغيبِ، وثَانِيهُما: دَهماءُ وعامَّةٌ، وهمْ تَبَعٌ لأَئِمَّةِ الكُفرِ [821] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/261). .
5- قَولُ اللهِ تعالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ عَطفُ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ؛ لِيَعلَموا أنَّ عِلمَ اللهِ بما يُسِرُّونَ عِلمٌ يَترتَّبُ عليه أثَرٌ فيهم، وهو مُؤاخَذتُهم بما يُسِرُّونَ؛ لأنَّ كِتابةَ الأعمالِ تُؤذِنُ بأنَّها ستُحسَبُ لهم يوْمَ الجَزاءِ [822] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/263). .
6- إنَّ طَريقةَ القُرآنِ: يذكُرُ العِلمَ والقُدرةَ تَهديدًا وتَخويفًا؛ ليُرتِّبَ الجزاءَ عليهما، كما قال تعالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] ، وقال: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105] ، وقال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام: 65] ، وهذا كثيرٌ جِدًّا في القرآنِ، وليس المرادُ به مُجرَّدَ الإخبارِ بالقُدرةِ والعِلمِ، لكِنِ الإخبارُ مع ذلك بما يَترتَّبُ عليهما مِنَ الجَزاءِ وبالعَدلِ؛ فإنَّه إذا كان قادِرًا أمكَنَ مُجازاتُه، وإذا كان عالِمًا أمكَنَ ذلك بالقِسطِ والعَدلِ، ومَن لم يكُنْ قادِرًا لم يُمكِنْ مُجازاتُه، وإذا كان قادِرًا لكِنَّه غيرُ عالمٍ بتَفاصيلِ الأعمالِ ومَقاديرِ جَزائِها، لم يُجازِ بالعَدلِ، والرَّبُّ تعالَى مَوصوفٌ بكَمالِ القُدرةِ وكَمالِ العِلمِ [823] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 40). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ
- قولُه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ لِهَذِه الجُملَةِ مَوقِعَانِ: أحَدُهُما: إتمامُ التَّفصيلِ لِمَا أجْمَلَه الوَعيدُ الَّذي في قَولِه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] عَقِبَ تَفصيلِ بَعضِه بقَولِه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: 66] إلخ، وبقَولِه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، حيث قُطِعَ إتمامُ تَفصيلِه بالاعتِناءِ بذِكْرِ وَعدِ المُؤمِنين المُتَّقين؛ فهي في هذا المَوقِعِ بَيانٌ لجُملَةِ الوَعيدِ، وتَفصيلٌ لإجمالِها. المَوقِعُ الثَّانِي: أنَّها كالاستِئنافِ البَيانِيِّ يُثيرُه ما يُسمَعُ مِن وَصْفِ أحوالِ المُؤمِنين المُتَّقين مِن التَّساؤُلِ: كيف يَكونُ حالُ أَضدادِهم المُشرِكين الظَّالِمين [824] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/388)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/257). ؟
- قَولُه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ فيه افتِتاحُ الخَبَرِ بحَرفِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ به، أو لتَنزيلِ السَّائِلِ المُتَلَهِّفِ للخَبَرِ مَنزِلَةَ المُتَرَدِّدِ في مَضمونِه؛ لشِدَّةِ شَوقِه إليه، أو نَظَرًا إلى ما في الخَبَرِ مِن التَّعريضِ بإسماعِهِ المُشرِكين وهم يُنكِرون مَضمونَه؛ فكَأنَّه قيل: إنَّكُم أيُّها المُجرِمون في عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُون [825] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/257). .
- قَولُه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي: الرَّاسِخين في الإجرامِ، وهُم الكُفَّارُ المُشرِكون المُكَذِّبون للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ السِّياقَ لهم حَسْبَما يُنْبِئُ عنه إيرادُهم في مُقابَلَةِ المُؤمنين بالآياتِ، ولأنَّ الجُملَةَ بَيانٌ لإجمالِ وَعيدِهِم في قولِه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] ، ولأنَّ جَوابَ الملائكةِ نِداءَهم -على قولٍ في التَّفسيرِ- بقَولِهم: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78] لا يَنطبِقُ على غيرِ المكذِّبين، أي: كارِهونَ للإسلامِ والقرآنِ؛ فذِكْرُ المُجرِمينَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ للتَّنبيهِ على أنَّ شِركَهم إجرامٌ [826] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/96)، ((تفسير أبي السعود)) (8/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/257). .
- قولُه: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ جُملَةٌ مُعتَرِضَةٌ في حِكايَةِ أحوالِ المُجرِمين، قُصِدَ منها نَفْيُ استِعظامِ ما جُوزُوا به مِن الخُلودِ في العَذابِ، ونَفيُ الرِّقَّةِ لحالِهِم المَحكِيَّةِ بقَولِه: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [827] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/258). [الزخرف: 75] .
- وضَميرُ الفَصلِ (هم) في قولِه: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ مُجتَلَبٌ لإفادَةِ قَصرِ صِفَةِ الظُّلمِ على اسمِ (كان)، وإذ قدْ كان حَرفُ الاستِدراكِ بعْدَ النَّفيِ كافِيًا في إفادَةِ القَصرِ، كان اجتِلابُ ضَميرِ الفَصلِ تَأكيدًا للقَصرِ بإعادَةِ صِيغَةٍ أُخرَى مِن صِيغَ القَصرِ [828] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/258، 259). .
2- قولُه تعالَى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
- جُملةُ وَنَادَوْا حالٌ مِن ضَميرِ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75] ، أو عطْفٌ على جُملةِ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ؛ حُكِيَ نِداؤُهم بصِيغَةِ الماضي مع أنَّه مِمَّا سيَقَعُ يومَ القِيامَة؛ إمَّا لأنَّ إبلاسَهم في عَذابِ جَهَنَّم -وهو اليَأسُ- يَكونُ بعْدَ أنْ نَادَوْا: يَا مَالِكُ، وأجابَهم بما أجابَ به، وذلك إذا جُعِلَت جُملَةُ وَنَادَوْا حالِيَّةً، وإمَّا لتَنزيلِ الفِعلِ المُستَقبَلِ مَنزِلَةَ الماضي في تَحقيقِ وُقوعِه؛ تَخريجًا للكَلامِ على خِلافِ مُقتَضَى الظَّاهِرِ، وهذا إنْ كانَت جُملَةُ وَنَادَوْا ... إلخ مَعطوفَةً [829] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/259). .
- واللَّامُ في لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ لامُ الأَمرِ بمَعنَى الدُّعاءِ. وتَوجيهُ الأمرِ إلى الغائِبِ لا يَكونُ إلَّا على مَعنَى التَّبليغِ كما هنا، أو تَنزيلِ الحاضِرِ مَنزِلَةَ الغائِبِ لاعتِبارٍ ما؛ مثلِ التَّعظيمِ [830] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/260). .
3- قولُه تعالَى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ تَتِمَّةُ الجوابِ إنْ كان في (قالَ) ضَميرُ اللهِ، وإلَّا فجَوابٌ منه؛ فكَأَنَّه تعالَى تَوَلَّى جَوابَهم بعْدَ جَوابِ مالِكٍ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فهو خِطابُ تَوبيخٍ وتَقريعٍ مِن جِهَةِ اللهِ تعالَى مُقَرِّرٌ لجَوابِ مالِكٍ، ومُبَيِّنٌ لسَبَبِ مُكثِهِم [831] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/96)، ((تفسير أبي السعود)) (8/55). .
- وجُملَةُ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ في مَوضِعِ العِلَّةِ لجُملَةِ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ؛ باعتِبارِ تَمامِ الجُملَةِ، وهو الاستِدراكُ بقَولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [832] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/260). .
- وضَميرُ جِئْنَاكُمْ للمَلائِكَةِ -على قولٍ-، و(الحقُّ): الوَحيُ الَّذي نَزَل به جِبريلُ -على قولٍ أيضًا-؛ فنَسَب مالِكٌ المَجيءَ بالحَقِّ إلى جَمعِ المَلائِكَةِ على طَريقَةِ اعتِزازِ الفَريقِ والقَبيلَةِ بمَزايَا بَعضِها [833] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/260، 261). .
- وتَقديمُ لِلْحَقِّ على كَارِهُونَ؛ للاهتِمامِ بالحَقِّ تَنويهًا به، وفيه مُراعاةٌ للفاصِلَةِ أيضًا [834] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/261). .
4- قولُه تعالَى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ للإنْحاءِ باللَّائِمَةِ على المُشرِكين لِمَا بَدَرَ منهم، و(أمْ) مُنقَطِعَةٌ بمعنى (بل) للإضرابِ والانتِقالِ مِن تَوبيخِ أهلِ النَّارِ وحِكايَةِ حالِهِم إلى حِكايَةِ جِنايَةِ هَؤلاءِ المُشرِكين [835] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/261)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/111). .
- والهَمزةُ في قولِه: أَمْ أَبْرَمُوا استِفهامٌ للإنكارِ والتَّقريرِ والتَّهديدِ، فإنْ أُريدَ بالإبرامِ الإحكامُ حَقيقةً، فهيَ لإنكارِ الوُقوعِ واستبعادِه، وإنْ أُريدَ الإحكامُ صُورةً، فهي لإنكارِ الواقِعِ واستِقباحِه [836] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/261). .
- والفاءُ في قَولِه: فَإِنَّا مُبْرِمُونَ للتَّفريعِ على ما اقتَضاهُ الاستِفهامُ مِن تَقديرِ حُصولِ المُستَفهَمِ عنه؛ فيَؤُولُ الكَلامُ إلى مَعنَى الشَّرطِ، أي: إنْ أَبرَموا أمرًا مِن الكَيدِ فإنَّ اللهَ مُبرِمٌ لهم أمرًا مِن نَقضِ الكَيدِ، وإلحاقِ الأذى بِهِم، ونَظيرُه وفي مَعناهُ قَولُه: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [837] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/261). [الطور: 42].
- قَولُه: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ فيه العُدولُ عن الخِطابِ إلى الغَيبَةِ؛ للإشعارِ بأنَّ ذلك أسوَأُ مِن كَراهَتِهم للحقِّ [838] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/96). .
- وجاء قولُه: أَبْرَمُوا فِعلًا ومُبْرِمُونَ اسمَ فاعلٍ، فخُولِفَ بيْنهما في الصِّيغةِ؛ لأنَّ إبرامَهم واقِعٌ، وأمَّا إبرامُ اللهِ جَزاءٌ لهم؛ فهو تَوَعُّدٌ بأنَّ اللهَ قَدَّرَ نَقْضَ ما أبرَموه؛ فإنَّ اسمَ الفاعِلِ حَقيقَةٌ في زَمَنِ الحالِ، أي: نحْن نُقَدِّرُ لهم الآنَ أمرًا عَظيمًا، قيل: ذلك إيجادُ أسبابِ وَقعَةِ بدَرٍ التي استُؤصِلُوا فيها [839] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/262). .
- وحُذِفَ مَفعولُ مُبْرِمُونَ؛ لدَلالَةِ ما قَبلَه عليه [840] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/262). .
5- قولُه تعالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
- قَولُه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ (أمْ) والاستِفهامُ المُقَدَّرُ بَعدَها استِفهامٌ للإنكارِ والتَّقريرِ والتَّهديدِ. وحَرفُ (بلى) جَوابٌ للنَّفيِ مِن قَولِه: أَنَّا لَا نَسْمَعُ، أي: بَلى نَحنُ نَسمَعُ سِرَّهُم ونَجواهُم [841] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/262). .