موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (61-63)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غريب الكلمات:

هُوَ أُذُنٌ: أي: يقبَلُ كُلَّ ما قيلَ له، ويسمعُ مِن كلِّ أحدٍ .
يُحَادِدِ: أَي: يُخالِفْ ويحارِبْ ويُعادِ؛ يُقالُ: حادَّ فُلانٌ فُلانًا، أي: صار في حَدٍّ غَيرِ حَدِّه، وأصلُ (حدد): يدلُّ على طَرَفِ الشَّيءِ؛ وذلك لأنَّ المُحادَّ يكون فِي حَدٍّ، وَاللهُ ورَسولُه فِي حَدٍّ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ مِن المُنافِقينَ طائفةً يُؤذونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويقولونَ عنه: هو أذُنٌ سامِعةٌ لكل ما يُقال له ويُصدِّقه، فأمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنَّه أذنُ خَيرٍ لهم؛ يؤمِنُ باللهِ تعالى وَحْدَه، ويصَدِّقُ المؤمنينَ فيما يُخبِرونَه به، لا أهلَ النِّفاقِ والكُفرِ، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رحمةٌ للمُؤمِنينَ الصَّادقينَ منهم، وأمَّا الذينَ يُؤذونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلهم عذابٌ مُوجِعٌ مُؤلِمٌ.
ويُخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ يَحلِفونَ باللهِ للذينَ آمنوا، يبتغونَ رِضاهم، وبيَّنَ أنَّ اللهَ ورَسولَه أحَقُّ بالإرضاءِ مِن المؤمنينَ، إن كانوا حقًّا مُؤمنينَ كما يدَّعونَ.
ألم يعلَمْ هؤلاء المُنافِقونَ أنَّه مَن يخالِفِ اللهَ ورسولَه ويُعادِهِما ويُحارِبْهما؛ فأنَّ له نارَ جهنَّمَ ماكثًا فيها أبدًا، ذلك هو الهوانُ والذلُّ الكبيرُ.

تفسير الآيات:

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن جَهالاتِ المُنافِقينَ، وهو أنَّهم كانوا يقولونَ في رسولِ اللهِ: إنَّه أُذُنٌ، على وجهِ الطَّعنِ والذَّمِّ .
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ.
أي: ومِن المُنافِقينَ جماعةٌ يؤذونَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَعيبونَه ويقولونَ عنه: هو أُذُنٌ سامعةٌ؛ فمن قال له شيئًا صَدَّقَه، ومن حدَّثَه فينا صدَّقَه، فإذا جِئْنا وحَلَفْنا له بالكَذِبِ مُعتَذرينَ عمَّا بلَغَه منا، صَدَّقَنا .
قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ.
أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُنافِقينَ: النبيُّ مُصغٍ للخَيرِ، لا مستمِعٌ للشَّرِّ، وإن سَمِعَ ما يبلُغُه عنكم لم يؤاخِذْكم به؛ لِسَعةِ صَدرِه، ويسمَعُ مَعاذيرَكم، ويقبَلُها منكم؛ لِحُسنِ خُلُقِه .
يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
أي: والنبيُّ يؤمِنُ بالله تعالى وَحْدَه وبما أوحى إليه- ومِن ذلك ما أمَرَه به من العَفوِ عن النَّاسِ، وأمرِهم بالمعروفِ، والإعراضِ عن الجاهِلينَ مِنهم- وهو يُصدِّقُ المؤمنينَ فيما يُخبِرونَه به، لا أهْلَ النِّفاقِ والكُفرِ بالله تعالى .
وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ.
أي: والنَّبيُّ رحمةٌ للمُؤمِنينَ منكم، الصَّادقينَ في إيمانِهم؛ لأنَّه سبَبُ إيمانِهم وهِدايَتِهم إلى ما فيه سَعادتُهم في دنياهم وآخِرتِهم .
كما قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] .
وقال سبحانه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] .
وعن سَهلِ بنِ حُنَيفٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأتي ضُعَفاءَ المُسلِمينَ، ويَزورُهم، ويعودُ مَرضاهم، ويَشهَدُ جَنائِزَهم)) .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللهمَّ إنَّما أنا بشَرٌ، فأيُّما رجُلٍ مِن المُسلِمينَ سَبَبتُه، أو لَعَنْتُه، أو جَلَدْتُه، فاجعَلْها له زكاةً ورَحمةً )) .
وفي روايةٍ ((اللهُمَّ إنَّما محمَّدٌ بَشَرٌ، يغضَبُ كما يغضَبُ البشَرُ، وإنِّي قد اتَّخَذتُ عندك عهدًا لن تُخلِفَنِيه؛ فأيُّما مُؤمِنٍ آذيتُه، أو سبَبتُه، أو جَلَدتُه، فاجعَلْها له كفَّارةً، وقُربةً تُقَرِّبُه بها إليك يومَ القيامةِ )) .
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: والذين يُؤذونَ رَسولَ اللهِ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأقوالِهم أو أفعالِهم؛ لهم عذابٌ مُوجعٌ في الدُّنيا والآخرةِ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب: 57] .
يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن قبائِحِ أفعالِ المُنافِقينَ، وهو: إقدامُهم على اليَمينِ الكاذبةِ، فهم يؤذونَ النبيَّ، ويُسيئونَ القَولَ فيه، ثمَّ يَحلِفونَ لكم .
يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ.
أي: يحلِفُ المُنافِقونَ باللهِ لكم كَذِبًا- أيُّها المؤمِنونَ- فيتبَرَّؤونَ مِن أذاهم لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويؤكِّدونَ لكم أنَّهم على دِينِكم؛ يبتغونَ بذلك رِضاكم .
عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما حدَّثَه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في ظِلِّ حُجرةٍ مِن حُجَرِه، وعنده نَفَرٌ من المُسلِمينَ، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، قال: فقال: إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بعَينَي شَيطانٍ، فإذا أتاكم فلا تُكَلِّموه، قال: فجاء رجلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكلَّمه، قال: علامَ تَشتِمُني أنت وفلانٌ وفلانٌ- نفَرٌ دَعاهم بأسمائِهم؟ قال: فذهَبَ الرَّجُلُ فدعاهم، فحَلَفوا باللهِ واعتَذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ... الآية)) .
وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ.
أي: واللهُ ورسولُه أحقُّ بالإرضاءِ منكم- أيُّها المؤمِنونَ- إن كان هؤلاءِ المُنافِقونَ مُؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه حقًّا كما يدَّعونَ .
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى أنَّ حَلِفَ المُنافِقينَ إنَّما هو لِكَراهةِ الخِزيِ عند المُؤمِنينَ، وبَّيَن مَن هو الأحَقُّ بأن يُرضُوه؛ أقام الدَّليلَ على ذلك في استفهامِ إنكارٍ وتَوبيخٍ، مُبَيِّنًا أنَّهم فَرُّوا من خزيٍ مُنقَضٍ، فسَقَطوا في خِزيٍ دائِمٍ، فقال تعالى :
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا.
أي: ألم يعلَمِ المُنافقونَ أنَّه مَن يُخالِفِ اللهَ ورَسولَه، ويُعادِهما ويُحارِبْهما؛ فأنَّ له نارَ جهنَّمَ في الآخرةِ، ماكِثًا فيها أبدًا إلى غيرِ نِهايةٍ ؟!
ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ.
أي: دخولُ نارِ جَهنَّمَ والخلودُ فيها، هو الهوانُ والذُّلُّ الكَبيرُ .
كما قال تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] .
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [المجادلة: 20] .

الفوائد التربوية:

المؤمِنُ لا يُقدِّمُ شَيئًا على رِضا ربِّه، ورِضا رَسولِه؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِه تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- جَرَت العادةُ باستقراءِ القُرآنِ أنَّه إذا كان الإيمانُ باللهِ عدَّاه بالباءِ، كأن يَقولَ: آمَنُوا بِاللَّهِ [النساء: 152] ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 114] ؛ لأنَّه من باب الإقرارِ به تعالى، وإذا كان الإيمانُ معناه تصديقُ مَخلوقٍ، فإنَّه يُعَدِّيه باللامِ دائِمًا؛ ولذا قال تعالى هنا: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ معناه: ويُصَدِّقُ المُؤمنينَ. ولا يكادُ هذا التَّصديقُ المتعَلِّقُ بالآدميِّينَ يُوجَدُ في القرآنِ إلَّا مَجرورًا باللَّامِ، كقوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] ، وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] .
2- قد يُشكِلُ على بعضِهم قَولُ الله تعالى هنا: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فقيَّد كَونَه رَحمةً للذين آمنوا، وفي سورةِ الأنبياءِ قال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] فلم يقَيِّدْ كونَه رحمةً بالإيمان، بل قال لجميعِ العالَمينَ، والجوابُ عن ذلك: أنَّ اللهَ جلَّ وعلا أرسَلَه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ رحمةً لجميعِ الخلائِقِ، إلَّا أنَّ بَعضَهم قَبِلَ مِن الله التفَضُّلَ بتلك الرَّحمةِ فحازها، فخصَّ في قَولِه: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وبعضُهم لم يقبَلْها ولم يَحُزْها، ولا ينافي ذلك أنَّ الله أعطاه تلك الرَّحمةَ، إلَّا أنَّه لم يقبَلْها ولم يَحُزْها .
3- قَولُ اللهِ تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ تضمَّنَ قَبولَ يَمينِ الحالِفِ، وإن لم يَلزَمِ المحلوفَ له الرِّضا، واليمينُ حقٌّ للمُدَّعي .
4- مِن عادةِ المُنافِقينَ، والكاذبينَ مِن عُصاةِ المُؤمِنينَ وغَيرِهم، أن يُكثِروا الحَلِفَ لِيُصَدَّقوا؛ لأنَّهم لعِلْمِهم بكَذِبِهم يظنُّونَ أو يَعلَمونَ أنَّهم مُتَّهَمونَ في أقوالِهم وأعمالِهم، فيَحلِفونَ لإزالةِ التُّهمةِ، وهذا معلومٌ في كلِّ زَمانٍ؛ قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ .
5- قَولُ الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ تضمَّنَ أن يكونَ اليمينُ باللهِ عزَّ وجلَّ .
6- قَولُ الله تعالى: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فيه دَلالةٌ على أنَّ رضا اللهِ لا يحصُلُ بإظهارِ الإيمانِ، ما لم يقتَرِنْ به التَّصديقُ بالقَلبِ والأعمال، فيَبطُلُ بذلك قولُ الكرَّاميَّةِ الذين يزعُمونَ أنَّ الإيمانَ ليس إلَّا القَولَ باللِّسانِ .
7- قَولُ الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ حسُنَ قَولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا لأنَّه طال مُكثُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معهم، وكثُرَت نهاياتُه للتَّحذيرِ عن معصيةِ الله والتَّرغيبِ في طاعتِه، وقد قال أهلُ المعاني: قول: (ألم تعلَمْ) خطابٌ لِمَن حاول الإنسانُ تعليمَه مُدَّةً، وبالغَ في ذلك التعليمِ، ثمَّ إنَّه لم يعلَمْ، فيقالُ له: ألم تعلَمْ بعد هذه السَّاعاتِ الطويلةِ والمدَّةِ المَديدةِ ؟!
8- أذى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحادَّةٌ لله ولِرَسولِه؛ لأنَّه قال هذه الآيةَ عَقِبَ قَولِه تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ثم قال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلو لم يكونوا بهذا الأذى مُحادِّينَ، لم يَحسُنْ أن يُوعَدوا بأنَّ للمُحادِّ نارَ جَهنَّمَ .
9- في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وكذا قَولُه تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَه بيانُ تلازُمِ الحَقَّيْن: حقِّ اللهِ وحقِّ رسولِه؛ وأنَّ جهةَ حُرمةِ اللهِ تعالى وحُرمةِ رسولِه جهةٌ واحدةٌ، فمَن آذى الرسولَ فقد آذى اللهَ، ومَن أطاعَه فقد أطاعَ الله؛ لأنَّ الأمَّةَ لا يَصِلونَ ما بينهم وبين ربِّهم إلَّا بواسطةِ الرَّسولِ، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه، ولا سبَبٌ سواه، وقد أقامه اللهُ مقامَ نفسِه في أمْرِه ونهيِه، وإخبارِه وبيانِه، فلا يجوزُ أنْ يُفرَّقَ بين الله ورسولِه في شيءٍ من هذه الأمورِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قولُه: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ التَّعبيرُ بالنبيِّ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ قَبْلَه وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ، فكان مُقْتضى الظاهِرِ أنْ يُقالَ: (ومِنْهُمْ الذين يُؤذونَكَ)، فعُدِلَ عَنِ الإضمارِ إلى إظهارِ وَصْفِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ للإيذانِ بشَناعةِ قولِهِمْ، ولزِيادةِ تَنْزيهِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالثَّناءِ عليه بوَصْفِ النُّبوةِ، بحيثُ لا تُحْكَى مَقالتُهم فيه إلَّا بَعْدَ تقديمِ ما يُشيرُ إلى تَنْزيهِه، والتَّعريضِ بجُرْمِهم فيما قالوه .
قولُه: هُوَ أُذُنٌ مِنْ صِيغِ التَّشبيهِ البَليغِ، يَعْنونَ: أنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كالأُذُنِ في تلقِّي المسموعاتِ لا يَرُدُّ مِنْها شيئًا، وهو كِنايةٌ عَنْ تصديقِهِ بكُلِّ ما يَسْمَعُ مِنْ دونِ تَمييزٍ بين المقبولِ والمردودِ .
وفي تَسمِيَتِهم إيَّاه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بالجارِحةِ أُذُنٌ: مُبالغةٌ، كأنَّه مِن فَرطِ استماعِه، صار جُملَتُه آلةً للسَّماعِ،كما يُسمَّى الجاسوسُ عَينًا .
قولُه: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ فيه دَلالةٌ على المُبالَغةِ في الجَودةِ والصَّلاحِ، كأنَّهُ قيل: نَعَمْ هو أُذُنٌ، ولكِنْ نِعْمَ الأذُنُ، وهو مِن قَبيلِ قَولِهم: رَجُلُ صِدْقٍ .
وأيضًا قولُه: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ مِن بابِ أُسلوبِ الحَكيمِ ؛ فهو في أوَّلِه يُوافِقُهم على قَولِهم: هُوَ أُذُنٌ، ثمَّ يُتبِعُه ما يَنقُضُه عليهم حتَّى يُنقَضَ على رؤوسِهم، مِن قَبيلِ القَولِ بِموجَبِ العِلَّةِ ، فلا شيءَ أبلَغُ مِن الرَّدِّ عليهم بهذا الوَجهِ؛ لأنَّه في الأوَّلِ إطماعٌ لهم بالموافَقةِ، ثمَّ كَرَّ على طَمَعِهم بالحَسمِ، وأعقَبَهم في تنقُّصِه باليأسِ منه .
قولُه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ عُدِّي فِعْلُ الإيمانِ إلى اللهِ تعالى بالباءِ، وإلى المؤمنينَ باللَّامِ؛ وذلك لأنَّهُ قُصِدَ التَّصديقُ والإقرارُ باللهِ الذي هو نَقيضُ الكُفْرِ فعُدِّي بالباءِ بِاللَّهِ، وقُصِدَ الاسْتِماعُ للمؤمنينَ، وأنْ يُسَلِّمَ لهم ما يقولونَ ويُصدِّقَه؛ لكونِهم صادقينَ عِنده، فعُدِّي باللَّامِ لِلْمُؤْمِنِينَ .
وقولُه: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه تَخصيصُ المؤمنينَ بالذِّكْرِ- وإنْ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَحْمةً للعالَمينَ-؛ لأنَّ ما حَصَل لهم بالإيمانِ بسَببِ الرَّسولِ لم يَحْصُلْ لغيرِهم، وخُصُّوا هنا بالذِّكْرِ وإنْ كانوا قد دَخَلوا في العالَمِينَ؛ لحصولِ مَزيَّتِهم .
قولُه: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ عَطْفٌ على أُذُنُ خَيْرٍ، أي: وهو رَحْمةٌ، بطريقِ إطلاقِ المصدرِ على الفاعِلِ؛ للمُبالَغةِ .
قولُه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اعْتِراضٌ مسوقٌ مِنْ قِبَلِه عزَّ وجلَّ على نَهْجِ الوعيدِ غيرُ داخلٍ تَحْتَ الخِطابِ، وفي تَكريرِ الإسنادِ بإثباتِ العذابِ الأليمِ لهم، ثُمَّ جَعْلِ الجُملةِ خبرًا للموصولِ، ما لا يَخفَى مِنَ المُبالَغةِ .
وفي قولِه: رَسُولَ اللَّهِ إيرادُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُنوانِ الرِّسالةِ مُضافًا إلى الاسْمِ الجليلِ؛ لغايةِ التَّعظيمِ، والتَّنبيهِ على أنْ أَذِيَّتَهُ راجعةٌ إلى جَنابِه عزَّ وجلَّ، مُوجِبةٌ لِكَمالِ السَّخَطِ والغَضَبِ ، وأيضًا أبْرَز اسْمَ الرَّسولِ ولم يأتِ به ضميرًا على نَسَقِ يُؤْمِنُ بلَفْظِ الرَّسولِ؛ تَعظيمًا لشَأنِهِ، وجَمْعًا له في الآيةِ بينَ الرُّتبتَينِ العَظيمتينِ مِنَ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ، وإضافتُه إليه زيادةٌ في تشريفِهِ .
2- قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ
قولُه تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ فيه عدولٌ عن أسلوبِ الحِكايةِ عنهم، بكَلِمةِ وَمِنْهُمْ؛ لأنَّ ما حُكِيَ هنا حالٌ مِن أحوالِ جَميعِهم .
قولُه: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ فيه إفرادُ الضَّميرِ في يُرْضُوهُ مَعَ أنَّ المذكورَ رِضا اللهِ تعالى ورِضا رَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لا تَفاوُتَ بين رِضا اللهِ ورِضا رسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فكانَا في حُكْمِ مُرْضًى واحدٍ، فإرضاءُ الله إرضاءٌ للرسولِ، وإرضاءُ الرسولِ إرضاءٌ لله تعالى؛ قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] ، فلمَّا تلازما صارا كأنهما شيءٌ واحدٌ، أو للإيذانِ بأنَّ رِضاهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنْدرِجٌ تَحتَ رِضاهُ سُبْحانَه، وذَهَب غيرُ واحدٍ من علماءِ العربيةِ وعلماءِ التفسيرِ إلى أن رجوعَ الضميرِ على أحدِ المتعاطفينِ اكتفاءً به؛ لأَنَّ الآخَرَ مفهومٌ منه، أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، كثيرٌ في القرآنِ العظيمِ، وفي كلامِ العربِ .
قولُه: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فيه حَذْفُ الجوابِ؛ تعويلًا على دَلالةِ ما سَبَقَ عليه، والتَّقديرُ: إنْ كانوا مُؤمنينَ فلْيُرْضوا اللهَ ورسولَه بما ذُكِرَ؛ فإنَّهما أَحَقُّ بالإرضاءِ .
3- قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
قولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ هذه الجُملةُ تَتَنزَّلُ مِنْ جُملةِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ مَنْزلةَ التَّعليلِ؛ لأنَّ العاقِلَ لا يَرْضَى لنَفْسِه عملًا يَؤولُ به إلى مِثْلِ هذا العذابِ، فلا يُقدِمُ على ذلك إلَّا مَنْ لا يَعْلَمُ أنَّ مَنْ يُحادِدِ اللهَ ورَسولَه يَصِرْ إلى هذا المصيرِ السَّيِّئِ .
والاسْتِفهامُ في أَلَمْ.. مُسْتَعْمَلٌ في الإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّشنيعِ؛ لأنَّ عَدَمَ عِلْمِهم بذلك مُحقَّقٌ بضَرورةِ أنَّهم كافِرونَ بالرَّسولِ، وبأنَّ رِضا اللهِ عِنْدَ رِضاه، ولكِنْ لَمَّا كان عَدَمُ عِلْمِهم بذلك غريبًا- لوجودِ الدَّلائلِ المُقْتضيةِ أنَّهُ ممَّا يَحِقُّ أنْ يَعْلموهُ- كان حالُ عَدَمِ العِلْمِ به حالًا مُنْكرًا .
وقولُه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ... ... فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ فيه تَكريرٌ لـ(أنَّ)؛ للتَّأكيدِ، حيثُ أُعيدتْ (أنَّ) في الجوابِ لتَوكيدِ (أنَّ) المذكورةِ قَبْلَ الشَّرطِ تَوكيدًا لفظيًّا، فإنَّها لَمَّا دَخَلتْ على ضَميرِ الشَّأنِ وكانتْ جُمْلةُ الشَّرطِ وجوابِهِ تفسيرًا لضميرِ الشَّأنِ، كان حُكْمُ (أنَّ) ساريًا في الجُمْلتينِ، بحيثُ لو لَمْ تُذْكَرْ في الجوابِ لعُلِمَ أنَّ فيه مَعْناها، فلَمَّا ذُكِرتْ كان ذِكْرُها توكيدًا لها .
والهاء في (أنَّه) ضميرُ الأمرِ والشَّأنِ، والمعنى: أنَّ الأمرَ والشَّأنَ كذا وكذا. والفائدةُ في هذا الضَّميرِ هو أنَّه لو ذُكِرَ بعد كلمة (أنَّ) ذلك المبتدأ والخبَر، لم يكن له كثيرُ وَقْعٍ، فأمَّا إذا قلتَ: الأمرُ والشأنُ كذا وكذا، أوجبَ مَزيدِ تَعظيمٍ وتهويلٍ لذلك الكلامِ . وفيه وجهٌ آخر: أنَّه لَمَّا كان ذِكرُ الشَّيءِ مُبهمًا ثمَّ مُفَسَّرًا أضخَمَ، أضمَرَ للشَّأنِ، فقال: أَنَّهُ أي الشَّأن العَظيم مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ .
وجُملةُ: ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ تَذييلٌ لِما سَبَقَ؛ فالخزيُ: الذُّلُّ والهوانُ المُقارِنُ للفَضيحةِ والنَّدامةِ، وهي ثَمراتُ نِفاقِهم حيثُ يُفْتَضَحونَ على رُؤوسِ الأشهادِ بظُهورِها ولُحوقِ العذابِ الخالدِ بهم، والإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى ما ذُكِرَ مِنَ العذابِ الخالدِ بذلك؛ إيذانًا ببُعدِ دَرجتِه في الهولِ والفَظاعةِ .