موسوعة التفسير

سُورةُ المُنافِقونَ
الآيات (4-6)

ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

مُسَنَّدَةٌ: أي: مَنصوبةٌ، مُمالةٌ إلى الجِدارِ، يُقالُ: أسنَدْتُ الشَّيءَ، أي: أمَلْتُه، وأصلُ (سند): يدُلُّ على انضِمامِ الشَّيءِ إلى الشَّيءِ [54] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/105)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (21/471)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 404)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 416). .
صَيْحَةٍ: الصَّيحةُ: المَرَّةُ مِن الصِّياحِ، وهو: رَفعُ الصَّوتِ، وأصلُ (صيح): يدُلُّ على الصَّوتِ العالي [55] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 496)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 560). .
يُؤْفَكُونَ: أي: يُصرَفونَ عن الحَقِّ، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهتِه [56] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((تفسير ابن جرير)) (9/424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 85). .
لَوَّوْا: أي: أمالوا؛ إعراضًا واستِكبارًا، وأصلُ (لوي): يدُلُّ على إمالةِ شَيءٍ [57] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/654)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/218)، ((المفردات)) للراغب (ص: 752)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 802). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
عَلَيْهِمْ: شِبهُ جُملةٍ جارٌّ ومَجرورٌ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ هو المفعولُ الثَّاني لـ يَحْسَبُونَ، أي: واقِعةً وكائِنةً عليهم، والوَقفُ على عَلَيْهِمْ وَقفٌ تامٌّ. وقَولُه: هُمُ الْعَدُوُّ: جُملةٌ مُستأنَفةٌ. وقَولُه: أَنَّى يُؤْفَكُونَ: أَنَّى: بمعنى «كيف» فهي اسمُ استِفهامٍ في مَحَلِّ نَصبٍ حالٌ، أو بمعنى «مِن أينَ»: فهي اسمُ استفهامٍ في مَحَلِّ نَصبٍ ظَرفُ مكانٍ، وعلى كلِّ تقديرٍ فهي مُتعَلِّقةٌ بـ يُؤْفَكُونَ، فلا يَعمَلُ فيها ما قبْلَها [58] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/176)، ((تفسير أبي حيان)) (10/181)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/339)، ((تفسير الألوسي)) (14/306). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى مِن أوصافِ المنافقينَ ما به يُعرَفونَ، فيقولُ تعالى: وإذا رأيتَ هؤلاء المُنافِقينَ -يا محمَّدُ- تُعجِبُك أبدانُهم، وحُسْنُ هَيئَتِهم، وإن يَتكَلَّموا تُصْغِ لكلامِهم؛ لفَصاحَتِهم وبلاغتِهم، كأنَّهم أخشابٌ أُسنِدَت إلى الجُدُرِ لا مَنفعةَ فيها، يَظُنُّ المُنافِقونَ -مِن جُبنِهم وخَوَرِهم- أنَّ كُلَّ صَيحةٍ واقِعةٌ عليهم.
والمُنافِقونَ هم أعداءُ المُسلِمينَ على الحقيقةِ؛ فاحذَرْهم -يا محمَّدُ- فهم أشَدُّ ضَرَرًا عليكم مِن الكُفَّارِ المجاهِرينَ بالعَداوةِ. لَعَنَهم اللهُ وأخزاهم، كيف يُصرَفونَ عن الحَقِّ مع وُضوحِ دَلائِلِه؟!
وإذا قيل للمُنافِقينَ: تَعالَوا إلى رَسولِ اللهِ؛ لِيَستغفِرَ لكم، أمالوا رُؤوسَهم امتِناعًا مِن ذلك، ورأيتَهم يُعرِضونَ؛ أَنَفةً واستِكبارًا عمَّا دُعُوا إليه.
سواءٌ أَسْتَغفَرْتَ لهؤلاء المُنافِقينَ -يا محمَّدُ- أم لم تَستَغفِرْ لهم؛ فإنَّ اللهَ لن يَغفِرَ لهم، إنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الخارِجينَ عن طاعتِه.

تفسير الآيات:

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَف اللهُ سُبحانَه بواطِنَ المُنافِقينَ بما زهَّدَ فيهم، وكانت لهم أشكالٌ تَغُرُّ ناظِرَها؛ لأنَّ العَرَبَ كانت تقولُ: (جمالُ المنظَرِ يدُلُّ غالبًا على حُسْنِ المَخْبَرِ)، قال تعالى [59] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/79). :
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ.
أي: وإذا رأيتَ هؤلاء المُنافِقينَ -يا محمَّدُ- تُعجِبُك أبدانُهم؛ لاستواءِ خَلْقِهم، وحُسْنِ هَيئَتِهم، وجمالِ صُوَرِهم [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/652)، ((تفسير القرطبي)) (18/124)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/422)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/79، 80)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/238). !
وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ.
أي: وإن يَتكَلَّموا تُصْغِ لكلامِهم، وتَستَمِعْ إليه؛ لفصاحَتِهم وبلاغتِهم، وحُسنِ مَنطِقِهم، وحلاوةِ مَعانيه [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/652)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 864)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/239). قال القرطبي: (مُسَنَّدَةٌ للتَّكثيرِ، أي: استَنَدوا إلى الأيمانِ بحَقنِ دِمائِهم). ((تفسير القرطبي)) (18/125). .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 204 - 206] .
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ.
أي: مَثَلُهم كأخشابٍ قد قُطِعَت من مَغارِسِها، وقُشِرَت وأُسنِدَت إلى الجُدُرِ، فهي تَنالُ إعجابَ ناظِرِها، ولكِنَّها جامِدةٌ لا ثباتَ لها ولا ثَمرةَ، ولا تُسقَى بماءٍ،  ولا منفعةَ فيها، وهكذا المُنافِقونَ مجرَّدُ صُوَرٍ لا رُوحَ فيها، وأجسادٍ لا عَقْلَ لها، ولا فِقْهَ، ولا عِلْمَ [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/652)، ((تفسير القرطبي)) (18/125)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/398)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/361)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/81)، ((تفسير القاسمي)) (9/235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 864)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/240). قال ابنُ القَيِّم: (الصَّوابُ: أنَّ اللَّفظَ عامٌّ فيمَنِ اتَّصَف بهذه الصِّفاتِ، وهي صِحَّةُ الجِسمِ وتمامُه، وحُسنُ الكلامِ، وخُلُوُّه مِن رُوحِ الإيمانِ، ومحَبَّةِ الهُدى وإيثارِه، كخُلُوِّ الخُشُبِ المقطوعةِ -الَّتي قد تَسانَدَ بَعضُها إلى بَعضٍ- مِن رُوحِ الحياةِ الَّتي يُعطيها النُّمُوَّ أو الزِّيادةَ والثَّمَرةَ؛ واتصافُهم بالجُبنِ والخَوَرِ الَّذي يَحسَبُ صاحِبُه أنَّ كُلَّ صَيحةٍ عليه؛ فمِن التَّقصيرِ الزَّائدِ أن يُقالَ: إنَّ المرادَ بهذا اللَّفظِ هو عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ). ((الصواعق المرسلة)) (2/702، 703). !
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.
أي: يَظُنُّ المُنافِقونَ كلَّ صَيحةٍ يَسمَعونَها -كنِداءِ مُنادٍ أو إنشادِ ضالَّةٍ، ونحوِ ذلك- أنَّها نازِلةٌ بهم، وواقِعةٌ عليهم، وأنَّهم يُرادونَ بذلك؛ لِجُبنِهم، وخَوَرِهم، وسوءِ ظنِّهم، وخوفِهم أنْ يَكْشِفَ اللهُ أسرارَهم [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/653)، ((تفسير البغوي)) (5/99)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/317)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/81، 82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 864)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/240، 241). .
كما قال تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب: 19] .
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.
أي: المُنافِقونَ هم أعداءُ المُسلِمينَ على الحقيقةِ؛ فاحذَرْهم -يا محمَّدُ-، فلا تَثِقْ بأقوالِهم، ولا تَغتَرَّ بصُوَرِهم، ولا تَركَنْ إليهم، ولا تَستَودِعْهم أسرارَكم؛ فهم يُظهِرونَ غيرَ ما يُبطِنونَ، ويُعِينُونَ الكُفَّارَ عليكم سِرًّا، ويَترَبَّصونَ بكم الدَّوائِرَ، وهم أشَدُّ ضَرَرًا عليكم مِن الكُفَّارِ المجاهِرينَ بالعَداوةِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/653)، ((تفسير القرطبي)) (18/126)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 402)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 864)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/242). قال ابن عاشور: (والخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُبلِّغَه المسلمينَ فيَحذَروهم). ((تفسير ابن عاشور)) (28/242). .
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
أي: لَعَنَ اللهُ المُنافِقينَ وأخزاهم، كيف يُصرَفونَ عن الحَقِّ مع وُضوحِ دَلائِلِه [65] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/653)، ((تفسير القرطبي)) (18/126)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 864)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/242، 243). قال الواحدي: (قال ابن الأنباري: المُقاتَلةُ أصلُها مِن القَتلِ، فإذا أُخبِرَ عن اللهِ بها، كانت بمعنى اللَّعنةِ؛ لأنَّ مَن لَعَنَه اللهُ، فهو بمنزلةِ المَقتولِ الهالِكِ). ((الوسيط)) (2/490). ؟!
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ.
أي: وإذا قال المُسلِمونَ للمُنافِقينَ: تَعالَوا إلى رَسولِ اللهِ؛ لِيَطلُبَ مِنَ اللهِ مَغفِرةَ ذُنوبِكم، أمالوا رُؤوسَهم وصَرَفوها إلى جهةٍ أُخرى؛ امتِناعًا مِن ذلك [66] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/654)، ((تفسير القرطبي)) (18/126)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/83، 84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 864)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/243، 244). قال ابن عاشور: (وَلَيُّ الرُّؤوسِ: إمالتُها إلى جانبٍ غَيرِ وُجاهِ المُتكلِّمِ؛ إعراضًا عن كلامِه، على سَبيلِ الاستِهزاءِ، أي: أَبَوْا أنْ يَستغفِروا؛ لأنَّهم ثابتونَ على النِّفاقَ، أو لأنَّهم غَيرُ راجِعينَ فيما قالوهُ مِن كلامٍ بذيءٍ في جانبِ المُسلِمينَ، أو لِئَلَّا يُلْزَموا بالاعترافِ بما نُسِبَ إليهم مِنَ النِّفاقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/244). .
عن زَيدِ بنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خرَجْنا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ أصاب النَّاسَ فيه شِدَّةٌ، فقال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ لأصحابِه: لا تُنفِقوا على مَن عِندَ رَسولِ اللهِ حتَّى يَنفَضُّوا مِن حَولِه، وقال: لَئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذَلَّ! فأتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرْتُه، فأرسَلَ إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ فسأَلَه، فاجتَهَد يَمينَه ما فَعَل! قالوا: كَذَبَ زَيدٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فوقَعَ في نَفْسي ممَّا قالوا شِدَّةٌ، حتَّى أنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ تصديقي في: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المُنافِقونَ: 1]، فدعاهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِيَستَغفِرَ لهم، فلَوَّوا رُؤُوسَهم)) [67] رواه البخاريُّ (4903) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2772). .
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.
أي: ورأيتَهم يُعرِضونَ؛ أَنَفةً واستِكبارًا عمَّا دُعُوا إليه مِنَ المجيءِ لِرَسولِ اللهِ؛ كي يَستَغفِرَ لهم [68] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/654، 655)، ((تفسير القرطبي)) (18/127)، ((تفسير ابن كثير)) (8/126)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 864). .
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6).
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
أي: سواءٌ أَسْتَغفَرْتَ لهؤلاء المُنافِقينَ ذُنوبَهم -يا محمَّدُ- أم لم تَستَغفِرْ لهم؛ فإنَّ اللهَ لن يَغفِرَ لهم ذُنوبَهم، ولن يَترُكَ مُعاقَبتَهم عليها [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/658)، ((الوسيط)) للواحدي (4/303)، ((تفسير القرطبي)) (18/128). .
كما قال الله تبارك وتعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 80] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُوفِّقُ للإيمانِ به وبرَسولِه القَومَ الخارِجينَ عن طاعتِه، المُصِرِّينَ على الكُفرِ به ومَعصِيَتِه [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/658)، ((تفسير البيضاوي)) (5/215)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865). .

الفوائد التربوية:

1- الإنسانُ مَدارُ صَلاحِه وفَسادِه على القَلْبِ؛ ولهذا ينبغي للمُسلِمِ أنْ يَعتنيَ بصَلاحِ قَلْبِه؛ فاللهُ تعالى يقولُ عن المُنافِقينَ: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ مِن الهيئةِ الحَسَنةِ، وحُسْنِ عمَلِ الجوارحِ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ وإذا قالوا قولًا تَسْمَعُ له مِن حُسْنِه وزَخرفتِه، لكِنَّ قُلوبَهم خَرِبةٌ -والعياذُ باللهِ- كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ليس فيها خيرٌ، فعلى المسلمِ أن يَعتنيَ بصَلاحِ قلبِه، وأن يَنظُرَ هل فيه شيءٌ مِن الأمراضِ كالشِّركِ، وكراهةِ ما أنْزَل اللهُ، والمَيلِ إلى الكُفَّارِ ومُوالاتِهم إلى غيرِ ذلك؟ هل فيه شَيءٌ مِن الحَسَدِ أو الغِلِّ أو الحِقدِ؟ فيُطَهِّرَ قلْبَه منه ويُصلِحَه؛ فإنَّ المدارَ عليه [71] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/496). .
2- قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ الجَمالُ في الصُّورةِ واللِّباسِ والهيئةِ ثلاثةُ أنواعٍ: منه ما يُحمَدُ، ومنه ما يُذَمُّ، ومنه ما لا يتعَلَّقُ به مَدحٌ ولا ذَمٌّ:
فالمحمودُ منه: ما كان لله، وأعان على طاعةِ اللهِ، وتنفيذِ أوامِرِه، والاستِجابةِ له، كما كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يتجَمَّلُ للوُفودِ، وهو نظيرُ لِباسِ آلةِ الحَربِ للقِتالِ، ولِباسِ الحَريرِ في الحَربِ والخُيَلاءِ فيه؛ فإنَّ ذلك محمودٌ إذا تضَمَّن إعلاءَ كَلِمةِ اللهِ، ونَصْرَ دينِه، وغَيْظَ عَدُوِّه.
والمذمومُ منه: ما كان للدُّنيا والرِّياسةِ والفَخْرِ والخُيَلاءِ، والتَّوَسُّلِ إلى الشَّهَواتِ، وأن يكونَ هو غايةَ العَبدِ وأقصى مَطلَبِه؛ فإنَّ كثيرًا مِن النُّفوسِ ليس لها هِمَّةٌ في سِوى ذلك.
وأمَّا ما لا يُحمَدُ ولا يُذَمُّ: فهو ما خلا عن هذَينِ القَصدَينِ، وتجَرَّدَ عن الوصفَينِ [72] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 185، 186). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى عن المُنافِقينَ: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أنَّهم لَمَّا أضْمَروا خِلافَ ما أظهَروا خافوا الاطِّلاعَ عليهم؛ فكُلَّما سَمِعوا صَيحةً ظَنُّوا أنَّها عليهم، وهكذا كلُّ مُريبٍ يُظْهِرُ خِلافَ ما يُضْمِرُ؛ فإنَّه يَخافُ مِن أَدنى شَيءٍ ويَحسَبُه عليه [73] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/217). .
ومنه أخَذ جريرٌ قولَه يُخاطِبُ الأخطَلَ:
ما زِلْتَ تَحسَبُ كلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُم         خَيْلًا تَكُرُّ عَلَيْكُمُ ورِجالَا [74] يُنظر: ((ديوان جرير)) (1/53).
وكذا المتنبي قولَه:
وضاقَتِ الأرضُ حتَّى كان هارِبُهُم          إذا رأى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلَا [75] يُنظر: ((العَرْف الطَّيِّب)) لليازجي (ص: 14).
ومنه قولُ الشَّاعرِ [76] هو بشَّارُ بنُ بُرْدٍ. يُنظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (2/760)، ((الكامل في اللغة والأدب)) للمُبَرِّد (3/37)، ((الأغاني)) للأصفهاني (3/155). :
يُرَوِّعُهُ السِّرارُ بكُلِّ أرضٍ             مَخافةَ أن يَكونَ به السِّرارُ [77] يُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (5/240، 241)، ((تفسير ابن عطية)) (5/312)، ((تفسير الألوسي)) (14/306).
2- قال الله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، فالكافرُ المُصَرِّحُ بالكُفرِ أهوَنُ مِن الكافِرِ المُخْفِي للكُفرِ -وهو المُنافِقُ-؛ فقَولُه: هُمُ الْعَدُوُّ جملةٌ تفيدُ الحصرَ؛ لتعريفِ طَرَفَيها، كأنَّه لا عَدُوَّ للمُسلِمينَ إلَّا المُنافِقُ؛ لأنَّ عداوتَه -والعياذُ باللهِ- لا يمكِنُ أنْ يُطَّلَعَ عليها، ولا يُمكِنُ التَّحَرُّزُ منها [78] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/511). ، فهم أهلُ مَكْرٍ وخديعةٍ، وكما في قَولِه تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة: 9] [79] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/41). ، فكانوا أَولى بالتَّحذيرِ؛ لشِدَّةِ عَداوتِهم، ولِقُوَّةِ مُداخَلتِهم مع المُسلِمينَ؛ مِمَّا يُمكِّنُهم مِن الاطِّلاعِ على جميعِ شُؤونِهم [80] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/192). .
3- في قَولِه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أنَّ مِن عَلاماتِ النِّفاقِ الاستِكبارَ عن دُعاءِ المؤمِنينَ؛ احتِقارًا وشَكًّا [81] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/381). !
4- قَولُ الله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فيه سؤالٌ: ظاهِرُ هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّه لا يُغفَرُ للمُنافِقينَ مُطلَقًا، وقد جاءت آيةٌ تُوهِمُ الطَّمَعَ في غُفرانِه لهم إذا استَغفَرَ لهم رَسولُه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أكثَرَ مِن سَبعينَ مَرَّةً، وهي قَولُه تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] .
الجوابُ: أنَّ هذه الآيةَ هي الأخيرةُ، بيَّنَت أنَّه لا يُغفَرُ لهم على كُلِّ حالٍ؛ لأنَّهم كُفَّارٌ في الباطِنِ [82] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص:239). .
 وأيضًا ذكرَ عدَد السبعينَ قَطْعًا لأطماعِهم عن المغفرةِ على عادةِ العربِ؛ لأنها عندَهم مَثَلٌ لغايةِ الاستِقصاء في العدد [83] يُنظر: ((تفسير العليمي)) (3/221). . والتَّقديرُ إذا قُصِد به المُبالَغةُ فلا مَفهومَ له، سَواءٌ كان في الكَثْرةِ أو في القِلَّةِ، ومِثالُ الكَثْرةِ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] ، ولو أَكثَرَ مِن سَبعينَ ما يَغفِرُ الله تعالى لهم؛ ولهذا قال تعالى في آية المُنافِقين: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، فإذا جاء القَيْدُ للمُبالَغةِ قِلَّةً أو كَثرةً فليس له مَفهومٌ.
ومِثالُ القِلَّةِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 22] ، لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ يعني: ولا ما دُونَها [84] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 160). .
5- في قَولِه تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أنَّ دعاءَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، واستغفارَهم وشفاعتَهم: سببٌ يَنفعُ إذا جَعَلَ اللهُ تعالى المَحَلَّ قابلًا له، وإلَّا فلوِ استغفرَ النَّبيُّ للكُفَّارِ والمُنافِقينَ لم يُغفَرْ لهم [85] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/308). .
6- مَن عُلِمَ منه النِّفاقُ والزَّنْدقةُ فإنَّه لا يجوزُ لِمَن عَلِمَ ذلك منه الصَّلاةُ عليه، وإنْ كان مُظْهِرًا للإسلامِ؛ فإنَّ اللهَ نهى نبيَّه عن الصَّلاةِ على المُنافِقينَ فقال: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84] ، وقال تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [86] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (3/18). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فيه سؤالٌ: لِمَ لم يَقُلِ: (القَومَ الكافِرينَ) أو (المُنافِقينَ) أو (المُستَكبِرينَ)، مع أنَّ كُلَّ واحدٍ مِنهم مِن جملةِ ما سَبَق ذِكرُه؟
الجوابُ: كُلُّ أحدٍ مِن تلك الأقوامِ داخِلٌ تحتَ قَولِه: الْفَاسِقِينَ، أي: الَّذين سَبَق ذِكرُهم، وهم الكافِرونَ والمُنافِقونَ والمُستَكبِرونَ [87] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/548). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ هذا انتقالٌ إلى توضيحِ بَعضِ أحوالِ المنافِقِينَ الَّتي لا يُبرِزونها إذا جاؤوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكنَّها تَبرُزُ مِن مُشاهَدتِهم؛ وجُملةُ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ معطوفةٌ على جُملةِ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3] ، واقِعةٌ موقِعَ الاحتراسِ والتَّتميمِ [88] الاحتراس: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه بعضُهم: التَّكميلَ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 245)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/208)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو: هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو: هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر:  ((تحرير التَّحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التِّبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدِّين درويش (1/44)، ((مفاتيح التَّفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240، 241). والفَرقُ بيْنَ الاحتِراسِ والتَّتميمِ: أنَّ الاحتِراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التَّتميمُ فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنَهما إذَنْ هي التَّبايُنُ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 245)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّة الحَمَوي (2/ 486)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/50). ؛ لدَفْعِ إيهامِ مَن يَغُرُّه ظاهرُ صُوَرِهم، وأُتْبِعَ انتفاءُ فِقهِ عقولِهِم بالتَّنبيهِ على عدمِ الاغترارِ بحُسنِ صوَرِهم؛ فإنَّها أجسامٌ خاليةٌ عن كمالِ الأنفُسِ، وتُفِيدُ مع الاحتِراسِ تنبيهًا على دخائلِهِم، بحيث لو حُذِفَ حرْفُ العطفِ مِن الجُملتَينِ، لَصَحَّ وُقوعُهما مَوقِعَ الاستئنافِ الابتدائيِّ، ولكن أُوثِرَ العطفُ للتَّنبيهِ على أنَّ هاتَيْنِ صِفتانِ تُحسَبانِ كمالًا وهُما نَقيصتانِ؛ لعدمِ تناسُقِهما مع ما شأنُه أنْ يكونَ كمالًا؛ فإنَّ جمالَ النَّفْسِ كجمالِ الخِلقةِ إنَّما يحصُلُ بالتَّناسُبِ بيْنَ المَحاسِنِ، وإلَّا فرُبَّما انقلَبَ الحَسنُ مُوجِبَ نَقْصٍ [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/238، 239). .
- واللَّامُ في قولِه: لِقَوْلِهِمْ لتَضمينِ تَسْمَعْ معْنى: تُصِغْ أيُّها السَّامعُ؛ إذ ليس في الإخبارِ بالسَّماعِ للقولِ فائدةٌ لولا أنَّه ضُمِّن معْنى الإصغاءِ لوعْيِ كَلامِهم [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/239). .
- وجُملةُ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا جَوابًا عن سُؤالٍ يَنشَأُ عن وصْفِ حُسنِ أجسامِهم وذَلاقةِ كَلامِهم؛ فإنَّه في صُورةِ مدْحٍ، فلا يُناسِبُ ما قبْلَه مِن ذمِّهم، فيَترقَّبُ السَّامعُ ما يَرِدُ بعْدَ هذا الوصفِ. ويجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ حالًا مِن ضَميرَيِ الغَيبةِ في قولِه: رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/239، 240). .
- قولُه: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ تشبيهٌ تمثيليٌّ، والمُشبَّهُ به هو الخُشُبُ المنصوبةُ المُسنَدةُ إلى الحائطِ، ووجْهُ الشَّبهِ كَونُ الجانبَيْنِ أشباحًا خاليةً عن العِلمِ والنَّظرِ، ولم يَكتفِ بالتَّشبيهِ بالخُشبِ، بلْ جعَلَها مُسنَدةً إلى الحائطِ، لا انتِفاعَ بها؛ لأنَّها إذا كانت في سقفٍ أو مكانٍ يُنتفَعُ بها، وأمَّا إذا كانت غيرَ مُنتفَعٍ بها فإنَّها تكونُ مُهمَلةً مُسنَدةً إلى الحيطانِ أو مُلقاةً على الأرضِ قد صُفِفَتْ. أو شُبِّهوا بالخُشُبِ الَّتي هي الأصنامُ وقد أُسنِدَتْ إلى الحيطانِ، أو شُبِّهوا بالخُشبِ المُسنَّدةِ في حُسنِ المرْأى وعدَمِ الجَدْوى، أُفِيدَ بها أنَّ أجسامَهم المُعجَبَ بها ومَقالَهم المُصغَى إليه خاليانِ عن النَّفعِ كخُلوِّ الخُشبِ المُسنَّدةِ عن الفائدةِ. وقيل: الجملةُ التَّشبيهيَّةُ وصْفٌ لهُمْ بالجُبنِ والخَوَرِ، ويدُلُّ عليه قولُه: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ. ويُمكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ وجْهَ الشَّبهِ هو عُزوبُ أحلامِهِم، وفراغُ قلوبِهم مِنَ الإيمانِ [92] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/540)، ((تفسير البيضاوي)) (5/214)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/429)، ((تفسير أبي حيان)) (10/180)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 252)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/240)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/99، 100). . وقيل غيرُ ذلك [93] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/548). .
- وفي قولِه: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ تَشبيهٌ تَمثيليٌّ أيضًا، أي: أنَّهم -لجُبنِهم وهَلَعِ نُفوسِهم واضطرابِ قلوبِهم- إذا نادى مُنادٍ في المُعسكَرِ أو انْفلَتَتْ دابَّةٌ أو أُنْشِدَتْ ضالَّةٌ وَجَفَتْ قلوبُهم، وزايَلَهم رُشدُهم، وحَسِبوا أنَّ هناك شرًّا يتربَّصُ بهم، وكيدًا ينتظرُ الإيقاعَ بأرواحِهم [94] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/100). !
- قولُه: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ لَمَّا أخبرَه تعالَى بعداوتِهم، أمَرَه بحَذَرِهم، فلا يَثِقُ بإظهارِ موَدَّتِهم، ولا بلِينِ كلامِهم [95] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/181). .
- يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ استِئنافًا بيانيًّا ناشِئًا عن جُملةِ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ؛ لأنَّ تلك الجملةَ لغرابةِ معناها تُثِيرُ سؤالًا عن سبَبِ هلَعِهم، وتخوُّفِهم مِن كلِّ ما يُتخيَّلُ منه بأسُ المُسلِمينَ، فيُجابُ بأنَّ ذلك لأنَّهم أعداءٌ أَلِدَّاءُ للمُسلِمينَ، يَنظُرونَ للمُسلِمينَ بمِرآةِ نُفوسِهم، فكما هُمْ يَترَبَّصونَ بالمُسلِمينَ الدَّوائرَ، ويَتمنَّوْنَ الوقيعةَ بهم، في حِينِ يُظهِرونَ لهمُ الموَدَّةَ، كذلك يَظنُّونَ بالمُسلِمينَ التَّربُّصَ بهم، وإضمارَ البَطشِ بهم، ويَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ بمَنزلةِ العِلَّةِ لجُملةِ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ على هذا المعنى أيضًا. ويجوزُ أنْ تكونَ استِئنافًا ابتدائيًّا لذِكرِ حالةٍ مِن أحوالِهم تَهُمُّ المسلمينَ مَعرفتُها؛ ليَترتَّبَ عليها تَفريعُ فَاحْذَرْهُمْ، وعلى كلِّ التَّقاديرِ فنَظْمُ الكلامِ وافٍ بالغرَضِ مِن فَضْحِ دخائلِهِم [96] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/241). .
- قولُه: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ التَّعريفُ في الْعَدُوُّ تعريفُ الجِنسِ الدَّالُّ على معْنى كَمالِ حقيقةِ العدُوِّ فيهم؛ فهمُ الكامِلونَ المُبالِغونَ في العَداوةِ، والرَّاسِخونَ فيها؛ لأنَّ أَعْدَى الأعادي العدُوُّ المُتظاهِرُ بالموالاةِ، وهو مدَّاحٌ وتحتَ ضُلوعِه الدَّاءُ الدَّوِيُّ، وعلى هذا المعنى رُتِّبَ عليه الأمْرُ بالحَذَرِ منهم [97] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/241). .
- قولُه: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ تَذييلٌ؛ فإنَّه جمَعَ على الإجمالِ ما يُغْني عن تَعدادِ مَذامِّهم، مَسوقٌ للتَّعجيبِ مِن حالِ تَوغُّلِهم في الضَّلالةِ والجهالةِ بعُدولِهم عن الحقِّ، فافتُتِحَ التَّعجيبُ منهم بجُملةٍ أصْلُها دُعاءٌ بالإهلاكِ والاستئصالِ، ولكنَّها غَلَبَ استعمالُها في التَّعجُّبِ أو التَّعجيبِ مِن سُوءِ الحالِ الَّذي جرَّه صاحبُه لنفْسِه؛ فإنَّ كثيرًا مِن الكَلِمِ الَّتي هي دُعاءٌ بسُوءٍ تُستعمَلُ في التَّعجيبِ مِن فِعلٍ أو قولٍ مَكروهٍ، مِثلُ قولِهم: ثَكِلَتْه أُمُّه، ووَيْلُ أُمِّه، وترِبَتْ يَمينُه. واستعمالُ ذلك في التَّعجُّبِ للمُلازَمةِ بيْن بُلوغِ الحالِ في السُّوءِ وبيْن الدُّعاءِ على صاحبِه بالهلاكِ؛ إذ لا نفْعَ له ولا للنَّاسِ في بَقائِه، ثمَّ الملازمةِ بيْن الدُّعاءِ بالهلاكِ وبيْن التَّعجُّبِ مِن سُوءِ الحالِ، فهي مُلازَمةٌ بمَرتبتَينِ كِنايةٌ رَمزيَّةٌ. و(أنَّى) هنا اسمُ استفهامٍ، والاستفهامُ هنا مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ؛ لأنَّ الأمرَ العجيبَ مِن شأْنِه أنْ يُستفهَمَ عن حالِ حُصولِه، فالاستفهامُ عنه مِن لَوازمِ أُعجوبتِه؛ فجُملةُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ بَيانٌ للتَّعجيبِ الإجماليِّ المُفادِ بجُملةِ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ؛ فهو تعجيبٌ مِن حالِهِم، أي: كيف يُصرَفونَ عن الحقِّ إلى ما هُمْ عليه مِنَ الكفرِ والضَّلالِ [98] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/541)، ((تفسير البيضاوي)) (5/214)، ((تفسير أبي حيان)) (10/181)، ((تفسير أبي السعود)) (8/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/242). ؟!
- وقَاتَلَهُمُ اللَّهُ كَلمةُ ذمٍّ وتوبيخٍ، وهو دعاءٌ عليهم وطلَبٌ مِن ذاتِه تعالَى أنْ يَلعنَهُم ويُخزيَهُم، أو تَعليمٌ للمُؤمِنينَ أنْ يَدعُوا عليهم بذلك، ومَن قاتَلَه اللهُ فهو مغلوبٌ؛ لأنَّه تعالَى هو القاهِرُ لكلِّ مُعانِدٍ [99] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/541)، ((تفسير البيضاوي)) (5/214)، ((تفسير أبي حيان)) (10/181)، ((تفسير أبي السعود)) (8/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/241). .
2- قولُه تعالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ هذا حالُ المنافقينَ في العِنادِ، ومُجافاةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإعراضِ عن التَّفكُّرِ في الآخِرةِ، بَلْهَ الاستِعدادَ للفوزِ فيها، وتَعَالَوْا طلَبٌ مِنَ المُخاطَبِ بالحضورِ عِندَ الطَّالِبِ، وأصلُه فِعلُ أمْرٍ مِنَ التَّعالي، وهو تكلُّفُ العُلُوِّ، أيِ: الصُّعودِ، وتُنُوسِيَ ذلك، وصار لِمُجرَّدِ طلَبِ الحضورِ. وهذا الطَّلَبُ يجعَلُ تَعَالَوْا مُشعِرٌ بأنَّ هذه حالةٌ مِن أحوالِ انفرادِهم في جماعتِهم، فهي ثالثُ الأغراضِ مِن بيانِ مُختلِفِ أنواعِ تلك الأحوالِ، وقدِ ابتُدِئَتْ بـ إِذَا كما ابتُدِئَ الغرَضانِ السَّابِقانِ بـ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون: 1] ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/243). [المنافقون: 4] .
- قولُه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، أي: اذهَبوا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَلُوهُ الاستِغفارَ لكم، وهذا يدُلُّ دَلالةَ اقتِضاءٍ [101] دلالةُ الاقتضاءِ: هي دلالةُ اللفظِ على مقصودٍ محذوفٍ لا بدَّ مِن تقديرِه؛ لتوقُّفِ الصدقِ أو الصحةِ عليه. يُنظر: ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)) لابن الأمير (ص: 355)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283). على أنَّ المرادَ: تُوبوا مِنَ النِّفاقِ، وأَخْلِصوا الإيمانَ، وسَلُوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِيَستغفِرَ لكم ما فَرَطَ منكم، فكانَ الَّذي قال لهم ذلك مُطَّلِعًا على نِفاقِهم [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/243). .
- قولُه: لَوَّوْا قُرِئَ بتَشديدِ الواوِ الأولى مُضاعَف (لَوَى)؛ للدَّلالةِ على الكثرةِ؛ فيَقْتَضي كثرةَ اللَّيِّ منهم، أي: لَوَّى جمعٌ كثيرٌ منهم رُؤوسَهم، وقُرِئَ بتَخفيفِ الواوِ الأولى اكتِفاءً بإسنادِ الفِعلِ إلى ضميرِ الجماعةِ [103] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/541)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/244). قرأ نافعٌ، ورَوْحٌ عن يعقوبَ بتخفيفِ الواوِ الأُولى، وقرأ الباقونَ بتشديدِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/388). .
- وجُملةُ يَصُدُّونَ جملةٌ حاليَّةٌ، وأُتِيَ بالمضارعِ ليَدُلَّ على استِمرارِهم [104] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/182). .
3- قولُه تعالَى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
- قولُه: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ حِكايةِ أحوالِهم، نشأَتْ لِمُناسَبةِ قولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ [المنافقون: 5] إلخ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/244). .
- وتركيبُ: (سواءٌ عليه أكذا أمْ كذا)، ونَحْوِه ممَّا جَرَى مَجْرَى المَثَلِ، فيَلزَمُ هذه الكلماتِ مع ما يُناسِبُها مِن ضمائِرِ المُخبَرِ عنه. ومدلولُه استِواءُ الأمْرَينِ لدَى المجرورِ بحرفِ (على)؛ ولذلك يُعقَبُ بجُملةٍ تُبيِّنُ جِهةَ الاستواءِ؛ كجُملةِ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/244). .
- و(على) مِن قولِه: عَلَيْهِمْ بمعنى تمكُّنِ الوصفِ؛ فالمعنى: سواءٌ فيهم [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/245). .
- وهمزةُ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أصلُها همزةُ استفهامٍ، وهو استفهامٌ مُستعمَلٌ كِنايةً عن قِلَّةِ الاعتناءِ بكِلا الحالَيْنِ بقرينةِ لفظِ سَوَاءٌ، أي: سواءٌ عِندَهمُ استغفارُكَ لهم وعدَمُه، فـ (على) للاستِعلاءِ الَّذي هو التَّمكُّنُ والتَّلبُّسُ؛ فتَؤُولُ إلى معنى (عِندَ) [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/245). .
- وجُملةُ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا عن حالٍ مِن أحوالِهم [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/245). .
- وجُملةُ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ وجُملةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا [المنافقون: 7] ، وهي وعيدٌ لهم، وجزاءٌ على استخفافِهِم بالاستغفارِ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/245). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ تعليلٌ لانتفاءِ مغفرةِ اللهِ لهم بأنَّ اللهَ غضِبَ عليهم، فحرَمَهمُ اللُّطْفَ والعِنايةَ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/245). .
- قولُه: الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، أي: الكامِلينَ في الفِسقِ، الخارجينَ عن دائرةِ الاستصلاحِ، المُنهمِكينَ في الكفرِ والنِّفاقِ، والمرادُ: إمَّا هُم بأعيانِهِم، والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لبيانِ غُلُوِّهِم في الفِسقِ. أوِ الجِنسُ، وهم داخِلونَ في زُمْرَتِهم دُخولًا أوَّليًّا [112] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/253). .