موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (55-57)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

المعنى الإجمالي:

ينهى اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعجَبَ بأموالِ المُنافِقينَ وأولادِهم؛ فإنَّه تعالى إنَّما يريدُ أن يُعذِّبَهم بها في الحياةِ الدُّنيا، وأن تخرُجَ أرواحُهم، وهم مُستمِرُّونَ على كُفرِهم.
ويخبِرُ تعالى عن كذبِهم وجبنِهم، وأنَّهم يحلِفونَ باللهِ لِلمؤمنينَ إنَّهم منهم، وهم لَيسوا في الحقيقةِ منهم، ولكِنَّهم قَومٌ يخافونَ مِن المؤمنينَ، فيَحلِفونَ لهم؛ لِيَأمَنوهم. ويخبرُ أنَّهم لو يَجِدونَ مكانًا يتحَصَّنونَ فيه، أو كُهوفًا في الجِبالِ، أو نَفَقًا في الأرضِ؛ لَهَربوا إليها، وهم يُسرِعونَ في مَشيِهم؛ لشِدَّةِ كراهَتِهم للمؤمنينَ، ونُفورِهم منهم، وخوفًا مِن الخروجِ للجِهادِ معهم.

تفسير الآيات:

فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قطَعَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأولى رجاءَ المُنافِقينَ عن جميعِ منافِعِ الآخرةِ؛ بيَّنَ هنا أنَّ الأشياءَ التي يظنُّونَها من بابِ المنافِعِ في الدُّنيا، فإنَّه تعالى جعَلَها أسبابَ تَعذيبِهم في الدُّنيا، وأسبابَ اجتماعِ المِحَنِ والآفاتِ عليهم في الآخِرةِ .
فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ .
أي: فلا تَستحسِنْ- يا مُحمَّدُ- أموالَ المُنافِقينَ ولا أولادَهم، ممَّا أنعَمْنا عليهم؛ استدراجًا لهم .
كما قال تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .
وقال سبحانه: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56] .
إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ.
أي: إنَّما يريدُ اللهُ أن يعذِّبَ المُنافِقينَ بأموالِهم وأولادِهم في حياتِهم الدُّنيا .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من كانتِ الآخِرةُ هَمَّه، جعَلَ اللهُ غناه في قَلْبِه، وجمَعَ له شَمْلَه، وأتَتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت الدُّنيا همَّه، جعل اللهُ فَقْرَه بين عَينَيه ، وفرَّق عليه شَملَه، ولم يأتِه مِن الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ له )) .
وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ.
أي: ويريدُ اللهُ أن تَخرُجَ أرواحُ المُنافِقينَ، وهم مُستمِرُّونَ على كُفرِهم باللهِ ورَسولِه، فيتَّصِلَ لهم عذابُ الآخرةِ الدَّائِمُ، بعذابِهم في الدُّنيا .
وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى كَونَ المُنافِقينَ مُستَجمِعينَ لكُلِّ مَضارِّ الدُّنيا والآخرةِ، خالِينَ عن جميعِ منافِعِ الآخرةِ والدُّنيا- عاد إلى ذِكرِ فضائِحِهم وقبائِحِهم، ومنها إقدامُهم على الأيمانِ الكاذبةِ، فقال تعالى :
وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ.
أي: ويَحلِفُ المنافِقونَ باللهِ يمينًا مُؤكَّدةً لكم- أيُّها المؤمنونَ- كَذِبًا: إنَّهم مُؤمِنونَ مِثلُكم، وليسوا- في الحقيقةِ- مِن أهلِ دِينِكم، بل هم كفَّارٌ، وأعداءٌ لكم .
كما قال تعالى عن المُنافِقينَ: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة: 14] .
وقال سُبحانه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المُنافِقونَ: 1].
وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ.
أي: ولكنَّ المنافِقينَ يخافونَ منكم- أيُّها المؤمِنونَ- فيَحلِفونَ لكم إنَّهم مُؤمِنونَ؛ لِيَأمَنوكم .
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى فَرَقَ المُنافِقينَ مِن المؤمنينَ، أخبَرَ بما هم عليه معهم، ممَّا يُوجِبُه الفَرَقُ، وهو: أنَّهم لو أمكَنَهم الهروبُ منهم لَهَربوا، ولكِنَّ صُحبَتَهم لهم، صُحبةُ اضطرارٍ لا اختيارٍ .
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ.
أي: لو يجِدُ المُنافِقونَ مَكانًا يتحصَّنونَ فيه، أو كُهوفًا في الجبالِ، أو نَفقًا في الأرضِ، يُتكَلَّفُ الدُّخولُ إليه بمشقَّةٍ- لذَهَبوا إليه ؛ هربًا منكم أيُّها المؤمِنونَ .
وَهُمْ يَجْمَحُونَ.
أي: لو يَجِدُ المُنافِقونَ مكانًا يَلجؤونَ إليه، لَهُرِعوا إليه وهم يُسرِعونَ في مَشْيِهم؛ لِشِدَّةِ كراهَتِهم لكم، ونُفورِهم منكم، وخوفًا من الخُروجِ للجِهادِ معكم .

الفوائد التربوية:

1- النَّظرُ إلى متاعِ الدُّنيا على وجهِ المحبَّةِ والتعظيمِ لها ولأهْلِها؛ منهِيٌّ عنه، قال تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، وأما النَّظرُ إلى المخلوقاتِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ على وجهِ التفَكُّرِ والاعتبارِ؛ فمأمورٌ به، مندوبٌ إليه .
2- لا ينبغي العَجَبُ بأموالِ المُنافقينَ والكافرينَ، ولا بأولادِهم ولا بسائِرِ نِعَمِ اللهِ عليهم؛ قال الله تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ .

3-وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ في هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ اختلافَ الخُلُقِ مانِعٌ من المُواصلةِ والمُوافَقةِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- النِّفاقُ جالِبٌ لجميعِ الآفاتِ في الدِّينِ والدُّنيا، ومُبْطِلٌ لجَميعِ الخَيراتِ في الدِّينِ والدُّنيا؛ فإنَّ الله تَعالى لَمَّا بيَّن قَبائحَ أفعالِهم، وفَضائحَ أعْمالِهم؛ بيَّن ما لهم في الآخِرةِ مِنَ العذابِ الشَّديدِ، وما لهم في الدُّنيا مِنْ وُجوِهِ المِحْنةِ والبَليَّةِ، ثُمَّ بيَّن بَعْدَ ذلك أنَّ ما يَفْعلونَه مِنْ أعمالِ البِرِّ لا يَنْتفِعونَ بِهِ يومَ القِيامةِ البتَّةَ، ثم بَيَّن أنَّ ما يَظنُّونَ أنَّهُ مِنْ مَنافِعِ الدُّنيا فهو في الحَقيقةِ سببٌ لعَذابِهم وبَلائِهم، وتَشديدِ المِحْنةِ عليهم، وجاء بيان ذلك مُرتَّبًا على أَحْسَنِ الوُجوهِ، ولا يُمْكِنُ تَرتيبُ الكلامِ على وَجْهٍ أَحْسَنَ مِن هذا .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: كالفَرَسِ الجَموحِ، لا يردُّهم شَيءٌ، وهذا الوصفُ من أبلغِ مُبالغةِ القرآنِ في تصويرِ الحقائِقِ التي لا تتجَلَّى للفَهمِ والعِبرةِ بِدونِها، فتُصَوِّر شُخوصَهم وهم يَعْدُونَ بغير نظامٍ، يَلهثونَ كما تلهَثُ الكِلابُ، يتسابَقونَ إلى تلك الملاجِئِ مِن مغاراتٍ ومُدَّخَلات، فيتسَلَّقونَ إليها، أو يندَسُّون فيها، فكذلك كان تصَوُّرُهم عندما سَمِعوا الآيةَ في وَصْفِهم .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
قولُه: أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فيه تقديمُ الأموالِ على الأولادِ؛ لأنَّها كانتْ أَعْلَقَ بقُلوبِهم، ونُفوسُهم أميلُ إليها؛ فإنَّهم كانوا يَقْتلونَ أولادَهم خَشيةَ ذَهابِ أموالِهم .
قولُه تعالى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ معطوف على لِيُعَذِّبَهُمْ والمعنى: ليعذِّبَهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونبَّه على عَذابِ الآخِرةِ بعِلَّتِهِ، وهو زُهوقُ أَنْفُسِهم على الكُفْرِ؛ لأنَّ مَنْ مات كافرًا عُذِّبَ في الآخِرةِ لا محالةَ، وزُهوقُ النَّفْسِ هُنا كنايةٌ عَنِ الموتِ .
2- وبنِاءُ قولِه: مُدَّخَلًا بِناءُ تأكيدٍ ومُبالَغةٍ؛ إذ أَصْلُه (مُدْتَخَل)، مُفْتَعَلٌ مِنِ (ادَّخَلَ) .
والتَّعبيرُ بصِيغةِ المُضارِعِ في قولِه: وَيَحْلِفُونَ وقولِه: يَفْرَقُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ، وأنَّ ذلك دَأْبُهُم .

3- قوله: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ اسْتِئنافٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما سَبَقَ مِنْ أنَّهم ليسوا مِنَ المُسلِمينَ، وأنَّ التِجاءَهم إلى الانْتِماءِ إليهم إنَّما هو للتَّقيَّةِ اضْطرارًا .
قولُه: لَوْ يَجِدُونَ فيه إيثارُ صِيغةِ الاسْتِقبالِ في الشَّرْطِ، وإنْ كان المعنى على المُضيِّ؛ لإفادةِ اسْتِمرارِ عَدَمِ الوِجدانِ؛ فإنَّ المُضارِعَ المَنفيَّ الواقِعَ مَوقِعَ الماضي ليس نَصًّا في إفادةِ انْتِفاءِ اسْتِمرارِ الفِعْلِ، كما هو الظَّاهرُ، بل قَدْ يُفيدُ اسْتِمرارَ انْتِفائهِ أيضًا حَسَبما يَقْتضيهِ المَقامُ .