موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (162-168)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريبُ الكَلِمات:

فَبَاؤُوا: رجَعُوا، وانْصَرَفوا بذلك، واستوجَبوه، ولا يُقال (باء) إِلَّا بِشَرٍّ، ويُقال: باء بكذا إذا أقرَّ به .
وَمَأْوَاهُ: مرجعُه الذي يعودُ إليه، والمأوى: مَكَان كلِّ شَيْءٍ ومرجعُه الَّذي يعودُ إليه ليلًا أو نهارًا؛ يُقال: أَوى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه، يَأْوي أُوِيًّا وإِوَاءً، وأصله: التَّجمُّع .
مَنَّ: أي: أنْعَم وصنَع الصُّنع الجَميل، والمنَّة: النِّعمة الثَّقيلة، وأصل مَنَّ: اصطناعُ الخيرِ .
يُزَكِّيهِمْ: يُطهِّرُهم من الكُفرِ والمَعاصِي والرَّذائل، وأصل الزَّكاة: النَّماءُ والزِّيادةُ، والطَّهارةُ .
أَنَّى: هي كلمةٌ للبَحثِ عن الحالِ والمكان، بمعنى: كيفَ وأينَ؛ لتضمُّنها مَعناهما، وهي هنا بمعنى: كيف .
تَعَالَوْا: أي: هلُمُّوا، و(تَعالَ)، أصلُه أنْ يُدعَى الإنسانُ إلى مَكانٍ مرتفعٍ، ثمَّ جُعل للدُّعاءِ إلى كلِّ مكان، وأصله مِن العلوِّ، وهو ارتفاعُ المنزلةِ، فكأنَّه دعا إلى ما فيه رِفعةٌ .
فَادْرَؤُوا: أي: فادْفَعوا، والدَّرْءُ: الميلُ إلى أحدِ الجانبينِ .

المَعنَى الإجماليُّ:

لا يَستوي مَن كان مبتغاه رِضا اللهِ تعالى، ويَسعى لذلك، ومَن هو واقعٌ في معاصي الله، راجعٌ بسَخَطِه وغَضَبِه، ومَصيرُه جهنَّمُ، وبئس المصيرُ، وكِلا الفريقين مراتبُ متفاوتةٌ، فمَنِ ابتغَوْا رضوانَ الله درجاتٌ مختلفةٌ في العُلوِّ، ومَن باؤوا بسَخَطِ الله درَكاتٌ متفاوتةٌ في السُّفولِ، واللهُ مطَّلعٌ على كلِّ ما يعملُه عبادُه، وسيُجازيهم عليه.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه أنعَمَ على أهل الإيمانِ بإرسال محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم من جنسِهم البَشريِّ، يَقرأ عليهم القُرآنَ، ويُطهِّرُهم من الشِّركِ والمعاصي والأخلاقِ الرَّذيلةِ، ويُعلِّمُهم معانيَ القرآنِ، والسُّنَّة النَّبويَّة، وقد كانوا من قَبلِ أن يَأتيَهم في ضلالٍ واضحٍ.
ثمَّ يقولُ اللهُ تعالى للمُؤمنين: أحِينَ أَصابَتْكم المصيبةُ يومَ أُحُدٍ بقَتْلِ سبعين منكم، وأنتُم قد أوقعتُم بعَدوِّكم ضِعفَيْها بقتلِ سبعينَ منهم، وأَسْرِ سبعينَ، أعندَ ذلك تَتساءَلون: مِن أين أصابَنا ما أصابَنا، وكيف وقَعَتْ علينا هذه المصيبةُ، فأمَر اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لهم: إنَّ ما حَلَّ بكم سببُه من أنفسِكم، حين حصَل مِن بعضِكم التَّنازُعُ فيما بينهم، وعصَوْا أمرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قادرٌ.
ثمَّ يُخبِرُ اللهُ تعالى المؤمنين أنَّ ما أصابَهم يومَ أُحُدٍ يوم الْتَقى جَمْعُ المسلمين بجَمْعِ المشركين، إنما هو بقَضاءِ الله وقدَرِه، وليَمِيزَ سبحانه المؤمنين، ويمِيزَ أيضًا المنافقين الَّذين هم في صُفوفِ المسلمين، وقد اتَّضَح أمرُهم حين دُعوا للقتالِ في سبيلِ الله، أو من أجْلِ الدَّفع عن البلاد ومَن فيها، فما كان منهم إلَّا أنِ اعتذروا بعُذرٍ قبيحٍ؛ حيث قالوا: إنَّهم لو يعلَمون أنَّه ستكونُ مواجهةٌ بين المسلِمين والمشركين كانوا سيخرُجون مع المسلِمين، لكنَّهم لا يرَوْن أنَّ هذا سيحصُلُ، فأخبر تعالى أنَّ المنافقين كانوا في تلك الحالِ أقرَبَ إلى الكفرِ منهم إلى الإيمانِ، يُضمِرون في أنفسِهم بخلافِ ما يُظهِرونه، واللهُ سبحانه مطَّلِعٌ على كلِّ ما يُخفونه.
هؤلاءِ المنافقون الَّذين تخلَّفوا عن الجِهادِ مع المسلمين قالوا: لو أنَّ قرابتَنا الَّذين قُتِلوا في المعركةِ أَخَذوا بمشورتِنا بترْكِ الخروج للقتال لم يُقتَلوا، فأمَر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لهم: فادْفَعوا الموتَ عن أنفسِكم إنْ كنتُم صادقين في أنَّهم لو أطاعوكم ما كانوا قُتِلوا.

تفسير الآيات:

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَتْبَعَه بتفصيلِ هذه الجملة، وبيَّن جزاءَ المُطيعين ما هو، وجزاءَ المُسيئين ما هو .
وأيضًا لَمَّا أخبَر اللهُ تعالى أنَّه لا يقعُ يومَ القيامة ظُلمٌ أصلًا، تسبَّبَ عنه الإنكارُ على مَن حدَّثَتْه نفسُه بالأمانيِّ الكاذبة، فظنَّ غيرَ ذلك من استواءِ حالِ المُحسِنِ وغيرِه، أو فعَل فعلًا وقال قولًا يؤدِّي إلى ذلك؛ كالمُنافِقين وكالمُقبِلين على الغنيمةِ ، فقال تعالى:
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
أي: هل مَن ترَك الغُلولَ وانتهى عن غيرِه مِن المعاصي، وعَمِل بطاعةِ الله تعالى، قاصدًا بذلك نَيْلَ رضا الله سبحانه، هل هو كالَّذي رجَع متحمِّلًا غضَبَ اللهِ عزَّ وجلَّ عليه بوقوعِه في العِصيانِ، أو بترْكِ طاعةِ الرَّحمن، فاستحقَّ بذلك الإقامةَ في جَهنَّمَ، وما أسوأَه مِن مصيرٍ يُرجَع إليه !
قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173-174] .
وقال سبحانه: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة: 80] .
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ
أي: إنَّ للمتَّبعين رِضوانَ اللهِ تعالى مراتبَ متفاوتةً في العلوِّ، كما أنَّ لِمَن باؤوا بسَخَطِ اللهِ سبحانه دَركاتٍ متفاوتةً في السُّفولِ .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
أي: واللهُ تعالى مطَّلعٌ على كلِّ ما يعمَلُه عبادُه من طاعةٍ أو معصيةٍ، لا يَخفَى عليه شيءٌ من ذلك، وهو حافِظٌ لأعمالهم، وسيُجازي كلًّا منهم بحسَبِها .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا فصَّل اللهُ تعالى أحوالَ النَّاسِ بدأ بالمؤمنين بذِكْرِ ما امتَنَّ اللهُ تعالى عليهم به ، فقال:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى قد أنعَمَ على عِبادِهِ المؤمنين بأنْ أرسَلَ إليهم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من جِنسِهم البشريِّ، فيَألَفونَه ويَفهمون خِطابَه، ويَتمكَّنون من مجالستِه والتَّحدُّثِ إليه .
قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء: 94-95] .
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
أي: يقرَأُ عليهم القُرآنَ، ويأمُرُهم بكُلِّ خيرٍ، ويَنهاهم عن كلِّ شرٍّ حتَّى تطهُرَ نفوسُهم من دَنَسِ الشِّركِ والمعاصي، ورذائلِ الأخلاقِ .
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
أي: ويُعلِّمهم معانيَ القرآنِ الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة .
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
أي: إنَّ المؤمنين كانوا قَبل بِعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم مُنغمِسينَ في جاهليَّةٍ جَهلاءَ، وحيرةٍ عَمياءَ، وانحرافٍ واضحٍ عن طريق الهُدى .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
أي: أحِينَ حلَّت بكم مُصيبةُ غزوةِ أُحُدٍ بقتلِ سبعينَ رجلًا منكم، مع أنَّكم نِلتُم قبلها في بَدْرٍ ضِعْفَيْ ما نالوا منكم عددًا، بقَتلِ سبعينَ، وأَسْرِ سَبعينَ آخَرين، أحينَها تقولون: مِن أين جرَى علينا هذا الأمرُ، وكيفَ حلَّتْ بنا هذه الكارثةُ ؟!
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للمؤمنين: هذه المصيبةُ الَّتي وقعتْ عليكم في أُحُدٍ إنَّما كان سببُها هو أنتم أنفسُكم، وذلك حينَ تنازَع بعضُكم فيما بينهم، وعصَوْا أمرَ رسولِهم عليه الصَّلاة والسَّلام .
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قادرٌ على جميعِ الأشياء، ومِن ذلك: إيقاعُ العقوبةِ بكم أيُّها المؤمنون، كما حدَث في غزوةِ أُحُدٍ، ومِن ذلك أيضًا: قدرتُه على نصرِكم، فلا تظنُّوا بالله تعالى غيرَ الحقِّ، وإنَّما قدَّر ما قدَّر عليكم في أُحُدٍ مِن الهزيمةِ والإصابةِ بالقَتْل والجِراحِ لحِكمتِه سبحانه .
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كانتْ نسبةُ المصيبةِ إليهم في قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ربَّما أوهَمَتْ أنَّ بعضَ الأفعالِ خارجٌ عن مُرادِه تعالى - قال تعالى:
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ
أي: إنَّ الَّذي وقَع عليكم- أيُّها المؤمنون- من القَتْلِ والجِراحِ والهزيمةِ يومَ الْتَقيتُم أنتم والمشرِكون بأُحُدٍ، إنَّما وقَع بقَضاءِ الله تعالى وقدَرِه .
وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
أي: إنَّ ما أصابَكم يومَ أُحُدٍ كان لأجلِ تَمييزِ المؤمنين الَّذين صبَروا وثبَتوا مِن غيرهم .
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ
أي: إنَّ ما أصابكم يومَ أُحُدٍ- أيُّها المؤمنون- كان أيضًا لأجْلِ تمييزِ المُنافِقين المندَسِّين بين المسلِمين، الَّذين لَمَّا دُعوا للقِتالِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ يومَ أُحُدٍ، أو لأَجْلِ دفْعِ العدوِّ عن البلادِ والعبادِ، امتنَعوا عن المشاركةِ مُتعلِّلين بعُذرٍ قبيحٍ، وقائلين بكَذِبٍ صريح: لو نعلَمُ أنَّكم تُقاتِلون لَسِرْنا معكم، ولكن لا نَرَى أنَّه سيكونُ بينكم وبينَ المشركين قتالٌ .
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ
أي: إنَّ أولئك المنافِقين كانوا في تِلك الحالِ الَّتي امتنَعوا فيها عن مشاركةِ المسلِمين في قِتالِ المشركين، كانوا أقرَبَ إلى الكفرِ من الإيمانِ .
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
أي: مِن صِفاتِهم أنَّهم يقولون خلافَ ما يُضمِرون في أنفسِهم ، ومن ذلك قولُهم: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران: 167] ؛ فإنَّهم قد علِموا وقوعَ القتالِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
أي: واللهُ تعالى أعلمُ مِن غيرِه بما يكتُمُه هؤلاء المنافِقون، وهو مطَّلعٌ عليه ومُظهِرُه للمؤمنين، وسيُجازيهم به .
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا
أي: إنَّ أولئك المنافقين الَّذين قعَدوا عن الجِهادِ مع المسلِمين، قالوا: لو سمِع مَن قُتِل مِن قَراباتِنا بأُحُدٍ مشورتَنا بتَركِ الخروج للقتال- لَمَا قُتلوا هنالك؛ اعتراضًا منهم على قضاءِ اللهِ تعالى وقدَرِه، وطعنًا منهم في طاعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي أمَر بالخروجِ، فحصَل فيه من القتلِ ما حصَل .
قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للقائلين بتلك المقالةِ مِن المُنافِقين: امنَعوا وقوعَ الموتِ عليكم بالقعودِ عن القتالِ، إنْ كنتم صادقين في قولِكم بأنَّ المرءَ يَسلَمُ مِن القتلِ بالقُعود عنه .

الفوائد التربوية:

1- لا يَستوي مَن كان قَصْدُه رِضوانَ ربِّه، والعملَ على ما يُرضيه، ومَن ليس كذلك، ممَّن هو مُكِبٌّ على المعاصي، مُسخِطٌ لربِّه؛ هذان لا يَستويانِ في حُكمِ اللهِ، وحِكمة الله، وفي فِطَرِ عبادِ الله: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ؛ ولهذا قال هنا: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ .
2- اللُّجوءُ إلى الله تعالى بطلبِ التَّثبيتِ منه على الإيمان؛ لأنَّه إذا كان هو المانَّ به، فهو الَّذي يملِكُ ثُبوتَه وزوالَه؛ فارجِعْ إليه، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .
3- الخِذلانُ والانهزامُ إنَّما يَحصُلُ بشُؤمِ المعصية؛ كما في قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ .
4- مِن المستحسَنِ أن يُذَكَّر الإنسانُ بما يُهوِّنُ المصيبةَ عليه؛ لقوله: أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ .
5- أنَّه يَنبغي لِمَن أجابَ غيرَه أن يُجيبَه بما يمنَعُ احتجاجَه؛ لقوله: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي: أنتم السَّبب .
6- تَسليةُ المؤمنِ بقضاءِ الله وقدرِه؛ لقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ؛ لأنَّ المؤمِنَ إذا علِم أنَّه مِن عندِ الله رضِيَ وسلَّم .
7- أنَّ اللهَ تعالى قد يُقدِّرُ على عبدِه المؤمنِ ما يَكرَهُه لحِكَمٍ عظيمة؛ لقوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ .
8- أنَّه يَنبغي للإنسانِ أن يَحترسَ في الحُكمِ، وألَّا يُطلِقَه؛ لقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ، فربَّما يُغيِّرُ اللهُ تعالى حالَ قومٍ، فيكون الإيمانُ إليهم أقربَ، فيَنبغي التقييدُ عند الحُكْم على شخصٍ .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قول الله عزَّ وجلَّ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، لم يُعيِّنِ اللهُ تعالى السَّببَ ما هو؛ قيل لُطفًا بالمؤمنين في خطابِه تعالى لهم .
2- أنَّ الإنسانَ تتغيَّرُ أحوالُه، فيكون في حالٍ أقرَبَ إلى الإيمانِ من الكفرِ، وفي حالٍ أخرى بالعكس؛ لقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ، واستدَلَّ بعضُ العُلماءِ بهذه الآيةِ على زِيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه .
3- التَّنديدُ بهؤلاء الَّذين جمَعوا بين قُبحِ الفعل وقُبحِ القول، يُؤخَذُ مِن قوله: قَالُوا، وَقَعَدُوا قُبْحُ الفِعلِ من كونهم قعَدوا، وقُبحُ القولِ مِن قولِهم: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا .
4- أنَّه لا يُمكِنُ درءُ الموتِ؛ لأنَّ ما وقَع التَّحدِّي به فإنَّه لا يمكِنُ وقوعُه؛ إذ لو أمكَن وقوعُه لم يكُنْ للتَّحدِّي به فائدة؛ قال تعالى: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ .

بلاغة الآيات:

1- قوله: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ:
- قوله: أَفَمَنِ اتَّبَعَ: همزةُ الاستفهامِ للإنكارِ؛ فالاستفهامُ إنكاريٌّ معناه النَّفي، أي: ليسَ مَن اتَّبَع رِضا الله فامتثَل أوامرَه واجتنبَ مناهيَه، كمَن عصاه فباءَ بسَخَطِه .
- وقوله: مِنَ اللَّهِ: فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ؛ لإدخال الرَّوْعةِ، وتربيةِ المهابةِ .
- وقوله: كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ: فيه تمثيلٌ لحالِ صاحبِ المعاصي بالَّذي خرَج يَطلُبُ ما يَنفَعُه فرجَع بما يضُرُّه، أو رجَع بالخَيبةِ .
2- قوله: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: اعتراضٌ تذييليٌّ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ للدَّلالةِ عليه، أي: وبئس المصيرُ جهنَّمُ .
3- قوله: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ: فيها تَشبيهٌ بليغٌ؛ حيث جعَلَهم الدَّرجاتِ نفسَها؛ للمبالَغةِ في إظهارِ التَّفاوُتِ لِمَا بينهم في الثَّوابِ والعقاب ، وتقدير الكلام: لهم درجاتٌ عند الله، إلَّا أنَّه حسُنَ هذا الحَذفُ؛ لأنَّ اختلافَ أعمالِهم قد صَيَّرهم بمنزلةِ الأشياءِ المختلفةِ في ذواتها .
4- قوله: بِمَا يَعْمَلُونَ: خُصَّ العملُ دون القولِ؛ لأنَّ العملَ يَشملُ عملَ القَلْبِ واللِّسانِ والجوارحِ، والتُّروكَ .
5- قوله: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: فيه تأكيدٌ باللام الَّتي هي جوابٌ لقسَمٍ محذوفٍ، و(قَدْ) الَّتي تُفيد التَّحقيقَ، والكلامُ مُستأنَفٌ مسُوقٌ لتأكيد نزاهةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيانِ خَطأِ الَّذين نَسَبوا إليه الغُلولَ .
6- قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:
- قوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ: استفهامٌ يُرادُ به الإنكارُ؛ لإفادة التَّقريرِ والتَّقريع .
- قوله: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا: الاستفهامُ للتَّقريعِ والتقريرِ، وتذكيرُ اسمِ الإشارةِ (هذا) في أَنَّى هَذَا مع كونِه إشارةً إلى المصيبة، ليس لكونِها عِبارةً عن القتلِ ونحوِه، بل لأنَّ إشارتَهم ليستْ إلَّا إلى ما شاهَدوه في المعركةِ من حيثُ هو هو، مِن غيرِ أنْ يَخطُرَ ببالِهم تسميتُه باسمٍ ما، فَضلًا عن تسميتِه باسمِ المصيبةِ، وإنَّما هي عند الحِكايةِ .
- قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ: إجابةٌ فيها إنكارٌ وتقريعٌ، وتبكيتٌ لهم .
- قوله: إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: الجُملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها، داخلٌ تحت الأمرِ .
- وفيها: توكيدُ الخبرِ بـإنَّ واسميَّةِ الجملةِ، وتقديم ما حقُّه التَّأخيرُ عَلَى كُلِّ .
7- قوله: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا: فيه: تَكرار فِعل (يَعْلَم) ، وهو يُفيدُ التَّأكيدَ.
- ولفظة المُؤْمِنِينَ في قوله: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ فيها دَلالةٌ على كونهم مُستقرِّين على إيمانِهم، متثبِّتين فيه؛ فالاسمُ المُؤْمِنِينَ يدُلُّ على تأكيدِ المعنى، وأمَّا لفظ نَافَقُوا في قوله: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا فيدُلُّ على كونِهم إنَّما شرَعوا في الأعمالِ اللَّائقةِ بالنِّفاقِ في ذلك الوقتِ .
8- قوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ: ذِكرُ الأفواهِ مع القلوبِ تصويرٌ لنِفاقهم، وأنَّ إيمانَهم موجودٌ في أفواهِهم، مَعدومٌ في قلوبِهم .
- وإضافةُ القولِ إلى الأفواهِ تأكيدٌ وتصويرٌ .
9- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ: عبَّر بصيغةِ التَّفضيلِ أَعْلَمُ؛ لأنَّ بعضَ ما يكتُمونه مِن أحكامِ النِّفاقِ وذمِّ المؤمنين وتَخطئةِ آرائِهم والشَّماتةِ بهم وغيرِ ذلك، يعلَمُه المؤمنون على وجْهِ الإجمالِ .
10- قوله: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: أمرٌ غرَضُه الاستهزاءُ بهم، أي: إنْ كنتُم رِجالًا دفَّاعين لأسبابِ الموت، فادرَؤوا جميعَ أسبابِه حتَّى لا تموتوا .
- وفيه مِن البيانِ: ما يُعرَفُ بـ(الاحتِجاج النَّظَريّ) .