موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (47-50)

ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

يَتَحَاجُّونَ: أي: يَختَصِمونَ، والمُحاجَّةُ: أن يَطلُبَ كلُّ واحدٍ أن يَرُدَّ الآخَرَ عن حُجَّتِه ومحَجَّتِه، والحُجَّةُ: البُرهانُ والسُّلطانُ، وأصلُ (حجج): يدُلُّ على قَصدِ جادَّةِ الطَّريقِ .
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: الخَزَنةُ: جمْعُ الخازِنِ، وهم الملائكةُ الموكَّلونَ على النَّارِ، والخَزْنُ: حِفظُ الشَّيءِ في الخِزانةِ، ثمَّ يُعبَّرُ به عن كلِّ حِفْظٍ؛ كحِفْظِ السِّرِّ ونحوِه، وأصلُ (خزن): يدُلُّ على صيانةِ الشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن بعضِ ما يَدورُ بيْنَ أهلِ النَّارِ مِن جدالٍ، فيقولُ: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حينَ يَتجادَلُ الكُفَّارُ في النَّارِ، فيَقولُ الضُّعَفاءُ مِن الأتْباعِ لِكُبَرائِهم المتبوعينَ في الدُّنيا: إنَّا كُنَّا في الدُّنيا تابِعينَ مُطيعينَ لكم، فهل أنتم دافِعونَ عَنَّا شيئًا مِن عذابِ النَّارِ؟ قال كُبَراؤُهم: إنَّنا جميعًا في النَّارِ، إنَّ اللهَ قد حَكَم بيْنَ عِبادِه!
وقال أهلُ النَّارِ لخَزَنةِ جَهنَّمَ الموكَّلِينَ بها: ادعُوا رَبَّكم يُخَفِّفْ عنَّا يومًا واحِدًا مِن عذابِ النَّارِ. قال لهم خَزَنةُ جَهنَّمَ: أوَلَم تكُ تأتيكم رُسُلُكم في الدُّنيا بالحُجَجِ الدَّالَّةِ على الحَقِّ؟ قالوا: بلى. قالوا لهم: فادعُوا اللهَ إذَنْ أن يُخَفِّفَ عنكم العَذابَ، وما دُعاءُ الكافِرينَ لله إلَّا في ضَياعٍ وخُسرانٍ!

تفسير الآيات:

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الكلامَ في تلك القِصَّةِ لَمَّا انجَرَّ إلى شَرحِ أحوالِ النَّارِ؛ لا جَرَمَ ذَكَر اللهُ عَقِبَها قِصَّةَ المناظَراتِ الَّتي تجري بيْنَ الرُّؤَساءِ والأتْباعِ مِن أهلِ النَّارِ .
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حينَ يَتجادَلُ الكُفَّارُ ويَتخاصَمونَ في النَّارِ .
فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا.
أي: فيَقولُ الضُّعَفاءُ -وهم الأتْباعُ- لِرُؤسائِهم المَتبوعينَ الَّذين تَكبَّروا وتَعاظَموا عن قَبولِ الحَقِّ واتِّباعِه: إنَّا كُنَّا في الدُّنيا نَتَّبِعُكم ونُطيعُكم فيما دَعَوْتُمونا إليه مِنَ الضَّلالِ .
فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ.
أي: فهل أنتم -أيُّها المُستَكبِرونَ- مُتحَمِّلونَ عنَّا قِسطًا وجُزءًا مِنَ النَّارِ ؟!
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48).
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا.
أي: قال المُستَكبِرونَ: نحن وأنتم جميعًا مُعَذَّبونَ في النَّارِ .
إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ.
أي: إنَّ اللهَ قد حَكَم بيْنَ عِبادِه بالعَدلِ، فلا يُؤاخِذُ أحَدًا بذَنْبِ غَيرِه، وقَسَم بيْنَنا العَذابَ بقَدرِ ما يَستَحِقُّه كُلُّ واحدٍ مِنَّا، ولن يُغنيَ أحَدٌ عن أحَدٍ شيئًا !
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ظَهَر أنَّه لا يُغْني أحَدٌ عن أحَدٍ شَيئًا؛ أخبَرَ أنَّهم لَمَّا رأَوا بُعْدَهم مِنَ اللهِ، وأنَّهم لَيسُوا بأهلٍ لِدُعائِه سُبحانَه؛ عَلَّقوا آمالَهم بتوسُّطِ الملائِكةِ .
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49).
أي: وقال أهلُ النَّارِ مِن المُستَكبِرينَ والضُّعَفاءِ لخَزَنةِ جَهنَّمَ الموكَّلِينَ بها: ادعُوا رَبَّكم يُخَفِّفْ عنَّا يَومًا واحِدًا مِن عذابِ النَّارِ؛ فتَحصُلَ لنا بعضُ الرَّاحةِ !
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50).
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: قال لهم خَزَنةُ جَهنَّمَ: أوَلَم تَكُ تأتيكم رُسُلُكم في الدُّنيا بالحُجَجِ الواضِحةِ الدَّالَّةِ على الحَقِّ ؟
قَالُوا بَلَى.
أي: قال الَّذين في النَّارِ لخَزَنةِ جَهنَّمَ: بلى، قد جاءَنا الرُّسُلُ بالبَيِّناتِ، فكذَّبْناهم ولم نُؤمِنْ بالحَقِّ بعد أن قامَت علينا حُجَّةُ اللهِ البالِغةُ !
قَالُوا فَادْعُوا.
أي: قال خَزَنةُ جَهَنَّمَ: فادعُوا الله إذَنْ أن يُخَفِّفَ عنكم العَذابَ .
وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ.
أي: وما دُعاءُ الكافِرينَ لله وهم في نارِ جَهنَّمَ إلَّا في ضَياعٍ؛ فهو غيرُ مُوصِلٍ للمَقصودِ، ولا مُحَقِّقٍ للمَطلوبِ؛ فاللهُ لا يَستجيبُ دُعاءَهم، ولا يَتقَبَّلُه منهم !

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ فيه عِبرةٌ لِزُعماءِ الأُمَمِ وقادتِهم: أن يَحذَروا الارتِماءَ بأنفُسِهم في مَهاوي الخُسرانِ، فيُوقِعوا المُقتَدِينَ بهم في تلك المَهاوي؛ فإنْ كان إقدامُهم ومُغامَرتُهم بأنفُسِهم وأُمَمِهم على عِلمٍ بعواقِبِ ذلك كانوا أحْرِياءَ بالمَذَمَّةِ والخِزْيِ في الدُّنيا، ومُضاعَفةِ العذابِ في الآخِرةِ؛ إذ ما كان لهم أن يَغُرُّوا بأقوامٍ وكَّلوا أُمورَهم بقادتِهم عن حُسنِ ظَنٍّ فيهم: أن يَخونوا أمانَتَهم فيهم، كما قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13] ، وإن كان قَحْمُهم أنفُسَهم في مَضائقِ الزَّعامةِ عن جَهلٍ بعَواقِبِ قُصورِهم وتَقصيرِهم، فإنَّهم مَلُومونَ على عدَمِ التَّوَثُّقِ مِن كفاءتِهم لتَدبيرِ الأُمَّةِ، فيَخبِطوا بها خَبْطَ عَشواءَ حتَّى يَزِلُّوا بها، فيَهْوُوا بها مِن شواهِقَ بَعيدةٍ، فيَصيروا رَميمًا، ويَلْقَوا في الآخِرةِ جَحيمًا !
2- قَولُ الله تعالى: فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، أي: ذَهابٍ في غيرِ طَريقٍ مُوصِلٍ، كما كانوا هُم في الدُّنيا كذلك؛ فإنَّ الدُّنيا مَزرَعةُ الآخِرةِ: مَن زرَع شَيئًا في الدُّنيا، حَصَده في الآخِرةِ، والآخرةَ ثَمرةُ الدُّنيا: لا تُثمِرُ إلَّا مِن جِنسِ ما غُرِسَ في الدُّنيا .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ إلى قَولِه سُبحانَه: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ بيانُ أنَّ مَن أطاع مَخلوقًا في مَعصيةِ اللهِ كان له نَصيبٌ مِن هذا الذَّمِّ والعِقابِ، والمُطيعُ للمَخلوقِ في مَعصيةِ اللهِ ورَسولِه: إمَّا أن يَتَّبِعَ الظَّنَّ، وإمَّا أن يَتَّبِعَ ما يَهواه، وكثيرٌ يَتَّبِعُهما، وهذه حالُ كُلِّ مَن عصَى رَسولَ اللهِ مِن المُشرِكينَ وأهلِ الكِتابِ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى، ومِن أهلِ البِدَعِ والفُجورِ مِن هذه الأُمَّةِ .
2- قال الله تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ إلى قولِه: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ هذا إخبارٌ مِن الله وتحذيرٌ بأنَّ المَتبوعينَ والتَّابِعينَ اشْتَركوا في العذابِ، ولم يُغْنِ عنهم تقليدُهم شيئًا، وأصرَحُ مِن هذا قولُه تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة: 166-167] ، وهذا يدُلُّ على أنَّ كُفرَ مَنِ اتَّبَعهم إنَّما هو بمُجرَّدِ اتِّباعِهم وتقليدِهم .
3- في قَولِه تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا بَعْدَ قَولِه سبحانه: أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ حُجَّةٌ في تعذيبِ فِرعَونَ مع سائرِ آلِ فِرعَونَ في البَرزخِ وفي يومِ القيامةِ، ومعلومٌ أنَّ فِرعَونَ هو رأسُ المستكبِرينَ؛ وهو الَّذي استخفَّ قَومَه فأطاعوه، ولم يَسْتكبِرْ أحدٌ استِكبارَ فِرعَونَ! فهو أحَقُّ بهذا النَّعتِ والحُكمِ مِن جميعِ قَومِه .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ المرادُ بالعبادةِ هنا: العبادةُ العامَّةُ -وهي العبادةُ الكَونيَّةُ-؛ لأنَّ العبادةَ نَوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: عبوديةٌ عامَّةٌ: وهي العُبوديَّةُ الكَونيَّةُ، وتشمَلُ المؤمِنَ والكافِرَ، والبرَّ والفاجِرَ؛ لقولِه تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 93] . فكلُّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ فهو خاضِعٌ لله سبحانَه كونًا.
والنَّوعُ الثاني: عُبوديَّةٌ خاصَّةٌ: وهي العبوديَّةُ الشَّرعيَّةُ، وهي التَّذلُّلُ له سبحانَه شرعًا، فهذه خاصَّةٌ بالمؤمنينَ بالله، القائِمينَ بأمرِه .
5- قال اللهُ تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ... كُلُّ كَلامٍ ذُكِرَ في القُرآنِ مِن كَلامِهم كُلِّه فهو قَبْلَ أن يَقولَ: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] .
6- أنَّ أهلَ النارِ يُعَذَّبون عذابًا بدنيًّا وعذابًا قلبيًّا؛ فالعذابُ القلبيُّ هو التَّقريعُ والتَّوبيخُ لهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فهذا يكونُ أشَدَّ عليهم مِن عذابِ البَدَنِ، ولهذا يقولونَ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] ، قال تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الملك: 11] .
7- قال الله تعالى: قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، دَلَّتْ هذه الآيةُ وأمثالُها في القرآنِ العظيمِ على أنَّ اللهَ جَلَّ وعلا لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعدَ الإنذارِ والإعذارِ على ألْسِنةِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، وقال جلَّ وعلا: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، وقال سبحانه: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى، ودلَّت هذه الآياتُ أيضًا على أنَّ جميعَ أهلِ النَّارِ أنْذَرَتْهم الرُّسلُ في دارِ الدُّنيا .
8- قَولُ الله تعالى: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، استدَلَّ به مَن قال: إنَّ دعاءَ الكافرينَ لا يُستجابُ، وأنَّهم لا يُمكَّنونَ مِن الخروجِ في الاستِسقاءِ ، وأمَّا ما يُوهِمُ استِجابةَ دُعاءِ الكافرينَ، نحو قولِه تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63، 64]، وقولِه: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 22، 23]؛ فظاهرٌ أنَّ هذه لا تدُلُّ على استِجابةِ كَرامةٍ، ولكنَّها لِتَسجيلِ كُفْرِهم ونُكرانِهم، وقد يُتوهَّمُ في بَعضِ الأحوالِ أنْ يَدْعُوَ الكافرُ فيَقَعَ ما طَلَبَه، وإنَّما ذلك لِمُصادَفةِ دُعائِه وَقْتَ إجابةِ دُعاءِ غَيرِه مِن الصَّالحينَ، وكيف يُستجابُ دُعاءُ الكافرِ وقد جاء عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استِبعادُ استِجابةِ دُعاءِ المؤمنِ الَّذي يأْكُلُ الحرامَ ويَلبَسُ الحرامَ في حديثِ مُسلمٍ عن أبي هُريرةَ أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ((ذكَر الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفرَ، أشْعَثَ أغبَرَ، يَمُدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ: يا ربِّ، يا ربِّ، ومَطعَمُه حَرامٌ، ومَشْرَبُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ؛ فأنَّى يُستجابُ لذلك؟ !)) ؛ ولهذا لم يَقُلِ اللهُ: فلمَّا استجابَ دُعاءَهم، وإنَّما قال: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ [العنكبوت: 65] [لقمان: 32] ، أي: لأنَّه قدَّرَ نَجاتَهم مِن قبْلِ أنْ يَدْعوا، أو لأنَّ دُعاءَهم صادَفَ دُعاءَ بَعضِ المؤمنينَ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ
- قولُه: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ ... يجوزُ أنْ يكونَ (إذ) مَعمولًا لـ (اذْكُرْ) مَحذوفٍ؛ فيكونَ عطفًا على جُملةِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ، والضَّميرُ عائدًا إلى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر: 35] ، وما بيْنَ هذا وذاك اعتراضٌ واستِطرادٌ؛ لأنَّها قُصِدَ منها عِظَةُ المشركينَ بمَن سبَقَهم مِن الأُمَمِ المكذِّبينَ، فلمَّا استُوفِيَ ذلك عادَ الكلامُ إليهم، ويُفِيدُ ذلك صَريحَ الوعيدِ للمشركينَ بعْدَ أنْ ضُرِبَتْ لهمُ الأمثالُ .
- قولُه: فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا قُرِنَ فَيَقُولُ بالفاءِ؛ لإفادةِ كَونِ هذا القولِ ناشئًا عن تَحاجِّهم في النارِ .
- و(الذين استَكْبروا)، أي: الَّذين تَكبَّروا كِبْرًا شَديدًا؛ فالسِّينُ والتَّاءُ فيه للمُبالَغةِ .
- قولُه: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قولُ الضُّعفاءِ للكُبراءِ هذا الكلامَ يَحتمِلُ أنَّه على حَقيقتِه؛ فهو ناشئٌ عمَّا اعْتادُوه مِن اللَّجَأِ إليهم في مُهِمِّهم حِينَ كانوا في الدُّنيا، فظَنُّوا أنَّهم يَتولَّون تَدبيرَ أُمورِهم في ذلك المكانِ؛ ولهذا أجاب الَّذين استَكْبَروا بما يُفِيدُ أنَّهم اليومَ سواءٌ في العَجْزِ، وعدمِ الحِيلةِ؛ فقالوا: إِنَّا كُلٌّ فِيهَا، أي: لو أغْنَيْنا عنكم لَأغْنَيْنا عن أنفُسِنا. وتَقديمُ قولِهم: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا على طلَبِ التَّخفيفِ عنهم مِن النَّارِ مُقدِّمةٌ للطَّلبِ؛ لِقَصْدِ تَوجيهِه وتَعليلِه، وتَذكيرِهم بالوَلاءِ الَّذي بيْنَهم في الدُّنيا، يُلهِمُهم اللهُ هذا القولَ؛ لافتِضاحِ عَجْزِ المستكبِرينَ أنْ يَنفَعوا أتْباعَهم؛ تَحقيرًا لهم جَزاءً على تَعاظُمِهم الَّذي كانوا يَتعاظَمون به في الدُّنيا. ويحتملُ أنَّ قولَ الضُّعفاءِ ليس مُستعمَلًا في حَقيقةِ الحثِّ على التَّخفيفِ عنهم، ولكنَّه مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ، أي: كُنتم تَدْعُوننا إلى دِينِ الشِّركِ، فكانت عاقبةُ ذلك أنَّا صِرْنا في هذا العذابِ؛ فهلْ تَسْتطيعونَ الدَّفْعَ عنَّا؟! وتَأْكيدُ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا بـ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ بالخبرِ، وليس لِرَدِّ إنكارٍ .
- والاستِفهامُ في قولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ مُستعمَلٌ في الحثِّ واللَّومِ على خِذلانِهم، وتَرْكِ الاهتِمامِ بما همْ فيه مِن عَذابٍ. وجِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الثَّباتِ، أي: هلْ مِن شأْنِكم أنَّكم مُغْنون عنَّا ؟
- وضُمِّنَ مُغْنُونَ معنى: (دافِعون) و(رادُّون)؛ فلذلك عُدِّيَ إلى مفعولٍ، وهو نَصِيبًا، أي: جُزْءًا مِن حَرِّ النَّارِ غيرَ مُحدَّدِ المِقدارِ مِن قُوَّتِها، ومِنَ النَّارِ بَيانٌ لـ نَصِيبًا، كقَولِه تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إبراهيم: 21] ؛ فهم قانِعونَ بكلِّ ما يُخفَّفُ عنهم مِن شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ، وغيرُ طامِعينَ في الخُروجِ منها. ويجوزُ أنْ يكونَ مُغْنُونَ على معناهُ دونَ تَضمينٍ، ويكونَ نَصِيبًا مَنصوبًا على المفعولِ المطلَقِ لِـ مُغْنُونَ، والتَّقديرُ: غَناءً نَصيبًا، أي: غَناءً ما ولو قَليلًا، ومِنَ النَّارِ مُتعلِّقًا بـ مُغْنُونَ، كقولِه تعالى: وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف: 67] . ويجوزُ أنْ يكونَ النَّصيبُ الجزْءَ مِن أزمِنةِ العذابِ؛ فيَكونَ على حَذْفِ مُضافٍ، تَقديرُه: مِن مُدَّةِ النَّارِ .
2- قولُه تعالَى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ لَمَّا كان جَوابُ الَّذين استَكْبَروا للَّذين استُضْعِفوا جاريًا في مَجرى المُحاوَرةِ، جُرِّدَ فِعلُ قَالَ مِن حرْفِ العطْفِ على طَريقةِ المُحاوَرةِ .
- قولُه: إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ فيه تأْكيدُ الكلامِ بـ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ بتَحقيقِه، أو لِتَنزيلِ مَن طالَبوهم بالغَناءِ عنهم مِن عَذابِ النَّارِ، مع مُشاهَدتِهم أنَّهم في العذابِ مِثلُهم، مَنزِلةَ مَن يَحسَبُهم غيرَ واقِعينَ في النَّارِ .
- وفي هذا التَّنزيلِ ضَرْبٌ مِن التَّوبيخِ؛ يَقولون: ألَسْتُم تَرَوْنَنا في النَّارِ مِثلَكم، فكيف نُغْني عنكم ؟!
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ تَتنزَّلُ مَنزِلةَ بَدَلِ الاشتِمالِ مِن جُملةِ إِنَّا كُلٌّ فِيهَا؛ فكِلْتَا الجُملتَينِ جَوابٌ لهم مُؤيِسٌ مِن حُصولِ التَّخفيفِ عنهم. وما في هذه الجُملةِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ مِن عُمومِ تَعلُّقِ فِعلِ الحُكْمِ بيْنَ العِبادِ ما يَجعَلُ هذا البَدَلَ بمَنزلةِ التَّذييلِ، أي: إنَّ اللهَ حكَمَ بيْنَ العِبادِ كلِّهم بجَزاءِ أعْمالِهم، فكان قِسْطُنا مِن الحُكْمِ هذا العذابَ .
3- قولُه تعالَى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا لم يَجِدوا مَساغًا للتَّخفيفِ مِن العذابِ في جانبِ كُبرائِهم، وتَنصَّلَ كُبراؤُهم مِن ذلك، أو اعْتَرَفوا بغَلَطِهم وتَوريطِهم قَومَهم وأنفُسَهم؛ تَمالَأَ الجميعُ على مُحاوَلةِ طلَبِ تَخفيفِ العذابِ بدَعوةٍ مِن خَزَنةِ جهنَّمَ؛ فلذلك أُسنِدَ القولُ إلى الَّذِينَ فِي النَّارِ، أي: جَميعِهم مِن الضُّعفاءِ والَّذين استَكْبَروا .
- وإنَّما قال: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ولمْ يَقُلْ: (الَّذين في النَّارِ لِخَزنَتِها)، مع أنَّه أخصَرُ؛ لأنَّ في ذِكرِ (جهنَّمَ) تَهويلًا وتَفظيعًا، والتَّهويلُ والتَّفخيمُ مِن وجهَينِ؛ أحدُهما: وضْعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ المُضمَرِ ، والثَّاني: ذِكْرُه -وهو شَيءٌ واحدٌ- بظاهرٍ غيرِ الأوَّلِ أفظَعَ منه؛ لأنَّ جهنَّمَ أفظَعُ مِن النَّارِ؛ إذ النَّارُ مُطلَقةٌ، وجهنَّمُ أشَدُّها. وقيل: قال: لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ؛ لأنَّ جهنَّمَ أبعَدُ النَّارِ، فغَدَا خَزَنتُها أعْلى الملائكةِ الموكَّلِينَ بالنَّارِ مَرتبةً، فطلَبَ أهلُ النَّارِ الدُّعاءَ منهم لذلك .
- قولُهم: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ في إضافةِ (رب) إلى ضَميرِ المخاطَبينَ ضَرْبٌ مِن الإغراءِ بالدُّعاءِ، أي: لأنَّكم أقرَبُ إلى استِجابتِه لكمْ، ولَمَّا ظنُّوهم أرْجى للاستِجابةِ سَأَلوا التَّخفيفَ يومًا مِن أزْمِنةِ العذابِ، وهو أنفَعُ لهم مِن تَخفيفِ قوَّةِ النَّارِ الَّذي سَأَلوه مِن مُستكبِريهم .
- وجُزِمَ يُخَفِّفْ في جَوابِ الطَّلبِ؛ لِتَحقيقِ التَّسبُّبِ؛ فيَكونُ فيه إيذانٌ بأنَّ الَّذين في النَّارِ واثِقون بأنَّ خَزَنةَ جهنَّمَ إذا دَعَوُا اللهَ استجابَ لهم .
- و(اليوم) في قولِه: يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ كِنايةٌ عن القِلَّةِ، أي: يُخفِّفْ عنَّا ولو زمَنًا قليلًا، وقولُه: مِنَ الْعَذَابِ بَيانٌ لـ يَوْمًا؛ لأنَّه أُرِيدَ به المِقدارُ، فاحتاجَ إلى البَيانِ .
- واقتِصارُهم في الاستِدعاءِ على ما ذُكِرَ مِن تَخفيفِ قَدْرٍ يَسيرٍ مِن العذابِ في مِقدارٍ قَصيرٍ مِن الزَّمانِ، دونَ رَفْعِه رأْسًا، أو تَخفيفِ قَدْرٍ كَثيرٍ منه في زَمانٍ مَديدٍ؛ لأنَّ ذلك عِندَهم ممَّا ليس في حَيِّزِ الإمكانِ، ولا يَكادُ يَدخُلُ تحتَ أمانِيِّهم .
4- قولُه تعالَى: قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
- قولُه: قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ جَوابُ خَزَنةِ جهنَّمَ لهم بطَريقِ الاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّوبيخيِّ التَّقريريِّ، مُرادٌ به: إلْزامُ الحُجَّةِ، وإظْهارُ سُوءِ صَنيعِهم بأنفُسِهم؛ إذ لمْ يَتَّبِعوا الرُّسلَ حتَّى وَقَعوا في هذا العذابِ، وتَنديمُهم على ما أضاعُوه في حَياتِهم الدُّنيا مِن وَسائلِ النَّجاةِ مِن العِقابِ، وأنَّهم خَلَّفوا وَراءَهم أوقاتَ الدُّعاءِ والتَّضرُّعِ، وعطَّلوا الأسبابَ الَّتي يَسْتجيبُ اللهُ لها الدَّعَواتِ، وهو كَلامٌ جامعٌ يَتضمَّنُ التَّوبيخَ، والتَّنديمَ، والتَّحسيرَ، وبَيانَ سَبَبِ تَجنُّبِ الدُّعاءِ لهم، وتَذكيرَهم بأنَّ الرُّسلَ كانت تُحذِّرُهم مِن الخُلودِ في العذابِ .
- وزِيادةُ فِعلِ الكَونِ في أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ؛ للدَّلالةِ على أنَّ مَجِيءَ الرُّسلِ إلى الأُمَمِ أمْرٌ مُتقرِّرٌ مُحقَّقٌ؛ لِمَا يدُلُّ عليه فِعلُ الكَونِ مِن الوُجودِ بمَعنى التَّحقُّقِ، وأمَّا الدَّلالةُ على أنَّ فِعلَ الإتيانِ كان في الزَّمنِ الماضي فهو مُستفادٌ مِن (لم) النَّافيةِ في الماضي .
- قَولُه: بِالْبَيِّنَاتِ لم يَقُلْ: «بالآياتِ البَيِّناتِ»، بلْ أتَى بالوصفِ، وطَوَى ذِكْرَ المَوصوفِ؛ لأنَّ المهمَّ هو الوصفُ؛ لأنَّ الوصفَ هو الَّذي يُبَيِّنُ الأشياءَ .
- وجُملةُ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ يجوزُ أنْ تكونَ مِن كَلامِ خَزَنةِ جهنَّمَ تَذْييلًا لِكلامِهم يُبيِّنُ أنَّ قولَهم: فَادْعُوا مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ على الخَطأِ، أي: دُعاؤكم لم يَنفَعْكم؛ لأنَّ دُعاءَ الكافرينَ في ضَلالٍ، ففيه إقناطٌ لهم عن الإجابةِ، والواوُ اعتِراضيَّةٌ.
ويجوزُ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ مِن كَلامِ اللهِ تعالى تَذْييلًا واعتِراضًا، والكافِرون في النَّارِ لم يَسَعْهم إلَّا الاعتِرافُ بمَجيءِ الرُّسلِ إليهم بالبيِّناتِ، فقالوا: بَلَى، فرَدَّ عليهم خَزَنةُ جهنَّمَ بالتَّنصُّلِ مِن أنْ يَدْعُوا اللهَ بذلك، إلى إيكالِ أمْرِهم إلى أنفُسِهم بقولِهم: فَادْعُوا تَفريعًا على اعتِرافِهم بمَجيءِ الرُّسلِ إليهم بالبيِّناتِ، ومعنى تَفريعِه عليه هو أنَّه مُفرَّعٌ عليه باعتبارِ معناه الكِنائيِّ الَّذي هو التَّنصُّلُ مِن أنْ يَدْعُوا لهم، أي: كما تَولَّيتُم الإعراضَ عن الرُّسلِ استِبْدادًا بآرائِكم، فتَولَّوُا اليَومَ أمْرَ أنفُسِكم، فادْعُوا أنتم؛ فإنَّ (مَن تَولَّى قُرَّها يَتولَّى حَرَّها ، فالأمْرُ في قولِه: فَادْعُوا مُستعمَلٌ في الإباحةِ أو في التَّسويةِ، وفيه تَنبيهٌ على خَطأِ السَّائلينَ في سُؤالِهم .
- قولُه: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، أي: وما دُعاؤُكم إلَّا في ضَلالٍ، ووُضِعَ الظَّاهرُ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ للإشعارِ بالعِلِّيَّةِ، وأنَّ المانعَ هو صِفةُ الكفْرِ ، فأتَى بالوصفِ؛ تعليقًا للحكمِ به .
- وجاءتْ هذه الأخبارُ مُعبَّرًا عنها بلَفظِ الماضي الواقعِ؛ لِتَيقُّنِ وُقوعِها .