موسوعة التفسير

سُورةُ الصَّفِّ
الآيتان (5-6)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غريب الكلمات:

زَاغُوا: أي: مالُوا وجارُوا، والزَّيغُ: المَيلُ عن الاستِقامةِ، وأصلُ (زيغ): يدُلُّ على مَيلٍ [51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/612)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 251)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/40)، ((المفردات)) للراغب (ص: 387)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 415). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ قال موسى لِقَومِه بني إسرائيلَ: يا قَومِ، لِمَ تُؤذُونَني وأنتم تَعلَمونَ أنِّي رَسولُ اللهِ إليكم، فلمَّا مالُوا عن الحَقِّ أمالَ اللهُ قُلوبَهم عن الهُدى، واللهُ لا يَهدي القَومَ الخارجِينَ عن طاعتِه.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى جانبًا ممَّا قاله عيسَى عليه السَّلامُ لبني إسرائيلَ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ قال عيسى ابنُ مَريمَ: يا بني إسرائيلَ إنِّي رَسولُ اللهِ أرسَلَني إليكم مُصَدِّقًا للتَّوراةِ الَّتي أُنزِلَت مِن قَبلُ على موسى، ومُبَشِّرًا برَسولٍ يأتي مِن بَعْدي اسمُه أحمَدُ، فلمَّا جاءهم بالمُعجِزاتِ الدَّالَّةِ على الحَقِّ، قال الكافِرونَ: هذا الَّذي جاءَنا به سِحرٌ ظاهِرٌ!

تفسير الآيتين:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى الجِهادَ، ذَكَر قِصَّةَ موسى وعيسى عليهما السَّلامُ؛ تسليةً لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليصبِرَ على أذى قَومِه، مُبتَدِئًا بقِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ، لتقَدُّمِه [52] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/275). .
وأيضًا لَمَّا كان في المؤمنينَ مَن يقولُ ما لا يَفعَلُ، وهو راجِعٌ إلى الكَذِبِ؛ فإنَّ ذلك في معْنى الإذايةِ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ إذ كان في أتْباعِه مَن عانَى الكَذِبَ، فناسَبَ ذِكرُ قصَّةِ مُوسى وقَولِه لقَومِه: لِمَ تُؤْذُونَنِي، وإذايتُهم له كانتْ بانتِقاصِه في نفْسِه، وجُحودِ آياتِ اللهِ تعالَى، واقتِراحاتِهم عليه ما ليس لهم اقتِراحُه [53] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/165). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر أمْرَ الجِهادِ؛ بَيَّنَ أنَّ موسى وعيسى عليهما السَّلامُ أَمَرَا بالتَّوحيدِ وجاهَدَا في سَبيلِ اللهِ، وحَلَّ العِقابُ بمَن خالَفَهما [54] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/82). .
وأيضًا لَمَّا كان التخَلُّفُ عن أمرِ اللهِ تعالى، والغَفلةُ عن شَيءٍ يُؤَدِّي تَرْكُه إلى التَّهاوُنِ به، والإخلالِ بأدَبٍ مِن آدابِه: مُوجِبًا للكَونِ في صَفِّ الشَّيطانِ، ومُفارَقةِ حِزبِ الرَّحمنِ، فيَكونُ آذى الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيُوجِبُ ذلك الشَّقاءَ كُلَّه؛ لأنَّه جَديرٌ بأن يَجُرَّ إلى أكبَرَ منه؛ إلى أن تُحيطَ الخَطايا فتُبيحَ الرَّزايا، وكان للتَّذكيرِ بالمُشاهَداتِ والأُمورِ الواقِعاتِ ما ليس لغَيرِه في التَّأديبِ، ومَرجِعِ التَّرهيبِ- ذكَّرَ بما كان لبني إسرائيلَ؛ ترهيبًا مِن مِثْلِ حالِهم [55] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/9). ويُنظر ما يأتي في البلاغة (ص: 156). .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ قال موسى لِقَومِه بني إسرائيلَ: يا قَومِ، لِمَ تُصيبونَني بما يُؤذِيني، والحالُ أنَّكم تَعلَمونَ عِلمًا يَقينيًّا أنِّي رَسولُ اللهِ إليكم، وأنَّه يَجِبُ عليكم تَعظيمي والانقيادُ لأَمْري [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/612)، ((تفسير القرطبي)) (18/82)، ((تفسير ابن كثير)) (8/109)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/9)، ((تفسير أبي السعود)) (8/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). ويُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ سورةِ (الأحزاب) آية رقم (69). ؟!
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 20 - 26] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قَسَم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسْمًا، فقال رجُلٌ: إنَّ هذه لَقِسْمةٌ ما أُريدَ بها وَجهُ اللهِ! فأخبَرْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فغَضِبَ، حتَّى رأيتُ الغضَبَ في وَجْهِه، وقال: يَرحَمُ اللهُ موسى؛ لقد أُوذِيَ بأكثَرَ مِن هذا فصبَرَ! )) [57] رواه البخاريُّ (6336) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1062).? .
فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.
أي: فلمَّا مالَ قَومُ موسى عن الحَقِّ عَمْدًا منهم، أمالَ اللهُ قُلوبَهم عن الهُدى إلى الضَّلالِ؛ عُقوبةً لهم على زَيغِهم عن الحَقِّ، مع تعَمُّدِهم وعِلْمِهم به [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/612)، ((تفسير القرطبي)) (18/82)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 97، 100، 134، 135)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/99)، ((تفسير ابن كثير)) (8/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/179). .
كما قال تعالى حِكايةً عن دُعاءِ الرَّاسِخينَ في العِلمِ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] .
وقال سُبحانَه: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [النساء: 115] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
أي: واللهُ لا يوفِّقُ لاتِّباعِ الحقِّ القَومَ الَّذين آثَروا الخُروجَ عن طاعتِه، وأصَرُّوا على مَعصيتِه [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/613)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/11، 12)، ((تفسير أبي السعود)) (8/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). .
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى شيئًا مِن قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ مع بني إسرائيلَ، ذَكَر أيضًا شيئًا مِن قِصَّةِ عيسى عليه السَّلامُ [60] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/165). .
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حينَ قال عيسى ابنُ مَريمَ: يا بني إسرائيلَ إنِّي رَسولُ اللهِ أرسَلَني إليكم؛ لأدعوَكم إلى الخَيرِ، وأنهاكم عن الشَّرِّ [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/613)، ((تفسير ابن عطية)) (5/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). .
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ.
أي: مُصَدِّقًا للتَّوراةِ الَّتي أُنزِلَت مِن قَبلُ على موسى [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/613)، ((تفسير القرطبي)) (18/83)، ((تفسير البيضاوي)) (5/208)، ((تفسير ابن جزي)) (1/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). قيل: معنى تصديقِ عيسى للتَّوراةِ: تَصديقُه لها في التَّوحيدِ وجمهرةِ شرائِعِها. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ في الجُملةِ: السمرقنديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/443)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/180، 181). وقيل: المرادُ: أنَّ في التَّوراةِ صِفتَه، وأنَّها بَشَّرَت به، وأنَّه لم يأتِ بما يُخالِفُها. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: القرطبيُّ، والشوكاني، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/83)، ((تفسير الشوكاني)) (5/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). .
كما قال تعالى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة: 46] .
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.
أي: ومُبَشِّرًا لكم برَسولٍ يأتي مِن بَعْدي اسمُه أحمَدُ [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/613)، ((الوسيط)) للواحدي (4/292)، ((تفسير القرطبي)) (18/83، 84)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/90، 91)، ((هداية الحيارى)) لابن القيم (1/ 335)، ((تفسير ابن كثير)) (8/109)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/14). .
كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 81، 82].
وقال سُبحانَه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157].
وعن أبي أُمامةَ رضي الله عنه، قال: ((قلْتُ: يا نبيَّ الله، ما كان أولُ بدءِ أمرِك؟ قال: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرَى عيسى، ورأتْ أمِّي أنَّه يخرجُ منها نورٌ أضاءَتْ منه قصورُ الشَّامِ )) [64] أخرجه الطيالسي (1236) وأحمد (22261) والطبراني (7729). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/225): (إسنادُه حسنٌ، وله شَواهدُ تقويه). وصحَّحه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوط في تحقيقِ ((مسند أحمد)) (36/596). .
وعن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لي خَمسةُ أسماءٍ: أنا محمَّدٌ، وأحمدُ، وأنا الماحي الَّذي يَمحو اللهُ بيَ الكُفرَ، وأنا الحاشِرُ الَّذي يُحشَرُ النَّاسُ على قَدَمي، وأنا العاقِبُ [65] العاقِبُ: الَّذي ليس بَعْدَه نَبيٌّ، والَّذي يَخلُفُ في الخَيرِ مَن كان قَبْلَه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3696). ) [66] رواه البخاريُّ (3532) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2354). .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسَمِّي لنا نَفْسَه أسماءً، فقال: أنا محمَّدٌ، وأحمَدُ، والمُقَفِّي [67] المُقَفِّي، أي: المُتَّبِعُ؛ مِن قَفَا أثَرَه: إذا تَبِعَه، يعني: أنَّه آخِرُ الأنبياءِ الآتي على أَثَرِهم، ولا نَبيَّ بَعْدَه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3697). ، والحاشِرُ، ونَبيُّ التَّوبةِ، ونبيُّ الرَّحمةِ )) [68] رواه مسلم (2355). .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ: سَاحِرٌ [69] قرأ بها: حمزةُ، والكِسائيُّ، وخَلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/256). .
2- قِراءةُ: سِحْرٌ [70] قرأ بها: الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/256). .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ.
أي: فلمَّا جاءهم بالمُعجِزاتِ الواضِحةِ الدَّالَّةِ على الحَقِّ، قال المعانِدونَ الكافِرونَ: هذا الَّذي جاءَنا به سِحرٌ ظاهِرٌ [71] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/613)، ((تفسير السمرقندي)) (3/443)، ((تفسير ابن كثير)) (8/111)، ((تفسير الشوكاني)) (5/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). قال ابن جُزَي: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يحتَمِلُ أن يريدَ عيسى أو محمَّدًا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/371). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/303). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ جرير، ومكِّي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/613)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7440)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/148). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والرَّسْعَني، والبيضاوي، وأبو حيان، والشوكاني، والعُلَيمي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/316)، ((تفسير السمرقندي)) (3/443)، ((تفسير الرسعني)) (8/113)، ((تفسير البيضاوي)) (5/209)، ((تفسير أبي حيان)) (10/166)، ((تفسير الشوكاني)) (5/263)، ((تفسير العليمي)) (7/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/187). .
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ: 43] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هذا مِن العُقوبةِ على الذَّنْبِ بالذَّنبِ [72] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/165). ، والجزاءِ بالمعاصي على المعاصي [73] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 161). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هذه الآيةُ الكريمةُ تُفيدُ أنَّ إضلالَ اللهِ لعبادِه ليس ظُلمًا منه، ولا حُجَّةً لهم عليه، وإنَّما ذلك بسَبَبٍ منهم؛ فإنَّهم الَّذين أغلَقوا على أنفُسِهم بابَ الهُدى بعدَما عَرَفوه، فيُجازيهم بعدَ ذلك بالإضلالِ والزَّيغِ الَّذي لا حيلةَ لهم في دَفْعِه، وتقليبِ القُلوبِ؛ عُقوبةً لهم، وعدلًا منه بهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [74] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 858). [الأنعام: 110] .
3- قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عاقَبَهم سُبحانَه بإزاغةِ قُلوبِهم عن الحَقِّ لَمَّا زاغوا عنه ابتِداءً، ونَظيرُه قَولُه تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ؛ ولهذا قيلَ: مَن عُرِضَ عليه حَقٌّ فرَدَّه فلم يَقبَلْه، عُوقِبَ بفَسادِ قَلْبِه وعَقْلِه ورَأْيِه، ومِن هنا قيلَ: لا رأيَ لصاحِبِ هَوًى؛ فإنَّ هَواه يَحمِلُه على رَدِّ الحَقِّ، فيُفسِدُ اللهُ عليه رأيَه وعَقْلَه [75] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/99). !
4- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أنَّ الإنسانَ كُلَّما أوغَلَ في المعاصي ازداد بُعْدًا عن الإقبالِ على الحَقِّ؛ ولذلك يجبُ أنْ يُعلَمَ أنَّ مِن أشدِّ عُقوباتِ الذُّنوبِ أنْ يُعاقَبَ الإنسانُ بمَرَضِ القَلبِ، فالإنسانُ إذا عُوقِبَ بهَلاكِ حبيبٍ أو فَقْدِ مَحبوبٍ مِن المالِ، فهذه عقوبةٌ لا شكَّ، لكنْ إذا عُوقِبَ بانسلاخِ القَلبِ فهذه العقوبةُ أشدُّ ما يكونُ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 103). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أنَّ مَن أعْرَضَ عن اتِّباعِ الحقِّ الَّذي يَعْلَمُه تَبَعًا لهواهُ، فإنَّ ذلك يُورِثُه الجَهلَ والضَّلالَ حتَّى يَعْمَى قلْبُه عن الحقِّ الواضِحِ [77] يُنظر: ((التحفة العراقية)) لابن تيمية (ص: 39). .
2- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَرِيَّةِ المُنكِرينَ أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيَدِ اللهِ تعالى؛ حيثُ أخبَرَ سُبحانَه في كلامٍ واحدٍ عن زَيغِهم وإزاغتِهم [78] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/293). ، فجمَعَ سُبحانَه بيْنَ الأمْرينِ في قولِه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، فالإزاغةُ فِعلُه، والزَّيغُ فِعلُهم [79] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 134). .
3- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أنَّ إضلالَ مَن ضَلَّ ليس لمجَرَّدِ المشيئةِ، بل لوجودِ العِلَّةِ الَّتي كانت سَببًا في إضلالِ اللهِ العبدَ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/101). ؛ فمَن زَاغَ عنِ الحقِّ فهو السَّبَبُ، ولا يمكنُ لأحدٍ أنْ يَزيغَ إلَّا وهو السَّبَبُ في زَيغِ نَفْسِه [81] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/432). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ بظاهِرِها على أنَّ الخارِجَ عن طاعةِ اللهِ لا يَهديه اللهُ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خِلافِ ذلك، كقَولِه تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] ، وقَولِه تعالى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء: 94] .
وأيضًا يُشْكِلُ على هذا أنَّ الواقعَ أنَّ اللهَ قد يَهدي الفاسِقينَ، وقد يَهدي الكافِرينَ، فكيف نَجْمَعُ بيْن الواقِعِ وهذا الخبرِ الصَّادقِ؟
الجوابُ مِن عدَّةِ أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الآيةَ مِن العامِّ المخصوصِ؛ فهي في خُصوصِ الأشقياءِ الَّذين أزاغ اللهُ قُلوبَهم عن الهُدى لشَقاوتِهم الأزَليَّةِ. فقولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أي: الَّذين كَتَبَ اللهُ عليهم الفِسْقَ، وأمَّا مَن كَتَبَ عليه أنْ يُؤمِنَ، فيُؤمِنُ ولا بُدَّ، ولكنَّ الفائدةَ مِن هذا -أي: مِن إطلاقِ قَولِه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ- الإشارةُ إلى أنَّ عدمَ هِدايةِ اللهِ للقومِ الفاسِقينَ؛ لأنَّهم اختاروا الفِسْقَ، كما قال اللهُ تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. فالآيةُ عُمومٌ معناه الخُصوصُ فيمَن حتَمَ فِسقَه وموافاتَه عليه.
الثَّاني: أنَّ المعنى: لا يَهدِيهم ما داموا على فِسْقِهم، فإن تابُوا منه هَداهم.
الثَّالثُ: أنَّه يحتملُ أن يريدَ الإخبارَ عن أنَّ الفاسِقَ في فِسْقِه ليس على هُدًى مِن الله، فتَجيءَ الآيةُ عامَّةً تامَّةَ العُمومِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/358، 468)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 237)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/491). .
5- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وعيدٌ شديدٌ، وأنَّ الفاسِقَ عُرْضةٌ لِئلَّا يَهديَه اللهُ عزَّ وجلَّ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/467). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فيه تنبيهٌ على عَظيمِ إيذاءِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى إنَّه يؤدِّي إلى الكُفرِ، وزَيغِ القُلوبِ عن الهُدى [84] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/528). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. قال عيسى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ مِن حيثُ لم يكُنْ له فيهم أبٌ، وإن كانت أمُّه منهم؛ لأنَّ النَّسَبَ لا يكونُ إلَّا مِن جِهةِ الأبِ، وإنْ كانت أمُّه مَريمَ مِن أشرَفِهم نَسَبًا [85] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/165). .
وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ بني إسرائيلَ بَعْدَ موسى عليه السَّلامُ اشتُهِروا بعنوانِ (بني إسرائيلَ)، ولم يُطلَقْ عليهم عنوانُ: (قومُ موسى) إلَّا في مُدَّةِ حياةِ موسى خاصَّةً؛ فإنَّهم إنَّما صاروا أمَّةً وقَومًا بسَبَبِه وشَريعتِه، فأمَّا عيسى عليه السَّلامُ فإنَّما كان مُرسَلًا بتأييدِ شَريعةِ موسى، والتَّذكيرِ بها، وتغييرِ بَعضِ أحكامِها، ولأنَّ عيسى حينَ خاطَبَهم لم يكونوا قد اتَّبَعوه، ولا صَدَّقوه، فلم يكونوا قومًا له خالِصينَ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/180). . أو ناداهُم بذلك استمالةً لقُلوبِهم إلى تَصديقِه واستعطافًا، أي: إنِّي أُرسِلْتُ إليكم في حالِ تَصديقي لكتابٍ نَزَلَ إليكم يا بني إسرائيلَ خاصَّةً [87] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/387)، ((تفسير أبي السعود)) (8/244). .
8- المقصودُ مِن تَنبيهِ عيسى عليه السَّلامُ لبني إسرائيلَ على هذا التَّصديقِ حِينَ ابتَدَأَهم بالدَّعوةِ في قولِه: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ تَقريبُ إجابتِهم، واسْتِنزالُ طائرِهم؛ لشِدَّةِ تَمسُّكِهم بالتَّوراةِ، واعتقادِهم أنَّ أحكامَها لا تَقبَلُ النَّسخَ، وأنَّها دائمةٌ؛ ولذلك لَمَّا ابتَدَأَهم بهذه الدَّعوةِ لم يَزِدْ عليها ما حُكِيَ عنه في سُورةِ (آلِ عِمرانَ) مِن قولِه: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] ، فيُحمَلُ ما هنالك على أنَّه خِطابٌ واقعٌ بعْدَ أوَّلِ الدَّعوةِ؛ فإنَّ اللهَ لم يُوحِ إليه أوَّلَ مرَّةٍ بنسْخِ بَعضِ أحكامِ التَّوراةِ، ثمَّ أوحاهُ إليه بعْدَ ذلك، فحِينَئذٍ أخْبَرَهم بما أُوحِيَ إليه [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/180). .
9- قال الله تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ إنَّما أخْبَرَهم بمَجيءِ رَسولٍ مِن بعْدِه؛ لأنَّ بني إسرائيلَ لم يَزالُوا يَنتظِرون مَجيءَ رسولٍ مِن اللهِ يُخلِّصُهم مِن بَراثِنِ المُتسلِّطين عليهم، وهذا الانتظارُ دَيدَنُهم، وهم مَوعودون بهذا المُخلِّصِ لهم على لِسانِ أنْبيائهم بعْدَ مُوسى عليه السَّلامُ، فكان وَعدُ عِيسى به كوَعْدِ مَن سَبَقَه مِن أنبيائِهم، وفاتَحَهم به في أوَّلِ الدَّعوةِ اعتِناءً بهذه الوصيَّةِ، وفي الابتداءِ بها تَنْبيهٌ على أنْ ليس عِيسى عليه السَّلامُ هو المُخلِّصَ المُنتظَرَ، وأنَّ المُنتظَرَ رسولٌ يأْتي مِن بعْدِه، وهو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولعِظَمِ شأْنِ هذا الرَّسولِ الموعودِ به، أراد اللهُ أنْ يُقِيمَ للأُمَمِ الَّتي يَظهَرُ فيها عَلاماتٍ ودَلائلَ؛ ليَتبيَّنوا بها شَخْصَه، فيَكونَ انطباقُها فاتحةً لإقبالِهم على تَلقِّي دَعوتِه، وإنَّما يَعرِفُها حقَّ مَعرفتِها الرَّاسِخون في الدِّينِ مِن أهلِ الكتابِ؛ لأنَّهم الَّذين يَرجِعُ إليهم الدَّهْماءُ مِن أهْلِ مِلَّتِهم [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/181). .
10- في قَولِه تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ لم يَقُلْ: «ومُصَدِّقًا»، بل قال: وَمُبَشِّرًا، وهذا أبلَغُ؛ لأنَّ المُبَشَّرَ به يكونُ نِعمةً على مَن بُشِّرَ به، فيَكونُ تصديقُه مِن بابِ تصديقِ الخبرِ، وشُكْرِ النِّعَمِ، ومع ذلك رَفَضوا هذه البِشارةَ وأنكَروها، ولم يُؤمِنوا بمُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، إذَنْ فهم حقيقةً كافِرونَ بعِيسى، وعيسى خَصْمُهم يومَ القيامةِ؛ لأنَّ اللهَ سيَقولُ له: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: 116] الآياتِ [90] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (5/514). ، وحينَئذٍ؛ فلا يَصِحُّ أنْ يَنتسِبَ النَّصارى إلى عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيقولوا: إنَّهم مَسيحيُّون؛ إذْ لو كانوا كذلك حقيقةً لَآمَنوا بما بَشَّرَ به المَسيحُ ابنُ مريمَ؛ لأنَّ عيسى ابنَ مريمَ وغيرَه مِن الرُّسُلِ قد أَخَذَ اللهُ عليهم العَهدَ والميثاقَ أنْ يُؤمِنوا بمُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [91] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/133، 134). [آل عمران: 81] .
11- في قَولِه تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ سؤالٌ: كيف الجوابُ عن شُبهةِ: أنَّ اسمَ الرَّسولِ المُبَشَّرِ به هو «محمَّدٌ» وليس «أحمدَ»؟!
الجوابُ: أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ له أسماءٌ مُتعَدِّدةٌ: أحمدُ، محمَّدٌ، العاقِبُ، الحاشِرُ، أسماؤُه كثيرةٌ معروفةٌ، ولا مانعَ مِن أنْ يَتَسَمَّى الواحِدُ بعدةِ أسماءٍ؛ فهو أحمدُ، ومحمَّدٌ، ويدُلُّ على هذا قولُه عزَّ وجلَّ في السُّورةِ نفْسِها: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يعني: أحمدَ -على قولٍ- قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، و «جاء» فعلٌ ماضٍ يدُلُّ على أنَّ المجيءَ قد سَبَقَ بعدَ البِشارةِ، ولا نَعْلَمُ في التَّاريخِ أنَّ بيْنَ عيسى ومحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهما وسلَّم- رَسولًا، وألْهَم اللهُ تعالى عيسى أنْ يقولَ: اسْمُهُ أَحْمَدُ؛ لحِكمةٍ بالغةٍ عظيمةٍ؛ حيثُ جاء باسمِ التَّفضيلِ «أحمدَ» لِيُنَبِّهَ بني إسرائيلَ على أنَّ هذا الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم- أحمدُ النَّاسِ للهِ عزَّ وجلَّ. والثَّاني: أنه أحمدُ مَن حُمِدَ؛ فالنَّاسُ يَحمَدونَ فُلانًا وفُلانًا وفُلانًا، وأحمدُ النَّاسِ، أي: أحقُّ مَن يُحمَدُ هو الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حتَّى لا يقولَ بنو إسرائيلَ: إنَّ هناك رَسولًا أفضلَ منه [92] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 230). !

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
- ومَوقعُ هذه الآيةِ هنا خَفِيُّ المُناسَبةِ؛ فيجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ مُعترِضةً استِئنافًا ابتدائيًّا، انتُقِلَ به مِن النَّهيِ عن عدَمِ الوفاءِ بما وَعَدوا اللهَ عليه إلى التَّعريضِ بقومٍ آذَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالقولِ أو بالعصيانِ أو نحْوِ ذلك، فيَكونَ الكلامُ مُوجَّهًا إلى المنافِقِينَ؛ فقدْ وُسِموا بأذَى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [الأحزاب: 57] الآيةَ، وقولِه تعالَى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] ، وقولِه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61] ، وعلى هذا الوجْهِ فهو اقتِضابٌ [93] الاقتِضابُ: هو الانتِقالُ ممَّا افتُتِح به الكلامُ إلى المقصودِ مُباشَرةً بدونِ رابطةٍ بيْنَهما. يُنظر: ((المثل السائر)) لابن الأثير (3/139)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 344)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد الخطيب (1/178). نُقِل به الكلامُ مِن الغرَضِ الَّذي قبْلَه لتَمامِه إلى هذا الغرَضِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/177، 178). .
وقيل: الجملةُ كَلامٌ مُستأنَفٌ مُقرِّرٌ لِما قبْلَه مِن شَناعةِ ترْكِ القتالِ [95] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/243). .
أو تَكونَ مُناسَبةُ وَقْعِ هذا الكلامِ في هذا الموقعِ حُدوثَ سَببٍ اقْتَضى نُزولَه مِن أذًى قد حدَثَ، والواوُ على هذا الوجْهِ عطْفُ غرَضٍ على غرَضٍ، وهو المُسمَّى بعطْفِ قِصَّةٍ على قصَّةٍ.
ويجوزُ أنْ تكونَ مِن تَتمَّةِ الكلامِ الَّذي قبْلَها؛ ضرَبَ اللهُ مثلًا للمسلمينَ لتَحذيرِهم مِن إتيانِ ما يُؤذي رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويَسوؤُه مِن الخُروجِ عن جادَّةِ الكَمالِ الدِّينيِّ، مِثلُ عدَمِ الوفاءِ بوَعْدِهم في الإتيانِ بأحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالَى، وأشْفَقَهم مِن أنْ يكونَ ذلك سَببًا للزَّيغِ والضَّلالِ كما حدَثَ لقومِ مُوسى لَمَّا آذَوْهُ، وعلى هذا الوجْهِ فالمُرادُ بأذَى قومِ مُوسى إيَّاهُ: عدَمُ تَوخِّي طاعتِه ورِضاه، فيَكونُ ذلك مُشيرًا إلى ما حكاهُ اللهُ عنه مِن قولِه: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، إلى قولِه: قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 21- 24] ؛ فإنَّ قولَهم ذلك استِخفافٌ؛ يدُلُّ لذلك قولُه عَقِبَه: قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 25] ، وقد يكونُ وَصْفُهم في هذه الآيةِ بقولِه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ناظرًا إلى وَصْفِهم بذلك مرَّتينِ في آيةِ سُورةِ (المائدةِ) في قولِه: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 25] ، وقولِه: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26] ؛ فيَكونُ المقصودُ الأهمُّ مِن القصَّةِ هو ما تَفرَّعَ على ذِكرِها مِن قولِه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. ويُناسِبُ أنْ تكونَ هذه الآيةُ تَحذيرًا مِن مُخالَفةِ أمْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعِبرةً بما عَرَضَ لهم مِن الهَزيمةِ يومَ أُحُدٍ لَمَّا خالَفوا أمْرَه مِن عدَمِ ثَباتِ الرُّمِاة في مَكانِهم، والواوُ على هذا الوجْهِ عطْفُ تَحذيرٍ مأخوذٍ مِن قولِه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ على النَّهيِ الَّذي في قولِه: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] الآيةَ، ويَتبَعُ ذلك تَسليةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما حصَلَ مِن مُخالَفةِ الرُّماةِ حتَّى تَسبَّبوا في هَزيمةِ النَّاسِ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/177، 178). .
- ولَمَّا وبَّخَ اللهُ تعالَى المؤمنينَ الَّذين ما وَفَّوا بما عاهَدوا، وأخْلَفوا المواعيدَ تَمهيدًا وبِساطًا لقولِه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ [الصف: 4] ، حتَّى يَكونوا في اجتِماعِ الكلمةِ كالبُنيانِ المرصوصِ في القِتالِ؛ حذَّرَهم ممَّا لَقِيَ قومُ مُوسى مِن إزاغةِ القُلوبِ، والحِرمانِ مِن التَّوفيقِ بسَببِ الأذى، وممَّا ارتَكَبَ قومُ عِيسى بعْدَ مَجيئِه بالبيِّناتِ، مِن تَكذيبِه وقولِهم فيه: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: 6] ، ألَا تَرى كيف جمَعَ الكلَّ في قولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ [الصف: 7] ، أي: قَضيَّةُ الدَّعوى إلى الإسلامِ تَوقيرُ مَن يَدْعو إليه، وتوقيرُ حُرمتِه، وإجابةُ دَعوتِه، والتَّفادي عن إخلافِ المواعيدِ، وعمَّا يُؤذِيه مِن القولِ والفعلِ [97] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/384، 385). ؟
- وابتداءُ كَلامِ مُوسى عليه السَّلامُ بقولِه: يَا قَوْمِ تَعريضٌ بأنَّ شأْنَ قَومِ الرَّسولِ أنْ يُطِيعوه، بَلْهَ ألَّا يُؤذُوه؛ ففي النِّداءِ بوصْفِ (قَوْمِ) تَمهيدٌ للإنكارِ في قولِه: لِمَ تُؤْذُونَنِي، والاستفهامُ للإنكارِ، أي: إنكارِ أنْ يكونَ للإذايةِ سَببٌ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/178). .
- وقد جاءتْ جُملةُ الحالِ مِن قولِه: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ مُصادِفةً المحلَّ مِن التَّرقِّي في الإنكارِ، وحرْفُ (قَدْ) لتَحقيقِ معْنى الحاليَّةِ، أي: وعِلْمُكم برِسالتي عن اللهِ أمْرٌ مُحقَّقٌ لِمَا شاهَدْتموه مِن دَلائلِ رِسالتِي. وكما أكَّدَ عِلْمَهم بـ (قدْ) أكَّدَ حُصولَ المعلومِ بـ (أنَّ) المفتوحةِ؛ فحصَلَ تأْكيدانِ للرِّسالةِ، والمعْنى: فكيف لا يَجْري أمْرُكم على وَفْقِ هذا العِلمِ [99] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/524)، ((تفسير البيضاوي)) (5/208)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/386)، ((تفسير أبي حيان)) (10/165)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 243)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/178، 179). ؟!
- والإتيانُ بعْدَ حرْفِ (قدْ) بالمُضارعِ تَعْلَمُونَ هنا؛ للدَّلالةِ على أنَّ عِلمَهم بذلك مُجدَّدٌ بتَجدُّدِ الآياتِ والوحْيِ، وذلك أجْدى بدَوامِ امتثالِه؛ لأنَّه لو جِيءَ بفِعلِ المُضِيِّ لَما دلَّ على أكثرَ مِن حُصولِ ذلك العِلمِ فيما مَضى [100] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/179). . وقيل: المضارعُ هنا معْناه المُضِيُّ، أي: وقدْ عَلِمْتم، وعُبِّرَ عنه بالمضارعِ ليَدُلَّ على استِصحابِ الفعلِ [101] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/165). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ اعتِراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه مِن الإزاغةِ، ومُؤذِنٌ بعِلَّتِه، أيْ: لا يَهدِي القومَ الخارجينَ عن الطَّاعةِ ومِنهاجِ الحقِّ، المُصرِّينَ على الغَوايةِ؛ هِدايةً مُوصِلةً إلى البُغْيةِ، وإلَّا فالهدايةُ إلى ما يُوصِلُ إليها شاملةٌ للكُلِّ، والمُرادُ بهم إمَّا المذكورون خاصَّةً، والإظهارُ في مَوقعِ الإضمارِ لذَمِّهم بالفِسقِ، وتَعليلِ عدَمِ الهدايةِ بهِ، أو المرادُ جِنسُ الفاسِقِينَ، وهمْ داخلون في حُكمِه دُخولًا أوَّليًّا، وأيًّا ما كانَ فوَصْفُهم بالفِسقِ ناظرٌ إلى ما في قولِه: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [102] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/179). [المائدة: 25] .
2- قولُه تعالَى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ عطْفٌ على جُملةِ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [الصف: 5] ؛ فعلى الوجْهِ الأوَّلِ في مَوقعِ الَّتي قبْلَها -وهو أنْ تكونَ الجُملةُ مُعترِضةً استِئنافًا ابتدائيًّا، انتُقِلَ به مِن النَّهيِ عن عدَمِ الوفاءِ بما وَعَدوا اللهَ عليه إلى التَّعريضِ بقومٍ آذَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالقولِ أو بالعصيانِ أو نحْوِ ذلك، فيَكونَ الكلامُ مُوجَّهًا إلى المنافقينَ، والواوُ على هذا الوجْهِ عطْفُ غرَضٍ على غرَضٍ، وهو المُسمَّى بعطْفِ قصَّةٍ على قصَّةٍ -؛ فمَوقعُ هذه مُساوٍ له. وأمَّا على الوجْهِ الثَّاني في الآيةِ السَّابقةِ -وهو أنْ تكونَ مِن تَتمَّةِ الكلامِ الَّذي قبْلَها، بضربِ مثلٍ للمسلمينَ لتَحذيرِهم مِن إتيانِ ما يُؤذي رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-؛ فإنَّ هذه مَسوقةٌ مَساقَ التَّتميمِ لقِصَّةِ مُوسى عليه السَّلامُ، بذِكرِ مِثالٍ آخَرَ لقومٍ حادُوا عن طاعةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم، مِن غيرِ إفادةِ تَحذيرٍ للمُخاطَبينَ مِن المسلمينَ، وللتَّخلُّصِ إلى ذِكرِ أخبارِ عِيسى بالرَّسولِ الَّذي يَجِيءُ بعْدَه [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/179، 180). .
- قولُه: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ التَّبشيرُ: الإخبارُ بحادثٍ يَسُرُّ، وأُطلِقَ هنا على الإخبارِ بأمْرٍ عَظيمِ النَّفعِ لهم؛ لأنَّه يَلزَمُه السُّرورُ الحقُّ؛ فإنَّ مَجيءَ الرَّسولِ إلى النَّاسِ نِعمةٌ عَظيمةٌ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/181). .
- ومَحمَلُ قولِه: اسْمُهُ أَحْمَدُ يَجري على جَميعِ ما يَحمِلُه جُزْءَا هذه الجُملةِ مِن المعاني، والأصلُ حمْلُ ألفاظِ القُرآنِ على جَميعِ المعاني الَّتي يَسمَحُ بها الاستعمالُ الفصيحُ؛ فيُحمَلُ الاسمُ في قولِه: اسْمُهُ أَحْمَدُ على ما يَجمَعُ بيْن هذه الاستِعمالاتِ الثَّلاثةِ؛ أي: مُسمَّاهُ أحمدُ، وذِكرُه أحمَدُ، وعَلَمُه أحمَدُ. ويُحمَلُ لفظُ (أحمد) على ما لا يَأباهُ واحدٌ مِن استعمالاتِ (اسمٍ) الثَّلاثةِ إذا قُرِنَ به؛ وهو أنَّ (أحمد) اسمُ تَفضيلٍ يَجوزُ أنْ يكونَ مَسلوبَ المفاضَلةِ مَعْنيًّا به القوَّةُ فيما هو مُشتقٌّ منه، أي: في الحمدِ، وهو الثَّناءُ؛ فيَكونَ (أحمد) هنا مُستعمَلًا في قوَّةِ مَفعوليَّةِ الحمْدِ، أي: حمْدِ النَّاسِ إيَّاه، وهذا مِثلُ قولِهم: «العَودُ أحمَدُ»، أي: محمودٌ كثيرًا.
فالوصْفُ بـ (أحمد) بالنِّسبةِ للمعْنى الأوَّلِ في (اسم) أنَّ مُسمَّى هذا الرَّسولِ ونفْسَه مَوصوفةٌ بأقْوى ما يُحمَدُ عليه مَحمودٌ، فيَشملُ ذلك جميعَ صِفاتِ الكمالِ النَّفسانيَّةِ والخِلْقيةِ، والخُلُقيَّةِ والنَّسَبيةِ، والقَوميَّةِ، وغير ذلك ممَّا هو مَعدودٌ مِن الكَمالاتِ الذَّاتيَّةِ والعرَضيَّةِ.
ويَصِحُّ اعتبارُ (أحمد) تَفضيلًا حقيقيًّا في كَلامِ عِيسى عليه السَّلامُ، أي: مُسمَّاهُ أحمَدُ منِّي، أي: أفضَلُ، أي: في رِسالتِه وشَريعتِه. وعباراتُ الإنجيلِ تُشعِرُ بهذا التَّفضيلِ، ففي إنجيلِ يُوحنَّا في الإصحاحِ الرَّابعَ عشَرَ: (... يُعطيكم «فارقليطَ» [105] لفظُ الفارقليط في لغتِهم قيل: إنَّه الحمَّادُ، وقيل: إنَّه الحامِدُ، وقيل: إنَّه الحمدُ، إلى غير ذلك. يُنظر: ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) لابن تيمية (5/287). آخَرَ؛ ليَثبُتَ معكم إلى الأبَدِ، رُوح الحقِّ الَّذي لا يَستطيعُ العالَمُ أنْ يَقبَلَه؛ لأنَّه لا يَراهُ ولا يَعرِفُه). ثمَّ قال: (... يُعلِّمُكم كلَّ شَيءٍ، ويُذكِّرُكم بكلِّ ما قُلْتُه لكم)، أي: في جُملةِ ما يُعلِّمُكم أنْ يُذكِّرَكُم بكلِّ ما قُلْتُه لكم. وهذا يُفيدُ تَفضيلَه على عِيسى بفَضيلةِ دَوامِ شَريعتِه المعبَّرِ عنها بقَولِ الإنجيلِ: (ليَثبُتَ معكم إلى الأبَدِ)، وبفَضيلةِ عُمومِ شَرْعِه للأحكامِ المعبَّرِ عنه بقولِه: (يُعلِّمُكم كلَّ شَيءٍ).
والوصْفُ بـ (أحمد) على المعْنى الثَّاني في الاسمِ: أنَّ سُمْعتَه وذِكْرَه في جِيلِه والأجيالِ بعْدَه مَوصوفٌ بأنَّه أشدُّ ذِكرٍ مَحمودٍ وسُمعةٍ مَحمودةٍ، وأنَّ اللهَ يَبعَثُه مَقامًا مَحمودًا.
ووَصْفُ (أحمد) بالنِّسبةِ إلى المعنى الثَّالثِ في الاسمِ رمْزٌ إلى أنَّه اسْمُه العَلَمُ يكونُ بمعْنى (أحمدَ)؛ فإنَّ لفظَ (محمَّد) اسمُ مَفعولٍ مِن حمَّدَ -المضاعَفِ- الدَّالِّ على كَثرةِ حمْدِ الحامِدينَ إيَّاه، كما قالوا: فلانٌ مُمَدَّحٌ؛ إذا تَكرَّرَ مَدْحُه مِن مادِحينَ كَثيرينَ، فاسمُ (محمَّد) يُفيدُ معْنى المحمودِ حمْدًا كثيرًا، ورُمِزَ إليه بـ (أحمدَ).
وهذه الكلمةُ الجامِعةُ الَّتي أَوحى اللهُ بها إلى عِيسى عليه السَّلامُ، أراد اللهُ بها أنْ تكونَ شِعارًا لجِماعِ صِفاتِ الرَّسولِ الموعودِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، صِيغَت بأقْصى صِيغةٍ تدُلُّ على ذلك إجمالًا بحسَبِ ما تَسمَحُ اللُّغةُ بجَمْعِه مِن مَعانٍ، ووُكِلَ تَفصيلُها إلى ما يَظهَرُ مِن شَمائلِه قبْلَ بَعثَتِه وبعْدَها؛ ليَتوسَّمَها المُتوسِّمون، ويَتدبَّرَ مَطاوِيَها الرَّاسِخون عندَ المُشاهَدةِ والتَّجرِبةِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/183- 185). .
- وذِكرُ القُرآنِ تَبشيرَ عِيسى بمحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، إدماجٌ [107] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). في خِلالِ المقصودِ الَّذي هو تَنظيرُ ما أُوذِيَ به مُوسى مِن قومِه وما أُوذِيَ به عِيسى مِن قَومِه؛ إدماجًا يُؤيَّدُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُثبِّتُ فُؤادَه، ويَزيدُه تَسليةً. وفيها تَخلُّصٌ إلى أنَّ ما لَقِيَه مِن قَومِه نَظيرُ ما لَقِيَه عِيسى مِن بني إسرائيلَ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/186). .
- ولَمَّا فرَغَ مِن كَلامِ عِيسى عليه السَّلامُ، تَطرَّقَ إلى الإخبارِ عن أحمَدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -على أحدِ الاحتمالينِ-، فقالَ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وذلك على سَبيلِ الإخبارِ للمُؤمنينَ، أي: فلمَّا جاء المبشَّرُ به هؤلاء الكفَّارَ بالمُعجِزاتِ الواضحةِ، قالوا: هذا سِحرٌ مُبينٌ [109] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/166). . وعلى هذا الاحتمالِ يكونُ ضَميرُ الرَّفعِ عائدًا إلى (رَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي)، وضَميرُ النَّصبِ عائدًا إلى لَفظِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ)، أي: بني إسرائيلَ غيرِ الَّذين دَعاهم عِيسى عليه السَّلامُ، مِن بابِ: عِندي دِرهمٌ ونِصفُه، أي: نِصفُ ما يُسمَّى بدِرهمٍ، أي: فلمَّا جاءَهم الرَّسولُ الَّذي دعاهُ عِيسى باسمِ أحمَدَ بالبيِّناتِ -أي: دَلائلِ انطباقِ الصِّفاتِ الموعودِ بها- قالوا: هذا سِحرٌ مُبينٌ، ويحتمِلُ أنْ يَعودَ ضَميرُ الرَّفْعِ في قولِه: جَاءَهُمْ إلى عيسَى، وأنْ يعودَ ضميرُ النَّصْبِ إلى الَّذينَ خاطَبَهم عيسَى. والتَّقديرُ: فكَذَّبوه، فلَمَّا جاءَهم بالمُعجِزاتِ قالوا: هذا سِحْرٌ مُبينٌ. فيكونَ هذا التَّركيبُ مِن قَبيلِ الكلامِ المُوجَّهِ (أي: يصلحُ لاحتِمالِ معنيَينِ)، وحصَلَ أذاهم بهذا القولِ لِكِلا الرَّسولينِ؛ فالجُملةُ على هذا الاحتِمالِ تُحمَلُ على أنَّها اعتراضٌ بيْن المُتعاطِفاتِ، ومُمهِّدةٌ للتَّخلُّصِ إلى مَذمَّةِ المشرِكين وغيرِهم ممَّن لم يَقبَلْ دَعوةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/187). .
- وتَسميةُ ما جاء به سِحرًا؛ للمُبالَغةِ [111] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/209)، ((تفسير أبي السعود)) (8/244). .