موسوعة التفسير

سورةُ فاطرٍ
الآيات (1-4)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَاطِرِ: أي: خالِقِ ومُبتَدئِ، يُقالُ: فطَرَ اللهُ الخَلْقَ، أي: ابتدَأَهم، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه .
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ: أي: اثنَينِ اثنَينِ، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا؛ لبعضِهم جَناحانِ، ولبعضِهم ثلاثةٌ، ولبعضِهم أربعةٌ .
تُؤْفَكُونَ: أي: تُصرَفونَ عن الحَقِّ، والإفكُ: كلُّ مَصروفٍ عن وَجهِه الَّذي يحِقُّ أن يكونَ عليه، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهتِه .

المعنى الإجماليُّ:

يقول تعالى: الحَمدُ لله وَحْدَه الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، وجعَلَ الملائِكةَ رُسُلًا، أصحابَ أجنِحةٍ مَثنى وثُلاثَ ورُباعَ، يَزيدُ سُبحانَه في الخَلقِ ما يَشاءُ؛ إنَّه سُبحانَه على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
ثمَّ يَذكُرُ تعالى أحدَ مَظاهرِ قُدرتِه، وانفرادِه تعالى بالتَّدبيرِ والعطاءِ والمنعِ، فيقولُ: ما يَفتَحِ اللهُ للنَّاسِ مِن رَحمةٍ فلا يَستطيعُ أحدٌ أن يَحبِسَها دونَه، وما يُغلِقِ اللهُ مِن رحمةٍ عن النَّاسِ فلا يستطيعُ أحدٌ أن يُرسِلَها لهم، واللهُ هو العزيزُ الغالِبُ القاهِرُ، الحكيمُ الَّذي يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائِقِ به.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى بذِكْرِه وشُكرِه، فيقولُ: يا أيُّها النَّاسُ اذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم، فانظُروا هل مِن خالقٍ غيرُ اللهِ يَرزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرضِ، لا إلهَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ وَحْدَه، فكيف تُصرَفونَ عن عبادتِه؟!
ثمَّ يقولُ الله تعالى مسَلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: وإنْ يُكَذِّبْك -يا محمَّدُ- كُفَّارُ قَومِك، فقد كُذِّبَ رُسُلٌ مِن قَبْلِك؛ فلا تَحزَنْ لذلك، وإلى اللهِ وحْدَه تُرجَعُ الأمورُ.

تَفسيرُ الآياتِ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1).
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: الحمدُ الكاملُ ثابِتٌ ومختَصٌّ باللهِ وَحْدَه الَّذي خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ، على غيرِ مِثالٍ سابِقٍ .
جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ.
أي: جاعِلِ الملائِكةِ رُسُلًا بيْنَه وبيْنَ مَن يَشاءُ مِن خَلقِه -لِتَبليغِ أوامِرِه الدِّينيَّةِ، وتدبيرِ أوامِرِه القَدَريَّةِ- أصحابَ أجنِحةٍ، فيَنزِلونَ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، ويَصعَدونَ مِن الأرضِ إلى السَّماءِ؛ فمِنهم مَن له جَناحانِ، ومنهم مَن له ثلاثةُ أجنِحةٍ، ومنهم مَن له أربعةٌ .
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ.
أي: يَزيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ بحَسَبِ ما تقتَضيه حِكمتُه؛ فقد فضَّل بعضَ الملائِكةِ بزيادةِ الأجنِحةِ على أربعةٍ .
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، لا يَستعصي عليه شَيءٌ؛ فلا تُعجِزُه زيادةُ ما يَشاءُ في الخَلْقِ كيف يَشاءُ .
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى كَمالَ القُدرةِ؛ ذكَرَ بَيانَ نُفوذِ المَشيئةِ، ونفاذِ الأمرِ .
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا.
أي: ما يَفتَحْه اللهُ للنَّاسِ مِن رَحمةٍ، سواءٌ مِن الأرزاقِ الحِسِّيَّةِ أو المعنويَّةِ، فلا يَستطيعُ أحدٌ كائنًا مَن كان أن يَحبِسَها ويُغلِقَ أبوابَها، فيَمنَعَ عَطاءَ اللهِ عن عبادِه .
وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ.
أي: وما يُغلِقِ اللهُ مِن رَحمةٍ عن النَّاسِ ويَحبِسْها عندَه، فلا يَستطيعُ أحدٌ كائِنًا مَن كان أن يُطلِقَها لهم .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: واللهُ هو العزيزُ القَدْرِ، الغالِبُ القاهِرُ لكُلِّ شَيءٍ، المُمتَنِعُ عليه كلُّ عَيبٍ ونَقصٍ؛ وهو الحَكيمُ الَّذي يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائِقِ به، فما يَفتَحُه للخَلقِ مِن رحمتِه أو يُمسِكُه عنهم هو وَفْقُ حِكمتِه سُبحانَه، ولا يَقدِرُ أحَدٌ على نَقْضِ أمْرِه المحكَمِ المتقَنِ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّ الحَمدَ له، وبيَّنَ بَعضَ وُجوهِ النِّعمةِ الَّتي تَستوجِبُ الحَمدَ على سَبيلِ التَّفصيلِ؛ بيَّنَ نِعَمَه على سبيلِ الإجمالِ، فقال: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ .
وأيضًا لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى -بما يُشاهِدُه كُلُّ أحدٍ في نفْسِه- أنَّه المُنعِمُ وحْدَه؛ أمَرَ بذِكرِ نِعمتِه بالاعتِرافِ أنَّها منه .
وأيضًا لَمَّا جرى ذِكرُ رحمةِ الله الَّتي تَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهم؛ أقبْلَ على خِطابِهم بأن يَتذكَّروا نِعمةَ الله عليهم الخاصَّةَ، وهي النِّعمةُ الَّتي تَخُصُّ كُلَّ واحدٍ بخاصَّتِه، فيَأْتَلِفُ منها مجموعُ الرَّحمةِ العامَّةِ للنَّاسِ كُلِّهم، وما هي إلَّا بعضُ رحمةِ اللهِ بمَخلوقاتِه، والمقصودُ مِن تذَكُّرِ النِّعمةِ شُكْرُها، وقَدْرُها قَدْرَها .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أي: يا أيُّها النَّاسُ اذكُروا ما أنعَمَ اللهُ به عليكم، فانظُروا هل تَجِدونَ خالِقًا غيرَ اللهِ يَرزُقُكم مِنَ السَّماءِ ومِنَ الأرضِ -بالمطرِ والنَّباتِ وغيرِهما-؛ فيَستَحِقَّ العبادةَ ؟!
كما قال تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك: 21].
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
أي: لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ وحْدَه، فكيف تُصرَفونَ عن عبادةِ الخالِقِ الرَّازِقِ إلى عبادةِ مَن لا يَخلُقُ شَيئًا، ولا يَرزُقُكم شيئًا ؟!
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى الأصلَ الأوَّلَ: وهو التَّوحيدُ؛ ذكَرَ الأصلَ الثَّانيَ: وهو الرِّسالةُ .
وأيضًا فهي عَطفٌ على اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر: 3] ، أي: وإن استمَرُّوا على انصِرافِهم عن قَبولِ دَعوتِك، ولم يَشكُروا النِّعمةَ ببَعثِك- فلا عَجَبَ؛ فقد كذَّب أقوامٌ مِن قَبْلِهم رُسُلًا مِن قَبْلُ .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ.
أي: وإن يُكَذِّبْك -يا محمَّدُ- كفَّارُ قَومِك، فتلك سُنَّةُ أمثالِهم مِن كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ الَّذين كَذَّبوا رُسُلَهم؛ فلا تَحزَنْ لذلك، ولك فيمَنْ سبَقَك مِنَ الرُّسُلِ أُسوةٌ .
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه مَرجِعُ جَميعِ الأُمورِ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ذكَرَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ انفِرادَه تعالى بالتَّدبيرِ والعَطاءِ والمَنعِ، فهذا يُوجِبُ التَّعَلُّقَ باللهِ تعالى، والافتِقارَ إليه مِن جميعِ الوُجوهِ، وألَّا يُدعَى إلَّا هو، ولا يُخافَ ولا يُرجَى إلَّا هو .
2- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أمْرٌ بذِكرِ نِعمتِه، بالاعتِرافِ أنَّها منه؛ فإنَّ الذِّكرَ يَقودُ إلى الشُّكرِ، وهو قَيْدُ الموجودِ، وصَيْدُ المعدومِ المفقودِ .
3- في قَولِه تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أنَّه ينبغي للإنسانِ إذا أصابَتْه الضَّرَّاءُ أنْ يَرجِعَ إلى ربِّه، وأنْ يَتعلَّقَ به؛ فإذا كانتِ الأمورُ تُرجَعُ إلى اللهِ فلْيَكُنْ طلَبُ إزالةِ الضَّررِ مِن اللهِ . على قولٍ في معنى الآيةِ.
4- في قَولِه تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أنْ يُسنِدَ ما رزَقَه اللهُ مِن رِزْقٍ -سواءٌ كان عِلْمًا أم مالًا أم جاهًا أم ولدًا أم زَوجةً- إلى نفْسِه، فيَقولَ: إنَّما أُوتيتُه على عِلمٍ عندي ! على قولٍ في معنى الآيةِ.

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمدَحُ اللهُ تعالى نَفْسَه الكريمةَ المقَدَّسةَ، على خَلقِه السَّمواتِ والأرضَ، وما اشتَمَلَتا عليه مِن المخلوقاتِ؛ لأنَّ ذلك دليلٌ على كمالِ قُدرتِه، وسَعةِ مُلكِه، وعُمومِ رَحمتِه، وبديعِ حِكمتِه، وإحاطةِ عِلمِه ، حيثُ ابتدأَ خَلْقَ هذه السَّمَواتِ العظيمةِ وهذه الأرضِ على هذا النِّظامِ البَديعِ مِن غيرِ أنْ يَسبِقَ مِثالٌ يَحتذيه ويَقتدي به، ومَعلومٌ أنَّ مُبدِعَ الصَّنعةِ يُشهَدُ له بالخِبرةِ والقُدرةِ؛ لأنَّه أنشَأَ شيئًا جديدًا، وصارَ هذا الشَّيءُ الجديدُ مُنتَظِمًا على تمامِ الانتظامِ، وغايةِ الإحكامِ .
2- اسمُ الملائِكةِ والمَلَكِ يَتضَمَّنُ أنَّهم رُسُلُ اللهِ ، كما قال تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، وكما قال: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [المرسلات: 1] ، فالملائِكةُ رُسُلُ اللهِ في تنفيذِ أمرِه الكَونيِّ الَّذي يُدبِّرُ به السَّمَواتِ والأرضَ -كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61] ، وكما قال: بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] - وأمْرِه الدِّينيِّ الَّذي تَنزِلُ به الملائِكةُ؛ فإنَّه قال: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل: 2] ، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] ، وقال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] .
3- في قَولِه تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ إثباتُ أنَّ الملائكةَ أجسامٌ، وليسوا أرواحًا مُجرَّدةً مِن الجِسميَّةِ .
4- قال الله سبحانه تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ في ذِكرِه تعالى أنَّه جعَلَ الملائِكةَ رُسُلًا، ولم يَستثْنِ منهم أحدًا: دَليلٌ على كمالِ طاعتِهم لرَبِّهم، وانقيادِهم لأمرِه، كما قال تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] .
5- في قَولِه تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ إشارةٌ إلى سرعةِ تَنَقُّلِ الملائكةِ لقوَّةِ أجنحتِهم؛ يدُلُّ على ذلك أنَّه لولا أنَّ لهذه الأجنحةِ مَزِيَّةً عظيمةً لَمَّا استحقَّتْ أنْ يُنَصَّ عليها، ولَذُكِر غيرُها كالرُّؤوسِ مثلًا! ولكنْ ذَكَر الأجنحةَ؛ لِمَا فيها مِن القوَّةِ لِحَمْلِها هؤلاءِ الملائكةِ، ولأنَّها تكونُ عندَ الإرسالِ أسرَعَ . فلمَّا كانت الملائكةُ مُدَبِّراتٍ -بإذنِ الله- ما جعَلهم الله موَكَّلينَ فيه؛ ذكَر قوَّتَهم على ذلك، وسرعةَ سَيْرِهم .
6- في قَولِه تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ أنَّ اللهَ تعالى فَضَّلَ المخلوقاتِ بعضَها على بعضٍ، والزِّيادةُ مُقابِلُها نقصٌ؛ فهذا يَزيدُه قوَّةً في الجسمِ، وهذا يَزيدُه قوَّةً في العقلِ، وهذا يَزيدُه قوَّةً في الطُّولِ، وهذا يَزيدُه قوَّةً في العِلمِ... إلى آخرِه ، وهذا على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
7- الرَّدُّ على القَدَريَّةِ الَّذين يَزعُمونَ أنَّ أفعالَ العبدِ غيرُ مخلوقةٍ ولا مَقدورةٍ لله! لعُمومِ قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأفعالُ العبدِ مِن الأشياءِ .
8- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وُصِفَت النِّعمةُ بـ عَلَيْكُمْ؛ لأنَّ المقصودَ مِن التَّذَكُّرِ: التَّذكُّرُ الَّذي يَترتَّبُ عليه الشُّكرُ، وليس المرادُ مُطلَقَ التَّذكُّرِ، بمعنى الاعتبارِ والنَّظَرِ في بديعِ فَضلِ اللهِ .
9- في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أهمِّيَّةُ ذِكْرِ النِّعمةِ؛ لأنَّها صُدِّرَتْ بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وهذا يدُلُّ على الأهمِّيَّةِ؛ لأنَّ ما صُدِّرَ بالنِّداءِ معناه تنبيهُ المخاطَبِ على الاستماعِ .
10- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أنَّ الكفَّارَ مُخاطَبونَ بالشَّرائعِ، فكما يجِبُ على المُسلمِ أنْ يَذكُرَ نِعمةَ اللهِ، يجبُ على الكافرِ أيضًا أنْ يَذكُرَ نِعمةَ اللهِ، وبِناءً عليه فإنَّه يُعاقَبُ على عدَمِ ذِكْرِ النِّعمةِ في الآخرةِ، وقد يُعاقَبُ عليه أيضًا في الدُّنيا .
11- قَولُ الله تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ فيه ردٌّ على أهلِ القَدَرِ الَّذين يَدَّعونَ أنَّهم يَخلُقونَ أفعالَهم !
12- في قَولِه تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أنَّ الإقرارَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ يَستلزِمُ الإقرارَ بتوحيدِ الألوهيَّةِ، وهذا مأخوذٌ مِن قَولِه تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؛ فكما أنَّه هو الخالقُ وَحْدَه، فيجبُ أنْ يكونَ هو المعبودَ وحْدَه؛ ولهذا نقولُ: توحيدُ الألوهيَّةِ يَتضمَّنُ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ؛ لأنَّه لا يُعبَدُ إلَّا مَن عُلِمَ بأنَّه الرَّبُّ الخالقُ الكامِلُ في صِفاتِه، وتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ يَستلزِمُ توحيدَ الألوهيَّةِ وتوحيدَ الأسماءِ والصِّفاتِ .
13- قَولُه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وفي سورةِ (الذَّارياتِ): وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] بالحَصرِ؟
والجوابُ: أنَّ أصلَ الرِّزقِ مِن السَّماءِ، وتُشارِكُ فيه الأرضُ باعتبارِ النَّباتِ .
14- قَولُه تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فيه بيانُ عنايةِ اللهِ عزَّ وجلَّ برَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، حيثُ سَلَّاه بذِكرِ مَن كُذِّبَ مِن قَبْلِه؛ فإنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنَّ غيرَه أُصيبَ بمِثلِ مُصيبتِه تَسلَّى بذلك .
15- في قَولِه تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وُجوبُ تحكيمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وأنَّه لا يجوزُ العُدولُ عمَّا دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ؛ لأنَّ الأمورَ والشُّؤونَ تُرجَعُ إلى اللهِ، ومنها الحُكمُ بينَ النَّاسِ؛ فيجبُ أنْ يكونَ مَرجِعُه إلى اللهِ تعالى .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- قولُه: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... افتتاحُ السُّورةِ بالحمْدِ مُؤذِنٌ بأنَّ صِفاتٍ مِن عَظَمةِ اللهِ ستُذكَرُ فيها. وإجراءُ صِفاتِ الأفعالِ على اسمِ الجَلالةِ مِن خلْقِه السَّمواتِ والأرضَ، وأفضَلَ ما فيهما مِن الملائكةِ والمرسَلينَ؛ مُؤذِنٌ بأنَّ السُّورةَ جاءتْ لإثباتِ التَّوحيدِ وتَصديقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وإيذانُ الْحَمْدُ لِلَّهِ باستحقاقِ اللهِ إيَّاه دونَ غيرِه .
- وتَخصيصُ ذِكرِ الملائكةِ مِن بيْنِ مَخلوقاتِ السَّمواتِ والأرضِ؛ لِشَرَفِهم بأنَّهم سُكَّانُ السَّمواتِ، وعظيمِ خَلْقِهم، وأجْرى عليهم صِفةَ أنَّهم رُسلٌ؛ لِمُناسَبةِ المَقصودِ مِن إثباتِ الرِّسالةِ، أي: جاعِلِهم رُسلًا منه إلى المُرسَلينَ مِن البشَرِ؛ للوحْيِ بما يُرادُ تَبليغُهم إيَّاهُ للنَّاسِ .
- وجُملةُ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما ذُكِرَ مِن صِفاتِ الملائكةِ يُثِيرُ تَعجُّبَ السَّامعِ أنْ يَتساءلَ عن هذه الصِّفةِ العَجيبةِ؛ فأُجِيبَ بهذا الاستئنافِ بأنَّ مَشيئةَ اللهِ تعالى لا تَنحصِرُ ولا تُوقَّتُ، ولكلِّ جِنسٍ مِن أجناسِ المَخلوقاتِ مُقوِّماتُه وخَواصُّه . وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعليلٌ بطَريقِ التَّحقيقِ للحُكمِ المذكورِ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ؛ فإنَّ شُمولَ قُدرتِه تعالى لجَميعِ الأشياءِ ممَّا يُوجِبُ قُدرتَه تعالى على أنْ يَزِيدَ كلَّ ما يَشاؤُه إيجابًا بيِّنًا . وفي هذا تَعريضٌ بتَسفيهِ عُقولِ الَّذين أنْكَروا الرِّسالةَ وقالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [إبراهيم: 10] ؛ فأُجِيبوا بقولِ الرُّسلِ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: 11] .
2- قَولُه تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- قولُه: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ عبَّر عن إرسالِ هذِه الرَّحمةِ بالفَتْحِ؛ إيذانًا بأنَّها أنفَسُ الخَزائنِ الَّتي يَتنافَسُ فيها المُتنافِسونَ، وأعَزُّها مَنالًا .
- وتَنكيرُ الرَّحمةِ؛ للإشاعةِ والإبهامِ، أيْ: أيُّ شَيءٍ يَفتَحُ اللهُ مِن خَزائنِ رحمتِه أيَّةَ رَحمةٍ كانتْ؛ مِن نِعمةٍ وصِحَّةٍ وأمْنٍ، وعِلمٍ وحِكمةٍ، إلى غَيرِ ذلك ممَّا لا يُحاطُ به. وقيل: العمومُ مَفهومٌ مِنِ اسمِ الشَّرطِ، ومِنْ رَحْمَةٍ؛ لِبَيانِ ذلك العامِّ مِن أيِّ صِنفٍ هو .
- قولُه: وَمَا يُمْسِكْ حُذِفَ مَفعولُه؛ لدَلالةِ قولِه: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ عليه، والتَّقديرُ: وما يُمسِكْ مِن رَحمةٍ؛ ولم يُذكَرْ له بَيانٌ استِغناءً ببَيانِه مِن قبْلُ . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- ولَمَّا كان حَبْسُ الرَّحمةِ مَكروهًا لم يُصرَّحْ به، وتُرِكَ الشَّرطُ على عُمومِه بعْدَ أنْ فُسِّرَ الشَّرطُ الأوَّلُ بالرَّحمةِ؛ دَلالةً على مَزيدِ الاعتناءِ بها؛ إيذانًا بأنَّ رَحمتَه سبَقَتْ غضَبَه، فقال: وَمَا يُمْسِكْ .
- وضَميرُ لَهَا وضَميرُ لَهُ في قوله: فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ عائدانِ إلى (ما) مِن قولِه: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ؛ رُوعِيَ في تأْنيثِ أحَدِ الضَّميرينِ معنى (ما)؛ فإنَّه اسمٌ صادقٌ على (رَحمةٍ) وقد بُيِّنَ بها، ورُوعِيَ في تَذكيرِ الضَّميرِ الآخَرِ لَفظُ (ما)؛ لأنَّه لفظٌ لا علامةَ تأنيثٍ فيه، وهما اعتبارانِ كَثيرانِ في مِثلِه في فَصيحِ الكلامِ؛ فالمُتكلِّمُ بالخِيارِ بيْنَ أيِّ الاعتبارينِ شاء. والجمْعُ بيْنَهما في هذه الآيةِ تَفنُّنٌ، وأُوثِرَ بالتَّأنيثِ ضَميرُ (ما)؛ لأنَّها مُبيَّنةٌ بلَفظٍ مُؤنَّثٍ، وهو مِنْ رَحْمَةٍ . وقيل: اختِلافُ الضَّميرَينِ في قولِه: فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وقولهِ: فَلَا مُرْسِلَ لَهُ؛ لأنَّ الموصولَ الأوَّلَ مُفسَّرٌ بالرَّحمةِ، والثَّاني مُطلَقٌ يَتناوَلُها والغضَبَ، وفي ذلك إشعارٌ بأنَّ رَحمَتَه سبَقَت غضَبَه .
- قولُه: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه؛ لِيَدُلَّ على شُمولِ المَعسورِ والمَيْسورِ، ومُعرِبٌ عن كَونِ كلٍّ مِن الفَتحِ والإمساكِ بمُوجَبِ الحِكمةِ الَّتي عليها يَدورُ أمْرُ التَّكوينِ. ورُجِّحَ فيه جانبُ الإخبارِ فعُطِفَ -وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يكونَ مَفصولًا-؛ لإفادةِ أنَّه يَفتَحُ ويُمسِكُ لِحِكمةٍ يَعلَمُها، وأنَّه لا يَستطيعُ أحدٌ نقْضَ ما أبرَمَه في فتْحِ الرَّحمةِ وغيرِه مِن تَصرُّفاتِه؛ لأنَّ اللهَ عزيزٌ لا يُمكِنُ لِغَيرِه أنْ يَغلِبَه؛ فإنَّ نَقْضَ ما أبرَمَ ضَربٌ مِن الهَوانِ والمَذلَّةِ .
3- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
- الاستِفهامُ في قولِه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنكاريٌّ في معنى النَّفيِ، والمعنَى: لا خالقَ إلَّا اللهُ وحْدَه؛ ولذلك اقترَنَ ما بعْدَه بـ (مِن) الَّتي تُزادُ لِتَأكيدِ النَّفيِ . وقيل: إنَّ هذا الاستِفهامَ على جِهةِ التَّقريرِ .
- وجُعِل النَّفْيُ في قولِه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مُتوجِّهًا إلى القَيدِ -وهو جُملةُ الصِّفةِ يَرْزُقُكُمْ- كما هي سُنَّتِه في الكلامِ المُقيَّدِ؛ لأنَّ المَقصودَ التَّذكيرُ بنِعَمِ اللهِ تعالى لِيَشْكروا، ويكونَ ذلك كِنايةً عن الاستِدلالِ على انتفاءِ وَصفِ الخالقيَّةِ عن غَيرِه تعالى؛ لأنَّه لو كان غيرُه خالقًا لَكان رازقًا؛ إذ الخَلْقُ بدُونِ رِزقٍ قُصورٌ في الخالقيَّةِ؛ لأنَّ المخلوقَ بدُونِ رِزقٍ لا يَلبَثُ أنْ يَصيرَ إلى الهلاكِ والعَدَمِ، فيَكونُ خَلْقُه عَبَثًا يُنزَّهُ عنه المَوصوفُ بالإلهيَّةِ المُقتضيةِ للحِكمةِ؛ فكانت الآيةُ مُذكِّرةً بنِعمَتَيِ الإيجادِ والإمدادِ .
- وللاهتِمامِ بهذا الاستِثناءِ -غَيْرُ اللَّهِ- قُدِّمَ في الذِّكرِ قبْلَ ما هو في قوَّةِ المُسْتثنى منه. وجُعِلَ صِفةً لـ خَالِقٍ؛ لأنَّ (غير) صالحةٌ للاعتبارينِ .
- وزِيادةُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَذكيرٌ بتَعدُّدِ مَصادرِ الأرزاقِ؛ فإنَّ منها سَماويَّةً كالمطَرِ -الَّذي منه شَرابٌ، ومنه طَهورٌ، وسبَبُ نَباتِ أشجارٍ وكَلَأٍ- وكالضِّياءِ مِن الشَّمسِ، والاهتداءِ بالنُّجومِ في اللَّيلِ، وكذلك أنواعُ الطَّيرِ الَّذي يُصادُ، كلُّ ذلك مِن السَّماءِ. ومِن الأرضِ أرزاقٌ كثيرةٌ؛ مِن حُبوبٍ، وثِمارٍ، وزيوتٍ، وفَواكهَ، ومَعادنَ، وأسماكِ البحارِ والأنهارِ. وفي هذا القَيدِ فائدةٌ أخرى؛ وهي دَفْعُ تَوهُّمِ الغُفَّلِ أنَّ أرزاقًا تأْتيهم مِن غَيرِ اللهِ مِن أنواعِ العَطايا الَّتي يُعْطيها بعضُهم بعضًا، والمُعاوضاتِ الَّتي يُعاوِضُها بعضُهم مع بعضٍ؛ فإنَّها لِكَثرةِ تَداوُلِها بيْنَهم قد يُلْهِيهم الشُّغلُ بها عن التَّدبُّرِ في أُصولِ مَنابعِها؛ فإنَّ أُصولَ مَوادِّها مِن صُنعِ اللهِ تعالى، فآلَ ما يُعطاهُ النَّاسُ منها إلى أنَّه مِن اللهِ .
- وجُملةُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ نَتيجةٌ عَقِبَ ذِكرِ الدَّليلِ؛ إذ رَتَّبَ الحقُّ على انفرادِه بالخالقيَّةِ والرَّازقيَّةِ انفرادَه بالإلهيَّةِ؛ لأنَّ هذَينِ الوَصفينِ هما أظهَرُ دَلائلِ الإلهيَّةِ عندَ النَّاسِ؛ فجمُلةُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مُستأنَفةٌ ، سيقَتْ لِتَقريرِ النَّفيِ المُستفادِ مِن قولِه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ قَصدًا .
- قولُه: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ الفاءُ لِتَفريعِ التَّعجُّبِ مِن انصرافِهم عن النَّظرِ في دَلائلِ الوَحدانيَّةِ على انفرادِه بالخالقيَّةِ والرَّازقيَّةِ؛ فالاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ مِن انصرافِهم عن الاعترافِ بالوَحدانيَّةِ تَبعًا لِمَن يَصرِفُهم، وهمْ أولياؤهم وكُبَراؤهم . أو لِتَرتيبِ إنكارِ عُدولِهم عن التَّوحيدِ إلى الإشراكِ على ما قبْلَها .
- وحُذِفَ الفاعلُ في قولِه: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؛ لأنَّ آفكِيهِم أصنافٌ كَثيرونَ .
4- قَولُه تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ انتِقالٌ مِن خِطابِ النَّاسِ إلى خِطابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِمُناسَبةِ جَرَيانِ خِطابِ النَّاسِ على لِسانِه، فهو مُشاهِدٌ لخِطابِهم، فلا جَرَمَ أنْ يُوجَّهَ إليه الخِطابُ بعْدَ تَوجيهِه إليهم؛ إذ المَقامُ واحدٌ، وإذ قد أبانَ لهم الحُجَّةَ على انفرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ حينَ خاطَبَهم بذلك، نُقِلَ الإخبارُ عن صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أنْكَروا قَبولَه منه؛ فإنَّه لَمَّا استبانَ صِدْقُه في ذلك بالحُجَّةِ، ناسَبَ أنْ يُعرَّضَ إلى الَّذين كذَّبوه بمِثلِ عاقِبةِ الَّذين كذَّبوا الرُّسلَ مِن قبْلِه. وقد أُدمِجَ في خِلالِ ذلك تَسليةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على تَكذيبِ قَومِه إيَّاه بأنَّه لم يكُنْ مَقامُه في ذلك دونَ مَقامِ الرُّسلِ السابقينَ .
- وجِيءَ في هذا الشَّرطِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ بحَرفِ (إنْ) الَّذي أصْلُه أنْ يُعلَّقَ به شَرطٌ غيرُ مَقطوعٍ بوُقوعِه؛ تَنزيلًا لهم -بعْدَما قُدِّمَت إليهم الحُجَّةُ على وَحدانيَّةِ اللهِ، المُصَدِّقةُ لِمَا جاءهم به الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فكذَّبوه فيه- مَنزِلةَ مَن أيقَنَ بصِدقِ الرَّسولِ؛ فلا يكونُ فَرْضُ استِمرارِهم على تَكذيبِه إلَّا كما يُفرَضُ المُحالُ. وهذا وَجهُ إيثارِ الشَّرْطِ هنا بالفِعلِ المُضارِعِ الَّذي في حيِّزِ الشَّرْطِ يَتمخَّضُ للاستِقبالِ، أي: إنْ حدَثَ منهم تَكذيبٌ بعْدَ ما قَرَع أسماعَهم مِن البراهينِ الدَّامغةِ .
- وبُنِيَ الفِعلُ للمَجهولِ كُذِّبَتْ رُسُلٌ؛ لأنَّ التَّسليةَ مَحطُّها وُقوعُ التَّكذيبِ، لا تَعيينُ المُكذِّبِ .
- والمَذكورُ جَوابًا للشَّرطِ -فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ- إنَّما هو سَببٌ لِجَوابٍ مَحذوفٍ؛ إذ التَّقديرُ: وإنْ يُكذِّبوك فلا يَحزُنْك تَكذيبُهم، أو فتَأسَّ بتَكذيبِ الرُّسلِ مِن قبْلِك؛ إذ قد كُذِّبَت رُسلٌ مِن قبْلِك، فاستُغْنِيَ بالسَّببِ عن المُسبَّبِ؛ لدَلالتِه عليه .
- ولم يُعرَّفْ لَفظُ (رُسُل)، وجِيءَ به مُنكَّرًا؛ لِمَا في التَّنكيرِ مِن الدَّلالةِ على تَعظيمِ أولئك الرُّسلِ؛ زِيادةً على جانبِ صِفةِ الرِّسالةِ مِن جانبِ كَثرتِهم، وتَنوُّعِ آياتِ صِدقِهم، ومع ذلك كذَّبَهم أقوامُهم !
- وأُفْرِد التَّكذيبُ بالذِّكرِ؛ اهتِمامًا بتَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تنبيهًا على أنَّ الأكثَرَ يُكَذَّبُ .
- قولُه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ عُطِفَ على التَّسليةِ والتَّعريضِ ما هو كالتَّأكيدِ لهما، والتَّذكيرِ بعاقبةِ مَضمونِها بأنَّ أمْرَ المُكذِّبينَ قد آلَ إلى لِقائِهم جَزاءَ تَكذيبِهم مِن لَدُنِ الَّذي تَرجِعُ إليه الأمورُ كلُّها، فكان أمْرُ أولئك المُكذِّبينَ وأمْرُ أولئك الرُّسلِ في جُملةِ عُمومِ الأُمورِ الَّتي أُرجِعَت إلى اللهِ تعالى؛ إذ لا تَخرُجُ أُمورُهم مِن نِطاقِ عُمومِ الأُمورِ. وقد اكتسَبَت هذه الجُملةُ معنى التَّذييلِ بما فيها مِن العُمومِ. والْأُمُورُ جمْعُ أمْرٍ، وهو الشَّأنُ والحالُ، أي: إلى اللهِ تَرجِعُ الأحوالُ كلُّها يَتصرَّفُ فيها كيف يَشاءُ؛ فتكونُ الآيةُ تَهديدًا للمُكذِّبينَ وإنذارًا، ووَعدًا للمُكذَّبِ .
- قولُه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيه تقديمُ المعمولِ؛ وتقديمُ المعمولِ يفيدُ الحصرَ، فالمعنى: إلى اللهِ لا إلى غيرِه تُرجعُ الأمورُ .
- وفي الاقتِصارِ على ذِكرِ اختِصاصِ المَرجِعِ باللهِ تعالى مع إبهامِ الجَزاءِ ثوابًا وعِقابًا: مِن المُبالَغةِ في الوَعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.