موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (57-65)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

يَصِدُّونَ: أي: يَضِجُّونَ، وقيل: يَضْحَكون، يُقالُ: صَدَّ يَصِدُّ، وذلك إذا ضَجَّ [614] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 400)، ((تفسير ابن جرير)) (20/621)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 524)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/282)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 976)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 346)، ((تفسير ابن كثير)) (7/233)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 291)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 653). .
خَصِمُونَ: أي: شَدِيدو الخُصومةِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على المُنازَعةِ [615] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/628)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/187)، ((البسيط)) للواحدي (20/68)، ((المفردات)) للراغب (ص: 285). .
يَخْلُفُونَ: أي: يَخلُفُ بَعضُهم بعضًا، ويَعمُرونَ الأرضَ بدَلًا منكم، وأصلُ (خلف): يدُلُّ على مَجيءِ شَيءٍ بعدَ شَيءٍ يقومُ مَقامَه [616] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/630)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((البسيط)) للواحدي (20/69)، ((المفردات)) للراغب (ص: 294). .
لَعِلْمٌ: أي: لَعَلامةٌ ودَليلٌ، وأصلُ (علم): يدُلُّ على أثَرٍ بالشَّيءِ يتمَيَّزُ به عن غَيرِه [617] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/109،110)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 346). .
فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا: أي: لا تُكَذِّبوا بها، ولا تَشُكُّوا فيها، مِن المِرْيةِ: وهي التَّردُّدُ في الأمرِ، وهو أخَصُّ مِنَ الشَّكِّ، وأصلُه مِن: مَرَيْتُ النَّاقةَ: إذا مَسَحْتَ ضَرعَها للحَلبِ [618] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 434)، ((البسيط)) للواحدي (20/70)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 97). .
الْأَحْزَابُ: أي: الطَّوائِفُ والفِرَقُ، والحِزبُ: الجماعةُ مِن النَّاسِ، أو: جماعةٌ فيها غِلَظٌ، والطَّائفةُ مِن كلِّ شيءٍ حزبٌ، وأصلُ (حزب): يدُلُّ على تَجَمُّعِ الشَّيءِ [619] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/55)، ((المفردات)) للراغب (ص: 231)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/399)، ((تفسير ابن كثير)) (5/231)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 280). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُخبِرًا عن تَعَنُّتِ المشركينَ، وتَعَمُّدِهم العِنادَ والجدلَ: ولَمَّا ضَرَب المُشرِكونَ عيسى ابنَ مريمَ مَثلًا لآلهتِهم الَّتي يَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ تعالى، وجادَلوا بعبادةِ النَّصارى إيَّاه؛ إذا قَومُك -يا مُحمَّدُ- تَرتَفِعُ لهم جَلَبةٌ وضَجيجٌ؛ فَرَحًا وضَحِكًا؛ لِظَنِّهم بأنَّهم قد ألزَموك بحُجَّتِهم الواهيةِ! وقالوا: لقد أخبَرْتَنا بأنَّ عيسى بنَ مَريمَ رَسولٌ مِن رُسُلِ اللهِ، وأنَّه خَيرٌ مِن آلهتِنا، فإنْ كان في النَّارِ يومَ القيامةِ؛ لِما تَتْلوه علينا مِن قَولِ رَبِّك: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] ؛ فقد رَضِينا أن نكونَ نحن وآلهتُنا في النَّارِ معه!
فلا تهتَمَّ -يا مُحمَّدُ- بما قالوه؛ فما ضَرَبوا لك هذا المَثَلَ بعيسى إلَّا مِن أجْلِ مُجادَلتِك بالباطِلِ، بل هم قَومٌ شَدِيدو الخُصومةِ والجِدالِ بالباطِلِ، لا يُريدونَ الحَقَّ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى حقيقةَ عيسى عليه السَّلامُ، فيقولُ: ما عيسى إلَّا عَبدٌ مِن عِبادِنا أنعَمْنا عليه بنِعمةِ النُّبُوَّةِ، وجعَلْناه آيةً عَجيبةً لبني إسرائيلَ.
ثمَّ يقولُ تعالى مبيِّنًا كمالَ قدرتِه: ولو نشاءُ لَجعَلْنا منكم مَلائِكةً يَخلُفونَ فيها، وإنَّ نُزولَ عيسى ابنِ مَريمَ في آخِرِ الزَّمانِ لَعَلامةٌ على قُربِ مَجيءِ السَّاعةِ؛ فلا تَشُكُّوا -أيُّها النَّاسُ- في مجيءِ القيامةِ، وأطيعوني؛ فهذا الَّذي أدعوكم إليه طَريقٌ مُستقيمٌ مُوصِلٌ إلى الحَقِّ، ولا يَصرِفَنَّكم الشَّيطانُ عن هذا الصِّراطِ المُستَقيمِ؛ إنَّ الشَّيطانَ لكم عَدُوٌّ ظاهِرُ العَداوةِ.
ثمَّ يَحكي الله تعالى جانبًا مِن قصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ معَ قَومِه، فيقولُ: ولَمَّا جاء عيسى بالدَّلائِلِ على صِدقِه قال: قد جِئتُكم بالحِكمةِ، ولِأُبَيِّنَ لكم بعضَ الَّذي تَختَلِفونَ فيه، فاتَّقوا اللهَ بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نَواهيه، إنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعبُدوه وَحْدَه، هذا طَريقٌ مُستَقيمٌ لا اعوِجاجَ فيه.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى موقفَ أهلِ الكتابِ مِن دعوةِ عيسَى عليه السَّلامُ، فيقولُ: فاختَلَفَت فِرَقُ اليَهودِ والنَّصارى في عيسى؛ فكَفَر به اليَهودُ، وغلا فيه النَّصارى، فوَيلٌ لأولئك الكُفَّارِ المُختَلِفينَ في شأنِ عيسى مِن عَذابِ يَومِ القيامةِ!

تفسير الآيات:

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى ذكَرَ أنواعًا كثيرةً مِن كُفْريَّاتِ المُشرِكينَ في هذه السُّورةِ، وأجاب عنها بالوُجوهِ الكَثيرةِ؛ فأوَّلُها: قَولُه تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا [الزخرف: 15] ، وثانيها: قَولُه تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19] ، وثالثُها: قَولُه تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف: 20] ، ورابِعُها: قَولُه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وخامِسُها: هذه الآيةُ هنا [620] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/638، 639). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى طَرَفًا مِن قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ، ذَكَرَ طَرَفًا مِن قِصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ [621] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/384). .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لِقُرَيشٍ: يا مَعشَرَ قُرَيشٍ، إنَّه ليس أحَدٌ يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ فيه خَيرٌ -وقد عَلِمَتْ قُرَيشٌ أنَّ النَّصارى تَعبُدُ عيسى بنَ مَريمَ، وما تَقولُ في مُحمَّدٍ [622] أي: وما تقولُ النَّصارى في محمَّدٍ مِن عدَمِ تصديقِهم بنُبوَّتِه. يُنظر: ((الفتح الرباني)) للساعاتي (18/266). -، فقالوا: يا محمَّدُ، ألَسْتَ تَزعُمُ أنَّ عيسى كان نبيًّا وعَبدًا مِن عِبادِ اللهِ صالِحًا؟! فلَئِنْ كُنتَ صادِقًا فإنَّ آلهتَهم لَكَما تقولونَ! قال: فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) [623] أخرجه أحمد (2918) واللَّفظُ له، والطحاوي في ((شرح مُشْكِل الآثار)) (987)، والطبراني (12/154) (12740). صحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/329)، وحَسَّن إسنادَه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3208)، وشُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5/86). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((جاء عبدُ اللهِ بنُ الزِّبَعْرَى إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا مُحمَّدُ، تَزعُمُ أنَّ اللهَ أنزل عليك هذه الآيةَ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] ، فقد عُبِدَت الشَّمسُ والقَمَرُ، والملائِكةُ وعُزَيرٌ وعيسى صلواتُ اللهِ عليهم، أوَكُلُّ هؤلاء في النَّارِ مع آلهتِنا؟! فأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] ، ونَزَلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) [624] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (988) واللَّفظ له، والطبراني (12/153) (12739)، والحاكم (3449). صَحَّح إسنادَه الحاكمُ، وابنُ القَيِّم في ((شفاء العليل)) (1/123)، وحَسَّن الحديثَ ابنُ حجر في ((موافقة الخُبْرِ الخَبَر)) (2/173)، وقوَّى إسنادَه شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (988). قال ابنُ عاشور: (لا يُناكِدُ هذا الوَجهَ إلَّا ما جرى عليه عَدُّ السُّوَرِ في ترتيبِ النُّزولِ مِن عَدِّ سورةِ الأنبياءِ -الَّتي كانت آيتُها سَبَبَ المُجادَلةِ- مُتأخِّرةً في النُّزولِ عن سُورةِ الزُّخرُفِ، ولعَلَّ تصحيحَ هذا الوَجهِ عِندَهم يَكُرُّ بالإبطالِ على مَن جَعَل سورةَ الأنبياءِ مُتأخِّرةً في النُّزولِ عن سُورةِ الزُّخرُفِ، بل يَجِبُ أن تكونَ سابِقةً؛ حتَّى تكونَ هذه الآيةُ مُذَكِّرةً بالقِصَّةِ الَّتي كانت سَبَبَ نُزولِ سورةِ الأنبياءِ، وليس ترتيبُ النُّزولِ بُمتَّفَقٍ عليه، ولا بمُحَقَّقِ السَّنَدِ، فهو يُقبَلُ منه ما لا مُعارِضَ له، على أنَّه قد تَنزِلُ الآيةُ ثمَّ تُلحَقُ بسُورةٍ نَزَلت قبْلَها، فإذا رُجِّحَ أن تكونَ سورةُ الأنبياءِ نزَلَت قبْلَ سُورةِ الزُّخرفِ كان الجَوابُ القاطِعُ لابنِ الزِّبَعْرَى في قَولِه تعالى فيها: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] ؛ لأنَّه يعني أنَّ عَدَمَ شُمولِ قَولِه: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] لعيسى معلومٌ لِكُلِّ مَن له نظَرٌ وإنصافٌ؛ لأنَّ الحُكمَ فيها إنَّما أُسنِدَ إلى مَعبوداتِ المُشرِكينَ لا إلى معبودِ النَّصارى... ويكونُ الجوابُ المذكورُ هنا في سُورةِ الزُّخرُفِ بقَولِه: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا جوابًا إجماليًّا، أي: ما أرادوا به إلَّا التَّمويهَ؛ لأنَّهم لا يخفى عليهم أنَّ آيةَ سُورةِ الأنبياءِ تُفيدُ أنَّ عيسى ليس حَصَبَ جَهنَّمَ، والمقامُ هنا مقامُ إجمالٍ؛ لأنَّ هذه الآيةَ إشارةٌ وتذكيرٌ إلى ما سَبَق مِنَ الحادثةِ حينَ نُزولِ آيةِ سُورةِ الأنبياءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/237، 238). .
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ يَصِدُّونَ بكَسرِ الصَّادِ، قيل معناها: يَضِجُّونَ ويَصيحونَ فَرَحًا. وقيل: يَضحَكونَ [625] قرأ بها ابنُ كثير، وأبو عَمرٍو، وعاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/369). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 400)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 322)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/367)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/189)، ((تفسير ابن كثير)) (7/233)، ((تفسير الشوكاني)) (4/642). قال ابن قتيبة: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ يَضِجُّون، يُقالُ: صَدَدتُ أصِدُّ صَدًّا: إذا ضَجَجْتَ. و«التَّصدِيةُ» منه، وهو: التَّصفيقُ). ((غريب القرآن)) (ص: 400). وقال ابن كثير: (قال غيرُ واحدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، ومُجاهِد، وعِكْرِمة، والضَّحَّاك، والسُّدِّي: يَضحَكونَ، أي: أُعجِبوا بذلك). ((تفسير ابن كثير)) (7/233). .
2- قِراءةُ يَصُدُّونَ بضَمِّ الصَّادِ، قيل معناها: يُعرِضونَ. وقيل: القِراءتانِ بمعنًى واحدٍ، وهو: يَضِجُّونَ. وقيل: القِراءتانِ بمعنى يَضحَكونَ [626] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/369). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 400)، ((معاني القرآن)) للزَّجَّاج (4/416)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 322)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/367)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6682)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/123). .
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57).
أي: ولَمَّا ضَرَبَ المُشرِكونَ عيسى بنَ مَريمَ مَثَلًا للآلهةِ الَّتي تُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ تعالى -حيثُ عَبَده النَّصارى-؛ لِيُحاجُّوا به محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الَّذي أخبَرَهم بأنَّ كُلَّ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ فمآلُه النَّارُ: إذا قَومُك -يا محمَّدُ- قد أحدَثوا جَلَبةً وضَجيجًا وضَحِكًا؛ فَرَحًا وسُرورًا؛ لِظَنِّهم بأنَّهم قد أفحَموك بتلك الشُّبهةِ الباطِلةِ، وأنَّهم ألزَموك بحُجَّتِهم الواهيةِ [627] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/799)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 976)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/81)، ((تفسير الرازي)) (27/639)، ((تفسير البيضاوي)) (5/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/236-239)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/123، 124). قال الواحدي: (أكثَرُ المفسَرِّينَ على أنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في مُجادَلةِ ابنِ الزِّبَعْرَى مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا نزَل قولُه تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: 98] الآيةَ). ((الوسيط)) (4/78). وقال الشنقيطي: (قال جمهورُ المفَسِّرينَ: هو عبدُ اللهِ بنُ الزِّبَعْرَى السَّهْميُّ قبْلَ إسلامِه. أي: ولَمَّا ضَرَب ابنُ الزِّبَعْرَى المذكورُ عيسى بنَ مريمَ، فاجأَك قومُك بالضَّجيجِ والصِّياحِ والضَّحِكِ؛ فَرَحًا منهم، وزعمًا منهم أنَّ ابنَ الزِّبَعْرَى خَصَمَك، أو فاجأَك صُدودُهم عن الإيمانِ؛ بسَبَبِ ذلك المَثَلِ. والظَّاهرُ أنَّ لَفظةَ مِنْ هنا سَبَبيَّةٌ). ((أضواء البيان)) (7/123). قال السمعاني: (وفي الآيةِ قَولٌ آخَرُ: وهو أنَّ النَّبيَّ لَمَّا ذكَرَ حديثَ عيسى لقُرَيشٍ، وأنَّه خلَقَه اللهُ تعالى من غيرِ أبٍ، كما خلَقَ آدمَ مِن غيرِ أبٍ، وذكَرَ ما أظهَرَ اللهُ على يَدِه مِن الآياتِ- جَعَلَت قُرَيشٌ يَضحَكونَ، وقالوا: ما يُريدُ محمَّدٌ مِن ذِكرِ عيسى إلَّا أن نَعبُدَه كما عبَدَت النَّصارى عيسى! وهذا قَولُ مجاهِدٍ). ((تفسير السمعاني)) (5/111). !
وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58).
وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ.
أي: وقال أولئك المُشرِكونَ: أآلهتُنا خيرٌ أمْ عيسَى، فإن كان عيسَى يَدخُلُ النَّارَ فقد رَضِينا أن نكونَ نحن وآلهتُنا معه؛ لأنَّه خيرٌ مِن آلهتِنا [628] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/799)، ((تفسير الرازي)) (27/639)، ((تفسير البيضاوي)) (5/94)، ((تفسير ابن جزي)) (2/262)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/123). قال الشنقيطي: (زَعَم ابنُ الزِّبَعْرَى أنَّ كَلامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا اقتضى مُساواةَ الأصنامِ مع عيسى في دُخولِ النَّارِ، مع أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعترِفُ بأنَّ عيسى رسولُ الله، وأنَّه ليس في النَّارِ؛ دَلَّ ذلك على بُطلانِ كَلامِه عندَه). ((أضواء البيان)) (7/123، 124). وقال أيضًا: (التَّحقيقُ أنَّ الضَّميرَ في قَولِه: هُوَ راجِعٌ إلى عيسى لا إلى محمَّدٍ -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ. قال بعضُ العلماء: ومُرادُهم بالاستفهامِ تَفضيلُ مَعبوداتِهم على عيسى. قيل: لأنَّهم يتَّخِذونَ الملائِكةَ آلهةً، والملائِكةُ أفَضُل عِندَهم مِن عيسى، وعلى هذا فمُرادُهم أنَّ عيسى عُبِدَ مِن دونِ الله، ولم يكُنْ ذلك سببًا لِكَونِه في النَّارِ، ومَعبوداتُنا خَيرٌ مِن عيسى، فكيف تَزعُمُ أنَّهم في النَّارِ؟! وقال بعضُ العلماء: أرادوا تفضيلَ عيسى على آلهتِهم. والمعنى على هذا: أنَّهم يقولون: عيسى خيرٌ مِن آلهتِنا -أي: في زَعمِك- وأنت تَزعُمُ أنَّه في النَّارِ بمقتضى عُمومِ ما تَتْلوه مِن قَولِه: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] ، وعيسى عَبَدَه النَّصارى مِن دونِ اللهِ؛ فدَلالةُ قَولِك على أنَّ عيسى في النَّارِ مع اعتِرافِك بخِلافِ ذلك يدُلُّ على أنَّ ما تقولُه مِن أنَّا وآلهَتَنا في النَّارِ: ليس بحَقٍّ أيضًا!). ((أضواء البيان)) (7/126، 127). وقيل -بِناءً على القولِ الثَّاني في الآيةِ السَّابقةِ أنَّ النَّبيَّ لَمَّا ذكر حديثَ عيسى قالوا: ما يُريدُ مُحمَّدٌ مِن ذِكرِ عيسى إلَّا أن نَعبُدَه كما عبَدَتِ النَّصارَى عيسى- قيل: إنَّ معنى أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي: مُحمَّدٌ، فإذا كان مُحمَّدٌ يَطلُبُ أن نَعبُدَه فنحنُ نَعبُدُ آلِهَتنا. فهو سؤالُ تقريرٍ أنَّ آلهتَهم خَيرٌ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/68)، ((تفسير السمعاني)) (5/111). .
مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.
أي: ما ذَكَر لك كُفَّارُ قُرَيشٍ -يا مُحمَّدُ- هذا المَثَلَ بعِيسى وتَشبيهَه بآلهتِهم إلَّا مِن بابِ المُغالَطةِ بالباطِلِ؛ لِقَصدِ مُغالَبتِك [629] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/262)، ((تفسير ابن كثير)) (7/235)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/456)، ((تفسير الشوكاني)) (4/642)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/239)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/124). .
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.
أي: هم لا يُريدونَ بجِدالِهم مَعرِفةَ الحَقِّ واتِّباعَه، وإنَّما هم قَومٌ شَديدو الخُصومةِ والجِدالِ بالباطِلِ، فيَرُدُّونَ الحَقَّ مع ظُهورِه لهم، ومَعرِفتِهم بأنَّ ما يُظهِرونَه مِن حُجَجٍ مُجَرَّدُ شُبَهٍ باطِلةٍ [630] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/627)، ((تفسير القرطبي)) (16/104)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/456)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/240)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/127). !
كما قال تعالى: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر: 5] .
وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أبغَضَ الرِّجالِ إلى اللهِ الألَدُّ الخَصِمُ [631] الأَلَدُّ الخَصِمُ: أي: الشَّديدُ الخُصومةِ، المُولَعُ بها. الألَدُّ: مأخوذٌ مِن لَدِيدَيِ الوادي، وهما جانباه؛ لأنَّه كلَّما احتُجَّ عليه بحُجَّةٍ أخَذ في جانبٍ آخَرَ. والخَصِمُ: هو الحاذقُ بالخُصومةِ، والمذمومُ هو الخُصومةُ بالباطِلِ، في رفْعِ حقٍّ، أو إثباتِ باطِلٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/219)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (6/2442). ) [632] رواه البخاري (2457)، ومسلم (2668). .
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59).
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ.
أي: ما عيسى إلَّا عَبدٌ مِن عِبادِنا أنعَمْنا عليه بالإيمانِ، والنُّبُوَّةِ والرِّسالةِ، وتأييدِه بالمُعجِزاتِ [633] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/629)، ((تفسير القرطبي)) (16/104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/127، 128). .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة: 110] .
وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ.
أي: وجعَلْنا عيسى آيةً ودَلالةً وحُجَّةً لِبَني إسرائيلَ، يَستَدِلُّونَ بخَلْقِه مِن غَيرِ أبٍ على قُدرةِ اللهِ تعالى على خَلْقِ ما يَشاءُ، وليس هو ابنًا للهِ كما تَزعُمُ النَّصارى [634] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/629)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768). !
كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً [المؤمنون: 50] .
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أشارت الآيةُ السَّابِقةُ إلى إبطالِ ضَلالةِ الَّذين زَعَموا عيسى -عليه السَّلامُ- ابنًا لله تعالى، مِن قَصْرِه على كَونِه عَبدًا لله أنعَمَ اللهُ عليه بالرِّسالةِ، وأنَّه عِبرةٌ لِبَني إسرائيلَ؛ عُقِّب ذلك بإبطالِ ما يُماثِلُ تلك الضَّلالةَ، وهي ضَلالةُ بَعضِ المُشرِكينَ في ادِّعاءِ بُنُوَّةِ الملائِكةِ لله تعالى، المتقَدِّمُ حِكايتُها في قَولِه تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا [الزخرف: 15] الآياتِ، فأُشيرَ إلى أنَّ الملائِكةَ عِبادٌ لله تعالى، جَعَل مكانَهم العَوالِمَ العُليا، وأنَّه لو شاء لَجعَلَهم مِن سُكَّانِ الأرضِ بَدَلًا عن النَّاسِ [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/241). .
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60).
أي: ولو نَشاءُ لجَعَلْنا بدَلًا مِنكم ملائِكةً يَسكُنونَ في الأرضِ، فيَخلُفونَ فيها [636] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/629)، ((الوسيط)) للواحدي (4/79)، ((تفسير ابن عطية)) (5/61)، ((تفسير القرطبي)) (16/105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236). قال ابن جُزَي: (في معناها قولانِ؛ أحَدُهما: لو نَشاءُ لجعَلْنا بدَلًا مِنكم ملائِكةً يَسكُنونَ الأرضَ ويَخلُفونَ فيها بني آدَمَ، فقَولُه: مِنْكُمْ يتعَلَّقُ بـ «بَدَل» المحذوفِ، أو بـ يَخْلُفُونَ. والآخَرُ: لو نشاءُ لجعَلْنا منكم، أي: لوَلَّدْنا منكم أولادًا مَلائِكةً يَخلُفونَكم في الأرضِ، كما يَخلُفُكم أولادُكم؛ فإنَّا قادِرونَ على أن نَخلُقَ مِن أولادِ النَّاسِ مَلائِكةً، فلا تُنكِروا أنْ خَلَقْنا عيسى مِن غيرِ والدٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/262). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: لجعَلْنا بدَلًا منكم ملائِكةً: ابنُ جرير، وابنُ تيميَّةَ ونسَبَه لعامَّةِ المفَسِّرينَ، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/629)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/441)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/630)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: لَجعَلْنا -أيُّها الإنسُ- ملائكةً يتولَّدون منكم: الزمخشري، واستحسنه أبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/261)، ((تفسير أبي حيان)) (9/386). قال ابنُ كثير: (مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ قال السُّدِّيُّ: يَخلُفونَك فيها. وقال ابنُ عبَّاسٍ وقَتادةُ: يَخلُفُ بعضُهم بعضًا، كما يَخلُفُ بعضُكم بعضًا. وهذا القَولُ يَستلزِمُ الأوَّلَ. وقال مجاهدٌ: يَعمُرونَ الأرضَ بَدَلَكم). ((تفسير ابن كثير)) (7/236). .
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61).
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا.
أي: وإنَّ نُزولَ عيسى بنِ مَريمَ في آخِرِ الزَّمانِ لَعَلامةٌ على قُربِ مَجيءِ السَّاعةِ، فلا تَشُكُّوا -أيُّها النَّاسُ- في مجيءِ القيامةِ؛ فإنَّها آتيةٌ لا مَحالةَ [637] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/800)، ((الوسيط)) للواحدي (4/79)، ((تفسير الزمخشري)) (4/261)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 128، 129، 138). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: نُزولُ عيسى عليه السَّلامُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والزمخشري، وابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو هُرَيرةَ، وابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، ومجاهِدٌ، والحسَنُ، وأبو مالكٍ، والضَّحَّاكُ، وعِكْرِمةُ، وأبو العاليةِ، والسُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/631)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236). قال الواحدي: (قال ابنُ عبَّاسٍ والمفَسِّرون: يعني: نُزولَ عيسى مِن السَّماءِ مِن أشراطِ السَّاعةِ وأهوالِها، ويكونُ التَّقديرُ على هذا: ظُهورَه أو نُزولَه). ((البسيط)) (20/70). وقال الماوَرْدي: (قَولُه عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فيه ثلاثةُ أقاويلَ؛ أحدُها: أنَّ القُرآنَ عِلْمُ السَّاعةِ؛ لِما فيه مِن البَعثِ والجزاءِ. قاله الحَسَنُ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ. الثَّاني: أنَّ إحياءَ عيسى الموتى دليلٌ على السَّاعةِ وبَعثِ الموتى. قاله ابنُ إسحاقَ. الثَّالثُ: أنَّ خُروجَ عيسى عِلْمُ السَّاعةِ؛ لأنَّه مِن علامةِ القيامةِ وشُروطِ السَّاعةِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ). ((تفسير الماوردي)) (5/235). وقال ابن جرير: (وقال آخَرون: الهاءُ الَّتي في قولِه: وَإِنَّهُ مِن ذِكرِ القرآنِ، وقالوا: معنَى الكلامِ: وإنَّ هذا القرآنَ لَعلَمٌ للسَّاعةِ؛ يُعلِمُكم بقيامِها، ويُخبِرُكم عنها وعن أهوالِها). ((تفسير ابن جرير)) (20/633). وقيل: الإشارةُ لمحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وممَّن ذكر هذا القولَ: ابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/61). قال ابنُ جُزَي: (فأمَّا على القَولِ بأنَّه لعيسى أو لمحمَّدٍ فالمعنى أنَّه شَرَطٌ مِن أشراطِ السَّاعةِ يُوجِبُ العِلمَ بها؛ فسُمِّيَ الشَّرَطُ عِلْمًا لحُصولِ العِلمِ به؛ ولذلك قرأ ابنُ عبَّاسٍ: لَعَلَمٌ -بفَتحِ العَينِ واللَّامِ، أي: عَلامةٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/263). وذكر السعدي احتمالًا قدَّمه في تفسيرِ الآيةِ، وهو أنَّ عيسى عليه السَّلامُ دليلٌ على السَّاعةِ؛ لأنَّ القادرَ على إيجادِه مِن أُمٍّ بلا أبٍ قادِرٌ على بعثِ الموتى مِن قبورِهم. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 768). قال الماوَرْدي: (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: لا تَشُكُّوا فيها، يعني: السَّاعةَ. قاله يحيى بنُ سلَّام. الثَّاني: فلا تُكَذِّبوا بها؛ قاله السُّدِّيُّ). ((تفسير الماوردي)) (5/236). ونقَل الواحديُّ عن ابنِ عبَّاسٍ المعنى الثَّانيَ، ثمَّ قال: (وقَولُ ابنِ عبَّاسٍ جَيِّدٌ؛ لأنَّ الامتِراءَ يُوصَلُ بـ «في»، يُقالُ: امتَرَى فيه، كقَولِه: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم: 34] ، وهاهنا وُصِلَ بالباءِ؛ لأنَّه بمعنى التَّكذيبِ، ومَن شَكَّ في شَيءٍ فقد كَذَّب به). ((البسيط)) (20/70). وممَّن قال بأنَّ معنى: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا: فلا تَشُكُّوا في مجيئِها، فجعَل المِرْيةَ بمعنى الشَّكِّ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/800)، ((تفسير ابن جرير)) (20/634)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/138). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/634)، ((تفسير البغوي)) (4/167). وقال البِقاعي: (فَلَا تَمْتَرُنَّ أي: تَشُكُّوا أدنى شكٍّ، وتَضطَرِبوا أدنى اضطرابٍ، وتَجحَدوا أدنى جحدٍ، وتُجادِلوا أدنى جدَلٍ). ((نظم الدرر)) (17/461). .
كما قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 158، 159].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((والَّذي نفْسي بيَدِه، لَيُوشِكَنَّ أن يَنزِلَ فيكم ابنُ مَريمَ حَكَمًا مُقسِطًا، فيَكسِرَ الصَّليبَ، ويَقتُلَ الخِنزيرَ، ويَضَعَ الجِزْيةَ، ويَفيضَ المالُ حتَّى لا يَقْبَلَه أحَدٌ )) [638] رواه البخاري (2222) واللفظ له، ومسلم (155). .
وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
أي: وأطيعُوني فيما آمُرُكم به، وأنهاكم عنه؛ فهذا الَّذي أدعوكم إليه طَريقٌ مُستقيمٌ لا اعوِجاجَ فيه، مُوصِلٌ إلى الحَقِّ في الدُّنيا، والجنَّةِ في الآخِرةِ [639] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/634)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/191)، ((تفسير الزمخشري)) (4/261)، ((تفسير القرطبي)) (16/107)، ((تفسير الشوكاني)) (4/643). قال الزمخشري: (وَاتَّبِعُونِ واتَّبِعوا هُداي وشَرعي أو رَسولي. وقيل: هذا أمرٌ لرسولِ الله أن يَقولَه). ((تفسير الزمخشري)) (4/261). وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا أمرٌ مِن الله باتِّباعِه، بامتثالِ أمرِه واجتنابِ نهيِه: ابنُ جرير -كما هو ظاهرُ كلامِه- والزمخشريُّ، وأبو حيَّان، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/134)، ((تفسير الزمخشري)) (4/261)، ((تفسير أبي حيان)) (9/386)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/244). وممَّن ذهب إلى أنَّه أمرٌ مِن الله لرسولِه بأن يأمُرَ النَّاسَ باتِّباعِه: الواحديُّ، والقرطبيُّ كما هو ظاهرُ كلامِهما. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/79)، ((تفسير القرطبي)) (16/107). قال الزمخشري: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: هذا الَّذي أدعوكم إليه. أو: هذا القرآنُ إن جُعِل الضَّميرُ في إِنَّهُ للقرآنِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/261). .
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أُبلِغَت أسماعُهم أفانينَ المَواعِظِ والأوامِرِ والنَّواهِي، وجَرَى في خِلالِ ذلك تَحذيرُهم مِن الإصرارِ على الإعراضِ عن القُرآنِ، وإعلامُهم بأنَّ ذلك يُفضي بهم إلى مُقارَنةِ الشَّيطانِ، وأخَذَ ذلك حَظَّه مِن البَيانِ؛ انتَقَلَ الكَلامُ إلى نَهيهِم عن أن يَحصُلَ صَدُّ الشَّيطانِ إيَّاهم عن هذا الدِّينِ والقُرآنِ الَّذي دُعُوا إلى اتِّباعِه بقَولِه: وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 61]؛ تَنبيهًا على أنَّ الصُّدودَ عن هذا الدِّينِ مِن وَسْوَسةِ الشَّيطانِ، وتَذكيرًا بعَداوةِ الشَّيطانِ للإنسانِ عَداوةً قَويَّةً، لا يُفارِقُها الدَّفعُ بالنَّاسِ إلى مَساوِي الأعمالِ؛ ليُوقِعَهم في العَذابِ تَشَفِّيًا لعَداوَتِه [640] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/244، 245). .
وأيضًا لَمَّا حَثَّ اللهُ تعالى على السُّلوكِ لصِراطِ الوَليِّ الحَميدِ؛ حذَّرَهم مِنَ العَدُوِّ البَعيدِ المُحتَرِقِ الطَّريدِ، فقال [641] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/461). :
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ.
أي: ولا يَصرِفَنَّكم الشَّيطانُ بوَساوِسِه عن هذا الصِّراطِ المُستَقيمِ؛ فتَضِلُّوا عن الحَقِّ [642] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/635)، ((تفسير السمرقندي)) (3/262)، ((تفسير القرطبي)) (16/107)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((تفسير الشوكاني)) (4/643). .
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
أي: إنَّ الشَّيطانَ لكم عَدُوٌّ ظاهِرُ العَداوةِ، حَريصٌ على إضلالِكم، وباذِلٌ جُهدَه في إهلاكِكم [643] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/635)، ((تفسير السمرقندي)) (3/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768). .
كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60 - 62] .
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63).
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ.
أي: ولَمَّا جاء عيسى بالدَّلائِلِ الواضِحاتِ على صِدقِه، قال: قد جِئتُكم بالحِكمةِ [644] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/635)، ((تفسير الزمخشري)) (4/262)، ((تفسير القرطبي)) (16/107، 108)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 768). قال الماوَرْدي: (قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ فيه قَولانِ؛ أحدُهما: بالنُّبُوَّةِ. قاله السُّدِّيُّ. الثَّاني: بعِلمِ ما يُؤدِّي إلى الجَميلِ، ويَكُفُّ عن القَبيحِ. قاله ابنُ عيسى. ويحتمِلُ ثالثًا: أنَّ الحِكمةَ الإنجيلُ الَّذي أُنزِلَ عليه). ((تفسير الماوردي)) (5/236). ممَّن اختار أنَّ الحِكمةَ هي النُّبُوَّةُ: السمرقنديُّ، والثعلبي، والبغوي، والخازن، وابنُ كثير، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/263)، ((تفسير الثعلبي)) (8/382)، ((تفسير البغوي)) (4/167)، ((تفسير الخازن)) (4/113)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236)، ((تفسير الشوكاني)) (4/644). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/636). قال البِقاعي: (بِالْحِكْمَةِ أي: الأمرِ المُحكَمِ، الَّذي لا يُستطاعُ نَقضُه، ولا يُدفَعُ إلَّا بالمُعانَدةِ). ((نظم الدرر)) (17/462). وقيل: الحِكمةُ: هي العِلمُ والعَمَلُ، فلا يُسمَّى الرَّجُلُ حَكيمًا حتَّى يَجمَعَهما. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ قُتيبةَ. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 32). ويُنظر أيضًا: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيميَّة (9/22، 23)، ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 424)، ((الصفدية)) لابن تيمية (2/325). وقال السعدي: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ النُّبُوَّةِ والعِلمِ، بما يَنبغي، على الوَجهِ الَّذي يَنبغي). ((تفسير السعدي)) (ص: 768). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالحِكمةِ: الإنجيلُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجاجُ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/800)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/417)، ((تفسير العليمي)) (6/231). واختار الزمخشري وتَبِعَه النَّسَفيُّ أنَّ المرادَ بِالْحِكْمَةِ: الإنجيلُ والشَّرائعُ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/262)، ((تفسير النسفي)) (3/279). واختار جلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ أنَّ المرادَ: النُّبُوَّةُ وشرائعُ الإنجيلِ. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 654). .
وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
أي: وجِئتُكم لِأُبَيِّنَ لكم بَعضَ الَّذي تَختَلِفونَ فيه مِن أُمورِكم، فأُوَضِّحَ لكم الصَّوابَ، وأُجَلِّيَ لكم ما خَفِيَ [645] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/636، 637)، ((تفسير ابن عطية)) (5/62)، ((تفسير القرطبي)) (16/108)، ((تفسير ابن كثير)) (7/236، 237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/247). قال ابنُ عطية: (المعنى الَّذي ذهبَ إليه الجُمهورُ: أنَّ الاختِلافَ بيْنَ النَّاسِ هو في أمورٍ كَثيرةٍ لا تُحصى عددًا؛ منها أمورٌ أُخرَويَّةٌ ودينيَّةٌ، ومنها ما لا مَدخَلَ له في الدِّينِ؛ فكُلُّ نَبيٍّ فإنَّما يُبعَثُ لِيُبيِّنَ أمرَ الأديانِ والآخِرةِ، فذلك بعضُ ما يُختَلَفُ فيه). ((تفسير ابن عطية)) (5/62). وقال الشوكاني: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِن أحكامِ التَّوراةِ. وقال قَتادةُ: يعني: اختِلافَ الفِرَقِ الَّذين تحزَّبوا في أمرِ عيسى. قال الزَّجَّاجُ: الَّذي جاء به عيسى في الإنجيلِ إنَّما هو بَعضُ الَّذي اختَلَفوا فيه؛ فبُيِّنَ لهم في غيرِ الإنجيلِ ما احتاجوا إليه. وقيل: إنَّ بني إسرائيلَ اختَلَفوا بعدَ موتِ موسى في أشياءَ مِن أمرِ دينِهم. وقال أبو عُبَيدةَ: إنَّ البَعضَ هنا بمعنى الكُلِّ، كما في قَولِه: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: 28] ، وقال مُقاتِلٌ: هو كقَولِه: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] ، يعني: ما أُحِلَّ في الإنجيلِ مِمَّا كان مُحَرَّمًا في التَّوراةِ؛ كلَحمِ الإبِلِ، والشَّحمِ مِن كُلِّ حيوانٍ، وصَيدِ السَّمَكِ يومَ السَّبتِ. واللَّامُ في: وَلِأُبَيِّنَ مَعطوفةٌ على مُقَدَّرٍ، كأنَّه قال: قد جِئتُكم بالحِكمةِ لِأُعَلِّمَكم إيَّاها ولِأُبَيِّنَ لكم). ((تفسير الشوكاني)) (4/644). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/800)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/205)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/417، 418). .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
أي: فاتَّقوا اللهَ بامتِثالِ ما يأمُرُكم به، واجتِنابِ ما يَنهاكم عنه [646] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/637)، ((تفسير القرطبي)) (16/108)، ((تفسير ابن كثير)) (7/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64).
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
أي: قال عيسى: إنَّ اللهَ الَّذي ينبغي إفرادُه بالعِبادةِ والطَّاعةِ هو رَبِّي ورَبُّكم؛ فاعبُدوه وَحْدَه، ولا تَعبُدوا غَيرَه، وأنا وأنتم مُشتَرِكونَ في وُجوبِ ذلك علينا [647] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/637)، ((تفسير ابن كثير)) (7/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
أي: عِبادةُ اللهِ وَحْدَه وطاعتُه طَريقٌ مُستقيمٌ لا اعوِجاجَ فيه، مُوصِلٌ إلى اللهِ، وإلى رِضوانِه وجَنَّتِه [648] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/637)، ((تفسير القرطبي)) (16/108)، ((تفسير ابن كثير)) (7/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65).
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ.
أي: فاختَلَفَت فِرَقُ اليَهودِ والنَّصارى في عيسى؛ فكَفَر به اليَهودُ، وغلا فيه النَّصارى، فزَعَم بَعضُهم أنَّه ابنُ اللهِ تعالى، وزَعَم بَعضُهم أنَّه اللهُ تعالى، وزَعَم آخَرونَ منهم أنَّه ثالِثُ ثلاثةٍ -تعالى اللهُ عمَّا يَقولونَ عُلُوًّا كَبيرًا [649] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/637، 638)، ((تفسير القرطبي)) (16/109)، ((تفسير ابن كثير)) (7/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/420). قال ابن تيميَّة: (اختَلَف اليهودُ والنَّصارى فيه، ثمَّ اختَلَفَت النَّصارى فيه وصاروا أحزابًا كثيرةً جِدًّا... فإنَّه ليس في الأُمَمِ أكثَرُ اختِلافًا في رَبِّ العالَمينَ منهم!). ((الجواب الصحيح)) (2/165). .
كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] .
وقال الله سُبحانَه: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53] .
وعن مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((ألَا إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قام فينا فقال: ألَا إنَّ مَن قَبْلَكم مِن أهلِ الكِتابِ افتَرَقوا على ثِنْتَينِ وسَبعينَ مِلَّةً، وإنَّ هذه المِلَّةَ ستَفتَرِقُ على ثلاثٍ وسَبعينَ: ثِنتانِ وسَبعونَ في النَّارِ، وواحِدةٌ في الجنَّةِ، وهي الجَماعةُ )) [650] أخرجه أبو داود (4597) واللَّفظُ له، وأحمد (16937). حَسَّن إسنادَه ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (19/37)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4597)، وحسَّنه لغيره الوادعيُّ في ((صحيح دلائل النبوة)) (577). وحديثُ الافتِراقِ رُويَ بألفاظٍ مُختلِفةٍ: ذكر الحاكمُ بعضَ طُرُقِه ثمَّ قال: (هذه أسانيدُ تُقامُ بها الحجَّةُ في تصحيحِ هذا الحديثِ). ((المستدرك)) (1/218). وقال العِراقي: (حديث افتِراقِ الأمَّةِ... أسانيدُها جِيادٌ). ((تخريج الإحياء)) (3/230). .
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ.
أي: فوَيلٌ لأولئك الكُفَّارِ المُختَلِفينَ في شأنِ عيسى مِن عَذابِ يومِ القيامةِ [651] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/801)، ((تفسير القرطبي)) (16/109)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/475)، ((تفسير الشوكاني)) (4/644)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/138). قال ابن جرير: (يقولُ: مِن عذابِ يومٍ أليمٍ عذابُه، ووَصَفَ اليَومَ بالإيلامِ؛ إذ كان العَذابُ الَّذي يُؤلِمُهم فيه، وذلك يومُ القيامةِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/638). وقال البِقاعي: (وإذا كان اليومُ مُؤلِمًا، فما الظَّنُّ بعَذابِه؟!). ((نظم الدرر)) (17/475). !
كما قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم: 37] .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا فيه ذَمُّ الجَدَلِ والمِراءِ [652] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 233). ، والجدَلُ المذمومُ هو الجدلُ الَّذي يُوجِبُ تقريرَ الباطلِ [653] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/640). ويُنظر أيضًا: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/169-174). ، أو ردَّ الحقِّ ودفْعَه، أو لِمُجرَّدِ الجدَلِ.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا عَبَّرَ بصيغةِ الجَمعِ في قَولِه: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، مع أنَّ ضارِبَ المَثَلِ واحِدٌ، وهو ابنُ الزِّبَعْرَى؛ لِوُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ مِن أساليبِ اللُّغةِ العربيَّةِ إسنادَ فِعلِ الرَّجُلِ الواحِدِ مِن القبيلةِ إلى جميعِ القَبيلةِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ جميعَ كُفَّارِ قُرَيشٍ صَوَّبوا ضَرْبَ ابنِ الزِّبَعْرَى عيسى مَثَلًا، وفَرِحوا بذلك، ووافَقوه عليه؛ فصاروا كالمُتمالِئينَ عليه.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ الفاعِلَ المحذوفَ في قَولِه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا هو عامَّةُ قُرَيشٍ [654] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/124، 125). .
2- في قَولِه تعالى: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إشارةٌ إلى أنَّ عيسى لم يُبعَثْ إلَّا إلى بَني إسرائيلَ، وأنَّه لم يَدْعُ غَيرَ بني إسرائيلَ إلى اتِّباعِ دِينِه، ومَنِ اتَّبعُوه مِن غَيرِ بَني إسرائيلَ في عُصورِ الكُفرِ والشِّركِ فإنَّما تَقَلَّدوا دَعوَتَه؛ لأنَّهَا تُنقِذُهم مِن ظُلُماتِ الشِّركِ والوَثَنيَّةِ والتَّعطيلِ [655] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/241). .
3- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فيه نزولُ عيسَى عليه السَّلامُ قُرْبَ السَّاعةِ [656] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 233). .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيه سُؤالٌ: لِمَ لمْ يُبَيِّنْ لهم كُلَّ الَّذي يَختَلِفونَ فيه؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: لأنَّ النَّاسَ قد يَختَلِفونَ في أشياءَ لا حاجةَ بهم إلى مَعرفتِها؛ فلا يَجِبُ على الرَّسولِ بَيانُها [657] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/641). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ هذا البَعضَ الظاهرُ -بما يُرشِدُ إليه خِتامُ الآيةِ- أنَّه المُتشابِهُ الَّذي كَفَروا بسَبَبِه، بيَّنَه بيانًا يَرُدُّه إلى المُحكَمِ، ويَحتمِلُ أن يكونَ بَعضَ المُتشابهِ، وهو ما يكونُ بَيانُه كافيًا في رَدِّ بقيَّةِ المُتشابِهِ إلى المحكَمِ بالقياسِ عليه؛ فإنَّ الشَّأنَ في كُلِّ كِتابٍ أنْ يَجمَعَ المُحكَمَ والمُتشابِهَ، فالمُحكَمُ ما لا لَبْسَ فيه، والمُتشابِهُ ما يكونُ مُلْبِسًا، وفيه ما يَرُدُّه إلى المحكَمِ لكِنْ على طريقِ الرَّمزِ والإشارةِ الَّتي لا يَذوقُها إلَّا أهلُ البَصائرِ؛ لِيَتبيَّنَ بذلك الصَّادِقُ مِن الكاذِبِ، فالصَّادِقُ الَّذي رَسَخ عِلمًا وإيمانًا يَرُدُّ المُتشابِهَ منه إلى المُحكَمِ، أو يَعجِزُ فيَقولُ: اللهُ أعلَمُ [658] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/463). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ اللهَ تعالى أعلَمَه بأنَّ المَصلَحةَ لم تتَعَلَّقْ ببَيانِ كلِّ ما اختَلَفوا فيه، بل يُقتَصَرُ على البَعضِ، ثمَّ يُكمَّلُ بَيانُ الباقي على لِسانِ رَسولٍ يأتي مِن بَعدِه يُبَيِّنُ جَميعَ ما يَحتاجُ إلى البَيانِ.
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ ما أُوحِيَ إليه مِن البَيانِ غَيرُ شامِلٍ لجَميعِ ما هم مُختَلِفونَ في حُكمِه، وهو يَنتَظِرُ بَيانَه مِن بعدُ؛ تَدريجًا في التَّشريعِ، كما وَقَع في تَدريجِ تَحريمِ الخَمرِ في الإسلامِ.
الوَجهُ الخامِسُ: أنَّ المرادَ بـ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: ما كان الاختلافُ فيه راجعًا إلى أحكامِ الدِّينِ، دونَ ما كان مِن الاختلافِ في أُمورِ الدُّنيا [659] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/247). .
الوَجهُ السَّادِسُ: أنَّ المرادَ بالبَعضِ: الكُلُّ [660] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 514). .
5- قَولُ الله تعالى: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ، يدُلُّ على جوازِ تأخيرِ البيانِ فيما له ظاهرٌ، وفي ما يرجعُ إلى البيانِ بالنَّسخِ [661] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/248). .
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فيه الإقرارُ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ بأنَّ اللهَ هو المُرَبِّي جَميعَ خَلْقِه بأنواعِ النِّعَمِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، والإقرارُ بتوحيدِ العُبوديَّةِ بالأمرِ بعِبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، وإخبارِ عيسى عليه السَّلامُ أنَّه عَبدٌ مِن عِبادِ اللهِ، ليس كما قال فيه النَّصارى: (إنَّه ابنُ اللهِ أو ثالِثُ ثلاثةٍ!)، والإخبارُ بأنَّ هذا المذكورَ: صِراطٌ مُستقيمٌ مُوصِلٌ إلى اللهِ تعالى وإلى جَنَّتِه [662] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 768). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أنَّ الصِّراطَ المُستقيمَ عبادةُ اللهِ، ولا شَكَّ أنَّ أهدى السُّبُلِ وأقْوَمَها عِبادةُ اللهِ، وعِبادةُ اللهِ هي اتِّباعُ شَرْعِه المُرسَلِ منه سُبحانَه وتعالى [663] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/302). .
8- قَولُ الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ في قِصَّةِ عيسى مع قَومِه تَنبيهٌ على أنَّ الإشراكَ مِن عَوارِضِ أهلِ الضَّلالةِ لا يَلبَثُ أن يُخامِرَ نُفوسَهم، وإن لم يكُنْ عالِقًا بها مِن قَبْلُ؛ فإنَّ عيسى بُعِثَ إلى قَومٍ لم يَكونوا يَدينونَ بالشِّركِ؛ إذ هو قد بُعِثَ لبني إسرائيلَ وكُلُّهم مُوَحِّدونَ، فلمَّا اختَلَف أتْباعُه بيْنَهم، وكَذَّبَت به فِرَقٌ، وصَدَّقه فَريقٌ، ثمَّ لم يتَّبِعوا ما أمَرَهم به- لم يَلبَثوا أنْ حَدَثَت فيهم نِحلةُ الإشراكِ [664] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/246). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسُوقٌ لبَيانِ نَوعٍ آخَرَ مِن لَجاجِهم وإِمعانِهم في المُكابَرةِ [665] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/98). . أو عَطفُ قِصَّةٍ مِن أقاصيصِ كُفرِهم وعِنادِهم على ما مَضَى مِن حِكايةِ أقاويلِهِم، جَرَت في مُجادَلةٍ منهم مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو تَصديرٌ وتَمهيدٌ بيْنَ يَدَيْ قَولِه: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ ... [الزخرف: 63] الآياتِ، الَّذي هو المَقصودُ مِن عَطفِ هذا الكَلامِ على ذِكْرِ رِسالةِ مُوسَى عليه السَّلامُ [666] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/236). .
- واقتِرانُ الكَلامِ بـ (لَمَّا) المُفيدةِ وُجودَ جَوابِها عِندَ وُجودِ شَرطِها أو تَوقِيتِه، يَقتَضِي أنَّ مَضمونَ شَرطِ (لَمَّا) مَعلومُ الحُصولِ، ومَعلومُ الزَّمانِ؛ فهو إشارةٌ إلى حَديثٍ جَرَى بسَبَبِ مَثَلٍ ضَرَبه ضارِبٌ لِحالٍ مِن أحوالِ عيسى عليه السَّلامُ، على أنَّ قَولَهم: أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يَحتمِلُ أنْ يَكُونَ جَرَى في أثناءِ المُجادَلةِ في شَأنِ عيسى، ويَحتمِلُ أنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ حِكايةِ شُبهةٍ أُخرَى مِن شُبَهِ عَقائِدِهم؛ ففي هذه الآيةِ إجمالٌ يُبَيِّنُه ما يَعرِفُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمِنونَ مِن جَدَلٍ جَرَى مع المُشرِكين، ويَزيدُه بَيانًا قَولُه: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [667] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/236). [الزخرف: 59] .
- قوله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الحامِلُ على ضَربِ المَثَلِ: الرَّدُّ على كُفرِيَّاتِهم الثَّلاثِ في قَولِه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ... [الزخرف: 15] الآياتِ، وهو قَولُه: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ [الزخرف: 16] ، وقَولُه: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19] ، وقَولُه: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف: 20] ، والآياتُ المُتَخَلِّلةُ في البَيْنِ مُتَّصِلَاتٌ بَعضُها مع بَعضٍ بالأَفانينِ المُتَنَوِّعةِ [668] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/165). .
- والتَّعبيرُ عن قُرَيشٍ بعُنوانِ قَوْمُكَ؛ للتَّعجُّبِ منهم كيفَ فَرِحوا مِن تَغَلُّبِ ابنِ الزِّبَعْرَى على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بزَعمِهِم في أمْرِ عيسى عليه السَّلامُ، أي: مع أنَّهم قَومُك، ولَيسُوا قَومَ عيسى ولا أتْباعَ دِينِه؛ فكان فَرَحُهم ظُلمًا من ذَوِي القُربَى [669] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/238). .
- و(مِن) في قَولِه: إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ مُتعَلِّقَةٌ بـ يَصِدُّونَ -على قولٍ- تَعَلُّقًا على مَعنَى الابتِداءِ، أي: يَصِدُّون صَدًّا ناشِئًا منه، أي: مِن المَثَلِ، أي: ضُرِبَ لهم مَثَلٌ، فجَعَلوا ذلك المَثَلَ سَبَبًا للصَّدِّ [670] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/239). .
- وعلى قِراءةِ يَصُدُّونَ -بضمِّ الصَّادِ- مِن الصُّدودِ؛ فهي إمَّا بمَعنَى الإعراضِ، والمُعرَضُ عنه مَحذوفٌ؛ لظُهورِه مِن المَقامِ، أي: يُعرِضُون عن القُرآنِ؛ لأنَّهم أَوهَمُوا بجَدَلِهم أنَّ في القُرآنِ تَناقُضًا، وإمَّا على أنَّ الضَّمَّ لُغَةٌ في مُضارِعِ (صَدَّ) بمَعنَى ضَجَّ، مِثلُ لُغَةِ كَسرِ الصَّادِ، وعلى قِراءةِ يَصِدُّونَ -بكَسرِ الصَّادِ- وهو الصَّدُّ، بمَعنَى الضَّجيجِ والصَّخَبِ، فالمَعنَى: إذا قُرَيشٌ قَومُك يَصخَبون ويَضِجُّون منِ احتِجاجِ ابنِ الزِّبَعْرَى بالمَثَلِ بعِيسى في قَولِه، مُعجَبِين بفَلْجِه [671] الفَلْجُ: الظَّفَرُ والفَوزُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 242). وظُهورِ حُجَّتِه؛ لِضَعفِ إِدراكِهِم لمَراتِبِ الاحتِجاجِ [672] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/238). .
2- قولُه تعالَى: وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
- قَولُه: وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ حِكايةٌ لطَرَفٍ مِن المَثَلِ المَضرُوبِ؛ قَالُوه تَمهيدًا لِمَا بَنَوا عليه مِن الباطِلِ المُمَوَّهِ بما يَغتَرُّ بِه السُّفهاءُ؛ فقد قالوا جَميعًا: أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، وتَلَقَّفوها مِن فَمِ ابنِ الزِّبَعْرَى حينَ قَالَها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأَعادُوها؛ فهذا حِكايَةٌ لقَولِ ابنِ الزِّبَعرَى: إنَّك تَزعُمُ أنَّ عِيسَى نَبِيٌّ وقد عَبَدَتْه النَّصارَى، فإنْ كان عِيسَى في النَّارِ قد رَضِينَا أنْ نَكُونَ وآلِهَتنا في النَّارِ [673] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/51)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/239). .
- قَولُه: وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ حَكَوا أنَّ آلِهَتَهم خَيرٌ، ثمَّ عَنَّ لهم أنْ يَستَفهِمُوا على سَبيلِ التَّنَزُّلِ مِن الخَبَرِ إلى الاستِفهامِ المَقصودِ به الإفْحامُ، وهذا الاستِفهامُ تَقريرِيٌّ للعِلمِ بأنَّ النَّبيَّ يُفَضِّلُ عِيسَى على آلِهَتِهم، أي: فقد لَزِمَكَ أنَّكَ جَعَلْتَ أَهلًا للنَّارِ مَن كُنتَ تُفَضِّلُه؛ فأمْرُ آلِهَتِنا هَيِّنٌ [674] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/385)، ((تفسير أبي السعود)) (8/52)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/239). !
- وقولُه: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إضرابٌ انتِقالِيٌّ إلى وَصْفِهم بحُبِّ الخِصامِ، وإظهارِهِم مِن الحُجَجِ ما لا يَعتَقِدونَه؛ تَمويهًا على عامَّتِهم [675] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/240). .
3- قولُه تعالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ استِئنافٌ مَسُوقٌ لتَنزيهِه عليه السَّلامُ عن أنْ يُنسَبَ إليه ما نُسِبَ إلى الأصنامِ بطَريقِ الرَّمزِ، كما نَطَق به صَريحًا قَولُه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء: 101] الآيةَ، وفيه تَنبيهٌ على بُطلانِ رَأْيِ مَن رَفَعَه عن رُتبَةِ العُبودِيةِ، وتَعريضٌ بفَسادِ رَأْيِ مَنْ يَرَى رَأيَهم في شَأنِ المَلائِكَةِ، وهذا على القَولِ بأنَّ معنَى قولِه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي: ضرَبَه ابنُ الزِّبَعْرى حين جادَلَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قولِه تعالَى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [676] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/52). [الأنبياء: 98] .
- ولَمَّا ذَكَر ما يُشِيرُ إلى قِصَّةِ جِدالِ ابنِ الزِّبَعرَى في قَولِه: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] ، وكان سَبَبُ جِدالِه هو أنَّ عِيسَى قد عُبِدَ مِن دُونِ الله؛ لم يُتْرَكِ الكَلامُ يَنقَضي دُونَ أنْ يُردَفَ بتَقريرِ عُبُودِيَّةِ عيسى لهذِه المُناسَبةِ؛ إظهارًا لخَطَلِ رَأْيِ الذين ادَّعَوا إلَهِيَّتَه وعَبَدوه -وهم النَّصارَى-؛ حِرصًا على الاستِدلالِ للحَقِّ [677] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/240). .
- وفي قولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قُصِرَ عِيسَى على العُبودِيَّةِ على طَريقَةِ قَصْرِ القَلبِ [678] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19-22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للرَّدِّ على الَّذين زَعَموه إلهًا، أي: ما هو إلَّا عَبدٌ لا إلهٌ؛ لأنَّ الإلِهَيَّةَ تُنافي العُبودِيَّةَ، ثمَّ كان قَولُه: أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ إشارةً إلى أنَّه قد فُضِّلَ بنِعمَةِ الرِّسالةِ، أي: فلَيسَتْ له خُصوصِيَّةُ مَزِيَّةٍ على بَقِيَّةِ الرُّسُلِ، وليس تَكوينُه بدُونِ أبٍ إلَّا إرهاصًا [679] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/240). والإرهاصُ: ما ظهَر مِن الخَوارِقِ عن النَّبيِّ قبْلَ ظُهورِه. يُنظر: ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمُناوي (ص: 46)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 78)، ((المعجم الوسيط)) (1/377). .
4- قولُه تعالَى: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ
- في قَولِه: وَلَوْ نَشَاءُ جُعِلَ شَرْطُ (لو) فِعلًا مُستَقبَلًا؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذه المَشيئَةَ لم تَزَلْ مُمكِنَةً بأنْ يُعَوِّضَ للمَلائِكَةِ سُكنَى الأرضِ [680] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/242). .
- ومعنى (مِن) في قولِه: مِنْكُمْ البَدليَّةُ والعِوَضُ، والمجرورُ في قولِه: مِنْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بـ (جَعَلْنَا)، وقُدِّمَ على مَفعولِ الفِعلِ؛ للاهتِمامِ بمَعنَى هذه البَدَلِيَّةِ لتتَعَمَّقَ أفهامُ السَّامِعين في تَدَبُّرِها [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/242). .
- وجُملَةُ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بَيانٌ لمَضمُونِ شِبهِ الجُملَةِ في قَولِه: مِنْكُمْ، وحُذِفَ مَفعولُ يَخْلُفُونَ؛ لدَلالَةِ مِنْكُمْ عليه، وتَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ فِي الْأَرْضِ؛ للاهتِمامِ بِمَا هو أدَلُّ على كَونِ الجُملَةِ بَيانًا لمَضمُونِ مِنْكُمْ [682] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/242). .
5- قولُه تعالَى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ عَطفٌ على جُملَةِ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] ، ويَكونُ ما بيْنَهما مُستَطرَداتٍ، واعتِراضًا اقتَضَتْه المُناسَبةُ؛ لَمَّا أُشبِعَ مَقامُ إبطالِ إلَهِيَّةِ غَيرِ اللهِ بدَلائِلِ الوَحدانِيَّةِ، ثُنِيَ العِنانُ إلى إثباتِ أنَّ القُرآنَ حقٌّ، عَودًا على بَدءٍ، وهذا كَلامٌ مُوَجَّهٌ مِن جانِبِ اللهِ تعالى إلى المُنكِرين يومَ البَعثِ، ويَجوزُ أنْ يَكونَ مِن كَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [683] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/242). .
- قولُه: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، أي: إنَّ عيسى عليه السلامُ لَعِلمٌ للسَّاعَةِ، أي: شَرطٌ مِن أشراطِها تُعلَمُ به؛ فسُمِّي الشَّرطُ عِلمًا لحُصولِ العِلمِ به [684] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/261)، ((تفسير البيضاوي)) (5/94)، ((تفسير أبي حيان)) (9/386)، ((تفسير أبي السعود)) (8/52)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/99). .
أو ضَميرُ المَذَكَّرِ الغائِبِ في قَولِه: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ مُرادٌ به القُرآنُ؛ فيَكونُ هذا ثَناءً على القُرآنِ، والثَّناءُ على القُرآنِ استَمَرَّ مُتَّصِلًا مِن أوَّلِ السُّورَةِ آخِذًا بَعضُه بحُجَزِ بَعضٍ، مُتَخَلَّلًا بالمُعتَرِضاتِ والمُستطرَداتِ، ومُتَخَلِّصًا إلى هذا الثَّناءِ الأخيرِ بأنَّ القُرآنَ أعلَمَ النَّاسَ بوُقوعِ السَّاعَةِ. وإسنادُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ إلى ضَميرِ القُرآنِ؛ لأنَّ القُرآنَ سَبَبُ العِلمِ بوُقوعِ السَّاعَةِ؛ إذ فيه الدَّلائِلُ المُتَنَوِّعَةُ على إمكانِ البَعثِ ووُقوعِه. ويَجوزُ أنْ يكونَ إطلاقُ العِلمِ بمعنى المُعْلِمِ، مِن استعمالِ المصدَرِ بمعنى اسمِ الفاعلِ؛ مُبالَغَةً في كَونِه مُحَصِّلًا للعِلْمِ بالسَّاعَةِ؛ إذ لم يُقارِبْه في ذلك كِتابٌ مِن كُتُبِ الأَنبِياءِ، وقد ناسَبَ هذه المُبالَغَةَ التَّفريعُ في قَولِه: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا؛ لأنَّ القُرآنَ لم يُبقِ لأَحَدٍ مِريَةً في أنَّ البَعثَ واقِعٌ، ويَجوزُ أن يَكونَ ضَميرُ (إِنَّهُ) ضَميرَ شَأنٍ، أي: أنَّ الأَمرَ المُهِمَّ لَعِلْمُ النَّاسِ بوُقوعِ السَّاعةِ [685] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/242، 243). .
- وعُدِّي فِعلُ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا بالباءِ؛ لِتَضْمينِه مَعنَى: لا تُكَذِّبُنَّ بها، أو الباءُ بمَعنَى (في) الظَّرفِيَّةِ [686] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/244). .
- وحُذِفَت ياءُ المتكلِّمِ في وَاتَّبِعُونِ تَخفيفًا، مع بَقاءِ نُونِ الوِقايةِ دَليلًا عليها [687] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/244). .
6- قولُه تعالَى: وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
- وفي قولِه: وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ صِيغَ النَّهيُ عن اتِّباعِ الشَّيطانِ في صَدِّه إيَّاهُم بصِيغَةِ نَهيِ الشَّيطانِ عن أنْ يَصُدَّهم؛ للإشارَةِ إلى أنَّ في مُكنَتِهم الاحتِفاظَ مِن الوُقوعِ في شِباكِ الشَّيطانِ، فكُنِّي بنَهيِ الشَّيطانِ عن صَدِّهم عن نَهيهِم عن الطَّاعَةِ له بأبلَغِ مِن تَوجيهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم، على طَريقَةِ قَولِ العَرَبِ: لا أَعرِفَنَّكَ تَفعَلُ كذا، ولا أُلْفِيَنَّكَ في مَوضِعِ كذا [688] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/245). .
- وجُملَةُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعليلٌ للنَّهيِ عن أنْ يَصُدَّهُم الشَّيطانُ؛ فإنَّ شأنَ العاقِلِ أنْ يَحذَرَ مِن مَكائِدِ عَدُوِّه، وحَرفُ (إنَّ) هنا مَوقِعُه مَوقِعُ فاءِ التَّسَبُّبِ في إفادَةِ التَّعليلِ [689] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/245)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/100). .
7- قولُه تعالَى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- قَولُه: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ هذا هو المَقصودُ مِن ذِكْرِ عيسى عليه السَّلامُ؛ فهو عَطفٌ على قِصَّةِ إرسالِ مُوسَى [690] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/245). . وقيل: هو كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ تَعَنُّتِ بني إسرائيلَ [691] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/101). .
- ولم يُذكَرْ جَوابَ (لَمَّا)؛ فهو مَحذوفٌ لدَلالَةِ بَقِيَّةِ الكَلامِ عَلَيه، ومَوقِعُ حَرفِ (لَمَّا) هنا: أنَّ مَجيءَ عِيسى بالبَيِّناتِ صار مَعلومًا للسَّامِعِ مِمَّا تقَدَّم في قَولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف: 59] الآيَةَ، أي: لَمَّا جَاءَهُم عِيسَى اختَلَف الأحزابُ فيما جاء به؛ فحُذِف جَوابُ (لَمَّا)؛ لأنَّ المَقصودَ هو قَولُه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] ؛ لأنَّه يُفيدُ أنَّ سَنَنَ الأُمَمِ المَبعوثِ إليهم الرُّسُلُ لم يَختَلِفْ؛ فإنَّه لم يَخْلُ رَسولٌ عن قَومٍ آمَنوا به وقَومٍ كَذَّبوه، ثمَّ كانوا سَواءً في نِسبَةِ الشُّرَكاءِ في الإلَهِيَّةِ بمَزاعِمِ النَّصارَى أنَّ عِيسَى ابنٌ لِلَّهِ تعالى؛ فتمَّ التَّشابُه بيْن الرُّسُلِ السَّابِقين وبيْن مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليهم أجمَعينَ؛ فحَصَل في الكَلامِ إيجازٌ تدُلُّ عليه فاءُ التَّفريعِ [692] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/245، 246) .
- وجُملَةُ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ مُبَيِّنَةٌ لجُملَةِ جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ، ولَيسَتْ جَوابًا لشَرطِ (لَمَّا) الَّذي جُعِلَ التَّفريعُ في قَولِه: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مريم: 37] دَليلًا عليه. وفي إيقاعِ جُملَةِ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بَيانًا لجُملَةِ جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ إيماءٌ إلى أنَّه بادَأَهُم بهذا القَولِ؛ لأنَّ شَأنَ أهلِ الضَّلالَةِ أنْ يُسرِعوا إلى غَاياتِها ولو كانتْ مَبادِئُ الدَّعوَةِ تُنافِي عَقائِدَهُم، أي: لم يَدْعُهم عِيسى إلى أكثَرَ مِن اتِّباعِ الحِكمَةِ وبَيانِ المُختَلَفِ فيه، ولم يَدْعُهم إلى ما يُنافي أُصولَ شَريعَةِ التَّوراةِ؛ ومع ذلك لم يَخْلُ حالُه مِن صُدودٍ مُريعٍ عنه وتَكذيبٍ [693] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/246). .
- وابتِداؤُه بإعلامِهِم أنَّه جاءَهم بالحِكمَةِ والبَيانِ -وهو إجمالُ حالِ رِسالَتِه- تَرغيبٌ لهم في وَعْيِ ما سيُلْقِيه إليهم مِن تَفاصيلِ الدَّعوَةِ المُفَرَّعِ بَعضُها على هذه المُقَدِّمَةِ بقَولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [694] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/246). .
- وفي قَولِه: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَهيِئَةٌ لهم لِقَبولِ ما سَيُبَيِّنُ لهم حِينَئِذٍ أو مِن بَعدُ [695] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/247). .
- ولم يُذكَرْ في هذه الآيةِ قَولُه المَحكِيُّ في قولِه: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عِمرانَ: 50]؛ لأنَّ ذلك قد قَالَه في مَقامٍ آخَرَ، والمَقصودُ حِكايَةُ ما قَالَه لهم مِمَّا ليس شَأنُه أنْ يُثيرَ عليه قَومَه بالتَّكذيبِ؛ فهمْ كذَّبوه في وَقتٍ لم يَذكُرْ لهم فيه أنَّه جاء بنَسْخِ بَعضِ الأحكامِ مِن التَّوراةِ، أي: كذَّبوه في حالِ ظُهورِ آياتِ صِدقِه بالمُعجِزاتِ، وفي حالِ انتِفاءِ ما مِن شَأنِه أنْ يُثيرَ عليه شَكًّا [696] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/247). .
- وفَرَّع على إجمالِ فاتِحَةِ كَلامِه قَولَه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وهذا كَلامٌ جامِعٌ لتَفاصيلِ الحِكمَةِ، وبيَانِ ما يَختَلِفون فيه؛ فإنَّ التَّقوَى مَخافَةُ اللهِ [697] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/248). .
- ويُمكِنُ أنَ تَكونَ الفاءُ في قولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ عاطِفَةً؛ فيَكونَ الكَلامُ مَعطوفًا على ما سَبَقه على أنَّه تَتِمَّةُ كَلامِ عِيسَى، ويُمكِنُ أن تَكونَ استِئنافِيَّةً؛ فيكونُ الكَلامُ مُستَأنَفًا من اللهِ؛ للدَّلالَةِ على طَريقِ الطَّاعَةِ ومَحَجَّتِها الواضِحَةِ [698] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/101). .
8- قولُه تعالَى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بَيانٌ لِما أمرَهم بالطَّاعةِ فيه؛ وهو اعتِقادُ التَّوحيدِ والتَّعبُّدُ بالشَّرائِعِ [699] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/95)، ((تفسير أبي السعود)) (8/53). . أو تَعليلٌ لجُملَةِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الزخرف: 63] ؛ لأنَّه إذا ثَبَت تَفَرُّدُه بالرُّبوبيَّةِ تَوَجَّهَ الأمرُ بعِبادَتِه؛ إذ لا يَخافُ اللهَ إلَّا مَن اعتَرَفَ برُبوبِيَّتِه وانفرادِه بها [700] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/248). .
- وضميرُ الفَصلِ (هو) أفاد القَصْرَ، أي: الله ربِّي لا غَيرُه، وهذا إعلانٌ بالوَحدانِيَّةِ، وإنْ كان القَومُ الَّذين أُرسِلَ إليهم عيسى مُوَحِّدين، لكنْ قد ظَهَرت بِدعَةٌ وشِركٌ في بَعضِ فِرَقِهِم الَّذين قَالُوا: عُزَيْرٌ ابنُ الله [701] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/248). .
- قَولُه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فيه تَأكيدُ الجُملَةِ بحَرفِ (إنَّ)؛ لمَزيدِ الاهتِمامِ بالخَبَرِ؛ فإنَّ المُخاطَبين غَيرُ مُنكِرين ذلك [702] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/248). .
- وتَقديمُ نَفسِه على قَومِه في قَولِه: رَبِّي وَرَبُّكُمْ؛ لقَصدِ سدِّ ذَرائِعِ الغُلُوِّ في تَقديسِ عِيسى، وذلك مِن مُعجِزاتِه؛ لأنَّ اللهَ عَلِمَ أنَّه ستَغلُو فيه فِرَقٌ مِن أتباعِهِ، فيَزعُمون بُنُوَّتَه مِن اللهِ على الحَقيقَةِ [703] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/248). .
- وفُرِّعَ على إثباتِ التَّوحيدِ لِلَّهِ الأمْرُ بعِبادَتِه بقَولِه: فَاعْبُدُوهُ؛ فإنَّ المُنفَرِدَ بالإلَهِيَّةِ حَقيقٌ بأنْ يُعبَدَ [704] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/248). .
- وقولُه: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ مِن تَتِمَّةِ كَلامِ عيسى عليه السَّلامُ. أو استِئنافٌ مِن الله تعالى يَدُلُّ على ما هو المُقتَضِي للطَّاعَةِ في ذلك، وهو مُقَرِّرٌ لمقَالةِ عِيسَى عليه السَّلامُ [705] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/95)، ((تفسير أبي السعود)) (8/53). .
9- قولُه تعالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هذا التَّفريعُ هو المَقصودُ مِن سَوْقِ القِصَّةِ مَساقَ التَّنظيرِ بيْن أحوالِ الرُّسُلِ، أي: عَقِبَ دَعوَتَه اختِلافُ الأحزابِ مِن بَينِ الأُمَّةِ الَّذين بُعِثَ إليهم، والَّذين تَقَلَّدوا مِلَّتَه طَلَبًا للاهتِداءِ، وهذا التَّفريعُ دَليلٌ على جَوابِ (لمَّا) المَحذوفِ [706] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/249). .
- قَولُه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ فُرِّع على ذِكْرِ الاختِلافِ تَهديدٌ بوَعيدٍ للَّذين ظَلَموا بالعَذاِب يَومِ القِيامَةِ تَفريعَ التَّذيِيلِ على المُذَيَّلِ؛ فـ (الَّذين ظَلَموا) يَشمَلُ جَميعَ الَّذين أَشرَكوا مع اللهِ غَيرَه في الإلَهِيَّةِ؛ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، وهذا إطلاقُ الظُّلمِ غالِبًا في القُرآنِ؛ فعُلِمَ أنَّ الاختِلافَ بيْنَ الأحزابِ أفضَى بِهِم أنْ صارَ أكثَرُهم مُشرِكينَ؛ بقَرينَةِ ما هو مَعروفٌ في الاستِعمالِ مِن لُزومِ مُناسَبةِ التَّذييلِ للمُذَيَّلِ، بأنْ يَكونَ التَّذييلُ يَعُمُّ المُذَيَّلَ وغَيرَه؛ فيَشمَلُ عُمومُ هذا التَّذيِيلِ مُشرِكي العَرَبِ المَقصُودينَ مِن هذه الأمثالِ والعِبَرِ. وفي سورة (مريم) قال: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم: 37] ، فجُعِلتِ الصلةُ فِعلَ (كفروا)؛ لأنَّ المقصودَ من آيةِ سُورةِ (مريم) الذين كفروا مِن النَّصارى؛ ولذلك أردفَ بقولِه: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [مريم: 38] ؛ لَمَّا أُريدَ التَّخلُّصُ إلى إنذارِ المشركين بعدَ إنذارِ النَّصارَى [707] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/250). .