موسوعة التفسير

سُورةُ السَّجْدةِ
الآيات (18-22)

ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْمَأْوَى: أي: المَثوى والمَسكَنُ، وأصْلُ (أوى) هنا: يدُلُّ على التَّجمُّعِ .
نُزُلًا: أي: ثَوابًا ورِزقًا، والنُّزُلُ: ما يُعَدُّ للنَّازِلِ مِنَ الزَّادِ، ويُهَيَّأُ للضَّيفِ، وأصلُ (نزل): يدُلُّ على هُبوطِ شَيءٍ ووُقوعِه .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا عدَمَ التَّسويةِ بيْنَ المؤمنينَ والكافرين: أفمَن كان مُؤمِنًا باللهِ ورُسُلِه كمَن كان كافِرًا مُكَذِّبًا؟! لا يَستَوونَ.
ثمَّ يُفصِّلُ أحوالَ المؤمنينَ والكافرينَ يومَ القيامةِ، فيقولُ: أمَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ فلَهُم عندَ رَبِّهم جنَّاتٌ يَأوُونَ إليها، ويُقيمونَ فيها أبدًا؛ ضيافةً كريمةً مُعَدَّةً لهم بسَبَبِ ما كانوا يَعمَلونَ في الدُّنيا مِن الصَّالحاتِ.
وأمَّا الَّذين خَرَجوا عن طاعةِ اللهِ بالكُفرِ والعِصيانِ فمَقَرُّهم النَّارُ، كُلَّما أرادوا أن يَخرُجوا منها أُعيدوا فيها مُكرَهينَ، وقيلَ لهم: ذوقُوا عذابَ النَّارِ الَّذي كُنتُم تُكَذِّبونَ بوُقوعِه.
ولَنُصيبَنَّ هؤلاء المكَذِّبينَ بأنواعٍ مِن العَذابِ قبْلَ يومِ القيامةِ دونَ العَذابِ الأكبَرِ في الآخِرةِ؛ لعلَّهم يَتوبونَ إلى اللهِ تعالى.
 ثمَّ يُبيِّنُ حالَ مَن يُدْعَى إلى الهُدى فيُعرضُ عنه، فيقولُ: ولا أحَدَ أظلَمُ ممَّن ذُكِّرَ بآياتِ ربِّه، ثمَّ أعرَضَ عنها استِكبارًا، إنَّا مُنتَقِمونَ مِن هؤلاءِ المُجرِمينَ!

تَفسيرُ الآياتِ:

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المجرِمِ والمؤمِنِ، قال للعاقِلِ: هل يَستوي الفَريقانِ؟ ثمَّ بيَّن أنَّهما لا يَستويانِ .
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا.
أي: أفمَن كان مُؤمِنًا بآياتِ اللهِ متَّبِعًا لرُسُلِه، فهو مُؤمِنٌ بوَعدِه ووَعيدِه، طائعٌ له في أمْرِه ونَهْيِه: أيَكونُ في حُكمِ اللهِ كمَن كان كافِرًا مُكَذِّبًا، خارِجًا عن دائرةِ الإيمانِ وطاعةِ الرَّحمنِ ؟!
كما قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] .
وقال سُبحانَه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .
لَا يَسْتَوُونَ.
أي: لا يَستوي المؤمِنونَ والفاسِقونَ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ؛ فلِكُلٍّ جزاءٌ مُختَلِفٌ بحَسَبِ ما قدَّموه .
أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه تَفصيلٌ لِمَراتبِ الفَريقَينِ في الآخِرةِ، بعدَ ذِكرِ أحوالِهما في الدُّنيا .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ أنَّ المؤمِنَ والفاسِقَ لا يَستويانِ بطريقِ الإجمالِ؛ بيَّنَ عَدَمَ استوائِهما على سَبيلِ التَّفصيلِ، فقال تعالى :
أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى.
أي: أمَّا الَّذين آمَنوا بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ بإخلاصٍ للهِ تعالى ومُتابعةٍ لِشَرعِه: فلَهُم في الآخِرةِ جَنَّاتٌ يَأوُونَ إليها، فهم فيها مُقيمونَ، ومنها لا يَخرُجونَ .
قال تعالى: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 13 - 15] .
وقال سُبحانَه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40، 41].
نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أي: ضِيافةً كريمةً مُهَيَّأةً لهم؛ بسَبَبِ ما كانوا يَعمَلونَ في الدُّنيا مِنَ الإيمانِ باللهِ تعالى وطاعتِه .
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20).
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ.
أي: وأمَّا الَّذين خَرَجوا عن الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، فكَفَروا به وعَصَوه؛ فمَسْكَنُهم ومَقَرُّهم الَّذي يأوُونَ إليه، ويُقيمونَ في الآخرةِ فيه: هو النَّارُ .
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا.
أي: كلَّما أرادوا أن يَخرُجوا مِنَ النَّارِ أُعيدوا فيها مُكرَهينَ .
كما قال تعالى: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 21، 22].
وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
أي: ويُقال لهم: ذُوقوا عذابَ النَّارِ الَّذي كُنتُم في الدُّنيا تُكَذِّبونَ بوُقوعِه .
ثم بيَّن أنَّ عذابَ الآخرةِ له مُقدِّماتٌ فى الدنيا؛ لأنَّ الذَّنْبَ مُستَوجِبٌ لنتائجِه عاجلًا وآجلًا، فقال :
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21).
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ.
أي: ولَنُصِيبَنَّ هؤلاء الفاسِقينَ المكَذِّبينَ مِن العذابِ الَّذي يكونُ قبلَ يومِ القيامةِ، دونَ العذابِ الأكبَرِ في الآخِرةِ .
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
أي: لَعلَّهم يَتوبونَ إلى اللهِ مِن كُفرِهم وعِصيانِهم .
كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22).
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا.
أي: ولا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه ، ثمَّ أعرَضَ عنها مُستكبِرًا عن قَبولِها، مُستَنكِفًا عن الانقيادِ إليها .
إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ.
أي: إنَّا سنَنتَقِمُ مِنَ الَّذين أعرَضوا، وكَفَروا، وكَذَّبوا، واكتَسَبوا السَّيِّئاتِ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ يُنَبِّهُ العُقولَ على ما تقَرَّرَ فيها مِن عَدَمِ تَساوي المتفاوِتَينِ المتبايِنَينِ، وأنَّ حِكمَتَه تقتَضي عدَمَ تساويهما؛ فمَن قد عَمَر قَلبُه بالإيمانِ، وانقادت جوارِحُه لشرائِعِه، واقتَضى إيمانُه آثارَه ومُوجباتِه؛ مِن تَركِ مَساخِطِ اللهِ، الَّتي يضُرُّ وُجودُها بالإيمانِ: لا كمَنَ قد خَرِبَ قَلبُه، وتعطَّلَ مِن الإيمانِ، فلمْ يكُنْ فيه وازِعٌ دِينيٌّ، فأسرَعَت جوارِحُه بمُوجباتِ الجَهلِ والظُّلمِ؛ مِن كُلِّ إثمٍ ومَعصيةٍ، وخرَج بفِسقِه عن طاعةِ اللهِ .
2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا أنَّ الإنسانَ يجبُ أنْ يَقْبَلَ التَّذكيرَ ممَّن يُذكِّرُه أيًّا مَن كان، فالله تعالى لم يَقُلْ: «مِمَّنْ ذَكَّرَهُ الرَّسولُ» أو: «ذَكَّرَهُ فُلانٌ أو فُلانٌ»! فإذا أتاك التَّذكيرُ مِن أيِّ جهةٍ فالواجبُ عليكَ القَبولُ .
3- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا أنَّ الإعراضَ بعدَ العِلمِ أقبَحُ منه حالَ الجَهلِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ هذا أعظَمَ الفِسقِ: أن تُذكَّرَ ثمَّ تُعرِضَ، لكِنْ مَن أعرَضَ بدُونِ تَذَكُّرٍ فهو أهوَنُ .
4- المؤمِنُ مأمورٌ بلَومِ نَفْسِه على ما فَعلَتْ مِن الذُّنوبِ الَّتي وَجَد عاقِبَتَها في الدُّنيا، كما قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فإذا أصابه في الدُّنيا بلاءٌ رجَع إلى نفْسِه باللَّومِ، ودعاه ذلك إلى الرُّجوعِ إلى اللهِ بالتَّوبةِ والاستِغفارِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ  أنَّ الإيمانَ لا يَتِمُّ إلَّا بالعملِ الصَّالحِ؛ فلا يكفي مجرَّدُ العقيدةِ! بل لا بُدَّ مِن عمَلٍ صالحٍ .
2- قَولُ الله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ استدَلَّ بعُمومِه مَن قال: إنَّ الفاسِقَ لا يَلي النِّكاحَ .
3- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ دَليلٌ على أنَّ اسمَ الفِسقِ واقِعٌ على الكُفرِ والمعصيةِ معًا .
4- في قَولِه تعالى: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العملِ .
5- قَولُ الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا لَمَّا كان الكُفرُ إذا جاء فلا التِفاتَ إلى الأعمالِ، لم يَقُلْ: (وأمَّا الَّذين فسَقُوا وعَمِلوا السَّيِّئاتِ)؛ لأنَّ المرادَ مِن فَسَقُوا: كَفَروا. ولو جُعِلَ العِقابُ في مُقابَلةِ الكُفرِ والعَمَلِ، لَظُنَّ أنَّ مُجرَّدَ الكُفرِ لا عِقابَ عليه .
6- في قَولِه تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أنَّ أهلَ النَّارِ يُجْمَعُ لهم بينَ العذابِ الجِسميِّ والعذابِ القلبيِّ للتَّوبيخِ .
7- بيانُ حِكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ فيما يَبتلي به مِن المصائِبِ؛ تُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وهذا كقَولِه تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
8- في قَولِه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ أنَّ عذابَ الدُّنيا لا يُنْسَبُ إلى عذابِ الآخرةِ؛ لِما بيْنَهما مِن الفَرقِ العظيمِ -فهذا أدنَى، وذاك أكبرُ-؛ يعني: كِلاهما في طَرَفَيْ نقيضٍ، يعني: «أدنى» اسمُ تفضيلٍ، و«أكبرُ» اسمُ تفضيلٍ، ولا يُنْسَبُ أدنَى شَيءٍ إلى أعلَى شَيءٍ !
9- في قَولِه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ حُجَّةٌ على عذابِ القبرِ، فإنَّه سبحانَه أخْبَرَ أنَّ له فيهم عذابينِ «أدنى وأكبر» فأخبَرَ أنَّه يُذيقُهم بعضَ الأدنَى لِيَرجِعوا؛ فدَلَّ على أنَّه بَقِيَ لهم مِن الأدنَى بقيَّةٌ يُعَذَّبُون بها بعدَ عذابِ الدُّنيا؛ ولهذا قال: مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى، ولم يقُلْ: «ولَنُذيقَنَّهُمُ العذابَ الأدنى»! فتأمَّلْه .
10- في قَولِه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَبولُ التَّوبةِ مِن الكافِرِ .
11- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، قَولُه سُبحانَه بِآَيَاتِ رَبِّهِ أتَى بالرُّبوبيَّةِ المُقتَضيةِ للانقيادِ؛ لأنَّه ما دام التَّذكيرُ بآياتِ رَبٍّ لك، فأنت مَربوبٌ عَبدٌ، والمربوبُ في تدبيرِ رَبِّه .
12- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا مِثلُ هذه العبارةِ جاءت في غيرِ هؤلاء، فقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 21، 93] و[هود: 18] و[العنكبوت: 68] ، وفي السُّنَّةِ: ((ومَن أظلَمُ ممَّن ذهَب يَخلُقُ كخَلْقي )) ، فكيف نجمعُ بيْنَ هذه النُّصوصِ؟
الجوابُ: أنَّ الجَمعَ بيْنَها يكونُ بأحَدِ وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذه الأشياءَ جميعَها اشتركَتْ في المرتبةِ العُليا مِن الظُّلمِ؛ فكلُّها في مقامِ الأظلميَّةِ، فأفْعَلُ التَّفضيلِ لا يمنعُ التَّساويَ، ولكنَّه يمنعُ الزِّيادةَ. وعلى ذلك فلا مُعارَضةَ ألْبَتَّةَ بينَ النُّصوصِ؛ فهؤلاءِ المذكورونَ لا يُوجَدُ أحدٌ أظلَمُ منهم، وهم مُتساوونَ في مرتبةِ الظُّلْمِ.
والوجهُ الثَّاني: أنَّ هذه المواضعَ تتخصَّصُ بصِلاتِها، أي: أنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُه صِلةُ مَوصُولِه، فكلُّ واحدةٍ تختصُّ ببابِها، فيكونُ المعنَى: لا أحَدَ مِنَ المُفْتَرِينَ أظلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ المانِعِينَ أظلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ الله، ولا أحدَ مِنَ المُعْرِضِينَ أظلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فأعْرَض عنها .
13- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أنَّ الإعراضَ عن آياتِ اللهِ بعدَ التَّذكيرِ بها إجرامٌ .
14- في قَولِه تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ جوازُ إضافةِ الانتقامِ إلى اللهِ مُقَيَّدًا، يعني: الإخبارَ عن اللهِ بأنَّه مُنتَقِمٌ، إخبارًا مُقَيَّدًا .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ فُرِّعَ بالفاءِ على ما تَقدَّمَ مِن الآياتِ مِن الوَعدِ للمُؤمنينَ والوعيدِ للكافرينَ: استِفهامٌ بالهَمزةِ، مُستعمَلٌ في إنكارِ المُساواةِ بيْن المُؤمنِ والكافرِ، وهو إنكارٌ بتَنزيلِ السَّامعِ مَنزلةَ المُتعجِّبِ مِن البَونِ بيْنَ جَزاءِ الفَريقَينِ في ذلك اليومِ؛ فكان الإنكارُ مُوجَّهًا إلى ذلك التَّعجُّبِ في معنى الاستِئنافِ البَيانيِّ .
- قولُه: لَا يَسْتَوُونَ التَّصريحُ بعَدمِ المُساواةِ في الشَّرفِ والمَثوبةِ، مع إفادةِ الإنكارِ لِنَفْيِ المُشابَهةِ بالمرَّةِ على أبلَغِ وَجهٍ وآكَدِه؛ لِبِناءِ التَّفصيلِ الآتي عليه .
2- قولُه تعالى: أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- أكَّدَ كِلَا الجَزاءَينِ بذِكرِ مُرادِفٍ لِمَدلولِه، مع زِيادةِ فائدةٍ؛ فجُملةُ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ... إلى آخِرِها، مُؤكِّدةٌ لِمَضمونِ جُملةِ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: 17] إلى آخِرِها .
- وإضافةُ جنَّاتٍ إلى المَأْوى في قولِه: جَنَّاتُ الْمَأْوَى مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى الصِّفةِ؛ لِقَصدِ التَّخفيفِ، والمعنى: فلَهُمُ الجنَّاتُ المَأْوى لهم، أي: المَوعودونَ بها . وقيل: أُضِيفَت الجنَّةُ إلى المَأْوى؛ لأنَّها المَأْوى الحَقيقيُّ، وإنَّما الدُّنيا مَنزِلٌ مُرتحَلٌ عنه لا مَحالةَ. وقيل: المَأْوى جنَّةٌ مِن الجنَّاتِ، وأيًّا ما كان فلا يَبعُدُ أنْ يكونَ فيه رَمزٌ إلى ما ذُكِرَ مِن تَجافِيهم عن مَضاجِعِهم الَّتي هي مَأْواهم في الدُّنيا .
3- قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
- جُملةُ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ إلى آخِرِها، مُؤكِّدةٌ لِمَضمونِ جُملةِ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إلى بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 14] .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ، ولم يَقُلْ: (فلَهُمْ نارُ المَأْوى) كما قال قَبْلُ في المؤمنينَ: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى، والفارقُ: أنَّ النَّارَ كلُّ أحدٍ لا يُحِبُّ أنْ تكونَ مَأْواهُ بخِلافِ الأوَّلِ؛ فالجنَّةُ كلٌّ يُحِبُّ أنْ تكونَ هي المَأْوى، وأمَّا هذا فلا؛ فأتى في ذِكرِ الجنَّةِ بما يُفِيدُ الاختِصاصَ -تقديم الخبرِ على المُبتدأِ فَلَهُمْ-؛ تَشويقًا، وإنْ كان هذا الفَرْقُ قد يَختلِفُ في بعضِ الآياتِ، مِثلُ قولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37 - 41] ، ولكنْ لكلِّ مَقامٍ مَقالٌ؛ فهنا المَقامُ مَقامُ مُعادَلةٍ ومُوازَنةٍ، فلهذا فرَّقَ بيْنَهما؛ قال: جَنَّاتُ الْمَأْوَى، وقال: فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ، أمَّا في سُورةِ (النَّازعاتِ) فليس هناك مُعادَلةٌ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ أنَّ قومًا يَدَّعون لأنفُسِهم أنَّهم على الحقِّ، فأنكَرَ اللهُ ذلك .
- قولُه: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ فيه ذِكرُ النَّارِ مُظْهَرًا، ولمْ يُستَغْنَ بالضَّميرِ لِتَقدُّمِ الذِّكْرِ؛ لأنَّ سِياقَ الآيةِ للتَّهديدِ، والتَّخويفِ، وتَعظيمِ الأمْرِ، وفي ظاهرِ ذِكْرِ النَّارِ مِن ذلك ما ليس في الضَّميرِ .
- قولُه: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا استِئنافٌ لِبَيانِ كَيفيَّةِ كَونِ النَّارِ مَأْواهم، وكَلمةُ (في)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم مُستقِرُّون فيها، وإنَّما الإعادةُ مِن بَعضِ طَبقاتِها إلى بعضٍ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال هنا: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ...، فذَكَّرَ الوَصفَ والضَّميرَ، فوصَف العذابَ، وأعاد عليه الضَّميرَ، وقال في سُورةِ (سَبأ): عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ: 42] ، فأنَّثَ الوَصفَ والضَّميرَ، فوصَف النَّارَ، وأعاد عليها الضَّميرَ.
وبيانُ ذلك مِن ثلاثةِ أوجُهٍ؛ الأوَّلُ: أنَّه خصَّ العذابَ في السَّجدةِ بالوصفِ فقال: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ؛ اعتِناءً به لما تكرَّر ذِكرُه في قولِه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ. والثَّاني: أنَّه قدَّم في (السَّجدةِ) ذِكرَ النَّارِ، فكان الأصلُ أن يَذكُرَها بعدَ ذلك بلفظِ الضَّميرِ، لكنَّه جعَل الظَّاهرَ مكانَ المُضْمَرِ، فكما لا يوصَفُ المُضمَرُ لم يوصَفْ ما قام مَقامَه وهو النَّارُ، ووصَفَ العذابَ ولم يَصِفِ النَّارَ. الثَّالثُ -وهو الأقوى: أنَّه امتنَع في السَّجدةِ وصْفُ النَّارِ، فوصَفَ العذابَ، وإنَّما امتنَع وصْفُها؛ لِتَقدُّمِ ذِكرِها، فإنَّك إذا ذكَرْتَ شيئًا ثمَّ كرَّرْتَ ذِكرَه لم يَجُزْ وصْفُه، كقولِك: رأيتُ رجُلًا فأكرمتُ الرَّجُلَ، فلا يجوزُ وصْفُه؛ لئلَّا يُفهَمَ أنَّه غيرُه . وقيل غيرُ ذلك .
4- قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- قولُه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى تَعريضٌ بتَهديدِهم؛ لأنَّهم يَسمَعون هذا الكَلامَ، أو يُبلَّغُ إليهم. وهذا إنذارٌ بما لَحِقَهم بعدَ نُزولِ الآيةِ .
- فإنْ قِيل: العذابُ الأدْنَى في مُقابلَتِه العذابُ الأقْصى، والعذابُ الأكبَرُ في مُقابَلتِه العذابُ الأصغَرُ؛ فما الحِكمةُ في مُقابلةِ الأدْنى بالأكبَرِ؟
فالجوابُ: أنَّه حصَلَ في عذابِ الدُّنيا أمْرانِ؛ أحدُهما: أنَّه قَريبٌ، والآخَرُ: أنَّه قليلٌ صَغيرٌ. وحصَلَ في عذابِ الآخِرةِ أيضًا أمْرانِ؛ أحدُهما: أنَّه بعيدٌ، والآخَرُ: أنَّه عظيمٌ كثيرٌ، لكنَّ القُرْبَ في عَذابِ الدُّنيا هو الَّذي يَصلُحُ للتَّخويفِ به؛ فإنَّ العَذابَ العاجلَ وإنْ كان قَليلًا قد يَحترِزُ منه بعضُ الناسِ أكثَرَ ممَّا يَحترِزُ مِن العذابِ الشَّديدِ إذا كان آجِلًا، وكذا الثَّوابُ العاجِلُ؛ قد يَرغَبُ فيه بعضُ النَّاسُ، ويَستبِعدُ الثَّوابَ العظيمَ الآجِلَ، وأمَّا في عذابِ الآخِرةِ فالَّذي يَصلُحُ للتَّخويفِ به هو العظيمُ والكبيرُ لا البَعيدُ؛ لِمَا بيَّنَّا، فقال في عذابِ الدُّنيا: الْعَذَابِ الْأَدْنَى؛ لِيَحترِزَ العاقلُ عنه، ولو قال: (لَنُذِيقَنَّهم مِن العذابِ الأصغَرِ) ما كان يَحترِزُ عنه؛ لِصِغَرِه، وعَدمِ فَهمِ كَونِه عاجِلًا، وقال في عذابِ الآخِرةِ: الْأَكْبَرِ لذلك المعنى، ولو قال: (دونَ العذابِ الأبعدِ الأقْصى) لَمَا حصَلَ التَّخويفُ به مِثلَ ما يَحصُلُ بوَصفِه بالكُبْرِ، وبالجُملةِ: فقد اختارَ اللهُ تعالى في العذابَينِ الوَصفَ الَّذي هو أصلَحُ للتَّخويفِ مِن الوَصفينِ الآخَرينِ فيهما لحِكمةٍ بالغةٍ .
- جُملةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ لِحِكمةِ إذاقتِهم العذابَ الأدْنى في الدُّنيا بأنَّه لِرَجاءِ رُجوعِهم، أي: رُجوعِهم عن الكُفرِ بالإيمانِ، والمُرادُ: رُجوعُ مَن يُمكِنُ رُجوعُه، وهمُ الأحياءُ منهم. وإسنادُ الرُّجوعِ إلى ضَميرِ جَميعِهم باعتبارِ القَبيلةِ والجَماعةِ، أي: لعلَّ جَماعتَهم تَرجِعُ .
5- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ
- قولُه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا بَيانٌ إجْماليٌّ لحالِ مَن قابَلَ آياتِ اللهِ تعالى بالإعراضِ، بعْدَ بَيانِ حالِ مَن قابَلَها بالسُّجودِ، والتَّسبيحِ، والتَّحميدِ .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا استِفهامٌ إنكاريٌّ .
- قولُه: ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قالَه هنا بـ ثُمَّ، وقال في آيةٍ أُخرى: فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف: 57] ، والفرْقُ: أنَّ المعنى في آيةِ فَأَعْرَضَ: أنَّه بادَرَ بالإعراضِ، وفي الثَّانيةِ: بعْدَما فكَّرَ وقدَّرَ أعرَضَ، والنَّاسُ هكذا؛ منهم مَن يُعرِضُ لأوَّلِ وَهْلةٍ، ولا يَلتفِتُ ولا يُفكِّرُ، ومنهم مَن قد يُفَكِّرُ، ولكنْ في النِّهايةِ يُعرِضُ ، فتكونُ (ثمَّ) على بابِها للتَّراخي الزَّمنيِّ؛ لِيَكونَ المعنى: أنَّ مَن وقَعَ له التَّذكيرُ بها في وَقتٍ ما، فأخَذَ يَتأمَّلُ فيها، ثمَّ أعرَضَ عنها بعدَ ذلك ولو بألْفِ عامٍ؛ فهو أظلَمُ الظَّالمينَ، ويَدخُلُ فيه ما دونَ ذلك مِن بابِ الأَولى؛ لأنَّه أجدَرُ بعَدمِ النِّسيانِ؛ فهي أبلَغُ هنا مِن التَّعبيرِ بالفاءِ -كما في سُورةِ (الكهفِ)- ويكونُ عدَلَ إلى الفاءِ هناك؛ شَرحًا لِمَا يكونُ مِن حالِهم عندَ بَيانِ سُؤالِهم، الَّذي جَعَلوا بَيانَه آيةَ الصِّدقِ، والعَجزَ عنه آيةَ الكَذِبِ. وقيل: لَمَّا بلَغَتْ هذه الآياتُ مِن الوُضوحِ أقْصَى الغاياتِ؛ فكان الإعراضُ عنها مُستبعَدًا بعْدَه؛ عبَّرَ عنه بأداةِ البُعدِ لذلك (ثُم)، فقال: ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا، وذلك ضِدُّ ما عَمِله الَّذين لم يَتَمالكوا أنْ خَرُّوا سُجَّدًا؛ فالتَّعبيرُ بأداةِ التَّراخي استبعادٌ وتَعجُّبٌ مِن حالِهم .
- وجُملةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا، ناشئًا عن تَفظيعِ ظُلمِ الَّذي ذُكِّرَ بآياتِ ربِّه فأعرَضَ عنها؛ لأنَّ السَّامعَ يَترقَّبُ جَزاءَ ذلك الظَّالمِ . والمرادُ بـ الْمُجْرِمِينَ المُشرِكونَ، والكلامُ ذَمٌّ للمُعرِضينَ، وهذا الأسلوبُ أذَمُّ لهمْ مِن ذلك؛ لأنَّه يُقرِّرُ أنَّ الكافِرَ إذا وُصِفَ بالفِسقِ والظُّلمِ والجُرْمِ، حُمِلَ على نِهايةِ كُفْرِه وغايةِ تَمرُّدِه؛ لأنَّ هذه الآيةَ كالخاتمةِ لأحوالِ المُكذِّبينَ القائلينَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [السجدة: 3] .
- والجُملةُ الاسميَّةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ تدُلُّ على دَوامِ ذلك عليهم في الدُّنيا؛ إمَّا باطنًا بالاستِدراجِ بالنِّعَمِ، وإمَّا ظاهِرًا بإحلالِ النِّقَمِ، وفي الآخرةِ بدَوامِ العذابِ على مَرِّ الآبادِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ عبَّر في الآيةِ بقولِه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ بَدلًا مِن أنْ يُقالَ: (إِنَّا مَنْهُ مُنتقِمون)، أي: مِن المُجرِمِ؛ لأنَّه لَمَّا جعَلَه أظلَمَ مِن كلِّ ظالمٍ، ثمَّ تَوعَّدَ المُجرِمينَ عامَّةً بالانتقامِ منهم؛ فقد دلَّ على إصابةِ الأظلَمِ النَّصيبَ الأوفَرَ مِن الانتقامِ، ولو قالَه بالضَّميرِ لمْ يُفِدْ هذه الفائدةَ. وقِيل: عدَلَ عن ذِكرِ ضَميرِ المُجرِمينَ، فلمْ يَقُلْ: (إنَّا منهم مُنتقِمون)؛ لزِيادةِ تَسجيلِ فَظاعةِ حالِهم بأنَّهم مُجرِمون مع أنَّهم ظالِمون، وقد يُقالُ: إنَّ (المُجرمينَ) أعَمُّ مِن (الظَّالمينَ)؛ فيكونُ دُخولُهم في الانتقامِ مِن المُجرمينَ أُخْرويًّا، وتَصيرُ جُملةُ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ تَذْييلًا . فقولُه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ دون أن يقالَ: (إِنَّا مَنْهُ مُنتقِمون)، أفاد أنَّ هذا مُجْرِمٌ، وأنَّ الحُكْمَ يَعُمُّه وغيرَه مِن المجرمينَ .
- قَولُه: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ عبَّرَ بصِيغةِ العَظَمةِ؛ تنبيهًا على أنَّ الَّذي يحصُلُ لهم مِنَ العذابِ: لا يَدخُلُ تحتَ الوَصفِ على مُجَرَّدِ العِدادِ في الظَّالِمينَ، فكيف وقد كانوا أظلَمَ الظَّالِمينَ ؟!