موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (163-166)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غريب الكلمات:

زَبُورًا: الزَّبور هو الكتاب المنزَّل على داود عليه السَّلام، وهو في الأصل: كلُّ كتابٍ ذو حِكمة، من الزَّبر، وهو الكِتابة والقِراءة، وقيل: مِن زَبَرَه، إذا دَفَعه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1 /243)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1 /495)، ((المفردات)) للراغب (ص: 377)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1 /56)، ((التبيان)) لابن الهائم (1 /133). .
حُجَّةٌ: دَلالة مبيِّنة للمَحجَّة، وبُرهان وسُلطان يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 219)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 24). .

مشكل الإعراب:

1- قوله: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ:
رُسُلًا: قِراءة الجُمهور بالنَّصب في الموضِعين، وفي نصْبه ثلاثة أوجه: الأوَّل: أنَّه منصوبٌ على الاشتغال، أي: بفِعل محذوفٍ، تقديرُه: وقَصصنا رُسلًا، على حَذْف مضاف، أي: قصصنا أخبارَهم، فيكون قَدْ قَصَصْنَاهُمْ - ومثله لَمْ نَقْصُصْهُمْ - لا محلَّ له؛ لأنَّه مفسِّرٌ لذلك العاملِ المضمَر (قصصنا). الثَّاني: أنه منصوبٌ عطفًا على معنى الآية قبلها أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ، أي: أَرسَلنا ونبَّأْنا نوحًا ورَسُلًا. الثالث: أنَّه منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به لفِعل محذوف، والتقدير: (وأَرْسَلْنا رسلًا)، وعلى الوجهين الأخيرين فيكون قَدْ قَصَصْناهم - ومثله لَمْ نَقْصُصْهُمْ - في محلِّ نصب؛ لأنَّه صِفةٌ لـ رُسُلًا. وعلى قِراءة ورسلٌ بالرَّفْع في الموضعين؛ فيكون مبتدأ، وجملة قَدْ قَصَصْناهم في محلِّ رفع خبر؛ وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ للعطف أو للتَّفْصيل [2677] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/213)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/409)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/159-160)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/236). .
2- قوله: رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ:
رُسُلًا: منصوبٌ على أنَّه بَدَلٌ من قولِه: وَرُسُلًا قد قَصَصْنَاهُمْ في قِراءة النَّصب. أو مَنصوبٌ على القَطع المراد منه المدحُ، وتقديرُه: أعني - أو أمدح - رُسلًا. وقيل: منصوبٌ على الحالِ الموطِّئة [2678] معنى الحال الموطِّئة، أنَّها ليستْ مقصودةً، إنَّما المقصودُ صِفتُها، مِثل: (مررت بزيدٍ رجلًا صالحًا)، فرجلًا حالٌ وليستْ مقصودةً، إنَّما المقصودُ وَصْفُها. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/161). ، وقيل: منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به لفِعل محذوف، أي: أَرْسَلْنا رسلًا [2679] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/213)، ((تفسير الزمخشري)) (1/591)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/161)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/236). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، بأنَّه أَوْحى إليه مِثلَ ما أوحى إلى نوحٍ والأنبياء مِن بعدِه، وأوحى اللهُ إلى إبراهيم وإسماعيل، وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، وعيسى، وأيُّوب ويُونسَ، وهارون وسُليمان، عليهم جميعًا السَّلام، وأعطى سبحانه وتعالى داودَ عليه السَّلام كتابًا اسمُه الزَّبور.
وأخبره تعالى أنَّه أَوْحى إلى رُسلٍ قد قص عليه نبأهم في القرآن قبلَ أن تنزلَ هذه الآية، وأنَّ هناك رسلًا غيرَهم قد أَوْحى الله إليهم، لكن لم يقصص عليه أخبارهم في كتابه، وقد كَلَّم الله موسى تكليمًا بدون واسطةٍ.
هؤلاء الرُّسل أرسلهم اللهُ إلى عِباده مبشرين لأهل الطاعة بسعادة الدَّارين، ومنذرين للعصاةِ والمكذِّبين بالشَّقاء في الدُّنيا والآخرة؛ وذلك حتى لا يكونَ للناس أيُّ عُذرٍ يحتجُّون به بعدَ إرسال الرسل، وكان الله عزيزًا حكيمًا.
ثم يقول الله لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنْ يكفُرْ بك يا محمَّدُ مَن كفَر، فإنَّ الله يَشهَدُ بما أَنزله عليك من كتاب عظيم، وهو القُرآن الكريم، فإنَّه أَنزله تعالى بعِلمه، والملائكةُ كذلك يَشهدونَ على صِدق ما جِئتَ به؛ فلا يَحْزُنْكَ تكذيبُ مَن كذَّب، ولا كُفرُ مَن كَفَر، وحَسْبُك بربِّك تعالى شاهدًا على صِدق ما أَتيتَ به.

تفسير الآيات:

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى الله تعالى أنَّ اليهود سألوا الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُنزِّل عليهم كتابًا من السَّماء، وذكَر تعالى بعده أنَّهم لا يطلُبون ذلك لأجْل الاسترشاد، ولكن لأجْل العِناد واللِّجاج، وحكى أنواعًا كثيرةً من فضائحهم وقبائحهم، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا المقام- شَرَع سبحانه في الجوابِ عن تِلك الشبهة، بأنه لم يكن عدم إنزال الكتاب على هؤلاء الأنبياء المذكورين في الآية دفعة واحدة مكتوبًا بخطٍّ سماويٍّ قادحًا في نبوَّتهم، بل كفى في إثبات نبوَّتهم ظهورُ نوعٍ واحد من أنواع المعجزات عليهم، علمنا أنَّ هذه الشبهة زائلةٌ، وأنَّ إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/266)، ((تفسير الشربيني)) (1/345). ، فقال تعالى:
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
أي: إنَّا أعلمناك- يا محمدُ- بشرعِنا، كما أعلمنا أيضًا نوحًا ومَن جاء بعدَه مِن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/685)، ((تفسير ابن كثير)) (2/469)، ((تفسير السعدي)) (ص: 214)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/477-478). قال ابن عاشور: (والتشبيه في قوله: كما أوحينا إلى نوح تشبيهٌ بجنسِ الوحي وإن اختلفت أنواعه، فإنَّ الوحي إلى النبيء صلى الله عليه وسلم كان بأنواع من الوحي ... بخلاف الوحي إلى غيره ممن سمَّاهم الله تعالى فإنَّه يحتمل بعضا من الأنواع، على أنَّ الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم كان منه الكتاب القرآن، ولم يكن لبعض من ذكر معه كتاب) ((تفسير ابن عاشور)) (6/31). .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذكَر سبحانه اشتراكَ النبيين في وحيه إليهم، خصَّ بعضهم بالذكر يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 214). ، فقال:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
أي: وأعلمنا بشرعنا أيضا كلًّا مِن إبراهيمَ وإسماعيلَ، وإسحاقَ ويعقوبَ والأنبياء من ذرية يعقوب، وعيسى، وأيُّوبَ ويونسَ وهارون وسليمانَ عليهم الصَّلاة والسَّلام يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 214). .
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا
أي: وأَعْطينا داودَ عليه السَّلام كتابًا يُسمَّى بالزَّبور يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/687-688)، ((تفسير ابن كثير)) (2/469)، ((تفسير السعدي)) (ص: 214-215)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/479). .
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
أي: وأَوْحينا إلى رُسلٍ قد أتينا على ذِكرهم لك في القُرآن من قبلِ نُزولِ هذه الآية يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/688)، ((تفسير ابن كثير)) (2/469)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/480). .
وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
أي: وأَوْحينا أيضًا إلى رُسلٍ آخرين لم نَأتِ على ذِكرهم لك في القُرآن يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/688)، ((تفسير ابن كثير)) (2/469)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/480). .
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
أي: وخاطَب اللهُ عزَّ وجلَّ بكلامِه موسى عليه السَّلام دون واسطةٍ، بكلامٍ واضح بحرف وصوت، سمعه منه موسى عليه السلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/689)، ((تفسير السعدي)) (ص: 215)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/482-483). .
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
أي: أَرسلتُهم رسلًا إلى عِبادي مبشِّرين مَن أطاعني وآمَن برُسلي بالسَّعادةِ الدنيويَّة والأُخرويَّة، ومُحذِّرين مَن عصاني وكذَّب رُسلي بشقاوةِ الدَّارين يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/692-693)، ((تفسير ابن كثير)) (2/475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 215)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/483-484). .
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
أي: لئلَّا يَبقَى لمعتذرٍ عُذرٌ؛ فلا يحتجُّ مَن كفر بالله تعالى وضلَّ عن سبيله بأنَّ الرِّسالة لم تبلغْه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/693)، ((تفسير ابن كثير)) (2/475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 215)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/484). .
كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه: 134] .
وقال سبحانه: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47] .
وعن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((ولا أَحدَ أحبُّ إليه العذرُ من اللهِ؛ ومن أجْلِ ذلك بعَثَ المبشِّرين والمنذرين... )) رواه البخاري (7416) واللفظ له، ومسلم (1499). .
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((وليسَ أحدٌ أحبَّ إليه العذرُ من اللهِ؛ مِن أجْلِ ذلك أَنزلَ الكتابَ، وأرسل الرُّسلَ )) رواه مسلم (2760). .
وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى ذُو عزَّة، ومِن عِزَّته: قَهرُه وانتقامُه ممَّن كفَر به وعصاه بَعدَ بلوغِ رِسالتَه إليه، وهو ذو حِكمةٍ سبحانه فيَضع كلَّ شيءٍ في موضعِه اللَّائق به، ومِن حِكمته عزَّ وجلَّ: أنْ أَرْسل إلى عِبادِه الرُّسلَ، وأَنزل عليهم الكتُبَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/693)، ((تفسير السعدي)) (ص: 215). .
لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (166)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى أنَّه أَوْحى إلى رسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، كما أَوْحى إلى إخوانِه من المُرسَلين عليهم السَّلام- أخبَر هنا بشهادتِه تعالى على رِسالتِه، وصِحَّة ما جاء به يُنظر: ((تفسير السعدي-سورة النساء)) (ص: 215). ، فقال:
لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ
أي: وإنْ كفَرَ بك مَن كفَر يا محمَّد، فالله تعالى يَشهَدُ لك بأنَّه أَنزل عليك القرآنَ العظيم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/694)، ((تفسير ابن كثير)) (2/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 215)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/487). .
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
أي: إنَّ إنزالَ الله تعالى للقرآنِ صادرٌ عن عِلم؛ فيعلم بماذا نزَلَ وكَيف نزَل، وعلى مَن نزَل، ويعلم حالةَ الذي أَنزله عليه، وكذلك نزَلَ القرآنُ مشتملًا على عُلومٍ إلهيَّة، وأحكامٍ شرعيَّة، وأخبارٍ غَيبيَّة، ممَّا هو مِن عِلم الله تعالى الذي أراد أن يُطلع العِبادَ عليه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/694)، ((تفسير ابن كثير)) (2/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 215)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/490). .
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ
أي: ويَشهد لك بصِدقِ رِسالتك، وصِحَّة ما أُنزل عليك، ملائكةُ الله جلَّ وعلا؛ فلا يَحزُنْك تكذيبُ مَن كذَّبك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/694)، ((تفسير ابن كثير)) (2/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 215)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/487). .
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
أي: وحَسْبُك بالله شاهدًا على صِدقك دون مَن سواه مِن خَلْقِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/694)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/488). .

الفوائِد التربويَّة:

1- قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ...، فكلُّ محسنٍ له من الثَّناء الحسَن بين الأنام بحسَبِ إحسانِه، والرسل- خصوصًا المسمَّون في هذه الآية- في المرتبةِ العُليا من الإحسان يُنظر: ((تفسير السعدي-سورة النساء)) (ص: 214). .
2- أنَّه يَنبغي للإنسانِ الدَّاعي إلى الله أن يُعامِل الناسَ بما كانتْ تُعامِلُ به الرُّسلُ أقوامَها؛ فتارةً يُبشِّر، وتارةً يُنذر؛ لأنَّه إنْ سلك سبيلَ البشارة دائمًا أَدخلَ الناسَ في الإرجاء، وإنْ سلَك سبيلَ الإنذار دائمًا أَدْخل الناس في القُنوط واليأس؛ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/485). .
3- بيانُ رَحمةِ الله تعالى بعِباده؛ حيث أَرْسل إليهم الرُّسلَ يُعلِّمونهم ويُرشدونهم، ويَهدونهم إلى دِين الله، ولولا الرحمةُ ما أَرسلَ إليهم، قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/486). .

الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- في ذِكر هؤلاء الرُّسل وتَعدادهم من التنويه بِهم، والثناء الصَّادق عليهم، وشَرْح أحوالهم ما يزدادُ به المؤمنُ إيمانًا بهم، ومحبَّةً لهم، واقتداءً بهَدْيهم، واستنانًا بسُنَّتهم، ومعرفةً بحقوقهم، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ يُنظر: ((تفسير السعدي-سورة النساء)) (ص: 214). .
2- خَصَّ بعضَ النبيِّين الذين جاؤوا من بعد نوح بالذِّكر؛ لشهرتِهم، وعلوِّ مقامِهم عند أهل الكتاب، فقال: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/56). .
3- أنَّ أوَّل الرُّسُل نوحٌ عليه السَّلام؛ لقوله: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وهذا هو الحقُّ، وليس قَبلَه رسول، أمَّا النبوَّة فكانتْ قبل نوح؛ فإنَّ آدمَ عليه الصلاة والسَّلام كان نبيًّا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/480). .
4- في قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ بدأ اللهُ تعالى بذِكر نوحٍ؛ لأنَّه أقدمُ نبيٍّ مُرسَل ذُكر في كتُب أهلِ الكِتاب، وإنَّما تنهض الحُجَّةُ على الناس إذا كانت مُقدِّماتها معروفةً عندهم يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/56). .
5- قولُ الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ... وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا عُطفت جملة وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا على إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، ولم يُعطف اسم داود على بقيَّة الأسماء المذكورة قبله؛ للإيماءِ إلى أنَّ الزبور مُوحًى بأنْ يكون كتابًا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/35). ، كسائرِ الكتبِ المنزلةِ.
6- في قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أنَّ الله تعالى قصَّ أنباءَ بعضِ الرُّسُلِ ولم يقصَّ أنباء آخرين؛ لبعدهم عن منطقةِ رِسالة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/482). .
7- إثباتُ التعليل لأحكام الله القدريَّة، كما هو ثابتٌ في الأحكام الشرعيَّة، ويُؤخذ من لام التَّعليل في قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وهذا ثابتٌ بأدلَّة كثيرة، أوصلها بعضُهم إلى ألف دليلٍ على أنَّ أفعال الله وأحكامه مُعلَّلة، ولو لم يكُن مِن ذلك إلَّا اسم الله (الحَكيم)، لكان هذا كافيًا؛ فكلُّ ما فَعَله فلِحِكمة، وكل ما شرَعه فلِحِكمة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/485). .
8- أنَّ الله تعالى يحبُّ الإعذارَ من الناس؛ لأنَّه أرسل الرسل؛ قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/485). .
9- الآية لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ مُطلقَة، والمتبادر منها أنَّ مِن حِكمة إرسال الرُّسل قَطْعَ حُجَّة الناس واعتذارهم بالجهل، عندما يُحاسبهم الله تعالى في الآخِرة، ويَقضي بعذابهم، ومفهومُه ومفهومُ سائرِ الآيات: أنَّه لولا إرسالُ الرُّسل، لكان للناس أن يحتجُّوا في الآخِرة على عذابها، وعلى عذاب الدنيا الذي كان أصابَهم بظُلمهم. واستدلَّ بها كثيرٌ من العلماء على امتناع مؤاخذةِ الله الناس وتعذيبهم على تَرْكِ الهداية التي لا تُعرَف إلَّا من الرُّسلِ عليهم السَّلام، ويستدلُّون بآيةِ الإسراء وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] على نجاةِ أهلِ الفَترة وكلِّ مَن لم تَبلُغْه الدَّعوة يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/60). .
10- يُستفادُ من قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ العُذر بالجَهل حتى في أصول الدِّين؛ لأنَّ الرسل يأتون بالأصول والفروع، فإذا كان الإنسانُ جاهلًا لم يأتِه رسولٌ، فله حُجَّةٌ على الله، ولا يمكن أن تثبُتَ الحُجَّةُ على الله إلَّا إذا كان معذورًا، لكن العذر بالجهل ليس على إطلاقِه من كلِّ وجهٍ، فيُشترط عدمُ التَّفريط في التعلُّم، فإنْ كان مفرِّطًا فلا عذر يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/485). .
11- إثبات الشَّهادة لله، من قوله: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ، وقوله: وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، وهو سبحانه وتعالى شاهدٌ على كلِّ أعمال الخلق، وعلى كلِّ ما يَحدُث في السَّماء والأرض، بل على ما لا يَحدُث لو حدَث كيف كان يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/488). .
12- يُستفادُ من قوله تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أنَّ إنزال الله للقرآن كان بعِلمِه، فلا يتطرَّق إليه أيُّ خلل؛ لأنَّه يعلم متى نزل، وبماذا نزل، وكيف نزل، وعلى مَن نزل، ولا يمكن أن يتطرَّق اختلافٌ أو ادِّعاءُ نقْص أو ادِّعاء زيادة؛ لأنَّ الله أنزله بعِلمه؛ أي: أن إنزاله مقرونٌ بعلم الله، فمَن ادَّعى أنَّ فيه زيادةً أو نقصًا، فقد رمى الله تعالى بالجهل؛ لأنَّ الله أنزله بعِلِمه سبحانه، وكذلك نزَل القرآنُ بما يعلم الله تعالى أنَّه مُصلِحٌ للخلق يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/490). .
13- في قوله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ أنَّ الملائكة ذاتُ عقول، فهي تعلمُ، وتسمع، وتقول، خلافًا لِمَن قال: إنَّهم لا عقولَ لهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/490). .
14- في قوله تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ عنايةُ الله سبحانه وتعالى برسولِه، وبما أوحاه إليه؛ حيث ذكَر أنَّ الله يشهد به، وكذلك الملائكة، وكثرةُ سِياق الأدلَّة على الشيء تدلُّ على العناية به، وهو كذلك يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/490). .
15- قال تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ الأمورُ العظيمة لا يُستشهد عليها إلَّا الخواصُّ، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وكفَى بالله شهيدًا يُنظر: ((تفسير السعدي-سورة النساء)) (ص: 215). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فيه التأكيد بـ(إنَّ)؛ للاهتمامِ بهذا الخبر، أو لتنزيل المردود عليهم منزلةَ مَن يُنكر كيفيةَ الوحي للرُّسل يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/31). .
2- قوله: كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ فيه: تشبيهٌ بجِنس الوحي، وإنِ اختلفتْ أنواعه؛ فإنَّ الوحي إلى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان بأنواع من الوحي، ورد بيانُها في حديثِ عائشةَ في الصحيحِ عن سؤالِ الحارثِ بنِ هشامٍ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: كيف يأتيك الوحي رواه البخاري (2)، ومسلم (2333). ؟ بخلاف الوحي إلى غيره ممَّن سماهم الله تعالى؛ فإنَّه يحتمل بعضًا من الأنواع، على أنَّ الوحي لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان منه الكتابُ (القرآن) ولم يكن لبعضِ مَن ذُكِر معه كتاب يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/31). .
3- قوله: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا:
غيَّر الأسلوب: فعدَل عن العَطفِ إلى ذِكر فِعْلٍ آخَر - حيث لم يقل: (وإلى موسى)، أي: وأَوْحينا إلى موسى-؛ لأنَّ لهذا النوعِ من الوحي مزيدَ أهميَّة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/35). .
وتَكْلِيمًا مصدر مؤكِّد لفِعله، والتوكيد بالمصدر يَرجِع إلى تأكيد النِّسبة وتحقيقها مِثل (قد) و(إن)، وقد أَكَّد هنا بالمصدر؛ دَلالةً على وقوع الفِعل على حقيقتِه لا على مجازِه؛ فمعنى قوله: تَكْلِيمًا هنا: أنَّ الله تعالى كلَّم موسى كلامًا حقيقيًّا، بحيث لا يحتمل أنَّ الله أرسل إليه جبريلَ بكلام، أو أَوْحى إليه في نفْسِه يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/38)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/482). . والقاعدةُ: أنَّ التوكيدَ بالمصدرِ يَنفي احتمالَ المجازِ ويَرْفَعُ تَوهُّمَه يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسَّبت (1/253)، وينظر أيضًا: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/389). .
4- قولُه تعالى: بَعْدَ الرُّسُلِ:
لَمَّا كان المرادُ استغراقَ النَّفي لجميع الزمان المتعقَّب للإرسال، أسقط الجارَّ، فقال: بَعْدَ ولم يقل: (مِنْ بَعْد)، أي: انتفى ذلك انتفاءً مستغرقًا لجميعِ الزَّمان الذي يوجد بعد إرسالِ الرُّسل وتبليغهم للناس يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/513). .
وفيه: إظهارٌ في مقام الإضمار في قوله: بَعْدَ الرُّسُلِ - حيث لم يقُلْ: (بعدهم) -؛ للاهتمام بهذه القضية، وللدلالة على استقلالها في الدَّلالة على معناها؛ حتى تسير مسرى الأمثال يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/43). .
5- قوله: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ فيه: استدراك عن مفهوم ما قبله؛ لأنَّ ما تقدَّم من قوله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ مسوقٌ مساق بيان تعنُّتِهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصِدق الرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وصِحَّة نِسبة القرآن إلى الله تعالى؛ فكان هذا المعنى يستلزمُ أنَّهم يأبون من الشهادة بصِدق الرسول، وأنَّ ذلك يُحزن الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فجاء الاستدراكُ بقوله: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ، أي: لم يشهدْ أهلُ الكتاب، لكن اللهُ شَهِدَ، وشهادةُ الله خيرٌ من شهادتهم يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/110)، ((تفسير أبي حيان)) (4/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/44). .