موسوعة التفسير

سورةُ فاطرٍ
الآيات (5-8)

ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْغَرُورُ: أي: الشَّديدُ التَّغريرِ والخِداعِ، والمرادُ به الشَّيطانُ، يقالُ: غَرَرتُ فُلانًا: إذا أصبْتَ غِرَّتَه ونِلتَ منه ما تُريدُه، مِنَ الغِرَّةِ: وهي الغَفلةُ .
حَسَرَاتٍ: جمعُ حَسْرةٍ، والحَسْرةُ: شدَّةُ الحزنِ أو النَّدَمُ الشَّديدُ وهمُّ النَّفسِ على ما فاتَ مِن الأمرِ، وأصلُ (حسر): يدُلُّ على كشْفِ الشَّيءِ، فالحسرةُ انْكِشافٌ عن حالِ النَّدامَةِ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: يا أيُّها النَّاسُ إنَّ وعْدَ اللهِ حَقٌّ كائِنٌ لا مَحالةَ؛ فلا تَغُرَّنَّكم الحياةُ الدُّنيا، ولا يَغُرَّنَّكم الشَّيطانُ بوَساوِسِه ووُعودِه الكاذِبةِ.
ثُمَّ يُبَيِّنُ عداوةَ الشَّيطانِ لابنِ آدَمَ، فيقولُ: إنَّ الشَّيطانَ لكم عَدُوٌّ فاتَّخِذوه عَدوًّا واحذَروا طاعتَه؛ إنَّما يدعو الشَّيطانُ أتْباعَه لِيُضِلَّهم فيَكونوا مِن أصحابِ النَّارِ.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه أقسامَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، فيقولُ: الَّذين كفَروا بالحَقِّ لهم عذابٌ شَديدٌ، والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ لهم مَغفِرةٌ وأجرٌ كبيرٌ.
ثمَّ يقولُ تعالى: أفمَن زُيِّن له عمَلُه السَّيِّئُ فرآه حَسَنًا كمَنْ ليس كذلك؟! فإنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ إضلالَه، ويَهدي مَن يشاءُ هِدايتَه؛ فلا تُهلِكْ نَفْسَك -يا محمَّدُ- حَزَنًا على هؤلاء الكافِرينَ؛ بسَبَبِ ضَلالِهم عن الحَقِّ، إنَّ اللهَ عَليمٌ بما يَصنَعونَ!

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: يا أيُّها النَّاسُ إنَّ ما وعَدَكم اللهُ به صِدقٌ لا شكَّ فيه، كائنٌ لا مَحالةَ .
فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
أي: فلا تَخدَعَنَّكم حياتُكم الدُّنيا، والتَّمَتُّعُ بمَلَذَّاتِها، والانشِغالُ بها .
وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
أي: ولا يَخدَعَنَّكم الشَّيطانُ بوَساوِسِه، وأمانيِّه الباطِلةِ، ووُعودِه الكاذِبةِ .
كما قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 119، 120].
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قال تعالى: وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ؛ ذكَرَ ما يَمنَعُ العاقِلَ مِن الاغترارِ، فقال :
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.
أي: إنَّ الشَّيطانَ لكم عَدُوٌّ حريصٌ على إضلالِكم؛ فعادُوه أشدَّ العَداوةِ، وخالِفوه فيما يأمُرُكم، واحذَروا طاعتَه، واستَفرِغوا وُسْعَكم في محاربتِه ومُجاهَدتِه .
كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50].
إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
أي: إنَّما يَدْعو الشَّيطانُ أشياعَه وأتْباعَه إلى طاعتِه والقَبولِ منه، والكفرِ بالله ، وغرَضُه أنْ يُضِلَّهم حتَّى يَكونوا مِن أهلِ النَّارِ .
كما قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج: 4] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 21] .
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أنهَى اللهُ تعالى البيانَ في غَرَضِ الشَّيطانِ إلى مُنتَهاه؛ نبَّه على ما حكَمَ به هو سُبحانَه في أشياعِه، بقَولِه مُستأنِفًا :
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
أي: الَّذين كَفَروا بالحَقِّ لهم عذابٌ شديدٌ .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ جزاءَ حِزبِ الشَّيطانِ؛ أتْبَعَه حِزبَ اللهِ الَّذين عادَوا عَدُوَّهم، فقال :
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
أي: والَّذين آمَنوا بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا -تصديقًا لإيمانِهم- الأعمالَ الصَّالحةَ الخالِصةَ للهِ تعالى، والموافِقةَ لِشَرعِه: لهم مَغفِرةٌ مِن الله لذُنوبِهم، فيَستُرُها عليهم، ويَتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها؛ ولهم أجرٌ كَبيرٌ .
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أبان ما سَبَق تَفاوُتَ الحِزبَينِ في المآلِ بالهلاكِ والفَوزِ، وكان لا يُقدِمُ على الهلاكِ أحدٌ فيه حِسٌّ، وكان الكُفَّارُ يَدَّعونَ أنَّهم الفائِزون قناعةً بالنَّظَرِ إلى ما هم فيه، ويَدَّعون أنَّهم أبصَرُ النَّاسِ، وأحسَنُهم أعمالًا، وكذا كلُّ عاصٍ ومُبتَدِعٍ؛ كان ذلك سببًا في إنكارِ تساويهما، فأنكرَه مُبَيِّنًا السَّبَبَ في ضلالِهم بما فيه تسليةٌ للمُحسِنينَ، ونَدْبٌ إلى الشُّكرِ، وحَثٌّ على مُلازَمةِ الافتقارِ والذُّلِّ، وسُؤالِ العافيةِ مِن الزَّلَل والزَّيغِ .
وأيضًا لَمَّا جَرَى تَحذيرُ النَّاسِ مُن غُرورِ الشَّيطانِ، وإيقاظُهم إلى عَداوتِه للنَّوعِ الإنسانيِّ، وتَقسيمُ النَّاسِ إلى فَريقَينِ: فَريقٌ انطَلَت عليه مَكايدُ الشَّيطانِ، واغتَرُّوا بغُرورِه، ولم يُناصِبوه العَداءَ، وفريقٌ أخَذوا حِذْرَهم منه، واحتَرَسوا مِن كَيدِه، وتَجنَّبوا السَّيرَ في مَسالِكِه، ثمَّ تَقسيمُهم إلى كافرٍ مُعذَّبٍ، ومُؤمِنٍ صالحٍ مُنْعَمٍ عليه؛ أُعقِبَ ذلك بالإيماءِ إلى استِحقاقِ حِزبِ الشَّيطانِ عذابَ السَّعيرِ، وبتَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَن لم يَخلُصوا مِن حَبائلِ الشَّيطانِ مِن أُمَّةِ دَعوتِه بأُسلوبِ المُلاطَفةِ في التَّسليةِ؛ ففُرِّعَ على جَميعِ ما تَقدَّمَ قولُه :
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا.
أي: أفمَنْ حُسِّنَ له عَمَلُه السَّيِّئُ، فرآه حسَنًا، كمَنْ ليس كذلك ؟!
كما قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [الكهف: 103 - 106] .
وقال سُبحانَه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14] .
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
أي: فإنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ إضلالَه، فيَصرِفُه عن الإيمانِ واتِّباعِ الحَقِّ؛ ويَهدي مَن يَشاءُ هدايتَه، فيَدُلُّه ويُوفِّقُه للإيمانِ واتِّباعِ الحَقِّ .
كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل: 93] .
فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ.
أي: فلا تُهلِكْ نَفْسَك -يا محمَّدُ- حَزَنًا على الكافِرينَ؛ بسَبَبِ ضَلالِهم عن الحَقِّ .
كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] .
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بما يَصنَعُه الكافِرونَ، فلا يخفَى عليه شَيءٌ مِن ذلك، وسيُجازيهم عليه .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أنَّه يَجِبُ على الإنسانِ ألَّا يَرتبِطَ بالدُّنيا مهما حَصَلَ له مِن زَهرتِها ونَعيمِها .
2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لا يَليقُ بذي هِمَّةٍ عَليَّةٍ اتِّباعُ الدَّنيءِ، والرِّضا بالدُّونِ الزَّائِلِ عن العالي الدَّائِمِ .
3- في قَولِه تعالى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الإشارةُ إلى وُجوبِ العنايةِ بالآخرةِ؛ فإذا نُهِينا عن الحياةِ الدُّنيا فمعناه أنَّنا نُلزَمُ بالعنايةِ بالآخرةِ؛ لأنَّها في الحقيقةِ هي المُنتَهَى، أمَّا هذه الدُّنيا فإنَّ الإنسانَ يَمُرُّ بها عابرًا فقط، حتَّى القبورُ الَّتي يَبقَى فيها الإنسانُ مِن السَّنواتِ ما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ: هي مَحَلُّ عُبُورٍ .
4- قَولُه تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ غايةٌ في التَّحذيرِ مِن الشَّيطانِ؛ فأخبَرَ تعالى بأنَّه عدُوٌّ، وخبَرُه حَقٌّ وصِدقٌ؛ فالواجِبُ على العاقِلِ أن يأخُذَ حِذْرَه مِن هذا العدُوِّ الَّذي قد أبان عداوتَه مِن زمنِ آدَمَ، وبَذَلَ نَفْسَه وعُمُرَه في إفسادِ أحوالِ بني آدمَ؛ قال جَلَّ مِن قائلٍ: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 168] ، وقال: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169] ، وقال: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة: 268] ، وقال: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 60] ، وقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ، ونحن على ذلك نتَولَّاه ونُطيعُه فيما يُريدُ مِنَّا ممَّا فيه هلاكُنا! وكان الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ يقولُ: (يا كذَّابُ، يا مُفتَرٍ، اتَّقِ الله، ولا تَسُبَّ الشَّيطانَ في العلانيةِ، وأنت صديقُه في السِّرِّ!)، وقال ابنُ السَّمَّاكِ: (يا عجبًا لِمَن عصَى المحسِنَ بعدَ مَعرفتِه بإحسانِه، وأطاع اللَّعينَ بعدَ معرفتِه بعداوتِه!) . وعداوةُ الشَّيطانِ وسيلةٌ إلى معصيتِه في كلِّ ما يأمُرُ به؛ فإنَّه لا يأمُرُ بخَيرٍ .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا فيه تنبيهٌ على وُجوبِ عداوةِ الدُّعاةِ في الضَّلالةِ، المُستَمِدِّينَ مِن الشَّيطانِ .
6- قَولُه تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فيه وَعيدٌ لِمَن أجاب دُعاءَ الشَّيطانِ، ووَعدٌ لِمَن خالَفَه، وقَطْعٌ للأمانيِّ الفارغةِ، وبِناءٌ للأمْرِ كلِّه على الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ .
7- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ التَّحذيرُ مِن سُلوكِ الإنسانِ سُبُلَ الهَلاكِ وهو لا يَشعُرُ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ تضَمَّنت الآيةُ غُرورَينِ: غُرورًا يغتَرُّه المرءُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه، ويُزيِّنُ لِنَفْسِه مِن المظاهِرِ الفاتنةِ الَّتي تَلوحُ له في هذه الدُّنيا ما يَتوهَّمُه خَيرًا، ولا يَنظُرُ في عواقِبِه؛ بحيثُ تخفَى مَضارُّه في بادئِ الرَّأيِ، ولا يظُنُّ أنَّه مِن الشَّيطانِ. وغُرورًا يَتلَقَّاه ممَّن يَغُرُّه، وهو الشَّيطانُ. وكذلك الغُرورُ كُلُّه في هذا العالَمِ؛ بَعضُه يُملِيه المرءُ على نَفْسِه، وبَعضُه يَتلَقَّاه مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ .
2- في قَولِه تعالى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا جوازُ تَنَعُّمِ الإنسانِ بالدُّنيا على وَجهٍ لا تَغُرُّه؛ فلم يَقُلْ: «فلا تَتَنَعَّموا في الدُّنيا بشَيءٍ»، بل قال: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا .
3- في قَولِه تعالى: الدُّنْيَا دُنُوُّ الدُّنيا مرتبةً، ودناءَتُها؛ فهي وإنْ كانت حياةً لكِنَّها دُنيا، ويَستلزِمُ ذلك الثَّناءَ على الآخرةِ؛ لأنَّ وَصْفَ الضَّرَّةِ بالعَيبِ يدُلُّ على وَصفِ ضَرَّتِها بالكَمالِ؛ قال اللهُ تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16، 17].
4- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا لَمَّا كانت عداوتُه تحتاجُ إلى مُجاهَدةٍ -لأنَّه يأتي الإنسانَ مِن قِبَلِ الشَّهَواتِ-؛ عبَّرَ بصيغةِ الافتِعالِ، فقال: فَاتَّخِذُوهُ .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أمَرَ اللهُ هنا باتِّخاذِ العَدُوِّ عَدُوًّا، ولم يَندُبْ إلى العَفوِ عنه، والإغضاءِ عن عداوتِه، كما أمَرَ في قَولِه تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، ونحوِ ذلك ممَّا تكَرَّر في القُرآنِ وكلامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فعداوةُ الشَّيطانِ لَمَّا كانت جِبِلِّيَّةً لا يُرجى زوالُها مع مَن يعفو عنه، لم يأمُرِ اللهُ إلَّا باتِّخاذِه عَدُوًّا؛ لأنَّه إذا لم يُتَّخَذْ عدُوًّا، لم يراقِبِ المُسلِمُ مَكايِدَه ومُخادَعتَه .
وقد قال اللهُ تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 199، 200]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 96 - 98]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فُصِّلَتْ: 34 - 36]. فهذه ثلاثُ آياتٍ ليس لهنَّ رابعةٌ في معناها، وهو أنَّ اللهَ تعالى يأمُرُ بمُصانَعةِ العدوِّ الإنسيِّ والإحسانِ إليه؛ لِيَرُدَّه عنه طبْعُه الطَّيِّبُ الأصلِ إلى المُوادَّةِ والمُصافاةِ، ويأمُرُ بالاستِعاذةِ به مِن العدوِّ الشَّيطانيِّ لا مَحالةَ؛ إذْ لا يَقْبَلُ مُصانَعةً ولا إحسانًا، ولا يَبتغي غيرَ هلاكِ ابنِ آدمَ .
6- قَولُه تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا الأمرُ باتِّخاذِه عدوًّا تَنبيهٌ على استِفراغِ الوُسْعِ في مُحارَبتِه ومُجاهَدتِه، كأنَّه عَدُوٌّ لا يَفْتُرُ ولا يُقْصِرُ عن مُحارَبةِ العَبدِ على عَدَدِ الأنفاسِ .
7- في قَولِه تعالى: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بيانُ رحمةِ اللهِ تعالى بعبادِه؛ لأنَّ العِلْمَ بعَداوةِ الشَّيطانِ غيرُ مُدرَكٍ لنا، ولكِنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي أخبَرَنا به، ثمَّ حَثَّنا، بل أمَرَنا بمُخالَفتِه .
8- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ فيه إشارةٌ إلى معنًى لطيفٍ، وهو أنَّ مَن يكونُ له عدُوٌّ، فله في أمْرِه طريقانِ:
أحدُهما: أن يُعاديَه مُجازاةً له على مُعاداتِه.
والثَّاني: أن يُذهِبَ عداوتَه بإرضائِه، فلمَّا قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، أمَرَهم بالعَداوةِ، وأشار إلى أنَّ الطَّريقَ ليس إلَّا هذا، وأمَّا الطَّريقُ الآخَرُ -وهو الإرضاءُ- فلا فائدةَ فيه؛ لأنَّكم إذا رأيتُموه واتَّبَعْتُموه، فهو لا يُؤدِّيكم إلَّا إلى السَّعيرِ .
9- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ بلاغةُ القرآنِ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ عَمَلًا واحِدًا في الكُفَّارِ ذكَرَ جزاءً واحِدًا، ولَمَّا ذكَرَ وصْفَينِ في المؤمِنينَ ذكَرَ وصفَينِ في ثَوابِهم .
10- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ بلاغةُ القرآنِ؛ حيث يَجْمَعُ بينَ الشَّيءِ وضِدِّهِ، وهو مِصْداقُ قولِه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر: 23] ، فقال: مَثَانِيَ أي: تُثَنَّى فيه المعاني، وهنا لَمَّا ذَكَرَ عذابَ الكافرين ذَكَرَ ثوابَ المؤمنينَ .
11- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أشارت الآيةُ إلى طرَفَينِ في الضَّلالِ والاهتداءِ، وطَوَتْ ما بيْنَ ذَينِك مِن المراتِبِ؛ لِيُعلَمَ أنَّ ما بيْنَ ذلك ينالُهم نَصيبُهم مِن أشبَهِ أحوالِهم بأحوالِ أحدِ الفَريقَينِ، على عادةِ القُرآنِ في وَضعِ المُسلِمِ بيْن الخَوفِ والرَّجاءِ، والأمَلِ والرَّهبةِ .
12- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أنَّ الأجرَ لا يَثبُتُ إلَّا باتِّصافِ الفاعِلِ بوصفَينِ؛ أحدُهما: الإيمانُ، والثَّاني: العملُ الصَّالحُ .
13- أنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ يَنالونَ أجرَهم مِن وَجهَينِ: مِن زوالِ المكروهِ الثَّابتِ؛ لِقَولِه تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، وحُصولِ المطلوبِ الثَّابتِ، بقَولِه تعالى: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ .
14- في قَولِه تعالى: وَأَجْرٌ سَمَّى اللهُ عزَّ وجلَّ الثَّوابَ أجرًا؛ لأنَّه لا بُدَّ أنْ يَنالَه العامِلُ، فهو كأُجرةِ الأجيرِ، فلا بُدَّ أنْ ينالَها العامِلُ، وهذا كقَولِه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة: 245] ، فسَمَّى العَمَلَ للهِ قَرضًا؛ لأنَّ القَرضَ يجبُ إيفاؤُه، فمِثْلُ هذه الآياتِ تدُلُّ على أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أوجَبَ على نفْسِه أنْ يُثيبَ العامِلَ .
15- ليس كلُّ مَن كان قَصْدُه حَسَنًا يكونُ فِعلُه صَوابًا وحَسَنًا؛ ولهذا قال الله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا !
16- قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا، وقال: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43] ، وقال: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] ، فأحيانًا يَحذِفُ فاعِلَ التَّزيينِ، وأحيانًا يَنسُبُه إلى سَبَبِه ومَن أجراه على يَدِه، وأحيانًا يُضيفُه اللهُ إليه، وهذا التَّزيينُ منه سُبحانَه خَلقًا ومشيئةً، وهو منه حَسَنٌ؛ إذ هو ابتلاءٌ واختبارٌ؛ لِيَتميَّزَ المطيعُ منهم مِن العاصي، والمؤمِنُ مِن الكافِرِ، كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وهو مِن الشَّيطانِ قَبيحٌ، وأيضًا فتزيينُه سُبحانَه للعَبدِ عَمَلَه السَّيِّئَ: عُقوبةٌ منه له على إعراضِه عن توحيدِه وعُبوديَّتِه، وإيثارِ سَيِّئِ العمَلِ على حَسَنِه؛ فإنَّه لا بدَّ أن يُعَرِّفَه سُبحانَه السَّيِّئَ مِن الحَسَنِ، فإذا آثرَ القبيحَ واختاره، وأحبَّه ورَضِيَه لنَفْسِه؛ زيَّنه سُبحانَه له، وأعماه عن رؤيةِ قُبحِه بعدَ أنْ رآه قبيحًا، وكُلُّ ظالمٍ وفاجرٍ وفاسِقٍ لا بدَّ أن يرُيهَ اللهُ تعالى ظُلْمَه وفُجورَه وفِسقَه قَبيحًا، فإذا تمادَى عليه ارتفَعَت رؤيةُ قُبحِه مِن قَلبِه، فرُبَّما رآه حسَنًا عُقوبةً له؛ فتزيينُ الرَّبِّ تعالى عَدلٌ، وعُقوبتُه حِكمةٌ، وتزيينُ الشَّيطانِ إغواءٌ وظُلمٌ، وهو السَّبَبُ الخارجُ عن العبدِ، والسَّبَبُ الداخِلُ فيه حُبُّه وبُغضُه وإعراضُه، والرَّبُّ سُبحانَه خالِقُ الجميعِ، والجميعُ واقِعٌ بمشيئتِه وقُدرتِه، ولو شاء لهدى خَلْقَه أجمعينَ، والمعصومُ مَن عَصمَه اللهُ، والمخذولُ مَن خذَلَه اللهُ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .
17- في قَولِه تعالى: سُوءُ عَمَلِهِ الرَّدُّ على الجَبريَّةِ؛ حيث أضاف العمَلَ إليه، وهم يقولونَ: إنَّ الأعمالَ لا تُضافُ إلى الإنسانِ؛ لأنَّه مُجبَرٌ عليها !
18- في قَولِه تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الرَّدُّ على القَدَريَّةِ؛ فإنَّ القَدَريَّةَ يقولونَ: «إنَّ أفعالَ العَبدِ مِن ضَلالةٍ أو هِدايةٍ لا تَتعلَّقُ بها مَشيئةُ اللهِ»، ويَرَوْنَ أنَّ الإنسانَ مُستَقِلٌّ بعَمَلِه، ليس للهِ تعالى فيه تَعلُّقٌ إطلاقًا !
19- في قَولِه تعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بَشَرٌ، يَتأثَّرُ بما يَتأثَّرُ به البشَرُ مِن أسبابِ الفرحِ وأسبابِ الحزنِ، وهذا أمرٌ واقعٌ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ رُجوعٌ إلى خِطابِ النَّاسِ. وتَكريرُ نِداءِ الناسِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ لِتَأكيدِ العِظَةِ والتَّذكيرِ، وإعذارًا لهم وإنذارًا بتَحقيقِ أنَّ وعْدَ اللهِ الَّذي وَعَدَه مِن عِقابِه المُكذِّبينَ في يومِ البعثِ هو وعْدٌ واقعٌ لا يَتخلَّفُ، وذلك بعْدَ أنْ قدَّمَ لهم التَّذكيرَ بدَلائلِ الوَحدانيَّةِ المُشتمِلةِ عليها، مع الدَّلالةِ على نِعَمِ اللهِ عليهم؛ لِيَعلَموا أنَّه لا يَستحِقُّ العِبادةَ غيرُه، وأنَّه لا يَتَّصِفُ بالإلهيَّةِ الحقِّ غيرُه .
- قولُه: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فيه تأْكيدُ الخَبرِ بـ (إنَّ)؛ إمَّا لأنَّ الخِطابَ للمُنكِرينَ، وإمَّا لِتَغليبِ فَريقِ المُنكِرينَ على المؤمنينَ؛ لأنَّهم أحوَجُ إلى تَقويةِ المَوعظةِ .
- وإضافةُ الوعدِ إلى الاسمِ الأعظَمِ تَوطئةٌ لِكَونِه حقًّا؛ لأنَّ اللهَ لا يَأتي منه الباطلُ . والحقُّ هنا مُقابِلُ الكذِبِ، والمعنى: أنَّ وعْدَ اللهِ صادِقٌ، ووَصْفُ الصِّدقِ بالمَصدرِ حَقٌّ مُبالَغةٌ في حَقيقتِه .
- قولُه: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فيه تَكريرُ فِعلِ النَّهيِ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ووَلَا يَغُرَّنَّكُمْ؛ للمُبالَغةِ فيه، ولاختِلافِ الغُرورينِ في الكيفيَّةِ .
2- قَولُه تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ
- لَمَّا كان في قولِه: وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5] إبهامٌ ما في المُرادِ بالغَرورِ، عُقِّبَ ذلك ببَيانِه بأنَّ الغَرورَ هو الشَّيطانُ؛ لِيَتقرَّرَ المُسنَدُ إليه بالبَيانِ بعْدَ الإبهامِ؛ فجُملةُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ تَتنزَّلُ مِن جُملةِ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مَنزلةَ البَيانِ مِن المُبيَّنِ؛ فلذلك فُصِلَت ولم تُعطَفْ، وهذا مِن دَلالةِ تَرتيبِ الكلامِ على إرادةِ المُتكلِّمِ؛ إذ يَعلَمُ السَّامعُ مِن وُقوعِ وَصْفِ الشَّيطانِ عَقِبَ وصْفِ الغَرورِ أنَّ الغَرورَ هو الشَّيطانُ .
- قولُه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا فيه إظهارُ اسمِ الشَّيطانِ في مَقامِ الإضمارِ؛ للإفصاحِ عن المُرادِ بالغَرورِ أنَّه الشَّيطانُ .
- وتَأكيدُ الخبَرِ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ لِقَصدِ تَحقيقِه؛ لأنَّ النَّاسَ بغَفْلتِهم عن عَداوةِ الشَّيطانِ كَحالِ مَن يُنكِرُ أنَّ الشَّيطانَ عَدوٌّ .
- وتَقديمُ شِبهِ الجُملةِ لَكُمْ على مُتعلَّقِه عَدُوٌّ؛ للاهتِمامِ بهذا المُتعلِّقِ .
- وفُرِّعَ عن الخَبرِ بأنَّ الشَّيطانَ عَدوٌّ للإنسانِ أنْ أُمِروا باتِّخاذِه عَدُوًّا بقولِه: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا؛ لأنَّهم إذا عَلِموا أنَّه عَدُوٌّ لهم حَقَّ عليهم اتِّخاذُه عَدوًّا، وإلَّا لَكانوا في حَماقةٍ .
- قولُه: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ تَقريرٌ لِعَداوةِ الشَّيطانِ، وتَحذيرٌ مِن طاعتِه؛ بالتَّنبيهِ على أنَّ غَرَضَه في دَعوةِ شِيعتِه إلى اتِّباعِ الهَوَى والرُّكونِ إلى مَلاذِّ الدُّنيا، ليس تَحصيلَ مَطالبِهم ومَنافِعِهم الدُّنيويَّةِ، كما هو مَقصدُ المُتحابِّينَ في الدُّنيا عندَ سَعيِ بعضِهم في حاجةِ بعضٍ، بلْ هو تَوريطُهم وإلقاؤُهم في العذابِ المُخلَّدِ مِن حيثُ لا يَحتسِبون، وهذا يُؤكِّدُ الأمْرَ باتِّخاذِه عَدوًّا؛ لأنَّ أشدَّ النَّاسِ تَضرُّرًا به همْ حِزبُه وأولياؤه ؛ فالجُملةُ تَعليلٌ لِجُملةِ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. وجِيءَ بها في صِيغةِ حَصْرٍ؛ لانحصارِ دَعوتِه في الغايةِ المَذكورةِ عَقِبَها بلامِ العِلَّةِ؛ كَيْلا يُتوهَّمَ أنَّ دَعوتَه تَخْلو عن تلك الغايةِ ولو في وَقتٍ ما. وبهذا العُمومِ الَّذي يَقْتضيهِ الحَصرُ صارتِ الجُملةُ أيضًا في مَعنى التَّذييلِ لِمَا قبْلَها كلِّه .
- ومُقْتضى وُقوعِ فِعلِ يَدْعُو في حيِّزِ القَصرِ أنَّ مَفعولَه -وهو قولُه: حِزْبَهُ- هو المَقصودُ مِن القَصرِ، أي: أنَّه يَدْعو حِزبَه، ولا يَدْعو غيرَ حِزبِه، والشَّيطانُ يَدْعو النَّاسَ كلَّهم، سواءٌ في ذلك حِزبُه ومَن لم يَركَنْ إلى دَعوتِه، إلَّا أنَّ أثَرَ دَعوتِه لا يَظهَرُ إلَّا في الَّذين يَركَنون له، فيَصِيرون حِزبَه؛ قال تعالى له: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] ؛ فتَعيَّنَ أنَّ في الكلامِ إيجازَ حَذْفٍ ، والتَّقديرُ: إنَّما يَدْعو حِزبَه دَعوةً بالِغةً مَقْصدَه .
3- قَولُه تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
- قولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ استِئنافٌ ابتدائيٌّ يُفِيدُ مُفادَ الفَذْلَكةِ والاستِنتاجِ ممَّا تَقدَّمَ. وهذا الاستِئنافُ يُشيرُ إلى أنَّ الَّذين كَفَروا همْ حِزبُ الشَّيطانِ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ أنَّ حِزبَه مِن أصحابِ السَّعيرِ، وحكَم هنا بأنَّ الَّذين كَفَروا لهم عذابٌ شَديدٌ؛ عُلِمَ أنَّ الَّذين كَفَروا مِن أصحابِ السَّعيرِ؛ إذ هو العذابُ الشَّديدُ، فعُلِمَ أنَّهم حِزبُ الشَّيطانِ بطَريقةِ قِياسٍ مَطْويٍّ؛ فالَّذين كَفَروا همْ حِزبُ الشَّيطانِ؛ لِعُكوفِهم على مُتابَعتِه وإنْ لم يُعلِنوا ذلك؛ لاقتناعِه منهم بمُلازَمةِ ما يُمْلِيه عليهم .
- وبدَأَ بالكُفَّارِ في قولِه: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ؛ لِمُجاوَرةِ قولِه: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ، فأتْبَعَ خَبرَ الكافرِ بحالِه في الآخرةِ ، فبَدَأَ بما فيه التَّحذيرُ قبْلَ ما فيه التَّبشيرُ؛ مِن أجْلِ المناسَبةِ .
- قَولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ذِكرُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصالحاتِ تَتميمٌ بأنَّ الَّذين لم يَكونوا مِن حِزبِ الشَّيطانِ قد فازوا بالخَيراتِ .
4- قَولُه تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ابتِداؤُه بفاءِ التَّفريعِ ربْطٌ له بما تَقدَّمَ؛ لِيَعودَ الذِّهنُ إلى ما حُكِيَ مِن أحوالِهم؛ فالتَّفريعُ على قولِه: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ، ثمَّ بإبرازِ الكلامِ المُفرَّعِ في صورةِ الاستِفهامِ الإنكاريِّ، واجتِلابِ المَوصولِ الَّذي تُومِئُ صِلَتُه إلى عِلَّةِ الخبرِ المَقصودِ، فأُشِيرَ إلى أنَّ وُقوعَه في هذه الحالةِ ناشئٌ مِن تَزيينِ الشَّيطانِ له سُوءَ عمَلِه .
- وقولُه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا إمَّا تَقريرٌ لِما سبَقَ مِن التَّبايُنِ البَيِّنِ بيْنَ عاقِبَتَيِ الفَريقَينِ، ببَيانِ تَبايُنِ حالَيْهِما المُؤدِّيَينِ إلى تَينِك العاقبتَينِ، والفاءُ لإنكارِ تَرْتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها، أي: أبَعْدَ كَونِ حالَيهما كما ذُكِرَ، يكونُ مَن زُيِّن له الكُفرُ مِن جِهةِ الشَّيطانِ فانهَمَك فيه، كمَنِ استقْبَحَه واجتنَبَه، واختارَ الإيمانَ والعملَ الصَّالحَ حتَّى لا تكونَ عاقِبَتاهما كما ذُكِرَ؟! فحُذِفَ ما حُذِفَ؛ لِدَلالةِ ما سبَقَ عليه. وإمَّا تَمهيدٌ لِمَا يَعقُبُه مِن نَهْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن التَّحسُّرِ والتَّحزُّنِ عليهم لِعَدمِ إسلامِهم، ببَيانِ أنَّهم لَيْسوا بأهلٍ لذلك، بلْ لأنْ يَضرِبَ عنهم صَفْحًا، ولا يُباليَ بهم قَطعًا، أي: أبَعْدَ كَونِ حالِهم كما ذُكِرَ تَتحسَّرُ عليهم؟! فحُذِفَ؛ لِمَا دلَّ عليه قولُه تعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ دَلالةً بَيِّنةً. وكذلك قولُه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ ... إلخ، تَقريرٌ له، وتَحقيقٌ للحقِّ ببَيانِ أنَّ الكُلَّ بمَشيئتِه تعالى. وإمَّا تَمْهيدٌ لِصَرْفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا كان عليه مِن الحِرصِ الشَّديدِ على إسلامِهم، والمُبالَغةِ في دَعوتِهم إليه؛ ببَيانِ استحالةِ تَحوُّلِهم عن الكُفرِ؛ لِكَونِه في غايةِ الحُسنِ عندَهم، أي: أبَعْدَ ما ذُكِرَ مَن زُيِّن له الكُفرُ مِن قِبَلِ الشَّيطانِ، فرآهُ فانهَمَك فيه، يَقبَلُ الهِدايةَ حتَّى تَطمَعَ في إسلامِه وتُتعِبَ نفْسَك في دَعوتِه؟! فحُذِفَ ما حُذِفَ؛ لِدَلالةِ ما مَرَّ مِن قولِه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إلخ .
- وهذه الآياتُ مِن الجمْعِ والتَّقسيمِ والتَّفريقِ ؛ فقولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ جمَعَ الفَريقينِ معًا في حُكمِ نِداءِ الناسِ، وجمَعَ ما لَهما مِن الثَّوابِ والعِقابِ في حُكمِ الوَعدِ، وحذَّرَهما معًا عن الغُرورِ بالدُّنيا والشَّيطانِ. وأمَّا التَّقسيمُ فهو قولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ؛ لأنَّه بيَّن فيه أحوالَ الفريقَينِ وما لَهما وعليهما مِن الثَّوابِ والعِقابِ. وأمَّا التَّفريقُ فقولُه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ؛ لأنَّه فرَّقَ فيه، وبيَّن التَّفاوُتَ بيْنَ الفريقَينِ، فالفاءُ في قولِه: أَفَمَنْ للتَّعقيبِ، والهمْزةُ الدَّاخلةُ بيْنَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ لإنكارِ المُساواةِ، وتَقريرِ البَونِ العَظيمِ بيْنَ الفريقينِ .
- والنَّهيُ مُوَجَّهٌ إلى نَفْسِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ تَذهَبَ حَسَراتٍ على الضَّالِّينَ، ولم يُوجَّهْ إليه بأنْ يُقالَ: فلا تَذهَبْ عليهم حَسراتٍ، والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونفْسُه مُتَّحدانِ؛ فتَوجيهُ النَّهيِ إلى نفْسِه دونَ أنْ يُقالَ: فلا تَذهَبْ عليهم حَسراتٍ؛ للإشارةِ إلى أنَّ الذَّهابَ مُعبَّرٌ به عنِ التَّلفِ والانعدامِ؛ لِتَحصُلَ فائدةُ تَوزيعِ النَّهيِ والخِطابِ على شَيئينِ في ظاهرِ الأمرِ؛ فهو تَكريرُ الخِطابِ والنَّهيِ لِكِلَيهما، وهي طَريقةُ التَّجريدِ المعدودِ في المُحسِّناتِ، وفائدةُ التَّكريرِ المُوجبِ تقريرُ الجُملةِ في النَّفْسِ .
- وجُمِعَت الحَسَراتُ -مع أنَّ اسمَ الجِنسِ صالحٌ للدَّلالةِ على تَكرارِ الأفرادِ-؛ قَصدًا للتَّنبيهِ على إرادةِ أفرادٍ كثيرةٍ مِن جِنسِ الحَسْرةِ؛ لأنَّ تَلَفَ النَّفْسِ يكونُ عندَ تَعاقُبِ الحسَراتِ الواحدةِ تِلْوَ الأُخرى؛ لدَوامِ المُتحسَّرِ منه؛ فكلُّ تَحسُّرٍ يَترُكُ حَزازةً وكَمدًا في النَّفْسِ حتى يَبلُغَ إلى الحدِّ الَّذي لا تُطِيقه النَّفْسُ، فيَنفطِرَ له القلْبُ. أو لِكَثرةِ قَبائحِ أعمالِهم المُوجِبةِ للتَّأسُّفِ والتَّحسُّرِ .
- وجُملةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مُفرَّعةٌ على أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا، وجُملةُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ مُفرَّعةٌ على المُفرَّعِ على جُملةِ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ... إلخ؛ فتَؤُولُ إلى التَّفريعِ على الجُملتينِ، فيَؤُولُ إلى أنْ يكونَ النَّظمُ هكذا: أفتَتحسَّرُ على مَن زُيِّنَ لهم سُوءُ أعمالِهم فرَأَوها حَسناتٍ، واختاروا لأنفُسِهم طَريقِ الضَّلالِ؟! فلا تَذهَبْ نفْسُك عليهم حَسراتٍ، وإنَّما حَسْرَتُهم على أنفُسِهم؛ إذ رَضُوا لها باتِّباعِ الشَّيطانِ، ونَبَذوا اتِّباعَ إرشادِ اللهِ، كما دلَّ على ذلك قولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ؛ تَسجيلًا عليهم أنَّهم ورَّطوا أنفُسَهم فيما أوقَعوها فيه بصُنْعِهم؛ فعُدِلَ عن النَّظمِ المألوفِ إلى هذا النَّظمِ العجيبِ، وصِيغَ بالاستِفهامِ الإنكاريِّ والنَّهيِ التَّثبيتيِّ. وقد اشتَمَلَتْ هذه الآيةُ على فاءاتٍ أربَعٍ كلُّها للسَّببيَّةِ والتَّفريعِ، وهي الَّتي بلَغَ بها نَظْمُ الآيةِ إلى هذا الإيجازِ البالغِ حَدَّ الإعجازِ، وفي اجتِماعِها ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بجَمْعِ النَّظائرِ .
- وأيضًا جُملةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ تَصلُحُ لإفادةِ التَّصبُّرِ والتَّحلُّمِ، أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بصُنْعِهم في المُخالَفةِ عن أمْرِه؛ فكما أنَّه لِحِلمِه لم يُعجِّلْ بمُؤاخَذتِهم، فكُنْ أنت مُتَّصِفًا بذلك. وفي ضِمنِ هذا كِنايةٌ عن عدَمِ إفلاتِهم مِن العَذابِ على سُوءِ عَملِهم، وليس في هذه الجُملةِ مَعنى التَّعليلِ لِجُملةِ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ؛ لأنَّ كَمَدَ نفْسِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ لأجْلِ تَأخيرِ عِقابِهم، ولكنْ لأجْلِ عدَمِ اهتدائِهم . وقيل: قولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ تَعليلٌ لِمَا قبْلَه، مع ما فيه مِن الوعيدِ .
- وتَأكيدُ الخَبرِ بـ (إنَّ)؛ إمَّا تَمثيلٌ لحالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحالِ مَن أغفَله التَّحسُّرُ عليهم عن التَّأمُّلِ في إمهالِ اللهِ إيَّاهم؛ فأُكِّدَ له الخبَرُ بـ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وإمَّا لِجَعْلِ التَّأكيدِ لِمُجرَّدِ الاهتمامِ بالخَبرِ؛ لِتَكونَ (إنَّ) مُغْنيةً غَناءَ فاءِ التَّفريعِ، فتَتمخَّضَ الجُملةُ لِتَقريرِ التَّسليةِ والتَّعريضِ بالجزاءِ عن ذلك .
- وعُبِّرَ بـ يَصْنَعُونَ دونَ (يعملون)؛ للإشارةِ إلى أنَّهم يُدَبِّرون مَكايدَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمُسلمينَ؛ فيكونُ هذا الكلامُ إيذانًا بوُجودِ باعثٍ آخَرَ على النَّزعِ عن الحَسرةِ عليهم .