موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (159-161)

ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريبُ الكَلِمات:

فَظًّا: كَريهَ الخُلُق، وجافِي الفِعل، من الفظِّ، وهو ماءُ الكَرِش، وأصل الفظاظة: الجَفوة، والكراهةُ والتَّكرُّه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/441)، ((المفردات)) للراغب (ص: 640)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 132). .
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ: أي: لتَفرَّقوا عنك، ولم يَسكُنوا إليك، والفضُّ: كسْرُ الشَّيءِ، والتَّفريقُ بين بعضِه وبعضِه، وأصلُه: التَّفريقُ والتَّجزئة يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 114)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/440)، ((المفردات)) للراغب (ص: 638)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 132)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .
عَزَمْتَ: أي: عَقَدْتَ قلبَك على إمضاءِ الأمورِ، وصَحَّحتَ رأيَك فيها، وأصلُ العزم: القطعُ يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 331)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/308)، ((المفردات)) للراغب (ص: 565)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 132)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 661- 662). .
يَخْذُلْكُمْ: أي: يَترُكْ نُصرتَكم ومعونتَكم، وأصل (خذل): ترْكُ الشَّيءِ والقعودُ عنه، ومنه الخِذلانُ، وهو تركُ المَعُونة يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/165)، ((المفردات)) للراغب (ص: 277). .
يَغُلَّ: أي: يَخون في الغنائم، أو يُنسَب إلى الخيانة- على قراءة (يُغَلَّ)-، والغُلول في الغنائم، إخفاءُ الشَّيء وعدمُ ردِّه إلى القَسم؛ كأنَّ صاحبَه قد غلَّه بين ثِيابِه، وأصل الغُلول: تخلُّل شيءٍ، وثباتُ شيء، كالشَّيء يُغرَزُ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 114)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 505)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/375)، ((المفردات)) للراغب (ص: 610)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 132). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِرُ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بسبب رحمةِ الله تعالى ليَّن اللهُ له قلبَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أصحابه، ولو كان سيِّئَ الخُلُق ذا قلبٍ قاسٍ لتَركوه ونفَروا منه، وأمَره تعالى بأنْ يَعفوَ عن أخطائِهم وتقصيرِهم، وأنْ يَستغفرَ لهم اللهَ، وأنْ يَستشيرَهم في الأمورِ الَّتي تحتاجُ إلى مشورةٍ، فإذا ترجَّح له أمرٌ بعد الاستشارةِ فليَمضِ فيه متوكِّلًا على الله، والله سبحانه يحبُّ مَن يتوكَّل عليه.
ثمَّ يخبِرُهم تعالى أنَّه حِين يُقدِّرُ للمؤمنين النَّصرَ فلنْ يَستطيعَ أحدٌ أنْ يَهزمَهم، وإنْ تخلَّى اللهُ عنهم فلا يُمكن لأحدٍ أنْ يَنصُرَهم أبدًا، وعلى اللهِ وحْدهَ فليكُنِ اعتمادُ كلِّ مؤمن.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّه ليس من صِفاتِ الأنبياءِ الغُلولُ، أي: كتمانُ الغنيمةِ، ولا الخيانةُ عمومًا، ولا يَنبغي أن يُتَّهموا بذلِك، أو يَخُونَهم أحدٌ، وأنَّ مَن قام بالخيانةِ في غنائمِ المسلمين فإنَّه يُجيءُ معه يومَ القيامة بذلك الشَّيءِ الَّذي أخَذَه خِيانةً، ثمَّ تُجزَى كلُّ نفسٍ بما عمِلَتْ، لا يُظلَمُ أحدٌ شيئًا.

تفسير الآيات:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وَعَظَ اللهُ تعالى الصَّحابةَ رضي الله تعالى عنهم، أَتْبَعَه تحبيبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما فعل بهم من الرِّفق واللِّين، مع وجودِ سببِ الغضبِ الموجِبِ للعُنف والسَّطوة من اعتراضٍ على ما أشار به، ثمَّ مخالفتِهم لأمْره في حِفظِ المركزِ والصَّبرِ والتقوى، ثمَّ خِذلانِهم له وتقديمِ أنفسِهم على نفسِه الشَّريفةِ، ثمَّ عدم العطفِ عليه وهو يَدْعوهم إليه ويأمُرُ بإقبالِهم عليه، ثمَّ اتِّهامِ مَن اتَّهمه، إلى غيرِ ذلك من الأمورِ الَّتي تُوجِبُ لرؤساءِ الجيوشِ وقادةِ الجنودِ اتِّهامَ أَتْباعِهم، وسوءَ الظَّنِّ بهم، الموجِبَ للغضبِ والإيقاعِ ببعضِهم؛ ليكونَ ذلك زاجرًا لهم عن العَودِ إلى مثلِه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/106). ، فقال تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
أي: بسببِ رحمةِ اللهِ تعالى لكَ ولأصحابِكَ- يا محمَّدُ- أَلَانَ قَلبَك لهم، فكنتَ سهلًا ورقيقًا في تعاملِك معهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/185)، ((تفسير ابن كثير)) (2/148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/361-363). .
قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
أي: لو كنتَ- يا محمَّدُ- جافيًا سيِّئَ الخُلُق، قاسيَ القلبِ مع أَتْباعِك، لنفَروا منك وفارَقوك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/186-187)، ((تفسير ابن كثير)) (2/148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/363-364). .
عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، قال: لقِيتُ عبدَ اللهِ بن عمرِو بنِ العَاصِ رضِيَ اللهُ عنهمَا: قلتُ: أخبِرنِي عن صفةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في التَّورَاةِ، قالَ: ((أَجَلْ، واللهِ إنَّهُ لموصوفٌ في التَّورَاةِ ببعضِ صِفَتِهِ في القرآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وحِرْزًا للأُمِّيِّينَ الأميُّون: جمع أُمِّي، وهو الذي لا يكتُب، والمراد بهم هنا: العرب؛ وسمُّوا بذلك؛ لأنَّ الكتابة كانت عندهم قليلة. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/68)، ((عمدة القاري)) للعيني (11/243). ، أنتَ عَبْدِي ورَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتوكِّلَ، ليسَ بِفَظٍّ ولا غَليظٍ، ولا سَخَّابٍ سخَّاب- على وزن: فعَّال- مِن السَّخَب: وهو الصَّخبُ والصِّياح. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/349)، ((عمدة القاري)) للعيني (11/243). في الأسواقِ، ولا يَدْفَعُ بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولكنْ يَعفُو ويغْفِرُ، ولنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حتَّى يُقِيمَ به المِلَّةَ العَوجاءَ، بأنْ يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويفْتَحُ بها أعيُنًا عُمْيًا، وآذَانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلْفًا )) رواه البخاري (2125). .
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
أي: تَجاوَزْ عن أصحابِك- يا محمَّدُ- فيما أخطَؤوا أو قَصَّروا فيه من حقِّك، واطلبِ المغفرةَ لهم من اللهِ تعالى فيما أَخطؤوا أو قَصَّروا فيه من حقِّ الله عزَّ وجلَّ، واطلبْ رأيَهم فيما حزَبَك من الأمور العامَّةِ والمشتبِهة؛ وذلك تطييبًا لقلوبهم؛ ليكونوا لك أطوعَ، وفيما يُقدِمون عليه أنشَطَ، وليقتدوا بكَ في ذلك مِن بعدِك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/188-191)، ((تفسير ابن كثير)) (2/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/364-366). .
وقد أثنى اللهُ تعالى على المؤمنين بذلك فقال: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم...الآيات [الشورى: 36- 43] .
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
أي: إذا صحَّ عزْمُك على أمرٍ من الأمورِ بعدَ استطلاعِ آراءِ أصحابِك فيه، فامْضِ فيه معتمِدًا على حولِ الله تعالى وقوَّتِه، واثقًا به فحسبُ؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ اللَّاجئين إليه، والمعتمِدين في جميعِ أمورِهم عليه يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/150)، ((تفسير السعدي)) (ص: 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/366-367). .
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ
أي: إذا قدَّر الله تعالى بأنْ يَكونَ النصرُ حليفَكم- أيُّها المؤمنون- فإنَّه لن يَغلِبَكم أحدٌ مُطلَقًا مهما بلغ قوَّةً وكثرة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/377-378). .
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
أي: إذا ترَكَكم اللهُ تعالى وخلَّى بينَكم وبين عَدوِّكم، ووكَلَكم إلى أنفسِكم، فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ مطلقًا أن يَنصُرَكم من بعدِ خِذلانِ اللهِ تعالى لكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/192-193)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/513)، ((تفسير السعدي)) (ص: 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/378-379). .
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
أي: وعلى اللهِ تعالى وحْدَه، لا على أيِّ أحدٍ غيرِه، فاعتمِدوا- أيُّها المؤمنونَ- في جلْبِ الخيرِ ودَفْعِ الضُّرِّ، ومِن ذلك النَّصرُ على الأعداءِ، ودفعُ شرِّهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/379). .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
مناسبةُ هذه الآيةِ لِمَا قَبْلَها من عدَّة وجوه:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حثَّ على الجهادِ أتْبَعَه بذِكرِ أحكامِ الجهاد، ومِن جملتها: المنعُ من الغُلولِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/411)، ((تفسير أبي حيان)) (3/412). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ النَّصرَ والخِذلانَ بيده وحْدَه، وذلك يستلزمُ التَّحريضَ على طلَبِ مَرْضاتِه؛ ليكونَ لطيفًا بمَن يُرضُونه، ولَمَّا كان الغُلولُ مِن أعظمِ مُوجباتِ الخِذلانِ، أو أعْظَمَها، والنَّزاهةُ عنه مِن أعظمِ مُوجباتِ النَّصرِ- كان أنسبَ الأشياءِ لتعقيبِ هذه الآيةِ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/109)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/154). .
وكذلك لَمَّا أمَرَهم اللهُ تعالى بالتوكُّل في الآيةِ السَّابقة، حثَّهم على ألَّا يأتوا بما يَقدَحُ في التوكُّل؛ كالغُلولِ وما يُدانِيه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/111). .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: يَغُلَّ قِراءتان:
1- يَغُلَّ أي: ما كان لنبيٍّ أنْ يخُونَ في غنيمةٍ أو غيرها قرأ بها ابنُ كثيرٍ، وأبو عُمرَ، وعاصم. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 196). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:180). .
2- يُغَلَّ، قِيل معناها: ما كان لنبيٍّ أن يُغِلَّه أحدٌ، أي: يَخُونَه، وقيل: ما كان لنبيٍّ أنْ يُتَّهم بالغُلولِ فيُخوَّن قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 196). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (6/199)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:180-181). .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
أي: وليس الغُلولُ- وهو كِتمانُ الغنيمة، وغيرُها من أوجهِ الخِيانة- من صِفاتِ الأنبياء؛ فذلك محالٌ وممتنعٌ على مَن اختارهم الله تعالى لمقام النُّبوَّة، ولا يَنبغي شرعًا لأحدٍ أن يخُونَهم، أو يُنسُبَ إليهم هذه الصِّفةَ الشَّنيعةَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/200-201)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (2/421)، ((تفسير ابن كثير)) (2/151)، ((تفسير السعدي)) (ص: 155)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/384-385). .
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: ومَن يخُنْ مِن غنائمِ المسلمين شيئًا فإنَّه يَجيءُ معه يومَ القيامةِ بنَفْسِ الشَّيءِ الَّذي أخَذه على سَبيلِ الخِيانةِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/201)، ((تفسير ابن كثير)) (2/151)، ((تفسير السعدي)) (ص: 155)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/386-387). قال القرطبي: (قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ *آل عمران: 161*، أي: يأتي به حاملًا له على ظهرِه ورقبتِه، مُعذَّبًا بحملِه وثقلِه، ومرعوبًا بصوتِه، وموبَّخًا بإظهارِ خيانتِه على رؤوس الأشهادِ، على ما يأتي، وهذه الفضيحةُ التي يُوقِعُها اللهُ تعالى بالغالِّ نظير الفضيحةِ التي تُوقَع بالغادر، في أن يُنصَب له لواءٌ عندَ اسْتِه بقدرِ غَدرتِه). ((تفسير القرطبي)) (4/256). .
عن أبي حُميدٍ السَّاعديِّ رضِي اللهُ عنه قال: ((اسْتَعْمَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رجلًا من الأزدِ على صدقاتِ بني سُلَيمٍ، يُدعى ابنَ الأُتْبِيَّةِ، فلمَّا جاءَ حاسبَه، قال: هذا مالُكم، وهذا هديَّةٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فهلَّا جلَستَ في بيتِ أبيك وأمِّك حتَّى تَأتيَك هديَّتُك إنْ كنتَ صادقًا؟! ثمَّ خطبنا فحمِدَ اللهَ وأثْنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ، فإنِّي أستعملُ الرجلَ منكم على العَملِ ممَّا ولَّاني اللهُ، فيأتي فيقول: هذا مالُكم وهذا هديَّةٌ أُهدِيتْ لي، أفَلا جلَسَ في بيت أبيه وأمِّه حتَّى تأتيَه هديَّتُه إنْ كان صادقًا؟! واللهِ لا يَأخذُ أحدٌ منكم منها شيئًا بغير حقِّه، إلَّا لقيَ اللهَ تعالى يَحملُه يومَ القيامةِ، فلَأعرفنَّ أحدًا منكم لقيَ اللهَ يَحمِل بعيرًا له رُغاءٌ الرُّغَاء: صوتُ البَعير. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/240)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/216). ، أو بقرةٌ لها خُوارٌ الخُوَارُ: صَوْتُ البَقر . يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/87). ، أو شاةٌ تَيْعِرُ تَيعِرُ: أي: تَصِيحُ، واليُعارُ صَوْتُ الشَّاةِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/297)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/219). ، ثمَّ رفع يدَيه حتَّى رُئيَ بياضُ إِبْطَيه، ثمَّ قال: اللهمَّ هل بلَّغْتُ؟، بصُرَ عيني وسمِع أُذني، وفي حديثِ ابنِ نُميرٍ: تَعلمنَّ واللهِ، والَّذي نفْسي بيدِه! لا يأخذُ أحدُكم منها شيئًا. وزاد في حديثِ سفيانَ قال: بصُر عيني وسمِع أُذناي، وسلوا زيدَ بنَ ثابتٍ؛ فإنَّه كان حاضرًا معي. وفي روايةٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استعمل رجلًا على الصَّدقةِ، فجاء بسوادٍ كثيرٍ، فجعَل يقول: هذا لكم، وهذا أُهدِيَ إليَّ، فذكر نحوه، قال عُروةُ: فقلتُ لأبي حُميدٍ السَّاعديِّ: أسمعتَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فقال: مِن فيه إلى أُذُني )) رواه البخاري (6979)، ومسلم واللفظ له (1832). .
وعن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((غزا نبيٌّ من الأنبياءِ فقال لقومهِ: لا يَتْبَعْنِي رجلٌ ملَكَ بُضعَ امرأةٍ، وهو يُريدُ أن يَبنيَ بها، ولَمَّا يَبْنِ، ولا آخَرُ قد بنَى بُنيانًا، ولَمَّا يرفَعْ سقفَها، ولا آخرُ قد اشترَى غنَمًا أو خَلِفاتٍ الخَلِفاتُ: جمع خَلِفَة، وهي الحامل من النُّوق. وقيل الخَلِفات: الحواملُ من الإبلِ إلى أنْ يَمضِيَ عليها نِصْفُ أَمَدِها. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/68)، ((شرح النووي على مسلم)) (6/89). ، وهو منتظرٌ ولادَها، قال: فغزَا، فأَدْنَى للقريةِ حينَ صلاةِ العصرِ، أو قريبًا من ذلكَ، فقال للشَّمسِ: أنتِ مأمورةٌ وأنا مأمورٌ، اللهمَّ احبِسْها عليَّ شيئًا، فحُبِستْ عليهِ حتَّى فتَحَ اللهُ عليهِ، قال: فجمَعُوا ما غنِموا، فأقبلتِ النَّارُ لتأكلَه، فأبتْ أنْ تَطْعَمَهُ، فقال: فيكُم غُلولٌ، فليُبايِعْنِي من كلِّ قبيلةٍ رجلٌ، فبايَعوهُ، فلصِقَتْ يدُ رجلٍ بيدهِ، فقال: فيكُم الغُلولُ، فلتُبايِعْنِي قبيلتُكَ، فبايَعَتْهُ، قال: فلصِقَتْ بيدِ رَجُلينِ أو ثلاثةٍ، فقال: فيكُم الغُلولُ، أنتُم غلَلْتُم، قال: فأَخْرجوا له مِثلَ رأسِ بقرةٍ من ذَهبٍ، قال: فوضَعُوهُ في المالِ وهو بالصَّعيدِ  بالصَّعيدِ أي: بوَجْه الأرضِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/53). ، فأقبلتِ النَّارُ فأكلَتْهُ، فلم تحِلَّ الغنائمُ لأحدٍ مِن قبلِنا؛ ذلكَ بأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى رأى ضَعْفَنا وعَجزَنا، فطَيَّبها لنا )) رواه مسلم (1747). .
وعن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه قال: ((لَمَّا كان يومُ خيبرَ أقبَل نفَرٌ مِن صحابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: فلانٌ شهيدٌ. فلانٌ شهيد، حتَّى مرُّوا على رجلٍ فقالوا: فلانٌ شهيدٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كلَّا، إنِّي رأيتُه في النَّارِ، في بُردَةٍ غلَّها، أو عَباءةٍ، ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا ابنَ الخطَّابِ، اذهَبْ فنَادِ في النَّاسِ: إنَّه لا يدخُلُ الجنَّةَ إلَّا المؤمنونَ، قال: فخرَجتُ فنادَيتُ: أَلَا إنَّه لا يَدخُلُ الجنَّةَ إلَّا المؤمِنونَ )) رواه مسلم (114). .
عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه قال: ((خرَجْنا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ خَيبرَ، فلم نَغنَمْ ذهبًا ولا فِضَّةً، إلَّا الأموالَ والثِّيابَ والمَتاعَ، فأهدَى رجلٌ من بني الضَّبيبِ، يُقالُ له: رِفاعَةُ بنُ زيدٍ، لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غلامًا، يُقالُ له: مِدعَمٌ، فوَجَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى وادي القُرَى، حتَّى إذا كان بوادي القُرَى، بينما مِدعَمٌ يَحُطُّ رَحلًا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا سهمٌ عائِرٌ فقَتَلَه، فقال النَّاسُ: هَنيئًا له الجنَّةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كلَّا، والَّذي نفْسي بيدِه، إنَّ الشَّملةَ الَّتي أخَذها يومَ خَيبرَ من المغانمِ، لم تُصِبْها المَقاسِمُ، لَتَشتَعِلُ عليه نارًا، فلمَّا سَمِعَ ذلك النَّاسُ جاء رجلٌ بشِراكٍ الشِّرَاكُ: أحد سُيور النَّعْلِ، التي تكون على ظهر القدَم. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/467-468)، ((شرح النووي على مسلم)) (2/129). ، أو شِراكَينِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: شِراكٌ من نارٍ، أو: شِراكانِ من نارٍ )) رواه البخاري (6707)، ومسلم (115). .
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
 لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى عُقوبةَ الغالِّ، وأنَّه يأتي يومَ القيامةِ بما غَلَّه، ولَمَّا أرادَ أنْ يذكُرَ توفيتَه وجزاءَه، وكان الاقتصارُ على الغالِّ يُوهم-بالمفهومِ- أنَّ غيرَه من أنواعِ العاملين قد لا يُوفَّوْن- ناسَب أن يأتيَ بلفظٍ عامٍّ جامعٍ له ولغيرِه يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 155). ، فقال:
 ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
أي: إنَّ كلَّ نفسٍ تُعطَى يومَ القيامةِ جزاءَ ما عمِلَتْ كاملًا غيرَ منقوص، فلا يُنقَصُ من حَسناتِهم، ولا يُزادُ في سيِّئاتهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/207)، ((تفسير السعدي)) (ص: 155)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/387). .

الفَوائِدُ التربويَّة:

1- الحثُّ على حُسنِ الخُلق واللِّين؛ فثمرة اللِّين هي المحبَّة والاجتماع، وخلافُه من الجَفوةِ والخشونةِ مُؤدٍّ إلى التَّفرُّق؛ قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/408)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/107). .
2- فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ الأخلاقُ الحسنة من الرَّئيس في الدِّين، تجذِبُ النَّاسَ إلى دِين الله، وتُرغِّبُهم فيه، مع ما لصاحبِه من المدحِ والثَّواب الخاصِّ، والأخلاقُ السَّيِّئةُ من الرَّئيسِ في الدِّين تُنفِّر النَّاسَ عن الدِّين، وتُبغِّضُهم إليه، مع ما لصاحبِها من الذَّمِّ والعِقابِ الخاصِّ؛ فهذا الرَّسولُ المعصومُ يقولُ اللهُ له ما يقولُ؛ فكيف بغيره يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 154). ؟!
3- لولا أنَّ اللهَ ألْقى في قلبِ عبدِه داعيةَ الخيرِ والرَّحمةِ واللُّطفِ لم يَفعَلِ العبد شيئًا من ذلك، فلا رحمةَ إلَّا للهِ سبحانه؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/407). .
4- يجبُ أنْ يكونَ الاعتمادُ على إعانةِ اللهِ وتَسديدِه وعِصمتِه، وألَّا يكونَ للعبدِ اعتمادٌ على شيءٍ إلَّا على الله تعالى في جَميعِ الأمورِ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/151). .
5- ليس التوكُّلُ إهمالَ التَّدبيرِ بالكلِّيَّة، بل بمراعاةِ الأسبابِ الظَّاهرةِ-  كالمشاورة- مع تفويضِ الأمرِ إلى الله تعالى، فلا يُعوِّل بقلبِه عليها، بل يُعوِّلُ على عصمةِ الله تعالى؛ كما في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/410)، ((تفسير الشربيني)) (1/260). .
6- فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ الآيةُ صريحةٌ في وجوبِ إمضاءِ العزيمةِ المستكمِلةِ لشُروطِها- وأهمُّها في الأمورِ العامَّةِ حربيَّةً كانتْ أو سياسيَّةً أو إداريَّةً: المشاورةُ- وذلك أنَّ نقضَ العزيمةِ ضعفٌ في النَّفسِ، وزلزالٌ في الأخلاقِ، لا يُوثَقُ بمنِ اعتاده في قولٍ ولا عمَلٍ، فإذا كان ناقضُ العزيمةِ رئيسَ حكومةٍ أو قائدَ جيشٍ، كان ظهورُ نقضِ العزيمةِ منه ناقضًا للثِّقةِ بحكومتِه وبجيشِه، ولا سيَّما إذا كان بعد الشُّروعِ في العملِ يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/168). .
7- في قوله: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أنَّ العزمَ على الفِعلِ وإنْ كان يكونُ بعد الفكرِ وإحكامِ الرَّأيِ والمشاورةِ، وأخْذِ الأُهْبةِ، فذلك كلُّه لا يَكفي للنَّجاحِ إلَّا بمعونةِ اللهِ وتوفيقِه; لأنَّ الموانعَ الخارجيَّةَ له والعوائقَ دونه لا يُحيطُ بها إلَّا الله- تعالى-، فلا بدَّ للمؤمنِ من الاتِّكالِ عليه، والاعتمادِ على حَولِه وقوَّته، مع فعلِ الأسبابِ يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/168)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/373). .
8- أنَّه يَنبغي على الإنسانِ إذا عزَم على الأمرِ ألَّا يتردَّدَ؛ لأنَّ التَّردُّدَ يُحيِّر الإنسانَ ويوقِعُه في القلقِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/373). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- أنَّ التَّفريطَ في حقِّ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام ذنبٌ عظيمٌ؛ لأنَّ الله لَمَّا أمر نبيَّه بالعفوِ عن حقِّه الخاصِّ قال: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وهو كذلك؛ فإنَّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام ليس كغيره؛ لأنَّ له حقَّ الإسلام وحقَّ الرِّسالة، ولأنَّه أعظمُ النَّاس حقوقًا علينا؛ فالاعتداءُ في حقِّه أشدُّ من غيره، بل يُكسِبُ الإثمَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/369). .
2- في قولِ الله سبحانه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أنَّ المشاورةَ من العباداتِ المتقرَّبِ بها إلى الله يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 154). .
3- للشُّورى المأمورِ بها في قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ حِكَمٌ وفوائدُ تترتَّبُ عليها، مِن هذه الحِكَمِ:
- ألَّا يَستبدَّ الرَّئيسُ أو وليُّ الأمرِ برأيه.
- كما أنَّ فيها تعويدَ أفراد الأمَّةِ على النَّظرِ في شؤونهم؛ حتَّى يتمرَّنوا ويُمارِسوا هذا الأمْرَ.
- التَّواضُع ممَّن شاور، فلا شكَّ أنَّه إذا شاوَرَ فهو متواضِعٌ.
- تنشيطُ الأمَّة، حيثُ ترى أنَّه يُرجَعُ إليها في الرَّأي، فتنشطُ وتَعملُ ما فيه الخيرُ العامُّ، بخِلافِ ما إذا استبدَّ وليُّ الأمر في رأيه، فإنَّه وإنْ كان صوابًا ربَّما تشمئزُّ النُّفوس منه.
- أنَّه إذا اجتمعتِ الآراءُ مع حُسنِ النِّيَّةِ، فإنَّ الغالبَ أنَّ اللهَ يُوفِّقُهم للصَّوابِ.
- أنَّ الإنسانَ ربَّما يرَى في هذا الأمرِ مصلحةً ويفُوته ما يَترتَّبُ عليه من مفسدةٍ، لا سيَّما إذا كان له هوًى؛ فإنَّ الهوى كما قيل: يُعمِي ويُصِمُّ، أحيانًا يكونُ للإنسان هوًى فيرى المصلحةَ ولا يَرى المفسدةَ في الشَّيء، فإذا حصَل التَّشاورُ تبيَّنتِ المصالحُ من المفاسدِ.
- أنَّ الأمَّةَ إذا اجتمعَتْ على رأيها لم يكُنْ للنَّاسِ اعتراضٌ، ومعلومٌ أنَّ الَّذي يُشاوَر هم أهلُ الأمانةِ، وأهلُ الحَلِّ والعَقدِ والمعرفة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/371). .
4- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعتريه ما يَعتري البشرَ من التَّردُّدِ في الأمور، ووجهُ الدَّلالةِ: أولًا في قوله: وَشَاوِرْهُمْ، وثانيًا في قوله: فَإِذَا عَزَمْتَ؛ فإنَّ العزيمةَ قد يسبِقُها تردُّدٌ كما هو الواقع يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/373). .
5- في قولِ الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، أنَّ التَّوكُّلَ من مقتضياتِ الإيمانِ؛ لأنَّه علَّق الحُكمَ على وصفٍ، وهو الإيمانُ، فدلَّ ذلك على أنَّه كلَّما قوِيَ الإيمانُ قوِيَ التَّوكُّلُ على اللهِ، وكلَّما ضعُف الإيمانُ ضعُف التَّوكُّلُ على اللهِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/382). .
6- الخيانةُ مع كلِّ أحدٍ مُحرَّمةٌ، وتخصيصُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بهذه الحُرمةِ في قوله تعالى في قِراءة: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) يُستفادُ منه فوائدُ؛ منها: أنَّ المجنيَّ عليه كلَّما كان أشرَفَ وأعظَمَ درجةً كانت الخيانةُ في حقِّه أفحشَ، والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أفضلُ البشرِ، فكانتِ الخيانةُ في حقِّه أفحشَ، ومنها: أنَّ الوحيَ كان يأتيه حالًا فحالًا، فمَن خانه فربَّما نزَل الوحيُ فيه، فيحصُلُ له مع عذابِ الآخرةِ فضيحةُ الدُّنيا، ومنها: أنَّ المسلِمين كانوا في غايةِ الفقرِ في ذلك الوقتِ، فكانتْ تلك الخيانةُ هناك أفحشَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/413). .
بَلاغَةُ الآياتِ:
1- قوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ: الفاء للتَّفريعِ على ما اشتمَلَ عليه الكلامُ السَّابقُ الَّذي حُكِي فيه مخالفةُ طوائفَ لأمْر الرَّسولِ من مؤمنين ومُنافِقين، وما حُكِي مِن عفوِ اللهِ عنهم فيما صنَعوا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/144). .
- وتقديمُ المجرورِ فَبِمَا رَحْمَةٍ مفيدٌ للحصرِ الإضافيِّ، أي: برحمةٍ مِن الله، لا بغَيرِ ذلك من أحوالهم، وهذا القصرُ يُفيدُ التَّعريضَ بأنَّ أحوالَهم كانتْ مستوجِبةً الغِلَظَ عليهم، ولكنَّ اللهَ تعالى ألَان خُلُقَ رسولِه، رحمةً بهم؛ لحكمةٍ علِمها اللهُ في سياسةِ هذه الأمَّةِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/144). .
- وزِيدَتْ مَا بعدَ باء الجرِّ؛ لتأكيدِ الجملةِ بما فيه من القَصرِ، فتعيَّن بزيادتها كونُ التَّقديمِ للحصرِ، لا لمجرَّدِ الاهتمامِ يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/431)، ((تفسير الرازي)) (9/406)، ((تفسير البيضاوي)) (2/45)، ((تفسير أبي السعود)) (2/105)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/144). .
- وقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أُسْنِدت الرَّحمةُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه المتفضِّلُ بها، ولأنَّ إسنادَها إليه يُفيدُ عظَمتَها، وأنَّها رحمةٌ عظيمةٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/362). .
- ودلَّ فِعلُ المُضيِّ في قوله: لِنْتَ على أنَّ ذلك وصفٌ تَقرَّر وعُرِف مِن خُلقِه، وأنَّ فِطرتَه على ذلك برَحمةٍ مِن اللهِ؛ إذ خلَقه كذلك يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/145). .
2- قوله: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ: فيه تمثيلٌ؛ حيث شُبِّهت هيئةُ النُّفورِ منه وكراهيةُ الدُّخولِ في دِينه بالانفضاضِ مِن حولِه، أي: الفِرار عنه مُتفرِّقين، وهو يُؤذِنُ بأنَّهم حولَه متَّبِعون له يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/146). .
3- قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ (الفاء) فيه تدُلُّ على التَّعقيبِ المباشِر؛ فهذا يدُلُّ على أنَّه تعالى أوجَب على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَعفوَ عنهم في الحال يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/408). .
4- قوله: إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ: الجملةُ تعليلٌ للتَّوكُّلِ عليه تعالى يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/105). ، وهو مِن حُسنِ التَّعليل، كما فيها تأكيدُ الخبرِ بـ(إنَّ)، واسميَّةِ الجملة يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 570). .
- وفيه: وضعُ الاسمِ الظَّاهرِ إِنَّ اللهَ موضِعَ الضَّمير (إنَّه)؛ لتربيةِ المَهابةِ يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 570). .
5- في قوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160):
- جَعَل الجوابَ بقوله: فَلَا غَالِبَ لَكُمْ دون أن يقول: (لا تُغلبوا)؛ للتَّنصيصِ على التَّعميمِ في الجواب؛ لأنَّ عمومَ ترتُّبِ الجزاءِ على الشَّرطِ أغلبيٌّ، وقد يكون جزئيًّا، أي: لا تُغلَبوا مِن بعضِ المغالبين، فأُريد بإفادةِ التَّعميمِ دفعُ التَّوهُّمِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/153). .
- قوله: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُم مِنْ بَعْدِهِ: خبرٌ فيه ترغيبٌ في الطَّاعةِ، وفيما يَستحقُّون به النَّصرَ مِن الله تعالى والتَّأييدَ، وتحذيرٌ من المعصية، وممَّا يستوجِبون به العقوبةَ بالخِذلانِ يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/433). .
- قوله: فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مِنْ بَعْدِهِ: الاستفهامُ إنكاريٌّ، مفيدٌ لانتفاءِ النَّاصرِ ذاتًا وصِفةً بطريق المبالَغةِ يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/46)، ((تفسير أبي السعود)) (2/106)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/153- 154). .
- وفيه تلطُّفٌ بالمؤمنين حتَّى لا يُصرِّحَ لهم بأنَّه لا ناصرَ لهم، بل أبرَز ذلك في صورةِ الاستفهامِ الَّذي يقتضي السُّؤالَ عن النَّاصرِ، وإن كان المعنى على نفْيِ الناصرِ، لكن فرقٌ بين الصَّريحِ والمُتضمَّنِ، فلم يُجرِ المؤمنين في ذلك مجرى الكفَّارِ، الَّذي نصَّ عليه بالصَّريحِ أنَّه لا ناصرَ لهم؛ كقولِه: أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/411). .
- قوله: وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعلِ؛ لإفادةِ قصرِه عليه تعالى، والفاءُ لترتيبِه، أو ترتيبِ الأمرِ به يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/46)، ((تفسير أبي السعود)) (2/106). .
- والمرادُ بالمؤمنين إمَّا الجنسُ، والمُخاطَبون داخِلونَ فيه دُخولًا أوَّليًّا، وإمَّا هم خاصَّةً بطريق الالتفاتِ، وعلى كِلا الوجهين فيه تَشريفٌ لهم بعنوانِ الإيمانِ اشتراكًا أو استقلالًا، وتعليلٌ لتحتُّمِ التَّوكُّلِ عليه تعالى؛ فإنَّ وصفَ الإيمانِ ممَّا يوجِبه قطعًا يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/106). .
6- قوله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ: فيه المبالغةُ في النَّهيِ حيث عبَّر بـوَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، وهي صيغةُ جُحودٍ تُفيد مبالَغةَ النَّفي؛ لأنَّ الغُلولَ أَولى بأن يُبالَغَ فيه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/155)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/93-94). .
7- قوله: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: فيه تعميمُ الحُكمِ؛ ليكونَ كالبرهانِ على المقصودِ، وللمبالغةِ فيه؛ فإنَّه إذا كان كلُّ كاسبٍ مَجزيًّا بعملِه، فالغَالُّ مع عِظَمِ جُرمِه بذلك أَولى يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/46). .
- وجِيءَ بأداةِ التَّراخي ثُمَّ؛ للدَّلالةِ على طولِ مُهلةِ التَّفضيحِ، فزادَ ذلك في تَعظيمِ يومِ القيامة، وتعظيمِ الجزاءِ فيه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/156). .
- وبُني الفِعلُ تُوَفَّى لِمَا لم يُسمَّ فاعلُه؛ إظهارًا لعظَمتِه تعالى، على طريقِ كلامِ القادِرين يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/113). .