موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (108-110)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ

غريب الكلمات :

جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: حَلَفُوا واجتهَدُوا في الحَلِف، أو كنايةٌ عن أغلَظِ الأيمانِ، وأصْلُ (جهد): المشقَّةُ [1685] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/486)، ((المفردات)) للراغب (ص: 208)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 152). . والأَيْمَانُ: جمْعُ يَمينٍ، واليمينُ: الحَلِفُ والقَسَم، وأصلُه مِن اليُمْن، أي: البَركة؛ سمَّاها اللهُ تعالى بذلك لأنَّها تَحفَظُ الحقوقَ، وقيل: سُمِّي الحَلِفُ يمينًا لأنَّه يكونُ بأَخْذِ اليَمينِ، أو اعتبارًا بِما يَفعَلُه المعاهِد والمحالِفُ وغيرُه؛ لأَنهم كَانُوا اذا تحالفوا أو توافقوا ضرَب كلُّ امْرِئ مِنْهُم يَمِينه على يَمِين صَاحِبِه [1686] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 893)، ((تفسير القرطبي)) (6/264)، ((لسان العرب)) لابن منظور (13/460). .
وَنُقَلِّبُ: أي: ونُحوِّل، وقلْبُ الشَّيءِ: تصريفُه وصَرْفُه عن وَجْهٍ إلى وجهٍ، وتقليبُ اللهِ القلوبَ والبصائِرَ: صَرفُها من رأيٍ إلى رأيٍ [1687] يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/235)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681- 682)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 101). .
أَفْئِدَتَهُمْ: أفئدة: جمْعُ فؤادٍ، وهو القلبُ؛ سمِّيَ بذلك لحرارَتِه، أو لتَوقُّدِه، وأصل (فأد): يدلُّ على حُمَّى وشِدَّةِ حرارةٍ [1688] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/469)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646). .
يَعْمَهُونَ: يَتحيَّرونَ، ويتردَّدونَ، ويَجُورونَ عن الطَّريقِ؛ فأصل العَمَهِ: التردُّدُ في الأمرِ من التحيُّرِ [1689] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 41)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((المفردات)) للراغب (ص: 588)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 14)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 52). .

مشكل الإعراب :

قوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
أَنَّهَا: تُقرَأُ بفتْحِ الهمزةِ وكَسرِها؛ فعَلى قِراءةِ الفتحِ ففيها ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنَّ (أنَّ) بمعنى (لعلَّ) وعلى هذا يكون المفعولُ الثاني محذوفًا، تقديرُه: (وما يُشْعِرُكُم إيمانَهم)، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يُدْريكُم إيمانَهم إذا جاءَتْهم الآيةُ؛ لعلَّها إذا جاءتْهم لا يُؤْمنون. والثاني: أنَّ لَا زائدةٌ، فتكون (أنَّ) وما عملتْ فيه في موضعِ المفعولِ الثَّاني، فيكون التقدير: وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جاءت يُؤْمنونَ، والمعنى على هذا: أنَّها لو جاءتْ لم يُؤمنوا. والثالث: أنَّ (أنَّ) على بابها، ولَا غيرُ زائدة، والمعنى: وما يُدريكم عدَمَ إيمانِهم، ويكون هذا جوابًا لِمَن حَكَم عليهم بالكُفْر أبدًا، ويَئِسَ مِن إيمانِهم. وأمَّا على قراءةِ الكَسْرِ؛ فقوله: إِنَّها على الاستئنافِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ أيضًا، تقديره: وما يُشعرِكم إيمانَهم [1690] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/265)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/530)، ((تفسير أبي حيان)) (4/614-616)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/102-106). .

المعنى الإجمالي :

يَنهى اللهُ المؤمنينَ أنْ يَسبُّوا آلهةَ المُشْركينَ، حتى لا يُقابِلَه المشركونَ بِسَبِّ اللهِ، تعالى وتَقَدَّسَ وتنَزَّهَ عن كلِّ نقيصةٍ، وكما زَيَّنَ اللهُ لهؤلاءِ المُشركينَ أعمالَهم زَيَّنَ لكُلِّ أمَّةٍ عَمَلَهم، ثمَّ إلى ربهم تعالى مَرْجِعُهم، فيُخْبِرُهم بما عَمِلوا، ويجازِيهم عليه.
ويُخْبِر تعالى أنَّ المُشركينَ أقْسَموا باللهِ أشَدَّ الأيمانِ التي قَدَرُوا عليها؛ أنَّه إنْ جاءَتْهم آيةٌ خارِقَةٌ ممَّا اقترحوها فإنَّهم سيُؤمنونَ بها، فأمَرَ اللهُ رسولَه أَنْ يُخْبِرَهم أنَّ الآياتِ مِن اللهِ وَحْدَه، إنْ شاء أجابَ طَلَبَكم، وإنْ شاءَ امتنَعَ عن ذلك، ثم خاطَبَ عِبادَه المؤمنين قائلًا لهم: وما يُدريكُم، أنَّ هؤلاءِ المُشركينَ لا يؤمنونَ إذا جاءَتْهم المُعجزاتُ التي سَأَلُوها.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّه يُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم، فيَحُولُ بينهم وبين الانتفاعِ بالحَقِّ، والاهتداءِ إليه؛ لأنَّهم لم يؤمنوا بالقرآنِ في أوَّلِ مرَّةٍ أتاهم فيها الدَّاعي، ويترُكُهم في تمرُّدِهم واعتدائِهم على حدودِ الله يتردَّدونَ، ولا يهتدونَ للحقِّ.

تفسير الآيات :

وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أطالَ التَّنفيرَ عَمَّا اتُّخِذَ آلهةً مِن دُونِه من الأندادِ، فربَّما كان ذلك داعيةً إلى سبِّها، فنهى عنه لِمَفسدةٍ يَجُرُّها السَبُّ، كبيرةٍ جدًّا [1691] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/226). .
 فقال:
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: لا تسبُّوا- أيُّها المؤمنون- آلهةَ المُشركينَ وتَهْجُوها، وتذَكُروا ما هي متَّصِفَةٌ به من الخساسَةِ؛ لأنَّه يترتَّبُ على ذلك مَفسدةٌ أعظَمُ منها، وهي قيامُ المُشركينَ- حَمِيَّةً لِدِينِهم وتعصُّبًا له- بسَبِّ إلهِ المؤمنينَ؛ اللهِ تبارَك وتعالى، فيتكلَّمونَ فيه بما لا يليقُ بكَمالِه وجلالِه وعَظَمَتِه سبحانه؛ ظلمًا وجَهْلًا منهم بربِّهم، واعتداءً بغيرِ عِلْمٍ؛ فهو خالِقُهم ورازِقُهم، المُحْسِنُ إليهم [1693] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/480)، ((تفسير ابن كثير)) (3/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 268)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/86-88). .
كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.
أي: كما زَيَّنَّا لهؤلاء المشركينَ عِبادةَ الأوثانِ، وطاعةَ الشَّيطانِ، وَحُبَّ الأصنامِ، والانتصارَ لها، كذلك زَيَّنَّا بحِكمَتِنا لكلِّ أمَّةٍ مِن الأُمَمِ عَمَلَهم الذي يفعلونَ [1694] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/483-484)، ((تفسير ابن كثير)) (3/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 269)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/96). .
كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .
وقال سبحانه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14] .
ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي: ثمَّ بعدَ ذلك يكون مآلُهم ومَصيرُهم يومَ القيامَةِ إلى الله تعالى وَحْدَه، فيُوقِفُهم عزَّ وجلَّ، ويُخْبِرُهم بأعمالِهم التي كانوا يَعملونها في الدُّنيا، ثم يُجازيهم بها؛ إنْ كان خيرًا فخَيرٌ، وإنْ كان شرًّا فشَرٌّ، أو يَعفو بفَضْلِه، ما لم يكُن شِرْكًا أو كُفْرًا [1695] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/484)، ((تفسير ابن كثير)) (3/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 269)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/103-106). .
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109).
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا.
أي: وحَلَف المشركونَ حَلِفًا اجتَهَدوا فيه، وأكَّدوه إلى غايَةِ ما يُمْكِنُهم مِن تغليظِ اليَمينِ وتوكيدِها؛ أنَّه إنْ جاءتهم معجزةٌ مِمَّا اقترحوه تَدُلُّ على صِدْقِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّهم سيُؤمنونَ بها، ويصدِّقونَ بأنها مِنَ اللَّهِ، وأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وأنَّ ما جاءَهم به هو الحَقُّ مِن عِندِ اللهِ سبحانه وتعالى [1696] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/484)، ((تفسير ابن كثير)) (3/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 269)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/107-114). قال السعديُّ: (هذا الكلامُ الذي صدَر منهم، لم يكُن قصدُهم فيه الرشادَ، وإنما قصدُهم دفْعُ الاعتراضِ عليهم، وردُّ ما جاء به الرسولُ قطعًا؛ فإنَّ اللهَ أيَّد رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالآياتِ البيِّناتِ، والأدلَّةِ الواضحاتِ، التي- عند الالتفاتِ لها- لا تُبقي أدْنى شُبهةٍ ولا إشكالٍ في صِحَّة ما جاء به؛ فطلبُهم- بعد ذلك- للآياتِ من باب التعنُّت، الذي لا يَلزمُ إجابتُه، بل قد يكون المنعُ مِن إجابتهم أصلحَ لهم؛ فإنَّ الله جرَتْ سُنَّتُه في عِباده أنَّ المقترِحين للآياتِ على رُسُلِهم، إذا جاءتْهم فلمْ يُؤمنوا بها- أنَّه يُعاجِلُهم بالعقوبةِ) ((تفسير السعدي)) (ص: 269). .
قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ.
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاء الذين يَقترِحونَ نُزُولَ الآياتِ تَعَنُّتًا وكُفْرًا وعِنادًا: إنَّما مَرْجِعُ هذه الآياتِ إلى الله تعالى وَحْدَه، فإنْ شاء أجاب طَلَبَكم، وإنْ شاء امتَنَعَ عن ذلك [1697] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/484)، ((تفسير ابن كثير)) (3/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 269)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/114). .
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ثلاثُ قراءاتٍ:
1- وَمَا يُشْعِرُكُمْ إنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ بجَعْلِ الكلامِ تامًّا عند قولِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ، أي: ما يدريكُم أيُّها المؤمنونَ، ثُمَّ ابتدأَ الخَبَرَ عن الكفَّارِ والمُشركينَ، فقال عنهم: إنَّهم لا يؤمنونَ إذا جاءَتْهم الآياتُ [1698] قرأ بها: ابنُ كثيرٍ، وأبو عَمرٍو، وشُعبةُ عن عاصمٍ في روايةٍ. ((النشر)) لابن الجزري (ص: 238-240). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 147)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/117-126). .
2- وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا تُؤْمِنُونَ
 على (أنَّ) هنا معناها: (لعَلَّ)، فالمعنى: وما يُدريكُم أيُّها الكُفَّارُ والمُشركونَ لعَلَّ الآياتِ إذا جاءت لا تُؤمنونَ [1699] قرأ بها: ابنُ عامرٍ، وحمزةُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 238-240). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/379)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/117-126). قال الألوسي: (والخطابُ حينئذٍ في الآية للمُشركين بلا خلاف) ((تفسير الألوسي) (4/240). .
3- وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
 على (أنَّ) هنا معناها: (لعَلَّ)، فالمعنى: وما يُدْريكُم أيُّها المؤمنونَ، لعَلَّ الآياتِ إذا جاءت لا يُؤْمِنُ الكُفَّارُ والمُشركونَ، وقيلَ غَيرُ ذلك [1700] قرأ بها: نافعٌ والكسائيُّ وحفصٌ عن عاصِمٍ، وشُعبة عن عاصمٍ في روايةٍ أخرى. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 238-240)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/117-118). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/379)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/117-126)، ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان (4/614-615). .
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ.
أي: وما [1701] قال الكرمانيُّ: (أجمَع المفسرون على أنَّ «مَا» للاستفهامِ) ((غرائب التفسير وعجائب التأويل)) (1/380). يُدريكُم- أيُّها المؤمنونَ- أنَّ هؤلاءِ المُشركينَ لا يُؤمنونَ إذا جاءَتْهم المُعجزاتُ التي سَأَلُوها [1702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/489)، ((تفسير ابن كثير)) (3/316-317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 269)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/117-126). وقد ذهَب بعضُ المفسِّرين كابن جريرٍ إلى أنَّ معنى (أنَّ) في قوله أنَّها: لعلَّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/489)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/124). وقد خطَّأ ابنُ تيمة هذا المعنى، فقال: (أي: وما يُشعركم أنَّها إذا جاءتْ لا يُؤمنون بها ونُقلِّب أفئدتَهم، أي: يتركون الإيمانَ ونحن نُقلِّب أفئدتهم؛ لكونِهم لم يُؤمنوا أوَّلَ مرَّةٍ، أي: ما يُدريكم أنه لا يكونُ هذا وهذا حينئذ. ومَن فَهِم معنى الآية عرَفَ خطأَ مَن قال: (أنَّ) بمعنى (لعلَّ) واستشكل قِراءة الفتح؛ بل يعلم حينئذٍ أنَّها أحسنُ مِن قراءةِ الكسر، وهذا بابٌ واسع) ((مجموع الفتاوى)) (13/246). .
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110).
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي: ونُزيغُ قلوبَهم عن الإيمانِ، فلا تَعْقِلُ حقًّا، ونَحُولُ بين أبصارِهم ورؤية الحَقِّ؛ لأنَّهم لم يُؤمنوا بالقُرآنِ في أوَّلِ مَرَّةِ أتاهم فيها الدَّاعي، وقامَتْ عليهم فيها الحُجَّةُ، وبادَروا بتكذيبِ الرَّسولِ [1703] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/491-492)، ((تفسير ابن كثير)) (3/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 269)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/126-130). والكنايةُ في بِهِ يجوزُ أن تعودَ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/311). وقال ابن جرير: (الهاءُ مِن قَوْلِه: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ كِنَايَة ذِكْرِ التَّقْلِيبِ) وذكر أنَّ المعنى: (كما لم يُؤمِنوا بتَقْلِيبنا إيَّاها قبلَ مجيئِها مرَّةً قبلَ ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (9/492). ، وهذا مِن عَدْلِ الله تعالى وحِكْمَتِه؛ فهُم الذين جَنَوْا على أنْفُسِهم، وقد فُتِحَ لهم البابُ فلم يَدْخُلوا، وبُيِّنَ لهم الطَّريقُ فلم يَسْلُكوا، فإذا حُرِمُوا التَّوفيقَ بعد ذلك، كان هذا جزاءً وِفاقًا، مُناسِبًا لأحوالِهم [1704] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 269). .
كَمَا قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رضِيَ الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلْبٍ واحِدٍ؛ يُصَرِّفُهُ حيثُ يشاءُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: اللَّهمَّ مُصَرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ )) [1705] رواه مسلم (2654). .
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
أي: ونتركُ هؤلاءِ في تَمَرُّدِهم واعتدائِهم على حدودِ اللهِ تعالى يترَدَّدون؛ فلا لِلحَقِّ يَهتدونَ، ولا الصَّواب يُبصرونَ، قد غَلَب عليهم الخِذْلانُ، واستحوَذَ عليهم الشَّيطانُ [1706] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/492)، ((تفسير ابن كثير)) (3/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 269)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/130-131). .

الفوائد التربوية :

1- الطَّاعةُ إذا أدَّت إلى معصيةٍ راجحةٍ وَجَبَ تَرْكُها؛ فإنَّ ما يؤدِّي إلى الشرِّ شَرٌّ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [1707] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/227)، ((تفسير الشربيني)) (1/444). .
2- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ فيه تنبيهٌ على أنَّ الخَصْمَ إذا شافَهَ خَصْمَه بجهْلٍ وسَفاهةٍ، لم يَجُزْ لِخَصْمِه أنْ يشافِهَهُ بمِثْل ذلك، وهو أدَبٌ يَليقُ بالمُؤْمِنِ، المطمَئِنِّ لِدِينِه، الواثِقِ من الحَقِّ الذي هو عليه، الهادِئِ القَلْبِ، الذي لا يَدْخُلُ فيما لا طائِلَ وراءه من الأمورِ [1708] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/362).
3- قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه تأديبٌ لِمَن يَدْعو إلى الدِّينِ؛ لِئَلَّا يَتشاغَلَ بما لا فائدةَ له في المطلوبِ؛ لأنَّ وَصْفَ الأوثانِ بأنَّها جماداتٌ لا تَنفَعُ ولا تَضُرُّ يكفي في القَدْحِ في إلهِيَّتِها، فلا حاجَةَ مع ذلك إلى شَتْمِها [1709] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/110). .
4- قال اللهُ تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تَزيينُ أعمالِهم يكونُ بواسِطَةِ الملائكَةِ والأنبياءِ والمؤمنينَ للخَيْرِ، وتزيينِ شياطينِ الإِنْسِ والجِنِّ للشَّرِّ؛ قال تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، ومثلُ هذا كثيرٌ؛ فالفاعِلُ للذَّنْب لو جَزَمَ بأنَّه يَحصُلُ له به الضَّرَرُ الرَّاجِحُ لم يَفعَلْه، لكنَّه يُزَيَّنُ له ما فيه من اللَّذَّةِ التي يَظُنُّ أنَّها مصلحةٌ، ولا يجْزِمُ بوقوعِ عقوبَتِه، بل يرجو العَفْوَ بحسناتٍ أو توبةٍ، أو بِعَفْوِ الله ونحوِ ذلك، وهذا كلُّه من اتِّباعِ الظَّنِّ وما تهوى الأنفُسُ، ولو كان له عِلْمٌ كامِلٌ لعَرَفَ به رُجحانَ ضَرَرِ السَّيِّئةِ، فأوجَبَ له ذلك الخشيةَ المانِعَةَ له من مُواقَعَتِها [1710] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/795-796). .
5- مَن أعرَضَ عن اتِّباعِ الحَقِّ الذي يَعلَمُه تبعًا لهواه؛ فإنَّ ذلك يُورِثُه الجَهْلَ والضَّلالَ حتى يَعمَى قلبُه عن الحَقِّ الواضِحِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فمعنى الآية: ونُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم؛ عقوبةً لهم على تَرْكِ الإيمانِ في المَرَّةِ الأولى [1711] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/10-11)، ((تفسير ابن عادل)) (8/377). ، فمَن عُرِضَ عليه حَقٌّ فرَدَّه فلم يَقبَلْه؛ عُوقِبَ بفَسادِ قَلْبِه وعَقْلِه ورَأْيِه [1712] ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/99).

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ نُهِيَ المُسلمونَ أن يَفعلوا ما يكونُ ذريعةً إلى سَبِّ الكافرينَ لله تعالى، فعُلِمَ أنَّ سَبَّ الله تعالى أعظَمُ عنده من أنْ يُشْرَكَ به، ويُكَذَّبَ رَسُولُه ويُعادَى [1714] يُنظر: ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) لابن تيمية (ص: 552). .
2- قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قد يَسْتشْكِلُ بعضُهم أنَّ شَتْمَ الأصنامِ من أصولِ الطَّاعاتِ؛ فكيف يُنْهَى عنها؟
والجوابُ: أنَّ هذا الشَّتْمَ، وإنْ كان طاعةً، إلَّا أنَّه إذا وَقَعَ على وجهٍ يَسْتلزِمُ وجودَ مُنْكَرٍ عظيمٍ، وَجَبَ الاحترازُ منه، والأمرُ هاهنا كذلك؛ لأنَّ هذا الشَّتْمَ كان يَستلزِمُ إقدامَهم على شَتْمِ اللهِ وشَتْمِ رَسُولِه، وعلى فَتْحِ بابِ السَّفاهَةِ، وعلى تَنفيرِهم عن قَبولِ الدِّينِ، وإدخالِ الغَيْظِ والغَضَبِ في قُلوبِهم؛ فَلِكَونِه مُستلزِمًا لهذه المُنكَرَاتِ، وَقَعَ النَّهيُ عنه [1715] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/110). ؛ فإنَّه إذا كانتِ الطَّاعةُ تؤدِّي إلى مَفسدةٍ، خَرَجَتْ عن أنْ تكونَ طاعةً؛ فيجِبُ النَّهيُ عنها كما يُنهَى عن المعصيةِ [1716] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/611). .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أصْلٌ في قاعِدَةِ سَدِّ الذَّرائعِ [1717] يُنظر: ((أعلام الموقعين)) لابن القيم (3/110)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 120). ، ودليلٌ للقاعدةِ الشَّرعيَّة: أنَّ الوسائِلَ تُعتبَرُ بالأمورِ التي تُوصِلُ إليها، وأنَّ وسائِلَ المحَرَّم- ولو كانتْ جائِزَةً- تكونُ مُحَرَّمةً، إذا كانت تُفْضِي إلى الشَّرِّ [1718] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 269). .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ يُستدَلُّ به على سُقوطِ وُجوبِ الأَمْرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عن المُنْكَر إذا خِيفَ من ذلك مَفْسَدَةٌ أعْظَم، وكذا كُلُّ فعلٍ مطلوبٍ تَرَتَّبَ على فِعْلِه مفسدةٌ أقوى من مَفْسَدَةِ تَرْكِه [1719] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 120). .
5- دَفَعَ اللهُ تَوَهُّمَ إكرامِ آلهَتِهم حين نَهى عن سَبِّها بقوله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فبَيَّنَ أنهم في سُفُولٍ؛ بقوله: مِنْ دُونِ اللهِ [1720] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/227). .
6- قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حُكْمُ هذه الآيةِ باقٍ في هذه الأُمَّةِ؛ فإذا كان الكافِرُ في مَنَعةٍ، وخِيفَ أن يُسَبَّ الإسلامُ أو الرَّسولُ أو اللهُ، فلا يحِلُّ لمسلمٍ ذَمُّ دينِ الكافِرِ، ولا صَنَمُه ولا صَليبُه، ولا يتعَرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك [1721] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/610). .
7- قول الله تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى زَيَّنَ للكافِرِ الكُفْرَ، وللمُؤمِنِ الإيمانَ، وللعاصي المعصيةَ، وللمُطيعِ الطَّاعةَ؛ ففي الآية دليلٌ على تكذيبِ القَدَريَّةِ والمُعتَزِلَة؛ حيثُ قالوا: لا يَحْسُن مِن اللهِ تعالى خَلْقُ الكُفْرِ وتَزْيينُه [1722] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/366)، ((تفسير الشربيني)) (1/444). .
8- في قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ قدَّمَ اللهُ تعالى ذِكْرَ تقليبِ الأفئدةِ على تقليبِ الأبصارِ؛ لأنَّ موضِعَ الدَّواعي والصَّوارفِ هو القلْبُ، فإذا حصَلتِ الدَّاعيةُ في القَلْبِ انصرَفَ البَصَرُ إليه شاءَ أم أبَى، وإذا حَصَلَتِ الصَّوارفُ في القَلْبِ انصَرَفَ البَصَرُ عنه؛ فهو وإنْ كان يُبْصِرُه في الظَّاهِر، إلَّا أنَّه لا يَصيرُ ذلك الإبصارُ سببًا للوقوفِ على الفوائِدِ المطلوبَةِ؛ وهذا هو المرادُ من قولِه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، فلمَّا كان المَعْدِنُ هو القَلْبَ، وأمَّا السَّمْعُ والبَصَرُ فهما آلتانِ للقَلبِ؛ كانَا لا مَحالَةَ تابعينِ لأحوالِ القَلْبِ؛ فلهذا السَّببِ وَقَعَ الابتداءُ بِذِكْرِ تقليبِ القلوبِ في هذه الآيةِ، ثم أتبَعَه بذِكْرِ تقليبِ البَصَرِ [1723] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/115). .
9- قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وجهُ الجمْعِ بين الأفئدةِ والأبصارِ وعدَمِ الاستغناءِ بالأفئدَةِ عن الأبصارِ؛ أنَّ الأفئدةَ تختَصُّ بإدراكِ الآياتِ العقليَّةِ المَحْضَةِ، مثلُ آية الأُمِّيَّة، وآيةِ الإعجازِ، ولَمَّا لم تَكْفِهم الآياتُ العقليَّةُ ولم ينتفِعوا بأفئدَتِهم- لأنها مُقَلَّبةٌ عن الفِطْرَةِ- وسألوا آياتٍ مرئيَّةً مُبصَرةً؛ كأنْ يَرْقَى في السَّماء، ويُنْزِلَ عليهم كتابًا في قرطاسٍ؛ أخبرَ اللهُ رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم والمُسلمينَ بأنَّهم لو جاءَتْهم آيةٌ مُبصِرةٌ لَمَا آمَنُوا؛ لأنَّ أبصارَهم مُقَلَّبةٌ أيضًا مثلَ تقليبِ عُقولِهم [1724] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/443). .
10- العَينانِ هما رَبيئةُ [1725] الرَبيئَةُ: الطليعة. ينظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/234)، ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (1/51). القَلبِ، ولَيسَ مِن الأعضاءِ أشدُّ ارتباطًا بالقَلْبِ من العَينينِ؛ ولهذا جمَعَ بينهما في قولِه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ، وفي غَيرِها من الآياتِ كقولِه: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 37] ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب: 10] ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات: 8- 9] ، ولأنَّ كِليهما له النَّظرُ؛ فنظرُ القلبِ الظاهِرُ بالعَينينِ، والباطنُ به وحْدَه [1726] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/225). .
11- قوله تعالى: مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فيه دليلٌ على أنَّ الكُفْرَ والإيمانَ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه، التابع لحِكمتِه سُبحانَه، وفي ذلك رَدٌّ على القَدَرِيَّة [1727] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/114)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 121). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- قوله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وصَفَ سَبَّ المُشْرِكينَ لله تَعالَى بأنَّه عَدْوٌ؛ للتَّعريضِ بأنَّ سَبَّ المسلمينَ أصنامَ المُشركينَ ليس من الاعتداءِ، وجَعَلَ ذلك السَّبَّ عَدْوًا، سواءٌ كان مرادًا به اللهُ أم كان مُرادًا به مَن يأمُر النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما جاءَ به؛ لأنَّ الذي أمَرَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما جاءَ به هو في نفْسِ الأمْرِ اللهُ تعالى، فصادَفوا الاعتداءَ على جَلالِه [1728] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/432). .
- وأظهَرَ لفظَ الجلالةِ اللَّهَ؛ تَصريحًا بالمقصودِ وإعظامًا لهذا، وتهويلًا له، وتَنفيرًا منه [1729] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/227). .
- قوله: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه تعريضٌ بالتوعُّدِ بأنْ سَيَحُلُّ بمشركي العَرَبِ مِن العذابِ مثلُ ما حَلَّ بأولئكَ في الدُّنيا [1730] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/433). .
- والعُدولُ عن اسْمِ الجَلالة إلى لفظِ: رَبِّهِمْ لقَصْدِ تهويلِ الوعيدِ، وتَعليلِ استحقاقِه بأنَّهم يُرجعونَ إلى مالِكهم الذي خَلَقَهم، فكفروا نِعَمَه وأَشْرَكوا به، فكانوا كالعَبيدِ الآبقينَ؛ يَطُوفون ما يَطُوفونَ، ثم يَقَعونَ في يَدِ مَالِكِهم [1731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/433). .
- قوله: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ خبرٌ مقصودٌ منه التوبيخُ والعِقابُ؛ لأنَّ العقابَ هو العاقبةُ المقصودَةُ من إعلامِ المُجْرِم بجُرْمِه [1732] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/434). .
2- قوله: قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فيه حصْرٌ بـإِنَّمَا؛ للرَّدِّ على المشركين في ظَنِّهم بأنَّ الآياتِ في مقدورِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنْ كان نبيًّا، فجَعَلوا عَدَمَ إجابَةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم اقتراحَهم آيةً؛ أمارةً على انتفاءِ نبوءَتِه، فأَمَرَه اللهُ أن يُجيبَ بأنَّ الآياتِ عند اللهِ لا عندَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والله أعلَمُ بما يُظْهِرُه من الآياتِ [1733] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/436). .
- وقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ كلامٌ مستأنَفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمْرِ في قولِه: قُلْ مَسوقٌ من جِهَتِه تعالى؛ لبيانِ الحِكمةِ الدَّاعيَةِ إلى ما أشْعَرَ به الجوابُ السَّابِقُ من عَدَمِ مجيءِ الآياتِ؛ إذ إنَّ مَرجِعَ الإنكارِ إقدامُ المشركينَ على الإقسامِ المذكورِ في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا مع جَهْلِهم بحالِ قُلوبهم عند مجيءِ الآياتِ؛ وهذا الكلامُ إمَّا خُوطِبَ به المسلمونَ خاصَّةً بطَريقِ التلوينِ، لَمَّا كانوا راغبينَ في نُزولِها طَمَعًا في إسلامِهم، وإمَّا خُوطِبَ المسلمونَ معه صلَّى الله عليه وسلَّم بطَريقِ التَّعميمِ [1734] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/173). .
- وقد سِيقَ الخَبَرُ بصِيغةِ الاستفهامِ؛ لأنَّ الاستفهامَ مِن شَأْنِه أن يُهَيِّئَ نَفْسَ السَّامِعِ لطَلَبِ جوابِ ذلك الاستفهامِ، فيتأَهَّبَ لوَعْيِ ما يَرِدُ بَعْدَه [1735] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/437). .
3- قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الكافُ في قوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لتشبيهِ حالةِ انتفاءِ إيمانِهم بعد أن تجيئَهم آيةٌ مِمَّا اقترحوا، أي: ونُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم، فلا يؤمنونَ بالآيةِ التي تَجيئُهم مثلما لم يؤمنوا بالقرآنِ مِن قَبْلُ، فتقليبُ أفئدَتِهم وأبصارِهم على هذا المعنى يحصُلُ في الدُّنيا، وهو الخِذْلان [1736] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/441). .