موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (57-59)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

أَكِنَّةً: أي: أغطيةً، جمعُ كِنانٍ، وهو الغِطاءُ، وأصلُ (كنن): يدلُّ على سترٍ وصونٍ [940] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/123)، ((المفردات)) للراغب (ص: 612، 727).   .
وَقْرًا: أي: ثِقَلًا، وصممًا، وأصلُ (وقر): يدلُّ على ثِقَلِ الشيءِ [941] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، ((المفردات)) للراغب (ص: 70، 88)، ((تفسير القرطبي)) (14/57)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 336).   .
مَوْئِلًا: أي: مَلْجَأً؛ يُقال: وَأَلَ فلانٌ إلى كذا: إذا لجأ، وأصلُ (وأل): يدُلُّ على تجَمُّعٍ والتِجاءٍ [942] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 269)، ((تفسير ابن جرير)) (15/304)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس(6/79)، ((المفردات)) للراغب (1/99).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبينًا سوءَ عاقبةِ المعرضينَ: لا أحَدَ أشَدُّ ظُلمًا لِنَفسِه ممَّن وُعِظَ بآياتِ رَبِّه الواضِحةِ، فأعرضَ عنها، ونَسِيَ ما قدَّمَتْه يداه مِن السيِّئاتِ فلم يَرجِعْ عنها، ولم يَتُبْ إلى اللهِ منها، إنَّا جعَلْنا على قُلوبِهم أغطيةً، لئَلَّا يَفهَموا ما ذُكِّروا به منها، وجعَلْنا في آذانِهم ثِقلًا؛ لئلَّا يسمَعوه سماعَ انتفاعٍ، وإن تَدْعُهم إلى الحقِّ فلن يَستَجيبوا لك، ولن يَهتَدوا إليه أبدًا.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما يدلُّ على سعةِ رحمتِه، وعظيمِ فضلِه، فيقول: وربُّك الغفورُ لذُنوبِ عِبادِه إذا تابوا، ذو الرَّحمةِ بهم، لو أراد أن يُعاقِبَ هؤلاء المُعرِضينَ عن آياتِه بما كَسَبوا من الذُّنوبِ والآثامِ، لعجَّلَ لهم العذابَ في الدُّنيا، بل لهم مَوعِدٌ وأجلٌ مقدَّرٌ لعذابِهم إذا حلَّ لم يتأخَّرْ عنهم، ولن يَجِدوا مَلجَأً يَلجَؤون إليه مِنَ العذابِ، وتلك القُرى أهلَكْنا أهلَها حين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، وجعَلْنا لهلاكِهم مَوعِدًا مُقَدَّرًا.

تفسير الآيات:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن الكُفَّارِ جِدالَهم بالباطِلِ، وصَفَهم بعدَه بالصِّفاتِ المُوجِبةِ للخِزيِ والخِذلانِ [943] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/476).   .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُشرِكينَ مِن مُجادَلةِ الرُّسُلِ، ومِن استهزائِهم بالإنذارِ، وعرَّضَ بحَماقتِهم؛ أتبَعَ ذلك بأنَّه أشَدُّ الظُّلمِ [944] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (١٥/٣٥٤).   .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.
أي: ولا أحدَ أظلمُ لِنَفسِه ممَّن ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه [945] قال الشنقيطي: (لا أحدَ أظلَمُ، أي: أكثَرُ ظُلمًا لنَفسِه مِمَّنْ ذُكِّرَ، أي: وُعِظَ بآياتِ رَبِّه، وهي هذا القرآنُ العظيمُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا أي: تولَّى وصَدَّ عنها. وإنَّما قلنا: إنَّ المرادَ بالآياتِ: هذا القرآنُ العظيمُ؛ لقرينةِ تذكيرِ الضميرِ العائدِ إلى الآياتِ في قوله: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أي: القرآنَ المُعَبَّرَ عنه بالآياتِ، ويحتملُ شمولُ الآيات للقرآنِ وغيرِه، ويكونُ الضميرُ في قوله: أَنْ يَفْقَهُوهُ أي: ما ذُكِرَ مِن الآياتِ). ((أضواء البيان)) (3/309). وقال ابنُ عثيمين: (قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ أي: ذكَّرَه الواعِظُ بآياتِ ربِّه الكونيَّةِ، كأخْذِه الأمَمَ المكذِّبينَ، أو الشَّرعيةِ، كالقُرآنِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 102). وقال الشوكاني: (أي: لا أحدَ أظلمُ لنفسِه مِمَّنْ وُعِظَ بآياتِ رَبِّه التَّنزيلِيَّةِ أو التَّكوينِيَّةِ أو مجموعِهما). ((تفسير الشوكاني)) (3/350). التي تَدُلُّه على طريقِ الحَقِّ والنَّجاةِ مِن الهَلاكِ، فأعرضَ عنها، فلم يتدبَّرْها، ولم يتَّعِظْ ويتذكَّرْ بها، ونَسِيَ ما عَمِلَ مِن السيِّئاتِ مِن الكُفرِ والمعاصي، فلم يتفكَّرْ في عاقِبتِها، ولم يَتُبْ إلى اللهِ منها [946] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/303)، ((تفسير البيضاوي)) (3/285)، ((تفسير ابن كثير)) (5/172-173)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/90-91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/309). قال ابنُ عاشور: (ومعنى نسيانِ ما قَدَّمت يداه أنَّه لم يَعرِضْ حالَه وأعمالَه على النظَرِ والفِكرِ؛ لِيَعلمَ أهي صالحةٌ لا تُخشى عواقِبُها، أم هي سيِّئةٌ مِن شأنِها ألَّا يَسلَمَ مُقترِفُها من مؤاخذةٍ. والصلاحُ بَيِّنٌ والفسادُ بيِّنٌ؛ ولذلك سمِّيَ الأوَّلُ معروفًا، والثاني منكرًا، ولا سيَّما بعدَ أن جاءتهم الذِّكرى على لسانِ الرسولِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فهم بمجموعِ الحالَينِ أشدُّ الناسِ ظُلمًا، ولو تفكَّروا قليلًا لعَلِموا أنَّهم غيرُ مُفلِتينَ مِن لقاءِ جزاءِ أعمالِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (15/354). وقال أيضًا: (والنسيانُ: مُستعمَلٌ في التغاضي عن العَمَلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/355). وقال الشنقيطي: (اليدُ أكثَرُ مُزاولةً للأعمالِ مِن غيرِها من الأعضاءِ، فنُسِبَت الأعمالُ إليها على عادةِ العرَبِ في كلامِهم، وإن كانت الأعمالُ التي قدَّمها: منها ما ليس باليدِ، كالكُفرِ باللسانِ والقَلبِ، وغير ذلك من الأعمالِ التي لا تزاوَلُ باليدِ، كالزِّنا). ((أضواء البيان)) (3/310). .
كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] .
إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ.
أي: إنَّا جعَلْنا [947] قوله: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً قيل: إنه تعليلٌ لإعراضِهم ونِسيانِهم، وممن ذهَب إلى ذلك: البيضاوي، والبقاعي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/285)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/91-92)، ((تفسير الشوكاني)) (3/350)، ((تفسير القاسمي)) (7/45). قال القاسمي: (والجملةُ تعليلٌ لإعراضِهم ونسيانِهم، بأنَّهم مطبوعٌ على قلوبِهم؛ وذلك لإيثارِهم الضَّلالَ على الهدى، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). ((تفسير القاسمي)) (7/45). وقد دلَّت آياتٌ كثيرةٌ على أنَّ الأكنَّةَ والطبعَ والختمَ ونحوَ ذلك سَبَبُه الأوَّلُ الإعراضُ عن آياتِ اللَّهِ، والكفرُ بها. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481). وقال ابن القيم: (قال: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 46] ، وهذه الأكِنَّةُ والوَقرُ: هي شِدَّةُ البُغضِ والنُّفرةِ والإعراضِ، التي لا يستطيعون معها سمعًا ولا عقلًا، والتحقيقُ أنَّ هذا ناشئٌ عن الأكِنَّة والوَقرِ فهو موجِبُ ذلك ومقتضاه، فمن فسَّر الأكِنَّةَ والوَقْرَ به، فقد فسَّرَهما بموجِبِهما ومقتضاهما. وبكُلِّ حال فتلك النُّفرةُ والإعراضُ والبُغضُ: من أفعالِهم، وهي مجعولةٌ لله سبحانه، كما أنَّ الرأفةَ والرحمةَ ومَيلَ الأفئدةِ إلى بيتِه: هو مِن أفعالِهم، والله جاعِلُه، فهو الجاعِلُ للذواتِ وصفاتِها وأفعالِها، وإراداتِها واعتقاداتِها، فذلك كلُّه مجعولٌ مخلوقٌ له، وإن كان العبدُ فاعِلًا له باختيارِه وإرادتِه). ((شفاء العليل)) (ص: 56). على قُلوبِ هؤلاء المُعرِضينَ عن آياتِ اللهِ إذا ذُكِّروا بها أغطيةً؛ لئَلَّا يَفهَموا ما ذُكِّروا به منها، ولا يُدرِكوا معانيَها إدراكًا ينتَفِعونَ به [948] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/303)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 93)، ((تفسير ابن كثير)) (5/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/311، 313). ممَّن أعاد الضميرَ في قولِه تعالى: يَفْقَهُوهُ إلى القرآنِ: ابنُ تيميةَ، وابنُ كثيرٍ، والبقاعي، والشنقيطي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/284)، ((تفسير ابن كثير)) (5/173)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/92)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/309)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 104). قال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه: أَنْ يَفْقَهُوهُ يتناولُ مَن لم يفهَمْ منه تفسيرَ اللَّفظِ كما يُفهَمُ بمجَرَّد العربيةِ، ومَن فَهِمَ ذلك لكِنْ لم يعلَمْ نَفسَ المرادِ في الخارجِ، وهو: «الأعيان» و«الأفعال» و«الصفات» المقصودةُ بالأمرِ والخبر؛ بحيث يراها ولا يعلَمُ أنَّها مدلولُ الخِطابِ، مِثلُ: مَن يعلَمُ وَصفًا مذمومًا ويكونُ هو متَّصِفًا به أو بعضًا مِن جِنسِه، ولا يعلَمُ أنَّه داخِلٌ فيه). ((مجموع الفتاوى)) (16/9). وقال ابنُ القَيِّم في نظيرِ هذه الآيةِ من سورةِ الإسراءِ، الآية (46): (أخبر سبحانَه أنَّه منَعَهم فِقهَ كَلامِه، وهو الإدراكُ الذي يَنتفِعُ به من فَقِهَه، ولم يكن ذلك مانعًا لهم من الإدراكِ الذي تقومُ به الحجَّةُ عليهم... ومعلومٌ أنَّهم لم يَعدَموا السَّمعَ جملةً ويصيروا كالأصَمِّ؛ ولذلك ينفي سُبحانَه عنهم السَّمعَ تارةً، ويُثبِتُه أخرى؛ قال الله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23] ، ومعلومٌ أنهم قد سمعوا القرآنَ، وأَمَرَ الرَّسولَ بإسماعِهم إيَّاه؛ وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] ، فهذا السَّمعُ المنفيُّ عنهم سَمعُ الفَهمِ والفِقهِ. والمعنى: ولو عَلِمَ الله فيهم خيرًا لأسمَعَهم سمعًا ينتَفِعونَ به، وهو فِقهُ المعنى وعَقلُه، وإلَّا فقد سمعوه سمعًا تقومُ به عليهم الحُجَّةُ، ولكِنْ لَمَّا سَمِعوه مع شِدَّةِ بُغضِه وكراهتِه ونُفرتِهم عنه، لم يفهَموه!). ((مفتاح دار السعادة)) (1/101-102).   .
كما قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] .
وقال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23] .
وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا.
أي: وجعَلْنا في آذانِ المُعرِضينَ عن آياتِ اللهِ ثِقلًا؛ لئلَّا يَسمَعوا آياتِه سَماعَ فَهمٍ وانتِفاعٍ بها [949] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/303)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 56)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/92)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/311).   .
وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا.
أي: وإن تَدعُهم -يا مُحمَّدُ- إلى طريقِ الحَقِّ، فلن يَسلُكوه أبدًا؛ لإعراضِهم، وطبْعِ اللهِ على قُلوبِهم وأسماعِهم [950] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/303)، ((تفسير القرطبي)) (11/7)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 104). قال السعدي: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] ؛ لأنَّ الذي يُرجى أن يُجيبَ الدَّاعيَ للهُدى مَن ليس عالِمًا، وأما هؤلاء الذين أبصروا ثمَّ عَمُوا، ورأوا طريقَ الحَقِّ فتَرَكوه، وطريقَ الضَّلالِ فسَلَكوه، وعاقَبَهم الله بإقفالِ القلوبِ والطبعِ عليها: فليس في هدايتِهم حيلةٌ ولا طريقٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 481). وقال الشنقيطي: (هذه الآيةُ وأمثالُها في القرآنِ فيها وجهانِ معروفانِ عندَ العلماءِ: أحدُهما: أنَّها في الذين سبَق لهم في علمِ الله أنَّهم أشقياءُ، عياذًا بالله تعالى. والثاني: أنَّ المرادَ أنهم كذلك ما داموا متلبِّسينَ بالكفرِ، فإنْ هداهم الله إلى الإيمانِ وأنابوا زال ذلك المانِعُ. والأوَّلُ أظهَرُ، والعِلمُ عندَ الله تعالى). ((أضواء البيان)) (3/314). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96- 97] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 80- 81] .
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ مِن عادةِ القُرآنِ تَعقيبَ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ والعكس، فلمَّا رماهم بقوارعِ التَّهديدِ والوعيدِ؛ عطَفَ على ذلك التَّعريضَ بالتذكيرِ بالمغفرةِ؛ لعلَّهم يتفَكَّرونَ في مرضاتِه؛ ثمَّ التَّذكيرَ بأنَّه يَشمَلُ الخَلقَ برَحمتِه في حينِ الوعيدِ، فيؤخِّرُ ما توعَّدَهم به إلى حَدٍّ معلومٍ؛ إمهالًا للنَّاسِ لعلَّهم يَرجِعونَ عن ضلالِهم، ويتدبَّرونَ فيما هم فيه مِن نِعَمِ الله تعالى؛ فلعَلَّهم يَشكُرونَ [951] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (١٥/٣٥6).   .
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ.
أي: وربُّك -يا مُحمَّدُ- كثيرُ السَّترِ على ذُنوبِ عِبادِه، والتَّجاوُزِ عن مؤاخَذتِهم بها، وهو الرَّحيمُ بهم [952] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/357)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/316). قال الرسعني: (ذُو الرَّحْمَةِ بهم إذ لم يُعاجِلْهم بالعقوبةِ). ((تفسير الرسعني)) (4/310). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/350). وقال الشنقيطي: (ذُو الرَّحْمَةِ: يرحَمُ عبادَه المؤمنينَ يومَ القيامةِ، ويرحمُ الخلائقَ في الدُّنيا). ((أضواء البيان)) (3/316). .
لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ.
أي: لو أراد اللهُ أن يُعاقِبَ هؤلاء الكفارَ، المُعرِضينَ عن آياتِه، بما عَمِلوا من الذُّنوبِ والآثامِ التي من جُملتِها: الكُفرُ، والمُجادلةُ، والإعراضُ؛ لعجَّلَ لهم العذابَ في الدُّنيا، ولكِنَّه تعالى لاتِّصافِه بالمغفرةِ والرَّحمةِ، ترَكَ معاجَلَتَهم [953] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/592)، ((تفسير ابن جرير)) (15/304)، ((تفسير البغوي)) (3/201)، ((تفسير ابن عطية)) (3/526)، ((تفسير القرطبي)) (11/7)، ((تفسير الشوكاني)) (3/350، 351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/357)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/316)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 105). وممن اختار المعنَى المذكورَ، وهو أنَّ الضميرَ في قولِه: يُؤَاخِذُهُمْ يعودُ على الكفارِ: ابنُ جريرٍ، والبغوي، وابنُ عطيةَ، وهو ظاهرُ اختيارِ الشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/304)، ((تفسير البغوي)) (3/201)، ((تفسير ابن عطية)) (3/526)، ((تفسير الشوكاني)) (3/350، 351). وممن اختار أنَّه يعودُ على الناسِ: السعدي، والشنقيطي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/316)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 105). .
كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] .
بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.
أي: ولكنْ لهم مَوعِدٌ [954] قيل: المرادُ بالموعدِ هنا: يومُ القيامةِ. وممن قال بذلك: البغوي، والخازنُ، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ كثيرٍ، واختاره ابنُ عثيمين. ونسَبه الواحدي إلى المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/201)، ((تفسير الخازن)) (3/169)، ((تفسير ابن كثير)) (5/173)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 106)، ((البسيط)) للواحدي (14/62). وممن قال مِن السلفِ: إنَّ الموعدَ هنا يومُ القيامةِ: السديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2369). وقيل: المرادُ به: يومُ بدرٍ. وممن اختار ذلك: ابنُ جريرٍ، والزمخشري، والنسفي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/304)، ((تفسير الزمخشري)) (2/730)، ((تفسير النسفي)) (2/308). قال ابنُ عطيةَ: (ولكِنَّه تعالى أخَّرَهم إلى موعدٍ لا يجِدون عنه منجًى، قالت فرقةٌ: هو أجَلُ الموتِ، وقالت فرقةٌ: هو عذاب الآخرة، وقال الطبري: هو يومُ بدرٍ ...). ((تفسير ابن عطية)) (3/526). وقال القرطبي: (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ أي: أجَلٌ مقَدَّرٌ يؤخَّرون إليه، أي: إذا حَلَّ لم يتأخَّرْ عنهم إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة). ((تفسير القرطبي)) (11/7-8). وقال القاسمي: (الموعدُ المذكورُ هو يومُ بدرٍ، أو: الفتحُ المشارُ إليه في كثيرٍ مِن الآياتِ، أو: يومُ القيامةِ. والكلُّ لاحقٌ بهم). ((تفسير القاسمي)) (7/46). وقال ابنُ عثيمين: (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] ، أي: مكانًا يَؤولون إليه، وهذا يومُ القيامةِ، ويحتَمِلُ أن يكونَ ما يحصُلُ للكُفَّارِ مِن القَتلِ على أيدي المؤمنينَ، كما قال عزَّ وجلَّ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة: 14، 15] إذًا يحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ ما سيكونُ عليهم من القَتلِ والأخذِ في الدنيا، أو ما سيكونُ عليهم يوم القيامة الذي لا مفَرَّ منه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 106). مَضروبٌ، وأجلٌ مقدَّرٌ لعذابِهم [955] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/351).   ، يُؤَخِّرُهم اللهُ إليه، ولن يَجِدوا مَلجَأً يَلجَؤون إليه مِنَ العذابِ [956] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/304)، ((الهداية)) لمكي (6/4414)، ((البسيط)) للواحدي (14/62)، ((تفسير ابن عطية)) (3/526)، ((تفسير القرطبي)) (11/7، 8)، ((تفسير الخازن)) (3/169)، ((تفسير ابن كثير)) (5/173)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/93-94)، ((تفسير القاسمي)) (7/46)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/317)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 106).   .
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعد أن أُزيلَ غُرورُ الكافِرينَ بتأخُّرِ العذابِ، وأُبطِلَ ظَنُّهم الإفلاتَ منه ببيانِ أنَّ ذلك إمهالٌ مِن أثَرِ رَحمةِ الله بخَلقِه؛ ضرَبَ لهم المثَلَ في ذلك بحالِ أهلِ القُرى السَّالفينَ الذين أُخِّرَ عنهم العذابُ مُدَّةً، ثمَّ لم يَنجُوا منه بأَخَرَةٍ، فالجُملةُ معطوفةٌ على جُملةِ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ [957] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (١٥/٣٥8).  
وأيضًا لَمَّا كانت هذه سُنَّتَه في القُرونِ الماضيةِ والأُمَمِ الخالية؛ قال تعالى عاطِفًا على قَولِه: لَهُمْ مَوْعِدٌ مُرَوِّعًا لهم بالإشارةِ إلى ديارِهم، المُصَوِّرةِ لدمارِهم [958] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/94).   :
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا.
أي: وتلك قُرى قَومِ نُوحٍ، وهُودٍ، وصالحٍ، وشُعَيبٍ، ولوطٍ، وغيرِهم من الأُمَمِ الماضيةِ؛ أهلَكْنا أهلَها لَمَّا ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي [959] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/306)، ((تفسير السمرقندي)) (2/352)، ((تفسير البغوي)) (3/202)، ((تفسير البيضاوي)) (3/286)، ((تفسير ابن كثير)) (5/173)، ((تفسير الشوكاني)) (3/351).   .
كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 37 - 39].
وقال سُبحانَه: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 100 - 102] .
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا.
أي: وجعَلْنا لوَقتِ إهلاكِ القُرى الظَّالِمةِ مِيقاتًا مَعلومًا ومَوعِدًا مُقَدَّرًا لا يُتقَدَّمُ عنه ولا يُتأخَّرُ [960] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/306)، ((تفسير القرطبي)) (11/8)، ((تفسير ابن كثير)) (5/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 481)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/358)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/319). قال البقاعي: (كما أنَّا جعَلْنا لهؤلاء موعِدًا في الدنيا بيومِ بدرٍ والفتحِ وحُنَينٍ ونحوِ ذلك، وفي الآخرةِ لن نُخلِفَه، وكذا كُلُّ أمرٍ يقولُه نبيٌّ من الأنبياءِ عَنَّا لا يقَعُ فيه خُلفٌ). ((نظم الدرر)) (12/94).  
كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا فيه مِنَ التَّخويفِ لِمَن ترَكَ الحَقَّ بعد عِلْمِه؛ أن يُحالَ بينَهم وبينَه، ولا يتمَكَّنَ منه بعدَ ذلك، ما هو أعظَمُ مُرَهِّبٍ وزاجرٍ عن ذلك [961] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٠).   .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ حَثٌّ على فِقْهِ القرآنِ، وأنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يقرأَ القرآنَ، ويَتَعَلَّمَ معناه، كما كان الصَّحابةُ -رضوانُ الله عليهم- لا يتجاوَزونَ عَشرَ آياتٍ حتى يتعَلَّموها وما فيها مِن العِلمِ والعَمَلِ [962] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 104).   ؛ فقَولُه: أَنْ يَفْقَهُوهُ يعودُ إلى القرآنِ كُلِّه، فعُلِمَ أنَّ الله يحِبُّ أن يُفقَهَ؛ ولهذا قال الحسَنُ البَصريُّ: (ما أنزل اللهُ آيةً إلَّا وهو يحِبُّ أن يُعلَمَ في ماذا أنزِلَت وماذا عَنى بها، وما استَثنى مِن ذلك لا مُتَشابِهًا ولا غيرَه). وقال مجاهِدٌ: (عرَضْتُ المُصحَفَ على ابنِ عبَّاسٍ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه مرَّاتٍ، أقِفُ عند كلِّ آيةٍ وأسألُه عنها) [963] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/284).   .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ أخبَرَ تعالى عن سَعةِ مَغفِرتِه ورَحمتِه، وأنَّه يَغفِرُ الذُّنوبَ، ويتوبُ اللهُ على من يتوبُ، فيتغَمَّدُه برَحمتِه، ويَشمَلُه بإحسانِه، وأنَّه لو آخَذَ العِبادَ على ما قَدَّمَت أيديهم من الذُّنوبِ، لعجَّلَ لهم العذابَ، ولكِنَّه تعالى حليمٌ لا يَعجَلُ بالعقوبةِ، بل يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، والذنوبُ لا بُدَّ مِن وقوع آثارِها وإن تأخَّرَت عنها مُدَّةً طويلةً؛ ولهذا قال تعالى: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [964] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٠).   .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا فيه تحذيرٌ مِن الظُّلمِ؛ إذ نتيجتُه الإهلاكُ [965] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (٧/١٩٥).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ يُخبِرُ تعالى أنَّه لا أعظَمَ ظُلمًا، ولا أكبَرَ جُرمًا، مِن عَبدٍ ذُكِّرَ بآياتِ اللهِ وبُيِّنَ له الحَقُّ مِن الباطِلِ، والهدَى مِنَ الضَّلالِ، وخُوِّفَ ورُهِّبَ ورُغِّبَ؛ فأعرض عنها، فلم يتذكَّرْ بما ذُكِّرَ به، ولم يَرجِعْ عمَّا كان عليه، ونَسِي ما قَدَّمَت يداه مِن الذُّنوبِ، ولم يُراقِبْ علَّامَ الغُيوبِ؛ فهذا أعظَمُ ظُلمًا مِن المُعرِضِ الذي لم تأتِه آياتُ الله ولم يُذَكَّرْ بها، وإن كان ظالِمًا، فإنَّه أخَفُّ ظُلمًا مِن هذا؛ لكَونِ العاصي على بصيرةٍ وعلمٍ أعظَمَ مِمَّن ليس كذلك [966] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 481).   .
2- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ يُفهَمُ منها خِلافُ هذا، كقَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وقَولِه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 144] ، وقَولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ [الزمر: 32] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.
وللجَمعِ بين هذه الآياتِ أوجهٌ:
منها: تخصيصُ كُلِّ موضِعٍ بمعنى صِلتِه، أي: لا أحَدَ مِن المانعينَ أظلَمُ ممَّن منع مساجِدَ الله، ولا أحدَ مِن المُفتَرين أظلَمُ ممَّن افترى على الله كَذِبًا، وإذا تخصَّصَت بِصِلاتِها زال الإشكالُ.
ومنها: أنَّ التَّخصيصَ بالنِّسبةِ إلى السَّبقِ، أي: لَمَّا لم يسبِقْهم أحدٌ إلى مِثلِه حُكِمَ عليهم بأنَّهم أظلَمُ ممَّن جاء بعدَهم سالِكًا طريقَهم، وهذا يَؤولُ معناه إلى ما قبلَه؛ لأنَّ المرادَ السَّبقُ إلى المانعيَّةِ والافترائيَّةِ مَثلًا.
ومنها: أنَّ نَفيَ التَّفضيلِ لا يَستلزِمُ نَفيَ المساواةِ؛ فلم يكُنْ أحدٌ ممَّن وُصِفَ بذلك يزيدُ على الآخَرِ؛ لأنَّهم يتساوَونَ في الأظلميَّةِ، فيصيرُ المعنى: لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن منَعَ مساجِدَ الله، ومَن افترى على الله كَذِبًا، ومَن كذَّب بآياتِ اللهِ، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّةِ، ولا يدُلُّ على أنَّ أحَدَهم أظلَمُ مِن الآخَرِ، كما إذا قُلْتَ: لا أحَدَ أفقَهُ مِن فلانٍ وفلانٍ مثلًا [967] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 21)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/310-311). ويُنظر أيضًا: ((الإتقان)) للسيوطي (3/97). قال ابنُ عثيمينَ بعد أن ذكر الوجهَ الأوَّلَ: (وقيل: إنَّ «أظلم» و«أظلم» يشتركانِ في الأظلميَّةِ ويتساويانِ فيها بالنسبةِ لغيرِهما، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يمكِنُ أن نقول: إنَّ مَن ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه فأعرض عنها أنَّه يُساوي مَن افترى على الله كَذِبًا، أو مَن منع مساجِدَ الله أن يُذكَرَ فيها اسمُه يُساوي من كَذَب على الله، ونحو ذلك). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 102).   .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا إنْ قيل: إذا كانوا لا يستطيعونَ السَّمعَ ولا يُبصِرون ولا يَفقَهون؛ لأنَّ الله جعل الأكِنَّةَ المانعةَ مِن الفَهمِ على قلوبِهم، والوَقْرَ -الذي هو الثِّقلُ المانِعُ من السَّمعِ- في آذانِهم، فهم مجبورونَ، فما وجهُ تعذيبِهم على شيءٍ لا يستطيعونَ العُدولَ عنه، والانصرافَ إلى غيره؟!
فالجواب: أنَّ الله جَلَّ وعلا بيَّنَ في آياتٍ كثيرةٍ مِن كتابِه العظيمِ أنَّ تلك الموانِعَ التي يجعَلُها على قُلوبِهم وسَمعِهم وأبصارِهم، كالخَتمِ والطَّبعِ، والغِشاوةِ والأكِنَّة، ونحو ذلك: إنما جعَلَها عليهم جزاءً وِفاقًا لِما بادروا إليه من الكُفرِ وتكذيبِ الرُّسُلِ باختيارِهم، فأزاغ اللهُ قُلوبَهم بالطَّبعِ والأكِنَّةِ ونحوِ ذلك؛ جزاءً على كُفرِهم. فمن الآياتِ الدالَّةِ على ذلك قولُه تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، أي: بسبَبِ كُفرِهم، وهو نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ في أنَّ كُفرَهم السَّابِقَ هو سبَبُ الطبعِ على قلوبِهم؛ وقَولُه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ، وهو دليلٌ أيضًا واضِحٌ على أنَّ سَبَبَ إزاغةِ الله قُلوبَهم هو زيغُهم السَّابِقُ؛ وقولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المنافقون: 3] ، وقَولُه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقَولُه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ، وقَولُه تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ الطبعَ على القُلوبِ، ومَنْعَها مِن فَهمِ ما ينفَعُ: عِقابٌ مِن اللهِ على الكُفرِ السَّابِقِ على ذلك [968] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/311).   .
4- قال الله تعالى: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا إنْ قال قائِلٌ: هل في هذا تيئيسٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أنَّه وإن دعا لا يُقبَلُ منه، أو فيه تَسليةٌ له؟
فالجواب: في هذا تسليةٌ له، وأنَّهم إذا لم يَقبَلوا الحَقَّ فلا عليك منهم؛ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [969] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 105).   .
5- قَولُه تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ هذا فيه تسليةٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يمكِنُ أن يقولَ: لماذا لم يُعاجَلوا بالعُقوبةِ، كيف يُكَذِّبونَني وأنا رسولُ الله ولم يعاقِبْهم؟! ولكِنْ بَيَّنَ اللهُ له أنَّه هو الْغَفُورُ أي: الذي يستُرُ الذنوبَ ويتجاوَزُ عنها، ذُو الرَّحْمَةِ أي: صاحِبُ الرَّحمةِ الذي يلطُفُ بالمُذنبِ؛ ولهذا قال: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ يعني: لو أراد اللهُ أن يؤاخِذَ النَّاسَ بما كسبوا، لعجَّلَ لهم العذابَ [970] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 105).   .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ إن قيل: ظاهِرُ هذه الآيةِ يَقتضي أنَّ تأخيرَ العَذابِ عن الكُفَّارِ برحمةِ الله، ومعلومٌ أنَّه لا نَصيبَ لهم في رَحمتِه! فعنه جوابانِ:
أحدهما: أنَّ الرحمةَ هاهنا بمعنى النِّعمةِ، ونِعمةُ الله لا يخلو منها مؤمِنٌ ولا كافِرٌ، فأمَّا الرَّحمةُ التي هي الغُفرانُ والرِّضا، فليس للكافِرِ فيها نصيبٌ.
والثاني: أنَّ رحمةَ اللهِ مَحظورةٌ على الكُفَّارِ يومَ القيامةِ، فأمَّا في الدُّنيا فإنَّهم ينالونَ منها العافيةَ والرِّزقَ [971] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/93).   .
7- في قولِه تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا قد يقولُ قائِلٌ: هنا إشكالٌ: فإنَّ القُرى جمادٌ، والجَمادُ لا يعودُ عليه الضميرُ بصيغةِ الجَمعِ، فمثلًا يقال: هذه البيوتُ عَمَّرْناها، ولا يقال: عَمَّرْناهم،  فلماذا قال: أَهْلَكْنَاهُمْ؟
فالجواب: لأنَّ الذي يَهلِكُ هم أهلُ القرى، فالقرى قد يراد بها أهلُها، وقد يُراد بها البِناءُ المجتَمِعُ [972] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 106).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا
     - قولُه: فَأَعْرَضَ عَنْهَا عطْفُ إعراضِهم عن الذِّكرِ على التَّذكيرِ بفَاءِ التَّعقيبِ: إشارةٌ إلى أنَّهم سارعوا بالإعراضِ، ولم يَتْركوا لأنفُسِهم مُهلةَ النَّظرِ والتَّأمُّلِ [973] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/354).   .
     - في قولِه: فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً علَّلَ إعراضَهم ونِسيانَهم بأنَّهم مَطبوعٌ على قُلوبِهم، وجمَعَ بعْدَ الإفرادِ؛ حمْلًا على لفْظِ (مَن) ومعناهُ [974] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/730)، ((تفسير البيضاوي)) (3/285)، ((تفسير أبي السعود)) (5/230).   .
     - قولُه: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وأكثرُ ما يُستعمَلُ مثْلُ هذا التَّركيبِ في القُرآنِ في العملِ السَّيِّئِ، فصار جاريًا مَجْرى المثَلِ؛ قال تَعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10] ، وقال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [975] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/355).   [الشورى: 30] .
     - وجُملةُ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً مُستأنَفةٌ بَيانيَّةٌ، نشأَتْ على جُملةِ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أي: إنْ لم تعلَمْ سبَبَ نِسيانِه ما قدَّمَت يداهُ، فاعلَمْ أنَّا جعَلْنا على قُلوبِهم أكِنَّةً [976] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/355).   .
     - وعاد الضَّميرُ مُفردًا في قولِه: أَنْ يَفْقَهُوهُ؛ لأنَّ الآياتِ المُضافةَ إلى الرَّبِّ في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ هي القُرآنُ [977] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/729)، ((تفسير أبي حيان)) (7/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/355).   .
     - وجُملةُ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى عطْفٌ على جُملةِ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وهي مُتفرِّعةٌ عليها، ولكنَّها لم تُعْطَفْ بالفاءِ؛ لأنَّ المقصودَ جَعْلُ ذلك في الإخبارِ المُستقِلِّ. وأكَّدَ نفْيَ اهتدائِهم بحرْفِ تَوكيدِ النَّفيِ وهو (لن)، وبلفظِ (أبدًا) المُؤكِّدِ لمَعنى (لن)، وبحرْفِ الجزاءِ المُفيدِ تسبُّبَ الجوابِ على الشَّرطِ. وإنَّما حصَلَ معنى الجزاءِ باعتبارِ تفرُّعِ جُملةِ الشَّرطِ على جُملةِ الاستئنافِ البَيانيِّ، أي: ذلك مُسبَّبٌ على فطْرِ قُلوبِهم على عدَمِ قَبولِ الحقِّ [978] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/356).   .
     - قولُه: فَلَنْ يَهْتَدُوا، أي: فلا يكونُ منهم اهتداءٌ الْبتَّةَ، كأنَّه مُحالٌ منهم؛ لشِدَّةِ تَصميمِهم، أَبَدًا مُدَّةَ التَّكليفِ كلَّها. و(إِذًا) جزاءٌ وجوابٌ؛ فدَلَّ على انتفاءِ اهتدائِهم لدعوةِ الرَّسولِ، بمعنى أنَّهم جَعَلوا ما يجِبُ أنْ يكونَ سبَبَ وُجودِ الاهتداءِ سببًا في انتفائِه، وعلى أنَّه جوابٌ للرَّسولِ، على تَقديرِ قولِه: ما لي لا أدْعوهم حِرْصًا على إسلامِهم؟ فقيل: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا [979] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/730)، ((تفسير أبي السعود)) (5/230).   .
     - قولُه: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا وهذا من العامِّ، والمُرادُ به الخُصوصُ، وهو مَن طبَعَ اللهُ على قلْبِه وقَضى عليه بالمُوافاةِ على الكُفْرِ؛ إذ قدِ اهتدى كثيرٌ من الكَفرةِ وآمَنوا، ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك حُكمًا على الجميعِ، وفي تَقييدِه بالأبديَّةِ مُبالَغةٌ في انتفاءِ هِدايتِهم [980] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/195).   .
     - قولُه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا... قاله هنا بالفاءِ الدَّالَّةِ على التَّعقيبِ؛ لأنَّ ما هنا في الأحياءِ من الكفَّارِ؛ فإنَّهم ذُكِّروا فأعْرَضوا عَقِبَ ما ذُكِّروا، وقاله في السَّجدةِ بـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ على التَّراخي؛ لأنَّ ما هناك في الأمواتِ من الكُفَّارِ؛ فإنَّهم ذُكِّروا مرَّةً بعْدَ أُخرى، ثمَّ أعْرَضوا بالموتِ فلم يُؤْمِنوا [981] يُنظر: ((فتح الرحمن)) لزكريا الأنصاري (ص: 344). ويُنظر أيضًا: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 876-877)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 169-170).   .
2- قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا
وجَّه الخِطابَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، مُفتتِحًا باستحضارِ الجَلالةِ بعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ؛ إيماءً إلى أنَّ مَضمونَ الخبرِ تكريمٌ له، كقولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [982] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/356).   [الأنفال: 33] .
     - في قولِه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ أورَدَ المغفرةَ على صِيغَةِ المُبالَغةِ دُونَ الرَّحمةِ؛ للتَّنبيهِ على كثرةِ الذُّنوبِ. وتَقديمُ الوصْفِ الأوَّلِ؛ لأنَّ التَّخليةَ قبْلَ التَّحليةِ، أو لأنَّه أهمُّ بحسَبِ الحالِ؛ إذ المَقامُ مَقامُ بَيانِ تأخُّرِ العُقوبةِ عنهم بعدَ استيجابِهم لها [983] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/231).   .
     - قولُه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ خُصَّ بالذِّكرِ من أسماءِ اللهِ تعالى اسمُ (الغفورِ)؛ تَعريضًا بالتَّرغيبِ في الاستغفارِ. و(الغفورُ) اسمٌ يتضمَّنُ مُبالغةَ الغُفرانِ؛ لأنَّه تعالى واسعُ المغفرةِ؛ إذ يغفِرُ لمَن لا يُحْصَونَ، ويغفِرُ ذُنوبًا لا تُحْصى إنْ جاءه عبْدُه تائبًا مُقلِعًا مُنكسِرًا، على أنَّ إمهالَه الكُفَّارَ والعُصاةَ هو أيضًا من أثرِ المغفرةِ؛ إذ هو مَغفرةٌ مُؤقَّتةٌ. وقولُه: ذُو الرَّحْمَةِ هو المقصودُ تمهيدًا لجُملةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا؛ فلذلك كانت تلك الجُملةُ بَيانًا لجُملةِ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، باعتبارِ الْغَفُورُ الخبَرَ، وهو الوصْفُ الثَّاني. والمعنى: أنَّهم فيما كَسَبوه من الشِّركِ والعِنادِ أحرياءُ بتَعجيلِ العُقوبةِ، لكنَّ اللهَ يُمْهِلُهم إلى أمدٍ معلومٍ مُقدَّرٍ. وفي ذلك التَّأجيلِ رحمةٌ بالنَّاسِ، بتَمكينِ بعضِهم من مُهْلَةِ التَّدارُكِ وإعادةِ النَّظرِ، وفيه استبقاؤُهم على حالِهم زمنًا. فوصف ذُو الرَّحْمَةِ يساوي وصف (الرحيم)؛ لأن (ذو) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه. وإنما عدل عن وصف (الرحيم) إلى ذُو الرَّحْمَةِ؛ للتنبيه على أنَّه خبر لا نعت تنبيهًا بطريقة تغيير الأسلوب؛ فإنَّ اسم (الرَّحيم) -مع كونِه مُشتَقًّا ومُتضمِّنًا لصِفةٍ- صارَ شَبيهًا بالأسماءِ الجامدة؛ لأنَّه صِيغَ بصِيغةِ الصِّفةِ المُشبَّهةِ؛ فبَعُدَ عن مُلاحظةِ الاشتقاقِ فيه، واقترَبَ مِن صِنفِ الصِّفةِ الذَّاتيةِ [984] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/356-357).   .
     - في قولِه: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ أُوثِرَتِ المُؤاخذةُ -المُنْبِئةُ عن شِدَّةِ الأخْذِ بسُرعةٍ- على التَّعذيبِ والعُقوبةِ ونحوِهما؛ للإيذانِ بأنَّ النَّفيَ المُستفادَ من مُقدمِ الشَّرطيَّةِ مُتعلِّقٌ بوصْفِ السُّرعةِ، كما يُنبِئُ عنه تاليها. وإيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ -وإنْ كان المعنى على المُضِيِّ-؛ لإفادةِ أنَّ انتفاءَ تَعجيلِ العذابِ لهم بسبَبِ استمرارِ عدَمِ إرادةِ المُؤاخَذةِ؛ فإنَّ المُضارِعَ الواقعَ موقعَ الماضي يُفيدُ استمرارَ انتفاءِ الفعْلِ فيما مَضى [985] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/231).   .
     - جُملةُ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ معطوفةٌ على مُقدَّرٍ، كأنَّه قيل: لكنَّهم ليسوا بمُؤاخَذينَ بغْتةً... [986] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/231).   .
     - قولُه: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (بل) للإضرابِ الإبطاليِّ عن مَضمونِ جوابِ (لو)، أي: لم يُعَجِّلْ لهم العذابَ؛ إذ لهم موعدٌ للعذابِ مُتأخِّرٌ، وهذا تَهديدٌ بما يحصُلُ لهم، وأكَّدَ النَّفيَ بـ (لن)؛ رَدًّا على إنكارِهم؛ إذ هم يحْسَبون أنَّهم مُفلِتونَ من العذابِ حين يَرَون أنَّه تأخَّرَ مُدَّةً طويلةً، أي: لأنْ لا ملجَأَ لهم من العذابِ دُونَ وقْتِ وعْدِه أو مكانِ وعْدِه، فهو ملْجَؤُهم. وهذا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه، أي: هم غيرُ مُفلِتينَ منه [987] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/357).   .
3- قولُه تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا
     - قولُه: لَمَّا ظَلَمُوا فيه إشعارٌ بعِلَّةِ الإهلاكِ، وهي الظُّلمُ، ففيه تَحذيرٌ من الظُّلمِ؛ إذ نَتيجتُه الإهلاكُ [988] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/195).   . وفيه ترْكُ المفعولِ، وهو إمَّا لتَعميمِ الظُّلمِ، أو لتَنزيلِه منزلةَ اللَّازمِ، أي: لمَّا فَعَلوا الظُّلمَ [989] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/231).   .