بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالَى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
- الغرَضُ مِن هذه الآيةِ التَّعريضُ بكذِبِ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وبنِفاقِه؛ فصِيغَ الكلامُ بصيغةٍ تعُمُّ المُنافِقينَ لتجنُّبِ التَّصريحِ بالمقصودِ، على طريقةِ قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((ما بالُ أقوامٍ يَشترِطونَ شروطًا ليستْ في كتابِ اللهِ؟ !)) [34] أخرجه البخاريُّ (2735)، ومسلمٌ (1504) مطوَّلًا من حديث عائشةَ رضيَ الله عنها. ومُرادُه مَولى بَرِيرةَ لَمَّا أراد أنْ يَبيعَها لعائشةَ أمِّ المؤمنينَ، واشتَرَطَ أنْ يكونَ الولاءُ له. وابتُدِئَ بتكذيبِ مَن أُرِيدَ تكذيبُه في ادِّعائِه الإيمانَ بصِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنْ لم يكُنْ ذلك هو المقصودَ؛ إشعارًا بأنَّ اللهَ أطْلَعَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على دخائِلِهم، وهو تَمهيدٌ لِمَا بَعْدَه مِن قولِه: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعلَمُ أنَّ المُنافِقينَ قالوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/234). .
- قولُه: قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ أكَّدَ المُنافِقونَ كلامَهم بحرفَيْ (إنَّ) واللَّامِ؛ للإيذانِ بأنَّ شهادتَهم هذه صادرةٌ عن صميمِ قلوبِهم، وخُلوصِ اعتقادِهم، ووُفورِ رغبتِهم ونشاطِهم [36] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/251). .
- ونَشْهَدُ خبرٌ مؤكَّدٌ؛ لأنَّ الشَّهادةَ الإخبارُ عن أمْرٍ مقطوعٍ به؛ إذْ هي مُشتقَّةٌ مِنَ المُشاهَدةِ، أي: المُعايَنةِ، والمُعايَنةُ أقوى طُرقِ العِلمِ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/234). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ مُعترِضةٌ بَينَ الجملتَيْنِ المُتعاطِفتَيْنِ، مُقرِّرةٌ لمنطوقِ كلامِهِم، وهذا الاعتراضُ لدَفْعِ إيهامِ مَن يسمَعُ جُملةَ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ أنَّه تكذيبٌ لجُملةِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، فلَوْ قال: (قالوا: نَشهَدُ إنَّكَ لَرسولُ اللهِ، واللهُ يَشهَدُ إنَّهم لكاذِبونَ) لَكان يُوهِمُ أنَّ قولَهم هذا كذِبٌ، فوسَّطَ بَيْنَهما قولَه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ؛ ليُمِيطَ هذا الإيهامَ، فإنَّ المُسلِمينَ كانوا يَومَئذٍ محفوفِينَ بفِئامٍ مِنَ المُنافِقينَ مبثوثِينَ بَيْنَهم، هِجِّيراهم فِتنةُ المُسلِمينَ؛ فكان المَقامُ مُقتضِيًا دفْعَ الإيهامِ، وهذا مِنَ الاحتراسِ [38] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/538)، ((تفسير أبي حيان)) (10/179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/75)، ((تفسير أبي السعود)) (8/251)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/235). والاحتراس: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه بعضُهم: التَّكميلَ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 245)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/208)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). .
- وفيه تقديمُ المُسنَدِ إليه وَاللَّهُ على الخبرِ الفعليِّ يَشْهَدُ؛ لتَقَوِّي الحُكمِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/235). .
- وجِيءَ بفِعلِ يَشْهَدُ في الإخبارِ عن تكذيبِ اللهِ تعالَى إيَّاهُم ليُطابِقَ الصِّيغةَ الَّتي عبَّروا بها؛ حتَّى يكونَ إبطالُ خبرِهم مُساوِيًا لإخبارِهم [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/235). .
- وإظهارُ لفظِ (المُنافِقينَ) في موقعِ الإضمارِ -حيثُ قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، ولم يقُلْ: (... إنَّهم لَكاذِبونَ)-؛ لذَمِّهِم، والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ [41] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/251). .
2- قولُه تعالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ تكذيبَ اللهِ تعالَى إيَّاهُم في قولِهم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] يُثِيرُ في أنفُسِ السَّامِعينَ سؤالًا عن أيْمانِهم لدَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّهم مُؤمِنونَ به، وأنَّهم لا يُضمِرونَ بُغْضَه؛ فأخبَرَ اللهُ عنهم بأنَّهمُ اتَّخَذوا أيْمانَهم تَقِيَّةً يَتَّقونَ بها [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/236)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/97). .
- قولُه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً يجوزُ أنْ يُرادَ أنَّ قولَهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] يَمينٌ مِن أيمانِهِمُ الكاذِبةِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ تَجْرِي مَجْرَى الحَلِفِ فيما يُرادُ به مِنَ التَّوكيدِ، يقولُ الرَّجُلُ: أشهَدُ وأشهَدُ باللهِ، وأعزِمُ وأعزِمُ باللهِ في موضِعِ: أُقسِمُ وأُولِي، فيكونَ قوله: أَيْمَانَهُمْ مَوضوعًا مَوضِعَ المُضمَرِ، أي: اتَّخَذوا شَهادتَهم تلك سُترةً. ويجوزُ أنْ يكونَ وصفًا للمُنافِقينَ في استِجنانِهِم بالأيْمانِ؛ فعلى هذا تكونُ هذه الآيةُ مُستطرِدةً تَعدادًا لقبائِحِهِمْ [43] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/538)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/427). .
- والجُنَّةُ: ما يُستتَرُ به ويُتَّقى، ومِنهُ سُمِّيَتِ الدِّرعُ جُنَّةً، والمعنى: جعَلوا أيْمانَهُم كالجُنَّةِ يُتَّقى بها ما يَلْحَقُ مِن أذًى، فلمَّا شُبِّهَتِ الأيمانُ بالجُنَّةِ على طريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، أُتْبِعَ ذلك بتَشبيهِ الحَلِفِ باتِّخاذِ الجُنَّةِ، أيِ: اسْتِعمالِها [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/236). .
- قولُه: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تفريعٌ لصدِّهِمْ عن سبيلِ اللهِ على الحَلِفِ الكاذِبِ؛ لأنَّ اليمينَ الفاجِرةَ مِن كبائرِ الإثمِ؛ لِمَا فيها مِنَ الاسْتِخفافِ بجانِبِ اللهِ تعالَى، ولأنَّهم لَمَّا حَلَفوا على الكذِبِ ظنُّوا أنَّهم قد أَمِنوا اتِّهامَ المُسلِمينَ إيَّاهُم بالنِّفاقِ، فاستمَرُّوا على الكُفرِ والمكرِ بالمُسلِمينَ، وذلك صدٌّ عن سبيلِ اللهِ، أي: إعراضٌ عن الأعمالِ الَّتي أمَرَ اللهُ بسُلوكِها [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/236). . وهذا باعتبارِ أنَّ (صد) لازِمةٌ.
- وجُملةُ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تذييلٌ [46] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86 - 88). ؛ لتفظيعِ حالِهِم عِندَ السَّامِعِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/236). .
- وفي سَاءَ معنى التَّعجُّبِ الَّذي هو تَعظيمُ أمْرِهِم عِندَ السَّامِعينَ [48] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/539)، ((تفسير أبي السعود)) (8/251). .
3- قولُه تعالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ جُملةٌ في مَوضعِ العِلَّةِ لمَضمونِ جُملةِ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/236). .
- وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن معنى البُعْدِ مع قُربِ العهدِ بالمُشارِ إليه؛ لِلإشعارِ ببُعْدِ منزلتِه في الشَّرِّ [50] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/252). .
- وحرفُ (ثُمَّ) في قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا للتَّرتيبِ الإخباريِّ لا الإيجاديِّ، أي: إنَّ المُنافِقينَ آمَنوا، ثُمَّ كفَروا، أي: آمَنوا بألسنتِهِم، وكفَروا بقلوبِهِم [51] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 565). ، وذلك على قولٍ. أو هي للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ فإنَّ إبطانَ الكفرِ مع إظهارِ الإيمانِ أعظَمُ مِن الكفرِ الصَّريحِ، وأنَّ كُفْرَهم أرسَخُ فيهم مِن إظهارِ إيمانِهم. ويجوزُ أن يُرادَ مع ذلك التَّراخي في الزَّمنِ، وهو المُهلةُ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/237). .
- وتفريعُ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ على قولِه: آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فصار كفرُهم بعْدَ الإيمانِ سببًا في سُوءِ أعمالِهِم بمُقْتضى باءِ السَّببيَّةِ، وسببًا في انتفاءِ إدراكِهِمُ الحقائقَ النَّظريَّةَ بمُقْتضى فاءِ التَّفريعِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/238). .