موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (57-59)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

أَكِنَّةً: أي: أغطيةً، جمعُ كِنانٍ، وهو الغِطاءُ، وأصلُ (كنن): يدلُّ على سترٍ وصونٍ .
وَقْرًا: أي: ثِقَلًا، وصممًا، وأصلُ (وقر): يدلُّ على ثِقَلِ الشيءِ .
مَوْئِلًا: أي: مَلْجَأً؛ يُقال: وَأَلَ فلانٌ إلى كذا: إذا لجأ، وأصلُ (وأل): يدُلُّ على تجَمُّعٍ والتِجاءٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبينًا سوءَ عاقبةِ المعرضينَ: لا أحَدَ أشَدُّ ظُلمًا لِنَفسِه ممَّن وُعِظَ بآياتِ رَبِّه الواضِحةِ، فأعرضَ عنها، ونَسِيَ ما قدَّمَتْه يداه مِن السيِّئاتِ فلم يَرجِعْ عنها، ولم يَتُبْ إلى اللهِ منها، إنَّا جعَلْنا على قُلوبِهم أغطيةً، لئَلَّا يَفهَموا ما ذُكِّروا به منها، وجعَلْنا في آذانِهم ثِقلًا؛ لئلَّا يسمَعوه سماعَ انتفاعٍ، وإن تَدْعُهم إلى الحقِّ فلن يَستَجيبوا لك، ولن يَهتَدوا إليه أبدًا.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما يدلُّ على سعةِ رحمتِه، وعظيمِ فضلِه، فيقول: وربُّك الغفورُ لذُنوبِ عِبادِه إذا تابوا، ذو الرَّحمةِ بهم، لو أراد أن يُعاقِبَ هؤلاء المُعرِضينَ عن آياتِه بما كَسَبوا من الذُّنوبِ والآثامِ، لعجَّلَ لهم العذابَ في الدُّنيا، بل لهم مَوعِدٌ وأجلٌ مقدَّرٌ لعذابِهم إذا حلَّ لم يتأخَّرْ عنهم، ولن يَجِدوا مَلجَأً يَلجَؤون إليه مِنَ العذابِ، وتلك القُرى أهلَكْنا أهلَها حين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، وجعَلْنا لهلاكِهم مَوعِدًا مُقَدَّرًا.

تفسير الآيات:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن الكُفَّارِ جِدالَهم بالباطِلِ، وصَفَهم بعدَه بالصِّفاتِ المُوجِبةِ للخِزيِ والخِذلانِ .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُشرِكينَ مِن مُجادَلةِ الرُّسُلِ، ومِن استهزائِهم بالإنذارِ، وعرَّضَ بحَماقتِهم؛ أتبَعَ ذلك بأنَّه أشَدُّ الظُّلمِ .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.
أي: ولا أحدَ أظلمُ لِنَفسِه ممَّن ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه التي تَدُلُّه على طريقِ الحَقِّ والنَّجاةِ مِن الهَلاكِ، فأعرضَ عنها، فلم يتدبَّرْها، ولم يتَّعِظْ ويتذكَّرْ بها، ونَسِيَ ما عَمِلَ مِن السيِّئاتِ مِن الكُفرِ والمعاصي، فلم يتفكَّرْ في عاقِبتِها، ولم يَتُبْ إلى اللهِ منها .
كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] .
إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ.
أي: إنَّا جعَلْنا على قُلوبِ هؤلاء المُعرِضينَ عن آياتِ اللهِ إذا ذُكِّروا بها أغطيةً؛ لئَلَّا يَفهَموا ما ذُكِّروا به منها، ولا يُدرِكوا معانيَها إدراكًا ينتَفِعونَ به .
كما قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] .
وقال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23] .
وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا.
أي: وجعَلْنا في آذانِ المُعرِضينَ عن آياتِ اللهِ ثِقلًا؛ لئلَّا يَسمَعوا آياتِه سَماعَ فَهمٍ وانتِفاعٍ بها .
وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا.
أي: وإن تَدعُهم -يا مُحمَّدُ- إلى طريقِ الحَقِّ، فلن يَسلُكوه أبدًا؛ لإعراضِهم، وطبْعِ اللهِ على قُلوبِهم وأسماعِهم .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96- 97] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 80- 81] .
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ مِن عادةِ القُرآنِ تَعقيبَ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ والعكس، فلمَّا رماهم بقوارعِ التَّهديدِ والوعيدِ؛ عطَفَ على ذلك التَّعريضَ بالتذكيرِ بالمغفرةِ؛ لعلَّهم يتفَكَّرونَ في مرضاتِه؛ ثمَّ التَّذكيرَ بأنَّه يَشمَلُ الخَلقَ برَحمتِه في حينِ الوعيدِ، فيؤخِّرُ ما توعَّدَهم به إلى حَدٍّ معلومٍ؛ إمهالًا للنَّاسِ لعلَّهم يَرجِعونَ عن ضلالِهم، ويتدبَّرونَ فيما هم فيه مِن نِعَمِ الله تعالى؛ فلعَلَّهم يَشكُرونَ .
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ.
أي: وربُّك -يا مُحمَّدُ- كثيرُ السَّترِ على ذُنوبِ عِبادِه، والتَّجاوُزِ عن مؤاخَذتِهم بها، وهو الرَّحيمُ بهم .
لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ.
أي: لو أراد اللهُ أن يُعاقِبَ هؤلاء الكفارَ، المُعرِضينَ عن آياتِه، بما عَمِلوا من الذُّنوبِ والآثامِ التي من جُملتِها: الكُفرُ، والمُجادلةُ، والإعراضُ؛ لعجَّلَ لهم العذابَ في الدُّنيا، ولكِنَّه تعالى لاتِّصافِه بالمغفرةِ والرَّحمةِ، ترَكَ معاجَلَتَهم .
كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] .
بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.
أي: ولكنْ لهم مَوعِدٌ مَضروبٌ، وأجلٌ مقدَّرٌ لعذابِهم ، يُؤَخِّرُهم اللهُ إليه، ولن يَجِدوا مَلجَأً يَلجَؤون إليه مِنَ العذابِ .
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعد أن أُزيلَ غُرورُ الكافِرينَ بتأخُّرِ العذابِ، وأُبطِلَ ظَنُّهم الإفلاتَ منه ببيانِ أنَّ ذلك إمهالٌ مِن أثَرِ رَحمةِ الله بخَلقِه؛ ضرَبَ لهم المثَلَ في ذلك بحالِ أهلِ القُرى السَّالفينَ الذين أُخِّرَ عنهم العذابُ مُدَّةً، ثمَّ لم يَنجُوا منه بأَخَرَةٍ، فالجُملةُ معطوفةٌ على جُملةِ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ
وأيضًا لَمَّا كانت هذه سُنَّتَه في القُرونِ الماضيةِ والأُمَمِ الخالية؛ قال تعالى عاطِفًا على قَولِه: لَهُمْ مَوْعِدٌ مُرَوِّعًا لهم بالإشارةِ إلى ديارِهم، المُصَوِّرةِ لدمارِهم :
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا.
أي: وتلك قُرى قَومِ نُوحٍ، وهُودٍ، وصالحٍ، وشُعَيبٍ، ولوطٍ، وغيرِهم من الأُمَمِ الماضيةِ؛ أهلَكْنا أهلَها لَمَّا ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي .
كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 37 - 39].
وقال سُبحانَه: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 100 - 102] .
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا.
أي: وجعَلْنا لوَقتِ إهلاكِ القُرى الظَّالِمةِ مِيقاتًا مَعلومًا ومَوعِدًا مُقَدَّرًا لا يُتقَدَّمُ عنه ولا يُتأخَّرُ
كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا فيه مِنَ التَّخويفِ لِمَن ترَكَ الحَقَّ بعد عِلْمِه؛ أن يُحالَ بينَهم وبينَه، ولا يتمَكَّنَ منه بعدَ ذلك، ما هو أعظَمُ مُرَهِّبٍ وزاجرٍ عن ذلك .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ حَثٌّ على فِقْهِ القرآنِ، وأنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يقرأَ القرآنَ، ويَتَعَلَّمَ معناه، كما كان الصَّحابةُ -رضوانُ الله عليهم- لا يتجاوَزونَ عَشرَ آياتٍ حتى يتعَلَّموها وما فيها مِن العِلمِ والعَمَلِ ؛ فقَولُه: أَنْ يَفْقَهُوهُ يعودُ إلى القرآنِ كُلِّه، فعُلِمَ أنَّ الله يحِبُّ أن يُفقَهَ؛ ولهذا قال الحسَنُ البَصريُّ: (ما أنزل اللهُ آيةً إلَّا وهو يحِبُّ أن يُعلَمَ في ماذا أنزِلَت وماذا عَنى بها، وما استَثنى مِن ذلك لا مُتَشابِهًا ولا غيرَه). وقال مجاهِدٌ: (عرَضْتُ المُصحَفَ على ابنِ عبَّاسٍ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه مرَّاتٍ، أقِفُ عند كلِّ آيةٍ وأسألُه عنها) .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ أخبَرَ تعالى عن سَعةِ مَغفِرتِه ورَحمتِه، وأنَّه يَغفِرُ الذُّنوبَ، ويتوبُ اللهُ على من يتوبُ، فيتغَمَّدُه برَحمتِه، ويَشمَلُه بإحسانِه، وأنَّه لو آخَذَ العِبادَ على ما قَدَّمَت أيديهم من الذُّنوبِ، لعجَّلَ لهم العذابَ، ولكِنَّه تعالى حليمٌ لا يَعجَلُ بالعقوبةِ، بل يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، والذنوبُ لا بُدَّ مِن وقوع آثارِها وإن تأخَّرَت عنها مُدَّةً طويلةً؛ ولهذا قال تعالى: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا فيه تحذيرٌ مِن الظُّلمِ؛ إذ نتيجتُه الإهلاكُ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ يُخبِرُ تعالى أنَّه لا أعظَمَ ظُلمًا، ولا أكبَرَ جُرمًا، مِن عَبدٍ ذُكِّرَ بآياتِ اللهِ وبُيِّنَ له الحَقُّ مِن الباطِلِ، والهدَى مِنَ الضَّلالِ، وخُوِّفَ ورُهِّبَ ورُغِّبَ؛ فأعرض عنها، فلم يتذكَّرْ بما ذُكِّرَ به، ولم يَرجِعْ عمَّا كان عليه، ونَسِي ما قَدَّمَت يداه مِن الذُّنوبِ، ولم يُراقِبْ علَّامَ الغُيوبِ؛ فهذا أعظَمُ ظُلمًا مِن المُعرِضِ الذي لم تأتِه آياتُ الله ولم يُذَكَّرْ بها، وإن كان ظالِمًا، فإنَّه أخَفُّ ظُلمًا مِن هذا؛ لكَونِ العاصي على بصيرةٍ وعلمٍ أعظَمَ مِمَّن ليس كذلك .
2- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ يُفهَمُ منها خِلافُ هذا، كقَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وقَولِه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 144] ، وقَولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ [الزمر: 32] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.
وللجَمعِ بين هذه الآياتِ أوجهٌ:
منها: تخصيصُ كُلِّ موضِعٍ بمعنى صِلتِه، أي: لا أحَدَ مِن المانعينَ أظلَمُ ممَّن منع مساجِدَ الله، ولا أحدَ مِن المُفتَرين أظلَمُ ممَّن افترى على الله كَذِبًا، وإذا تخصَّصَت بِصِلاتِها زال الإشكالُ.
ومنها: أنَّ التَّخصيصَ بالنِّسبةِ إلى السَّبقِ، أي: لَمَّا لم يسبِقْهم أحدٌ إلى مِثلِه حُكِمَ عليهم بأنَّهم أظلَمُ ممَّن جاء بعدَهم سالِكًا طريقَهم، وهذا يَؤولُ معناه إلى ما قبلَه؛ لأنَّ المرادَ السَّبقُ إلى المانعيَّةِ والافترائيَّةِ مَثلًا.
ومنها: أنَّ نَفيَ التَّفضيلِ لا يَستلزِمُ نَفيَ المساواةِ؛ فلم يكُنْ أحدٌ ممَّن وُصِفَ بذلك يزيدُ على الآخَرِ؛ لأنَّهم يتساوَونَ في الأظلميَّةِ، فيصيرُ المعنى: لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن منَعَ مساجِدَ الله، ومَن افترى على الله كَذِبًا، ومَن كذَّب بآياتِ اللهِ، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّةِ، ولا يدُلُّ على أنَّ أحَدَهم أظلَمُ مِن الآخَرِ، كما إذا قُلْتَ: لا أحَدَ أفقَهُ مِن فلانٍ وفلانٍ مثلًا .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا إنْ قيل: إذا كانوا لا يستطيعونَ السَّمعَ ولا يُبصِرون ولا يَفقَهون؛ لأنَّ الله جعل الأكِنَّةَ المانعةَ مِن الفَهمِ على قلوبِهم، والوَقْرَ -الذي هو الثِّقلُ المانِعُ من السَّمعِ- في آذانِهم، فهم مجبورونَ، فما وجهُ تعذيبِهم على شيءٍ لا يستطيعونَ العُدولَ عنه، والانصرافَ إلى غيره؟!
فالجواب: أنَّ الله جَلَّ وعلا بيَّنَ في آياتٍ كثيرةٍ مِن كتابِه العظيمِ أنَّ تلك الموانِعَ التي يجعَلُها على قُلوبِهم وسَمعِهم وأبصارِهم، كالخَتمِ والطَّبعِ، والغِشاوةِ والأكِنَّة، ونحو ذلك: إنما جعَلَها عليهم جزاءً وِفاقًا لِما بادروا إليه من الكُفرِ وتكذيبِ الرُّسُلِ باختيارِهم، فأزاغ اللهُ قُلوبَهم بالطَّبعِ والأكِنَّةِ ونحوِ ذلك؛ جزاءً على كُفرِهم. فمن الآياتِ الدالَّةِ على ذلك قولُه تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، أي: بسبَبِ كُفرِهم، وهو نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ في أنَّ كُفرَهم السَّابِقَ هو سبَبُ الطبعِ على قلوبِهم؛ وقَولُه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ، وهو دليلٌ أيضًا واضِحٌ على أنَّ سَبَبَ إزاغةِ الله قُلوبَهم هو زيغُهم السَّابِقُ؛ وقولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المنافقون: 3] ، وقَولُه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقَولُه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ، وقَولُه تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ الطبعَ على القُلوبِ، ومَنْعَها مِن فَهمِ ما ينفَعُ: عِقابٌ مِن اللهِ على الكُفرِ السَّابِقِ على ذلك .
4- قال الله تعالى: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا إنْ قال قائِلٌ: هل في هذا تيئيسٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أنَّه وإن دعا لا يُقبَلُ منه، أو فيه تَسليةٌ له؟
فالجواب: في هذا تسليةٌ له، وأنَّهم إذا لم يَقبَلوا الحَقَّ فلا عليك منهم؛ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا .
5- قَولُه تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ هذا فيه تسليةٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يمكِنُ أن يقولَ: لماذا لم يُعاجَلوا بالعُقوبةِ، كيف يُكَذِّبونَني وأنا رسولُ الله ولم يعاقِبْهم؟! ولكِنْ بَيَّنَ اللهُ له أنَّه هو الْغَفُورُ أي: الذي يستُرُ الذنوبَ ويتجاوَزُ عنها، ذُو الرَّحْمَةِ أي: صاحِبُ الرَّحمةِ الذي يلطُفُ بالمُذنبِ؛ ولهذا قال: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ يعني: لو أراد اللهُ أن يؤاخِذَ النَّاسَ بما كسبوا، لعجَّلَ لهم العذابَ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ إن قيل: ظاهِرُ هذه الآيةِ يَقتضي أنَّ تأخيرَ العَذابِ عن الكُفَّارِ برحمةِ الله، ومعلومٌ أنَّه لا نَصيبَ لهم في رَحمتِه! فعنه جوابانِ:
أحدهما: أنَّ الرحمةَ هاهنا بمعنى النِّعمةِ، ونِعمةُ الله لا يخلو منها مؤمِنٌ ولا كافِرٌ، فأمَّا الرَّحمةُ التي هي الغُفرانُ والرِّضا، فليس للكافِرِ فيها نصيبٌ.
والثاني: أنَّ رحمةَ اللهِ مَحظورةٌ على الكُفَّارِ يومَ القيامةِ، فأمَّا في الدُّنيا فإنَّهم ينالونَ منها العافيةَ والرِّزقَ .
7- في قولِه تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا قد يقولُ قائِلٌ: هنا إشكالٌ: فإنَّ القُرى جمادٌ، والجَمادُ لا يعودُ عليه الضميرُ بصيغةِ الجَمعِ، فمثلًا يقال: هذه البيوتُ عَمَّرْناها، ولا يقال: عَمَّرْناهم،  فلماذا قال: أَهْلَكْنَاهُمْ؟
فالجواب: لأنَّ الذي يَهلِكُ هم أهلُ القرى، فالقرى قد يراد بها أهلُها، وقد يُراد بها البِناءُ المجتَمِعُ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا
     - قولُه: فَأَعْرَضَ عَنْهَا عطْفُ إعراضِهم عن الذِّكرِ على التَّذكيرِ بفَاءِ التَّعقيبِ: إشارةٌ إلى أنَّهم سارعوا بالإعراضِ، ولم يَتْركوا لأنفُسِهم مُهلةَ النَّظرِ والتَّأمُّلِ .
     - في قولِه: فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً علَّلَ إعراضَهم ونِسيانَهم بأنَّهم مَطبوعٌ على قُلوبِهم، وجمَعَ بعْدَ الإفرادِ؛ حمْلًا على لفْظِ (مَن) ومعناهُ .
     - قولُه: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وأكثرُ ما يُستعمَلُ مثْلُ هذا التَّركيبِ في القُرآنِ في العملِ السَّيِّئِ، فصار جاريًا مَجْرى المثَلِ؛ قال تَعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10] ، وقال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] .
     - وجُملةُ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً مُستأنَفةٌ بَيانيَّةٌ، نشأَتْ على جُملةِ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أي: إنْ لم تعلَمْ سبَبَ نِسيانِه ما قدَّمَت يداهُ، فاعلَمْ أنَّا جعَلْنا على قُلوبِهم أكِنَّةً .
     - وعاد الضَّميرُ مُفردًا في قولِه: أَنْ يَفْقَهُوهُ؛ لأنَّ الآياتِ المُضافةَ إلى الرَّبِّ في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ هي القُرآنُ .
     - وجُملةُ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى عطْفٌ على جُملةِ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وهي مُتفرِّعةٌ عليها، ولكنَّها لم تُعْطَفْ بالفاءِ؛ لأنَّ المقصودَ جَعْلُ ذلك في الإخبارِ المُستقِلِّ. وأكَّدَ نفْيَ اهتدائِهم بحرْفِ تَوكيدِ النَّفيِ وهو (لن)، وبلفظِ (أبدًا) المُؤكِّدِ لمَعنى (لن)، وبحرْفِ الجزاءِ المُفيدِ تسبُّبَ الجوابِ على الشَّرطِ. وإنَّما حصَلَ معنى الجزاءِ باعتبارِ تفرُّعِ جُملةِ الشَّرطِ على جُملةِ الاستئنافِ البَيانيِّ، أي: ذلك مُسبَّبٌ على فطْرِ قُلوبِهم على عدَمِ قَبولِ الحقِّ .
     - قولُه: فَلَنْ يَهْتَدُوا، أي: فلا يكونُ منهم اهتداءٌ الْبتَّةَ، كأنَّه مُحالٌ منهم؛ لشِدَّةِ تَصميمِهم، أَبَدًا مُدَّةَ التَّكليفِ كلَّها. و(إِذًا) جزاءٌ وجوابٌ؛ فدَلَّ على انتفاءِ اهتدائِهم لدعوةِ الرَّسولِ، بمعنى أنَّهم جَعَلوا ما يجِبُ أنْ يكونَ سبَبَ وُجودِ الاهتداءِ سببًا في انتفائِه، وعلى أنَّه جوابٌ للرَّسولِ، على تَقديرِ قولِه: ما لي لا أدْعوهم حِرْصًا على إسلامِهم؟ فقيل: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا .
     - قولُه: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا وهذا من العامِّ، والمُرادُ به الخُصوصُ، وهو مَن طبَعَ اللهُ على قلْبِه وقَضى عليه بالمُوافاةِ على الكُفْرِ؛ إذ قدِ اهتدى كثيرٌ من الكَفرةِ وآمَنوا، ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك حُكمًا على الجميعِ، وفي تَقييدِه بالأبديَّةِ مُبالَغةٌ في انتفاءِ هِدايتِهم .
     - قولُه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا... قاله هنا بالفاءِ الدَّالَّةِ على التَّعقيبِ؛ لأنَّ ما هنا في الأحياءِ من الكفَّارِ؛ فإنَّهم ذُكِّروا فأعْرَضوا عَقِبَ ما ذُكِّروا، وقاله في السَّجدةِ بـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ على التَّراخي؛ لأنَّ ما هناك في الأمواتِ من الكُفَّارِ؛ فإنَّهم ذُكِّروا مرَّةً بعْدَ أُخرى، ثمَّ أعْرَضوا بالموتِ فلم يُؤْمِنوا .
2- قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا
وجَّه الخِطابَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، مُفتتِحًا باستحضارِ الجَلالةِ بعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ؛ إيماءً إلى أنَّ مَضمونَ الخبرِ تكريمٌ له، كقولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] .
     - في قولِه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ أورَدَ المغفرةَ على صِيغَةِ المُبالَغةِ دُونَ الرَّحمةِ؛ للتَّنبيهِ على كثرةِ الذُّنوبِ. وتَقديمُ الوصْفِ الأوَّلِ؛ لأنَّ التَّخليةَ قبْلَ التَّحليةِ، أو لأنَّه أهمُّ بحسَبِ الحالِ؛ إذ المَقامُ مَقامُ بَيانِ تأخُّرِ العُقوبةِ عنهم بعدَ استيجابِهم لها .
     - قولُه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ خُصَّ بالذِّكرِ من أسماءِ اللهِ تعالى اسمُ (الغفورِ)؛ تَعريضًا بالتَّرغيبِ في الاستغفارِ. و(الغفورُ) اسمٌ يتضمَّنُ مُبالغةَ الغُفرانِ؛ لأنَّه تعالى واسعُ المغفرةِ؛ إذ يغفِرُ لمَن لا يُحْصَونَ، ويغفِرُ ذُنوبًا لا تُحْصى إنْ جاءه عبْدُه تائبًا مُقلِعًا مُنكسِرًا، على أنَّ إمهالَه الكُفَّارَ والعُصاةَ هو أيضًا من أثرِ المغفرةِ؛ إذ هو مَغفرةٌ مُؤقَّتةٌ. وقولُه: ذُو الرَّحْمَةِ هو المقصودُ تمهيدًا لجُملةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا؛ فلذلك كانت تلك الجُملةُ بَيانًا لجُملةِ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، باعتبارِ الْغَفُورُ الخبَرَ، وهو الوصْفُ الثَّاني. والمعنى: أنَّهم فيما كَسَبوه من الشِّركِ والعِنادِ أحرياءُ بتَعجيلِ العُقوبةِ، لكنَّ اللهَ يُمْهِلُهم إلى أمدٍ معلومٍ مُقدَّرٍ. وفي ذلك التَّأجيلِ رحمةٌ بالنَّاسِ، بتَمكينِ بعضِهم من مُهْلَةِ التَّدارُكِ وإعادةِ النَّظرِ، وفيه استبقاؤُهم على حالِهم زمنًا. فوصف ذُو الرَّحْمَةِ يساوي وصف (الرحيم)؛ لأن (ذو) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه. وإنما عدل عن وصف (الرحيم) إلى ذُو الرَّحْمَةِ؛ للتنبيه على أنَّه خبر لا نعت تنبيهًا بطريقة تغيير الأسلوب؛ فإنَّ اسم (الرَّحيم) -مع كونِه مُشتَقًّا ومُتضمِّنًا لصِفةٍ- صارَ شَبيهًا بالأسماءِ الجامدة؛ لأنَّه صِيغَ بصِيغةِ الصِّفةِ المُشبَّهةِ؛ فبَعُدَ عن مُلاحظةِ الاشتقاقِ فيه، واقترَبَ مِن صِنفِ الصِّفةِ الذَّاتيةِ .
     - في قولِه: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ أُوثِرَتِ المُؤاخذةُ -المُنْبِئةُ عن شِدَّةِ الأخْذِ بسُرعةٍ- على التَّعذيبِ والعُقوبةِ ونحوِهما؛ للإيذانِ بأنَّ النَّفيَ المُستفادَ من مُقدمِ الشَّرطيَّةِ مُتعلِّقٌ بوصْفِ السُّرعةِ، كما يُنبِئُ عنه تاليها. وإيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ -وإنْ كان المعنى على المُضِيِّ-؛ لإفادةِ أنَّ انتفاءَ تَعجيلِ العذابِ لهم بسبَبِ استمرارِ عدَمِ إرادةِ المُؤاخَذةِ؛ فإنَّ المُضارِعَ الواقعَ موقعَ الماضي يُفيدُ استمرارَ انتفاءِ الفعْلِ فيما مَضى .
     - جُملةُ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ معطوفةٌ على مُقدَّرٍ، كأنَّه قيل: لكنَّهم ليسوا بمُؤاخَذينَ بغْتةً... .
     - قولُه: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (بل) للإضرابِ الإبطاليِّ عن مَضمونِ جوابِ (لو)، أي: لم يُعَجِّلْ لهم العذابَ؛ إذ لهم موعدٌ للعذابِ مُتأخِّرٌ، وهذا تَهديدٌ بما يحصُلُ لهم، وأكَّدَ النَّفيَ بـ (لن)؛ رَدًّا على إنكارِهم؛ إذ هم يحْسَبون أنَّهم مُفلِتونَ من العذابِ حين يَرَون أنَّه تأخَّرَ مُدَّةً طويلةً، أي: لأنْ لا ملجَأَ لهم من العذابِ دُونَ وقْتِ وعْدِه أو مكانِ وعْدِه، فهو ملْجَؤُهم. وهذا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه، أي: هم غيرُ مُفلِتينَ منه .
3- قولُه تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا
     - قولُه: لَمَّا ظَلَمُوا فيه إشعارٌ بعِلَّةِ الإهلاكِ، وهي الظُّلمُ، ففيه تَحذيرٌ من الظُّلمِ؛ إذ نَتيجتُه الإهلاكُ . وفيه ترْكُ المفعولِ، وهو إمَّا لتَعميمِ الظُّلمِ، أو لتَنزيلِه منزلةَ اللَّازمِ، أي: لمَّا فَعَلوا الظُّلمَ .