موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (18-20)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْمُعَوِّقِينَ: أي: المُثَبِّطينَ الصَّارِفينَ عن طَريقِ الخَيرِ، يُقالُ: عاقه واعتاقَه وعَوَّقه: إذا صَرَفه عن الوَجهِ الَّذي يُريدُه، والتَّعويقُ: ترغيبُ النَّاسِ عن الخيرِ .
هَلُمَّ: أي: تَعالَوا إلينا، وهي كَلِمةٌ تدُلُّ على دَعوةٍ إلى شَيءٍ .
الْبَأْسَ: أي: القِتالَ والحَربَ، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضاهاها .
أَشِحَّةً: أي: بُخلاءَ ليس فيهم خَيرٌ، والشُّحُّ: بُخلٌ مع حِرصٍ، وأصلُ (شحح): يدُلُّ على مَنعٍ .
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ: أي: آذَوكم بالكَلامِ بألسِنةٍ سَليطةٍ، والسَّلقُ: قُوَّةُ الصَّوتِ والصِّياحِ، وبَسطُ اللِّسانِ .
الْأَحْزَابُ: أي: الجماعاتِ، وهم كفَّارُ قريشٍ، ومَن معهم، جمعُ حِزبٍ، والحزبُ: الجماعةُ مِن النَّاسِ، أو: جماعةٌ فيها غِلَظٌ، أو: كلُّ طائفةٍ هواهم واحدٌ، يُقالُ: تحزَّب القومُ: إذا تجمَّعوا فصاروا أحزابًا، والطَّائفةُ مِن كُلِّ شَيءٍ حِزْبٌ، وأصلُ (حزب): تَجَمُّعُ الشَّيءِ .
بَادُونَ: أي: مُقيمونَ في الباديةِ، يقالُ: بَدا يَبْدو بَداوةً: إذا خرَجَ إلى الباديةِ، والبَدْوُ: ضِدُّ الحَضَرِ؛ سُمِّيَ بَدْوًا لأنَّ سُكَّانَه بادُونَ، أي: ظاهِرونَ لكُلِّ واردٍ؛ إذ لا تَحجُبُهم جُدرانٌ، ولا تُغلَقُ عليهم أبوابٌ، وأصلُ (بدو): يدُلُّ على الظُّهورِ والبُروزِ .
الْأَعْرَابِ: جَمعُ أعرابيٍّ، وهم أهلُ البَدْوِ، وأصلُ (عرب): يدُلُّ على إبانةٍ وإفصاحٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مهدِّدًا هؤلاءِ المنافقينَ، ومبَيِّنًا أنَّ عِلمَه محيطٌ بهم، وأنَّهم لن يُفلِتوا مِن عِقابِه: قد يَعلَمُ اللهُ المثبِّطينَ الَّذين يَصُدُّونَ النَّاسَ عن الخُروجِ للجِهادِ، والقائِلينَ لإخوانِهم: أقبِلوا إلينا ودَعُوا الجِهادَ، ولا يَشهَدونَ الحَربَ إلَّا زَمَنًا قليلًا رياءً وسُمْعةً.
ثمَّ يَذكُرُ الله تعالى بعضَ صفاتِ المنافقينَ، فيقولُ: أشِحَّةً على المؤمِنينَ، بُخلاءَ بكُلِّ خَيرٍ يَصِلُ إليهم، فإذا جاء القِتالُ رأيتَ المنافِقينَ مِن شِدَّةِ خَوفِهم يَنظُرونَ إليك -يا مُحمَّدُ- تدورُ أعينُهم كدَوَرانِ عَينِ مَن يُغشَى عليه عندَ مَوتِه، فإذا ذهَبَ الخَوفُ وأمِنَ المنافِقونَ، تكَلَّموا بكلامٍ شَديدٍ قَوِيٍّ، بُخلاءَ بكلِّ ما فيه للمؤمنينَ مَنفعةٌ. أولئك المنافِقونَ لم يُؤمِنوا فأبطَل اللهُ أعمالَهم، وكان إحباطُ اللهِ أعمالَهم سَهلًا عليه سُبحانَه.
يظُنُّ أولئك المنافِقونَ -لشِدَّةِ خَوفِهم- أنَّ الكُفَّارَ المتحَزِّبينَ عليكم ما زالوا حوْلَ المدينةِ ولم يذهَبوا، وإن يرجِعِ الكُفَّارُ مَرَّةً أخرى لقِتالِكم يَوَدَّ أولئك المنافِقونَ -مِن شِدَّةِ خَوفِهم- لو كانوا في الباديةِ يَسألونَ النَّاسَ عن أخبارِكم -أيُّها المسلِمونَ-، ولو كان المنافِقونَ معكم ما قاتَلوا إلَّا قِتالًا قليلًا؛ رياءً وسُمْعةً.

تَفسيرُ الآياتِ:

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه بما عَلِمَ ممَّا أوقَعَه المنافِقونَ مِن أسرارِهم، وأمَرَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بوَعظِهم؛ حذَّرَهم بدوامِ عِلمِه لِمَن يَخونُ منهم، فقال محقِّقًا مُقَرِّبًا مِن الماضي، ومُؤْذِنًا بدَوامِ هذا الوَصفِ له :
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ.
أي: قد يَعلَمُ اللهُ المثَبِّطينَ منكم الَّذين يَصُدُّونَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعن الخُروجِ معه للجِهادِ في سَبيلِ اللهِ .
وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا.
أي: ويَعلَمُ القائِلينَ لإخوانِهم : أقبِلوا إلينا، وتَعالَوا إلى ما نحنُ فيه مِنَ الرَّاحةِ والنَّعيمِ، ودَعُوا محمَّدًا، واترُكوا الجِهادَ معه؛ فإنَّا نخافُ عليكم الهَلاكَ .
وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: ولا يَشهَدونَ الحَربَ أو مَكانَها إلَّا زَمنًا قليلًا؛ رياءً وسُمعةً .
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها انتِقالٌ مِنَ القَولِ الَّذي أُمِرَ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأن يَقولَه لهم، إلى كَشفِ أحوالِهم للرَّسولِ والمُسلِمينَ .
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ.
أي: أشِحَّةً على المؤمِنينَ بكُلِّ ما فيه مَنفَعةٌ لهم، حريصينَ على مَنعِ كُلِّ خَيرٍ مِنَ الوُصولِ إليهم .
فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
أي: فإذا جاء القِتالُ فحضَرَ الخَوفُ، رأيتَ المنافِقينَ -يا محمَّدُ- يَنظُرونَ إليك وأعينُهم تَدورُ سَريعًا مُحَملِقةً في الجِهاتِ المحيطةِ؛ مِن شِدَّةِ جُبنِهم وخَوفِهم مِنَ القَتلِ، كدَوَرانِ عَينِ مَن يُغمَى عليه بسَبَبِ النَّزعِ عندَ مَوتِه !
فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ.
أي: فإذا انقطَعَت الحَربُ فذهَبَ الخَوفُ، واطمأنَّ المنافِقونَ وأمِنوا؛ تكَلَّموا بكلامٍ شَديدٍ قَوِيٍّ .
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ.
أي: بُخلاءَ بكلِّ ما فيه للمؤمنينَ مَنفعةٌ، فليس فيهم خيرٌ .
كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58].
أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا وصَفَهم سُبحانَه بهذه الدَّنايا؛ أخبَرَ بأنَّ أساسَها وأصْلَها الَّذي نشأتْ عنه عَدَمُ الوُثوقِ باللهِ؛ لعَدَمِ الإيمانِ، فقال :
أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ.
أي: أولئك المنافِقونَ البُغَضاءُ البُعَداءُ لم يُؤمِنوا بقُلوبِهم وإن أقرَّت ألسِنَتُهم، ولم يُخلِصوا في أعمالِهم؛ فأبطَلَها اللهُ سُبحانَه، فلا يُثيبُهم عليها في الآخِرةِ .
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا.
أي: وكان إحباطُ اللهِ لأعمالِ المُنافِقينَ سَهلًا عليه، ولا يَعبَأُ بهم .
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ حالَ المنافِقينَ والَّذين في قُلوبِهم مَرَضٌ؛ مِن فِتنتِهم في المُسلِمينَ، وأذاهم حينَ مَجيءِ جُنودِ الأحزابِ، وحينَ زاغَت الأبصارُ وبلَغَتِ القُلوبُ الحناجِرَ- ثَنى عِنانَ الكلامِ الآنَ إلى حالِهم حينَ أنعَمَ اللهُ على المُسلِمينَ بانكِشافِ جُنودِ الأحزابِ عنهم .
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا.
أي: يَظُنُّ المنافِقونَ -بسَبَبِ جُبنِهم وشِدَّةِ خَوفِهم- أنَّ الكُفَّارَ المتحَزِّبينَ ما زالوا حوْلَ المدينةِ لم يَنصَرِفوا عنها .
وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ.
أي: وإنْ يَرجِعِ الكُفَّارُ مَرَّةً أخرى للقِتالِ أو حِصارِ المدينةِ يَتمَنَّ المنافِقونَ -مِن شِدَّةِ جُبنِهم وخَوفِهم- أنَّهم غائِبونَ في الباديةِ مع البَدْوِ يَسألونَ النَّاسَ عن أخبارِكم أيُّها المُسلِمونَ .
وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا.
أي: ولو كان المنافِقونَ حاضِرينَ معكم حينَ يأتي الكُفَّارُ مَرَّةً أُخرى، فلن يُقاتِلوهم إلَّا قِتالًا قَليلًا؛ رياءً وسُمْعةً، بلا احتِسابٍ منهم للأجرِ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قولُ الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ... فيه التَّحذيرُ مِن هذه الصِّفاتِ الَّتي يتَّصِفُ بها المنافِقُ حتَّى وإنْ كان الإنسانُ مُؤمِنًا؛ لِقَولِه سُبحانَه وتعالى: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا؛ لأنَّها صِفاتُ غيرِ المؤمِنينَ، والمؤمِنُ مَنهيٌّ عن الاتِّصافِ بصِفاتِ غيرِ المؤمِنينَ .
2- قَولُ الله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ هذا شَرُّ ما في الإنسانِ: أن يكونَ شَحيحًا بما أُمِرَ به، شَحيحًا بمالِه أن يُنفِقَه في وَجهِه، شَحيحًا في بَدَنِه أن يُجاهِدَ أعداءَ اللهِ أو يدعُوَ إلى سَبيلِ اللهِ، شَحيحًا بجاهِه، شَحيحًا بعِلمِه ونَصيحتِه ورَأيِه .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- إنَّ الاسمَ الواحدَ يُنْفَى ويُثْبَتُ بحسَبِ الأحكامِ المتعلِّقةِ به، فلا يجبُ إذا أُثْبِتَ أو نُفِيَ في حُكمٍ أنْ يكونَ كذلك في سائرِ الأحكامِ! وهذا في كلامِ العربِ وسائرِ الأممِ؛ لأنَّ المعنى مفهومٌ، فالمنافقونَ قد يُجعلونَ مِن المؤمنينَ في مَوضعٍ، وفي موضعٍ آخَرَ يُقالُ: «ما هم منهم»، فقولُه تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ إلى قوله سُبحانَه: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب: 19] فهنا جَعَل هؤلاء المنافقينَ الخائفينَ مِن العدوِّ، النَّاكِلينَ عن الجهادِ، النَّاهينَ لغيرِهم، الذَّامِّينَ للمؤمنينَ- منهم. وقال في آيةٍ أخرى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة: 56] ، فكَذَّبَهم اللهُ، وقال: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ، وهناك قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، فالخِطابُ لِمَن كان في الظاهرِ مسلمًا مؤمنًا وليس مؤمنًا؛ بأنَّ «منكم» مَن هو بهذه الصِّفةِ وليس مؤمنًا! بل أحْبَطَ اللهُ عملَه، فهو منكم في الظَّاهرِ لا الباطنِ .
2- في قَولِه تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا إحاطةُ عِلْمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بكلِّ شَيءٍ؛ فقَولُ هؤلاء: هَلُمَّ إِلَيْنَا وتعويقُهم: فَردٌ مِن أفرادِ العالَمِ، ومَسألةٌ جزئيَّةٌ منه، ومع ذلك يَعلَمُه اللهُ سُبحانَه وتعالى، والعالِمُ بالدَّقيقِ عالِمٌ بالجَليلِ مِن بابِ أَولى؛ ففيها إثباتُ إحاطةِ عِلمِ اللهِ تعالى بكلِّ شَيءٍ جملةً وتَفصيلًا، وعِلْمِه بالمستقبلِ؛ لأنَّه قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ بصيغةِ المضارعِ .
3- قَولُ الله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ سُنَّةُ اللهِ في أنَّ كُلَّ مَن عامَلَ النَّاسَ بالخِداعِ، كان قليلَ الثَّباتِ عندَ القِراعِ .
4- قَولُ الله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ البُخلُ شَبيهُ الجُبنِ، فلمَّا ذكَرَ البُخلَ بيَّن سَبَبَه وهو الجُبنُ، والَّذي يدُلُّ عليه هو أنَّ الجبانَ يَبخَلُ بمالِه، ولا يُنفِقُه في سبيلِ اللهِ؛ لأنَّه لا يتوقَّعُ الظَّفَرَ، فلا يرجو الغنيمةَ، فيقولُ: هذا إنفاقٌ لا بدَلَ له، فيتوقَّفُ فيه، وأمَّا الشُّجاعُ فيتيقَّنُ الظَّفَرَ والاغتِنامَ، فيهونُ عليه إخراجُ المالِ في القتالِ؛ طمعًا فيما هو أضعافُ ذلك، وأمَّا بالنَّفسِ والبَدنِ فكذلك .
5- في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ شِدَّةُ محبَّةِ المنافِقينَ للحَياةِ؛ لأنَّهم إنَّما بلَغوا هذا المَبلَغَ مِن الخَوفِ حِرصًا على الحياةِ، وخَوفًا مِن الموتِ بالقِتالِ .
6- أنَّ للموتِ سكَراتٍ، لقولِه تعالى: كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ -وهذا بالنِّسبةِ للموتِ العاديِّ-؛ أمَّا الموتُ المُباغِتُ فقد لا يكونُ فيه سكَراتٌ، فقد يموتُ الإنسانُ بَغْتةً كالَّذي يَحْدُثُ بالحوادثِ وسكتاتِ القلوبِ وما أشْبَهَها .
7- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ فيه سؤالٌ: هل يَثبُتُ للمُنافِقِ عَمَلٌ حتَّى يَرِدَ عليه الإحباطُ؟
الجوابُ: لا، ولكِنَّه تعليمٌ لِمَن عسَى يظُنُّ أنَّ الإيمانَ باللِّسانِ إيمانٌ، وإنْ لم يُواطِئْه القَلبُ، وأنَّ ما يَعمَلُ المنافِقُ مِن الأعمالِ يُجدي عليه؛ فبيَّن أنَّ إيمانَه ليس بإيمانٍ، وأنَّ كُلَّ عَمَلٍ يُوجَدُ منه: باطِلٌ .
وأيضًا فإنَّ المرادَ بأعمالِهم الأعمالُ الَّتي صُورَتُها صورةُ الطَّاعةِ، وإلَّا فلا عَمَلَ لِكافِرٍ.
 أو يكونُ المرادُ بها ما كانوا قد عَمِلوا مِنَ الخَيرِ قبلَ الرِّدَّةِ.
أو يكونُ المرادُ بقوله: فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أي: أظْهَر بُطلانَها؛ لأنَّها لم تَكُنْ لهم أعمالٌ تَقْتَضي الثَّوابَ حتَّى يُبْطِلَها الله .
8- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا عِلْمُ اللهِ سُبحانَه وتعالى بما في القلوبِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ لنا أنَّهم مؤمنونَ، لكنَّ الواقعَ أنَّهم غيرُ مؤمنينَ .
9- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أنَّ الكُفرَ مُحبِطٌ للعَمَلِ سواءٌ كان ظاهِرًا أم باطِنًا، فالرَّكيزةُ الأصليَّةُ للأعمالِ هي الإيمانُ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ [الأحزاب: 17] ؛ لأنَّ ذلك يُثِيرُ سُؤالًا يَهجِسُ في نُفوسِهم أنَّهم يُخْفُون مَقاصدَهم عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا يَشعُرُ بمُرادِهم مِن الاستئذانِ؛ فأُمِرَ أنْ يقولَ لهم: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، وقد جُعِلَ هذا الاستِئنافُ تَخلُّصًا لذِكرِ فَريقٍ آخَرَ مِن المعوِّقينَ .
- قولُه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ (قدْ) مُفيدٌ للتَّحقيقِ؛ لأنَّهم لِنَفاقِهم ومرَضِ قُلوبِهم يَشُكُّون في لازمِ هذا الخبرِ، وهو إنباءُ اللهِ رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهم، أو لأنَّهم لِجَهلِهم النَّاشئِ عن الكُفرِ يَظُنُّون أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ خَفايَا القُلوبِ . وقيل: لعلَّه عبَّر هنا بـ (قد) الَّتي رُبَّما أفْهَمَتْ في هذه العِبارةِ التَّقليلَ؛ إشارةً إلى أنَّه يَكفي مَن له أدْنى عقْلٍ -في الخَوفِ مِن سَطوةِ المُتهَدِّدِ- احتِمالُ عِلْمِه .
- قَولُه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا تهديدٌ وتَحذيرٌ مِن التَّعويقِ عن القِتالِ؛ وجْهُه قَولُه تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ، وهذا مِن أجْلِ تهديدِهم؛ حتَّى لا يَفعَلوا ذلك .
- والتَّضعيفُ في الْمُعَوِّقِينَ؛ للشِّدَّةِ والتَّكثيرِ .
2- قوله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
- الخِطابُ في رَأَيْتَهُمْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو يَقْتضي أنَّ هذا حِكايةُ حالةٍ وَقَعَتْ لا فرْضُ وُقوعِها؛ ولهذا أُتِيَ بفِعلِ رَأَيْتَهُمْ، ولم يَقُلْ: فإذا جاء الخَوفُ يَنظُرون إليك .
- قولُه: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ جِيءَ بصِيغةِ المُضارعِ؛ لِيَدُلَّ على تَكرُّرِ هذا النَّظرِ وتَجدُّدِه. وخُصَّ نَظَرُهم بأنَّه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يَقُلْ: (يَنظُرون إليكم)؛ لأنَّ نظَرَهم إليه نظَرُ المُتفرِّسِ في ماذا يَصنَعُ، ولِسانُ حالِهم يقولُ: ألَسْنا قد قُلْنا لكم: إنَّكم لا قِبَلَ لكمْ بقِتالِ الأحزابِ، فارْجِعوا، وهمْ يُرُونَه أنَّهم كانوا على حقٍّ حِينَ يُحذِّرونه قِتالَ الأحزابِ .
- قولُه: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ جُملةُ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ حالٌ مِن ضَميرِ يَنْظُرُونَ؛ لِتَصويرِ هَيئةِ نَظرِهم نظَرَ الخائفِ المَذعورِ الَّذي يُحدِقُ بعَيْنَيهِ إلى جِهاتٍ يَحذَرُ أنْ تأْتِيَه المصائبُ مِن إحداها . وشَبَّه نظَرَهم بنَظرِ الَّذي يُغْشى عليه بسَببِ النَّزعِ عندَ المَوتِ؛ فإنَّ عَيْنَيه تَضْطَرِبانِ .
- وفي قولِه: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ المُبالَغةُ في وَصْفِ المنافقينَ بالخَوفِ والجُبنِ؛ حيثُ أخبَرَ عنهم أنَّهم تَدورُ أعينُهم حالةَ المُلاحظةِ كحالةِ مَن يُغْشى عليه مِن الموتِ، ولو اقتصَرَ على قولِه: كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ لَكان كافيًا بالمقصودِ، ولكنَّه زاد شيئًا بقولِه: مِنَ الْمَوْتِ؛ إذ إنَّ حالةَ المَغْشيِّ عليه مِن الموتِ أشَدُّ وأنْكَى مِن حالةِ المَغْشيِّ عليه مِن غيرِ الموتِ، ولو جاء سُبحانه في مَوضعِ الموتِ بالخَوفِ، لَكان الكلامُ بليغًا لا مَحالةَ، غيرَ أنَّ ما جاء في التَّنزيلِ أبلَغُ، وهو مع ذلك خارجٌ مَخرَجَ الحقِّ، مُتنزِّلٌ مَنزلةَ الصِّدقِ؛ فإنَّ مَن كان قوِيَّ النَّفْسِ شُجاعَ القلْبِ لا يَرْضى بالنِّفاقِ، بل يُظهِرُ ما يُبطِنُه الخائفُ؛ لأنَّه لا يُبالي بالموتِ .
- قولُه: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ جِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لِقَصْدِ تَمييزِهم بتلك الصِّفاتِ الذَّميمةِ الَّتي أُجرِيَتْ عليهم مِن قبْلُ، وللتَّنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بما سيَرِدُ مِن الحُكْمِ بعدَ اسمِ الإشارةِ، وقد أُجرِيَ عليهم حُكمُ انتفاءِ الإيمانِ عنهم بقولِه: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا؛ كشْفًا لِدَخائلِهم؛ لأنَّهم كانوا يُوهِمون المسلِمينَ أنَّهم منهم، كما قال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا [البقرة: 14] .
- قولُه: وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا خبَرٌ مُستعمَلٌ في لازمِه؛ وهو تَحقيرُهم، وأنَّ اللهَ لمَّا أخرَجَهم مِن حَظيرةِ الإسلامِ فأحبَطَ أعمالَهم، لم يَعبَأْ بهم، ولا عَدَّ ذلك ثُلْمةً في جَماعةِ المسلمينَ .
- ويَسِيرًا أي: هَيِّنًا، وتَخصيصُ يُسْرِه بالذِّكْرِ -مع أنَّ كلَّ شَيءٍ عليه تعالى يَسيرٌ-؛ لِبَيانِ أنَّ أعمالَهم حَقيقةٌ بالإحباطِ، تَدْعو إليه الدَّواعي، ولا يَصرِفُ عنه صارفٌ .
3- قوله تعالى: يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا
- قولُه: وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ... الوُدُّ هنا مُستعمَلٌ كِنايةً عن السَّعيِ لحُصولِ الشَّيءِ المَودودِ؛ لأنَّ الشَّيءَ المحبوبَ لا يَمنَعُ مِن تَحصيلِه إلَّا مانعٌ قاهرٌ؛ فهو لازمٌ للوُدِّ .